
تَقولُ الآية مَتَّى 5: 4: "طُوبَـى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْن". وفي واحدٍ مِن أروعِ المزاميرِ الَّتي كَتَبَها داوُد، يَتَحَدَّثُ داوُد عن أعْماقِ الألمِ الذي يَختبرُهُ القلب بسببِ خَيْباتِ الأمَلِ وأحزانِ الحياة. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ (في المزمور 55): "لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! هأَنَذَا كُنْتُ أَبْعُدُ هَارِبًا، وَأَبِيتُ فِي الْبَرِّيَّةِ. كُنْتُ أُسْرِعُ فِي نَجَاتِي مِنَ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ، وَمِنَ النَّوْءِ".
والحقيقة هي أنَّ داودَ يُرَدِّدُ صَدَى صَرْخَةٍ تَخْرُجُ مِنْ شِفاهِ كُلِّ النَّاسِ في وقتٍ أوْ آخَر. فعندما يَشْعرونَ بالحُزْنِ، وعندما يَختبرونَ خَيْبَةَ الأمَل، وعندما يَختبرونَ المآسي، وعندما يَشعُرونَ بالإحباط، فإنَّهم يَقولونَ مَعَ داوُد: "لَيْتَني أستطيعُ أنْ أَهْرُبَ، وليتَني أستطيعُ أنْ أَطيرَ وَأَسْتَرِيح!". فداودُ يُرَدِّدُ صَرْخَةَ البَشَرِ السَّاقِطين؛ وهي صَرْخَة تَرومُ إلى الحُرِّيَّة، وتَرومُ إلى حَياةٍ لها أجْنِحَة لكي نَطيرَ بَعيدًا ونَهْرُبَ مِنَ الألمِ والحُزْنِ والكَرْب.
فأيُّ شخصٍ اخْتَبَرَ هذهِ الأنواعِ مِنَ الأشياء يَعلمُ مَعنى أنْ تَتوقَ إلى الرَّاحةِ في حياةٍ يَكْثُرُ فيها الألم، أو في حياةٍ يَكْثُرُ فيها الحُزْنُ، أوْ خيبةُ الأمَلِ، أوِ المَرارَة. فقد تُقْنَا جَميعًا في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ إلى الانطلاقِ والفَرار، وإلى الهَرَبِ مِنَ الحُزْنِ إلى مَكانٍ مُريحٍ نَتمَنَّى دائمًا أنْ يكونَ مُتَوارِيًا وبَعيدًا عنِ الأنظار. وكُلَّما زادَ الحُزْنُ، وزادت خَيبةُ الأمل، وزادَ الألم، زادت رَغْبَتُنا في أنْ يكونَ ذلكَ المكانُ المُريحُ بَعيدًا أكثرَ فأكثر. وأعتقدُ أنَّ هذه هي المُفارَقَة الموجودة في هذا "التَّطويب" لأنَّهُ تقول: "طُوبَـى لِلْحَزَانَى". فلم يَخْطُر ببالِنا يومًا أنْ يكونَ هذا صحيحًا. "طُوْبَى للحَزانَى!" إنَّ هذا يُناقِضُ كُلَّ شيءٍ نَعْرِفُهُ!
فَبُنْيَةُ الحياةِ بِرُمَّتِها، وهَوَسُ المُتْعَة، وعَقليَّةُ مَدينةِ المَلاهي، وجُنونُ التَّسلية، والسَّعيُ الدَّائمُ وراءَ الإثارة، والمال، والطَّاقة، والوقت، والحَماسَة في عَيْشِ الحَياةِ بِطُولِها وَعَرْضِها هي طُرُقٌ للتَّعبيرِ عن رَغْبَةِ العالمِ في تَجَنُّبِ النَّوْح، وفي تَجَنُّبِ الحُزْن، وفي تَجَنُّبِ الألم. ولكِنَّ يسوعَ قال: "طُوبَـى لِلْحَزَانَى. طُوْبَى للنَّائِحين".
والحقيقة هي أنَّ يسوعَ قالَ أيضًا في إنجيل لوقا 6: 25: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَبْكون". وهذا مُختلِفٌ. "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُون؟" "طُوبَى لَكُمْ أيُّها الحَزَانَى لأَنَّكُمْ تَتَعَزَّوْن؟" فهذا مُناقِضٌ تمامًا لفلسفة العالَم. وَهُوَ نَهْجٌ جَديدٌ للحياة. وهذا هو تمامًا ما يَفعلُهُ يسوع في العِظَة على الجَبَل. أليسَ كذلك؟ فهو يُقَدِّمُ نَهْجًا جديدًا للحياة. وهذا النَّهْجُ يَدينُ ضَحِكَ العَالَمِ وسَعادَتَهُ. وَهُوَ يُعْلِنُ أنَّ هُناكَ بَرَكَة، وأنَّ هُناكَ سَعادَة، وأنَّ هُناكَ فَرَحًا وسَلامًا وتَعزيةً للحَزانَى.
وقد تَقول: "حسنًا يا جون! وما مَعنى هذا الكلام؟" لِنُجِبْ عن هذه السُّؤال. وقبلَ كُلِّ شيء، سَنَطْرَحُ أربعةَ أسئلة اللَّيلة ونُجيبُ عنها (على ما أرْجو). أوَّلاً: ما مَعنى: "طُوبَى [أوْ: "يا لِغِبْطَة" أو "مَكاريوس"] لِلْحَزَانَى"؟ وكيفَ يَكونُ ذلكَ صَحيحًا؟ لنتحدَّث عن ذلك.
تَحْوي اللُّغةُ اليونانيَّةُ تِسْعَة أفعال مُختلفة تُستخدَم في العهد الجديد للتَّعبيرِ عنِ الحُزْن. والفِعْلُ المُستخدَم هُنا هو الأقوى بينَ الأفعالِ التِّسعة. فهو الأكثر تَعبيرًا عنِ الحُزْن. ولكِنَّ حقيقةَ أنَّ هناكَ تِسْعَة أفعال مُختلفة في لُغَة واحدة للتَّعبير عن فِكرة الحُزْن هي إشارة جَيِّدة إلى أنَّ الحُزْنَ هُوَ نَهْجُ حَياة، وأنَّهُ جُزءٌ لا يتجزَّأُ مِنَ الحياة. والحقيقة هي أنَّ كُلَّ تاريخ الإنسانِ هو قِصَّةُ دُموع، وقِصَّةُ حُزْن. وبالمُناسبة، مَعَ أنَّنا اختبَرْنا الكثيرَ مِنَ الحُزْن، فإنَّ ذلكَ لا يُقارَن بالحُزْنِ الَّذي سيأتي لاحقًا.
فنحنُ نقرأ في إنجيل مَتَّى 24: 4: "فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: انْظُرُوا! لاَ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ. فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ. وَسَوْفَ تَسْمَعُونَ بِحُرُوب وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ. اُنْظُرُوا، لاَ تَرْتَاعُوا. لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ هذِهِ كُلُّهَا، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ. لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ وَزَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ".
وإنْ لم تكونوا تَعرفونَ أيَّ شيءٍ عنِ الأصحاح 24 مِنْ إنجيل مَتَّى، لا بُدَّ أنَّكم تَعرفونَ أنَّ يسوعَ كانَ يتحدَّثُ هُنا عنْ نِهايَةِ الدَّهْر. وَهُوَ يُتابِعُ حَديثَهُ في الآيةِ الَّتي تَلي ذلك فيقول: "وَلكِنَّ هذِهِ كُلَّهَا مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ". فأنتُمْ لم تَرَوْا شيئًا بَعْد. فتاريخُ الإنسانِ هو تاريخُ حُزْن. وَهُوَ تاريخُ دُموع. وَهُوَ تاريخُ ألم وأَسَى. والإنسانُ لم يَرَ سِوى البداية فقط.
والآنْ، ما نَوْعُ الحُزْنِ الَّذي يتحدَّثُ عنهُ يسوع؟ وما الَّذي يَعنيهِ حينَ يقول: "طُوبَـى لِلْحَزَانَى". فما هو نَوْعُ الغِبْطَة المُتاحَة ولأيِّ نَوْعٍ مِنَ الحُزْن؟ حسنًا! إنَّ الكتابَ المقدَّسَ يتحدَّثُ عن كُلِّ أنواعِ الحُزْن، بالمُناسبة. فهناكَ أنواعٌ كثيرة مُختلفة مِنَ الحُزْن. واسمحوا لي أنْ أُخْبِرَكُمْ عَنْ عَدَدٍ مِنْها.
أوَّلاً، هُناكَ ما يُمْكِنُكُم أنْ تُسَمُّوه: "الحُزْنُ العامّ". فهو حُزْنُ الحَياةِ وَحَسْب. وَهُوَ حُزْنٌ لائِقٌ (إنْ شِئْتُمْ). فهو حُزْنٌ مَقبولٌ وعاديٌّ جِدًّا. والبُكاءُ والنَّوْحُ بهذا المَعْنى هو جُزْءٌ مِنَ الحياةِ البشريَّة. والحقيقة هي أنَّهُ عَطِيَّة مِنَ الله. هل تَعلمونَ ذلك؟ هل تَعلمونَ أنَّ القُدرة على البُكاء هي عَطِيَّة مِنَ الله؟ فالألمُ والقَلَقُ المَكْبُوحَيْنِ في داخِلِكَ قد يُسَمِّمَا حَياتَكَ العاطفيَّة بِأسْرِها إنْ لم يُطْلَقا مِنْ خلالِ الدُّموع، وإنْ لم يُطْلَقا مِنْ خلالِ الحُزْن.
وكما تَرَوْن، فإنَّ البُكاءَ والحُزْنَ يُشْبِهان فَتْحَ صَمَّام الضَّغْط الَّذي يَسْمَحُ بِتَحْريرِ كُلِّ ذلكَ الضَّغْط مِنْ نِظامِكَ لِئَلَّا يُسَمِّم حَياتَكَ العاطفيَّة بأسْرِها. وهذه عَطِيَّة مِنَ الله. فالبُكاءُ يُحَرِّرُكَ مِنَ الألم. وَهُوَ يَسْمَحُ بعمليَّة الشِّفاء. فعندما يُكْبَحُ الألمُ في الدَّاخل، وعندما يُكْبَحُ تَأنيبُ الضَّميرِ في الدَّاخل، وعندما يُكْبَحُ الحُزْنُ والنَّوْحُ في الدَّاخل، فإنَّها تُسَمِّمُ العَواطِف. لذلك، مِنَ الطَّبيعيِّ جِدًّا أنْ تَحْزَن. مِنَ الطبيعيِّ جدًّا أنْ تَفعلَ ذلك. وقد بَكَى إبراهيمُ عندما ماتت زوجَتُه. وقد كانَ يَمْلِكُ كُلَّ الحَقِّ في القيامِ بذلك. فهكذا تَعامَلَ مَعَ حُزْنِهِ. فقد عَبَّرَ عَنْهُ مِن خلالِ البُكاءِ والحُزْن.
وفي المزمور 42: 1-3، نَسْمَعُ المُرَنِّمَ يَنوحُ قائلاً: "كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟ صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلاً إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: «أَيْنَ إِلهُكَ؟»".
بعبارة أخرى، فإنَّ الحُزْنَ والألم على عَدَمِ حُضورِ اللهِ تَفَجَّرَ في قلبِ المُرَنِّمِ على شَكْلِ دُموعٍ انهَمَرَتْ على خَدَّيْه. وكما تَرَوْنَ، فقد كانَ يَشْعُرُ بالوَحدة. والوَحْدَة هي سَبَبٌ كَافٍ للبُكاء. وهي سَبَبٌ كَافٍ لِذَرْفِ بعضِ الدُّموع. وحَتَّى بالنِّسبة إلى المؤمنِ الَّذي قد يَشْعُرُ في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ في حياتِهِ أنَّهُ وَحيدٌ وبَعيدٌ عنِ اللهِ، فإنَّ الدُّموعَ طريقة طبيعيَّة جدًّا للتَّعامُلِ مَعَ مِثْلِ هذا الحُزْن.
وفي رسالة تيموثاوس الثانية 1: 3-4، يَقولُ بولُس لتيموثاوُس: "إِنِّي أَشْكُرُ اللهَ الَّذِي أَعْبُدُهُ مِنْ أَجْدَادِي بِضَمِيرٍ طَاهِرٍ، كَمَا أَذْكُرُكَ بِلاَ انْقِطَاعٍ فِي طَلِبَاتِي لَيْلاً وَنَهَارًا. [ثُمَّ استمعوا إلى هذه الكلمات:] مُشْتَاقًا أَنْ أَرَاكَ، ذَاكِرًا دُمُوعَكَ". فقد كانَ تيموثاوُس يَبكي بسببِ شُعورِهِ بالإحباطِ الشَّديد والهَزيمة. وأنا أيضًا أَذْرِفُ بعضَ الدُّموعِ أحيانًا بسببِ شُعوري بالوَحْدَة، وأحيانًا بسببِ شُعوري بالإحباطِ والهزيمة. فهذا أمرٌ طَبيعيٌّ.
وفي الأصحاحِ التاسعِ مِن سِفْر إرْميا، نَجِدُ أنَّ النبيَّ الَّذي دَعاهُ اللهُ لكي يُنادي في وَسَطِ بني إسرائيلَ بالدَّينونة القادِمَة، نَجِدُ أنَّهُ جاءَ وَنادَى بَاكِيًا. وإليكم ما يَقولُهُ في سِفْر إرْميا 9: 1: "يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي". فقد بَكَى المُرَنِّمُ لأنَّهُ شَعَرَ بالوَحْدَة. وقد بَكى تيموثاوُسُ لأنَّهُ شَعَرَ بالإحباط. وقد بَكى إرْميا لأنَّهُ رَأى دينونةَ اللهِ قادِمَة على الشَّعْبِ الَّذي أَحَبَّهُ. فقد شَعَرَ بِخَيْبَةِ الأمل...بخيبةِ الأمل...بخيبةِ أَمَلٍ مُحْزِنَة. وقد كانَ ذلكَ الشُّعورُ يَمْلأُ كِيانَهُ حَتَّى إنَّهُ تَمَنَّى لو أنَّ رَأسَهُ نَهْرٌ حَتَّى يَتَدَفَّقَ مِنْهُ.
وفي الأصحاح 20 مِنْ سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل، التَقى بولُسُ شُيوخَ أَفَسُس وأخْبَرَهُمْ عَنْ دُموعِهِ في العدد 31: "لِذلِكَ اسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ". وقد ذَرَفَ المُرَنِّمُ دُموعَ الوَحْدَة. وقد ذَرَفَ تيموثاوُسُ دُموعَ الإحباط. وقد ذَرَفَ إرْميا دُموعَ خَيْبَةِ الأمل. وقد ذَرَفَ بولُسُ دُموعَ الاكتراثِ...دُموعَ المُبالاةِ...دُموعَ القَلَق.
وفي الأصحاحِ التَّاسِعِ مِنْ إنجيل مَرْقُس، أَحْضَرَ أَبٌ ابْنَهُ المَسْكون بالأرواح الشرِّيرة إلى يسوع. وكانتِ الدُّموعُ تَنْهَمِرُ على خَدَّيِ الأب. وحينَ قالَ لَهُ يَسوع: "إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ"، "فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي»". وقد تَقول: "ما نَوْعُ تلكَ الدُّموع؟ إنَّها دُموعُ المحبَّة الشَّديدة لابْنِهِ لأنَّهُ كانَ يَرْغَبُ جِدًّا أنْ يَرى ابْنَهُ يَتَحَرَّرَ مِنَ الشَّيطان.
وهذا يُشْبِهُ في اعتقادي الدُّموعَ الَّتي نَقرأُ عنها في المزمور 126: 5: "الَّذِينَ يَزْرَعُونَ بِالدُّمُوعِ يَحْصُدُونَ بِالابْتِهَاجِ. الذَّاهِبُ ذَهَابًا بِالْبُكَاءِ حَامِلاً مِبْذَرَ الزَّرْعِ، مَجِيئًا يَجِيءُ بِالتَّرَنُّمِ حَامِلاً حُزَمَهُ". فهي دُموعُ المَحَبَّة الشَّديدة. وفي المزمور 126، نَرى أنَّ دُموعَ المَحَبَّةِ الشَّديدة للخُطاة تَجْعَلُكمْ تَبْكون.
وفي إنجيل لوقا 7: 37، جاءت امرأةٌ إلى بيتِ الفَرِّيسيِّ الَّذي كانَ يَسوعُ يَتَّكِئُ فيهِ ويَستريح. وكانت قد أحضرتْ مَعَها قارورةَ طِيْب. ولَعَلَّكُمْ تَذكرونَ القصَّة. ويُدَوِّنُ لنا لوقا أنَّ المرأةَ وَقَفَتْ عندَ قَدَمَيْهِ وراحَتْ تَبكي. وقد بَلَّلَتْ قَدَمَيْهِ بالدُّموعِ ثُمَّ غَسَلَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِ رَأسِها. وعندما سَألَ الفَرِّيسيُّ: "لماذا تَسْمَحُ، يا يَسوع، لامرأةٍ زانيةٍ كهذهِ أنْ تَفْعَلَ شيئًا كهذا لَك؟" أعطاهُمْ يسوعُ دَرْسًا قصيرًا يُبَيِّنُ كيفَ أنَّ الأشخاصَ الذينَ يَنالونَ الغُفرانَ يَشعرونَ بالامتنانِ الشَّديد. إذًا، ما نَوْعُ تلكَ الدُّموع؟ إنَّها دُموعُ التَّكريس. وهي دُموعُ العِبادَة. وهي دُموعُ الامتنانِ القَلبيِّ.
فأحيانًا يَبكي النَّاسُ عندما يَشْعُرونَ بالامتنان. وأحيانًا يَبْكونَ بِدافِعِ المَحَبَّة الشَّديدة. وأحيانًا يَبكونَ بِدافِعِ القَلَق. وأحيانًا يبكونَ بسببِ خيبةِ الأمل. وأحيانًا بسبب الإحباط، وأحيانًا بسببِ الوَحْدَة، وأحيانًا بسببِ المحبَّة وَحَسْب. فالمحبَّةُ تَجعلُ النَّاسَ يَبكون.
وقد بَكى رَبُّنا عندَ قَبْرِ لِعَازَر لأنَّهُ كانَ يُحِبُّهُ ويَمْتَلِك مَشاعِر طَيِّبَة مِنْ نَحْوِه. وقد بَكى على مدينةِ أورُشليم لأنَّهُ أَحَبَّهُم وكانَ مُتعاطِفًا معهم. وقد بَكَتْ مَريمُ المَجْدليَّة لأنَّ يسوعَ مَاتَ. وهذه هي دُموعُ الحُزْنِ بسببِ الموتِ. وهي دُموعُ طبيعيَّة. وهي طريقة وَهَبَنا اللهُ إيَّاها للتَّخفيفِ مِنَ الألمِ المُريعِ الَّذي تَشْعُرُ بِهِ في قلبِك. ولا خَطَأَ في ذلك.
إذًا مِنْ جِهَة، فإنَّ الحُزْنَ عاطِفَةٌ طبيعيَّةٌ يَخْتَبِرُها البَشَر. وَهُوَ بَرَكَة لأنَّهُ يُخَفِّفُ حِدَّةَ تلكَ المَشاعِر. فكأنَّ الدُّموعَ هِبَة مِنَ اللهِ للتَّخفيفِ مِنْ وَطْأةِ الألم. وهُناكَ وَقْتٌ مُناسِبٌ لِذَرْفِ تلكَ الدُّموع. فنحنُ نقرأ في الأصحاحِ الثَّالثِ مِنْ سِفْر الجامعة: "لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ...لِلضَّحْكِ وَقْتٌ ولِلْبُكَاءِ وَقْتٌ".
ولكِنْ فَضْلاً عن ذلك، هناكَ نوعٌ آخر مِنَ البُكاءِ البشريِّ؛ وَهُوَ مُختلِف. فهو ليسَ لائقًا. بل هُوَ غيرُ لائقٍ. وَهُوَ غيرُ جائِز. وهذا يَحدثُ عندما يَبكي الإنسانُ لأنَّهُ لا يَستطيعُ أنْ يُشْبِعَ شَهْوَتَهُ. وَهُوَ يَحدثُ عندما يَبكي الإنسانُ لأنَّهُ عَاجِزٌ عنْ سَدِّ شَهْوَةٍ شِرِّيرة. وهذه هي دُموعُ "أَمْنُون". ولَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّ أمنون بَكَى (في الأصحاح 13 مِنْ سِفْرِ صَموئيلَ الثَّاني) وناحَ، وَتَظاهَرَ بالمَرَضِ لأنَّهُ أرادَ أنْ يَغْتَصِبَ أُخْتَهُ "ثَامار".
وهذهِ هي أيضًا دُموعُ "أَخْآبُ". فقد أرادَ الحُصولَ على كَرْمِ "نَابُوت". فقد رَغِبَ فيهِ كثيرًا حَتَّى إنَّنا نقرأُ في سِفْر الملوك الأوَّل 21: 4 أنَّهُ: "اضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا". فقد حَزِنَ لأنَّهُ أرادَ الحُصولَ على شيءٍ ليسَ لَهُ. وهذا نَوْعٌ خاطِئٌ وغيرُ لائِقٍ مِنَ الحُزْن.
كذلك، هُناكَ أحيانًا حُزْنٌ يَتَّسِمُ بالحَماقَةِ يُظْهِرُهُ أَشخاصٌ يَرْفُضونَ التَّسليمَ بِمَوْت شَخْصٍ يُحِبُّونَهُ. ويمكنكم أنْ تَرَوْا ذلكَ غالبًا حينَ يَموتُ شخصٌ ما ويَحْزَنُ عليهِ أحدُ الأشخاصِ حُزْنًا شَديدًا جِدًّا. وهذا يَحْدُثُ حَتَّى في حياةِ المؤمنين. وقد سَمِعْتُ مُؤخَّرًا عن شخصٍ فَقَدَ عَقْلَهُ بسببِ فُقْدانِ زوجَتِه الَّتي ذَهَبَتْ لتكونَ مَعَ يسوعَ المسيح. وهذه أنانِيَة مُطْلَقَة. فَهُوَ حُزْنٌ يَصِلُ إلى حَدِّ الكآبةِ يُظْهِرُهُ شخصٌ أنانيٌّ جِدًّا لأنَّهُ يَرْفُضُ أنْ يَفْرَحَ بِتَمْجيدِ شَخْصٍ يُحِبُّهُ جِدًّا.
وهناكَ نوعٌ آخر مِنَ الحُزْنِ غيرِ اللَّائِقِ وَهُوَ الحُزْنُ المُبالَغُ فيه على الخطيَّة. فكما تَعلمون، هناكَ أشخاصٌ يَشْعُرونَ بِنَدَمٍ شَديدٍ جِدًّا، ويَحزنونَ حُزْنًا شديدًا جدًّا تَكْفيرًا عن خطيئتهم. ومِنَ الأمثلة الكتابيَّة الواضحة على ذلك: داوُد. فَلَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّ "أبشالوم" حاوَلَ أنْ يَخْلَعَ أباهُ عنِ العَرْش. ويمكنكم أنْ تَقرأوا الأصحاحات 15-20 مِنْ سِفْر صموئيل الثَّاني إنْ أردتُم أنْ تَعرفوا كُلَّ القِصَّة. ولكنِّي سأكتَفي بِذِكْرِها باختصار هُنا.
فقد حاوَلَ أبشالوم أنْ يَخْلَعَ أبَاهُ عنِ العَرْش. وقد كانَ أبشالوم مُتَفاخِرًا. وكانَ مَغرورًا. وكانَ يُحِبُّ شَعْرَهُ تَحديدًا. وقد تآمَرَ أبشالوم على داوُد وَخَطَّطَ لِخَلْعِهِ عنِ العَرْش. وقد دَفَعَ داوُد إلى الهربِ مِنَ المدينة، ودَفَعَ أباهُ إلى الهَرَبِ مِنْ أورُشَليم. وقدِ احْتَلَّ القَصْرَ وَدَبَّرَ انْقلابًا يَقضي على قُوَّاتِ داوُد. لِذا فقدِ انْدَلَعَتِ المَعركةُ. وِلِسُوءِ حَظِّ أبشالوم، خَسِرَ جَيْشُهُ وَمَات.
وقد قالَ داوُدُ لِجُنودِه...عندما اندلَعَ القِتالُ، قالَ داودُ في 2صموئيل 18: 5: "تَرَفَّقُوا لِي بِالْفَتَى أَبْشَالُوم". تَرَفَّقوا بأبشالوم. وقد تَقول: "يَتَرَفَقُّوا بشخصٍ شِرِّيرٍ، وخاطِئٍ، ومُتَمَرِّد؟" "تَرَفَّقوا بِهِ". وعندما سَمِعَ داوُدُ أنَّ ابْنَهُ أبشالوم قُتِل، قال: "يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا ابْنِي، يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي".
إنَّ مَحَبَّتَهُ رائِعَة، ولكِنَّ فِكْرَتَهُ غَبِيَّة. فَمَنْ كانَ يَتَمَنَّى أنْ يَمْلِكَ أبشالوم على إسرائيل؟ فقد كانتِ الأُمَّةُ بحاجةٍ إلى داوُد، لا إلى أبشالوم الخاطِئ والمَغرور والمُتَفاخِر. ولماذا حَزِنَ داوُدُ هكذا؟ لأنَّ داوُد كان مُمتلئًا بالشُّعورِ بالذَّنْب لأنَّهُ كانَ أبًا مُريعًا. وقد كانَ حُزْنُهُ تَنفيسًا لِغَسْلِ نَفْسِهِ مِنْ إخفاقاتِها الواضِحة. ولا شَكَّ، مِنْ وُجهة نَظري، أنَّ مَوْتَ أبشلوم كانَ جُزءًا مِنْ أُجْرَةِ خَطيئَة داوُد مَعَ بَثْشَبَع.
ولعَلَّكُم تَذكرونَ (إذا رَجَعتُم إلى 2صموئيل 12 أنَّ اللهَ قالَ لداود إنَّهُ سَيَدْفَعُ ثَمَنَ خَطيئَتِهِ أربَعَةَ أضْعاف. فقد قالَ داوُد: "حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ، إِنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ الْفَاعِلُ ذلِكَ وَيَرُدُّ ... أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". وقد كانت هناكَ أربَعُ مَآسٍ عَظيمة جاءت على داوًد: أنَّ الطِّفْلَ المولودَ مِنْ بَثْشَبع مات، وأنَّ ابْنَتَهُ ثامار اغْتُصِبَتْ، وأنَّ ابْنَهُ أَمْنون قُتِل، وأنَّ أبشالوم قُتِل.
وقد كانَ بُكاءُهُ على أبشالوم نوعًا مِنَ التَّكفير. وفي 2صموئيل 19، نَقرأُ أنَّ الجُنودَ شَعَروا بالعَارِ لأنَّهُمْ انتصَروا لأنَّ داوُدَ كانَ حَزينًا جدًّا. وقد قالَ يُوآب: "لأَنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَبْشَالُومُ حَيًّا وَكُلُّنَا اليَوْمَ مَوْتَى، لَحَسُنَ حِينَئِذٍ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْكَ". وكَما تَرَوْن، هُناكَ نَوْعٌ غيرُ لائِقٍ مِنَ الحُزْن.
والبعضُ يَقول: "بِصورة عامَّة، إنَّ هذا التَّطْويبَ صَحيحٌ لأنَّك حينَ تَبكي تَشْعُرُ بالارتياح. فالحُزْنُ يَعْمَلُ بِطريقةٍ ما على رَفْعِكَ وإمْدادِكَ بالقُوَّة حَتَّى إنَّكَ قد تَكْتُبُ شِعْرًا عن ذلك". فهل تَذكرونَ القصيدة القديمة الَّتي تقول: "لقد مَشَيْتُ مِيْلاً مَعَ الفَرَحِ وسَمِعْتُهُ يَتَحَدَّثُ طَوالَ الطَّريق، ولكنِّي لم أَكُنْ أكثرُ حِكْمَةً عندما افتَرَقْنا بسببِ كُلِّ ما قالَهُ. وقد مَشَيْتُ مِيْلاً مَعَ الحُزْنِ فلم أسْمَعْهُ يَقولُ كَلِمَة. ولكِنْ ما أكثرَ الأشياءَ الَّتي تَعَلَّمْتُها مِنْهُ حينَ مَشَى الحُزْنُ مَعي".
إنَّها قَصيدةٌ جَميلة جدًّا. وهُناكَ مَثَلٌ عَرَبِيٌّ يَقول: "الشَّمْسُ المُشرقةُ دائمًا تُؤدِّي إلى صَحْراءَ قَاحِلَة". إنَّ الحُزْنَ يُعَلِّمُنا الكثير. فهو عاطفة مُهمَّة. ولكِنَّ هذه "الآيَة" لا تتحدَّثُ عن ذلك. فهي لا تتحدَّثُ عن حُزْنِ العالَم، سَواءٌ كانَ جائِزًا أَمْ غيرَ جائِز. فهي لا تتحدَّثُ عن ذلك البَتَّة. بل هي تتحدَّثُ عنِ الحُزْنِ الَّذي بِحَسَبِ مَشيئَةِ اللهِ. وهذا حُزْنٌ مُختلِفٌ جدًّا.
وأرجو مِنكم أنْ تَنظروا إلى رسالة كورِنثوس الثَّانية والأصحاح السَّابع لكي تَرَوْا الفَرْقَ. ففي 2كورِنثوس 7: 10، يُساعِدُنا الرَّسولُ بولُس على فَهْمِ ذلك إذْ يَقول: "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ..." [فهذا ليسَ حُزْن العَالَم]. "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا".
اسمعوني: قد تَذْرِفُ دُموعًا غزيرةً على مشاكِلِك وتَبكي قدرَ ما تَشاء بسببِ شُعورِكَ بالوَحْدَة، وبسببِ شُعورِكَ بالإحباط، وبسبب شُعورِكَ بخيبةِ الأمل، وبسبب مَحَبَّتِكَ الشَّديدة لشخصٍ ما. فقد تَبكي قدرَ ما تَشاء على كُلِّ هذه الأشياء. وقد تَذْرِفُ دُموعًا غزيرةً بسببِ شَهْواتٍ لم تَتَمَكَّنْ مِنْ تَلْبِيَتِها. وبعدَ أنْ تَفعلَ ذلكَ فإنَّ كُلَّ حُزْنِ العالَمِ ذاكَ لن يُنْشِئَ فيكَ حَياةً.
فهناكَ نوعٌ واحدٌ فقط مِنَ الحُزنِ الَّذي يُنْشِئُ حَياةً وَهُوَ: الحُزْنُ الَّذي بحسبِ مَشيئةِ اللهِ الَّذي يُنْشِئُ فيكَ ماذا؟ تَوْبَةً. لذلك، نَستنتِج أنَّهُ حُزْنٌ على ماذا؟ على الخطيَّة. فهذه هي النُّقطة الجوهريَّة. هذه هي النُّقطة الجوهريَّة. فَهُوَ حُزْنٌ بحسب مشيئة الله. حُزْنٌ على الخطيَّة. فحُزْنُ العالَمِ عَديمُ الفائدة. وهو يُنْشِئُ موتًا. أمَّا الحُزْنُ الَّذي بحسب مشيئةِ اللهِ فيُنشئُ توبةً تُؤدِّي إلى خَلاصِكَ وراحَتِكَ. فهذه هي الفِكرة بِرُمَّتِها. وهذا هو المِفتاح. فالحُزْنُ الَّذي بحسب مشيةِ اللهِ يَرتبط بالتَّوبة. والتَّوبة ترتبط بالخطيَّة.
لذلك، يا أحبَّائي، لِنرجِع إلى النَّصِّ في إنجيل مَتَّى 5: 4. فالمسألة هُنا لا تَختصُّ بالحُزْنِ لأنَّكَ تَشعرُ بالوَحدة، ولا تَختصُّ بالحُزنِ لأنَّكَ تَشعرُ بالإحباطِ أوْ بخيبةِ الأمل، أو لأنَّكَ تُحِبُّ شخصًا مَحَبَّةً شديدة، ولا لأنَّ شخصًا عَزيزًا عليكَ قد مات. وهي لا تَختصُّ بالحُزْنِ لأنَّكَ لم تَحصَل على ما تُريد. وهي لا تَختصُّ بالحُزنِ لأنَّكَ تَشعُرُ بالذَّنب. بل هو حُزْنٌ ناشِئٌ عن إدراكِكَ بأنَّكَ خَاطِئٌ. فهذه هي المسألة الجوهريَّة.
فأنتَ لا تَنوحُ هُنا على أحوالِك، على أحوالِكَ البشريَّة. بل إنَّكَ تَنوحُ على الخَطيئة. وهل تَذكرونَ الآية الثَّالثة الَّتي تَبتدئ بها التَّطويبات؟ "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ". وما مَعنى أنْ تكونَ مِسْكينًا بالرُّوح؟ لقد أخبرتُكُم. إنَّهُ الشُّعورُ بالإفلاسِ الرُّوحِيِّ. وَهُوَ الشُّعورُ الَّذي يَجْعَلُكَ تقول: "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ [ماذا؟] شَيْءٌ صَالِحٌ". فهذا هوَ المَعنى المَقصود.
وهذا هوَ الجانِبُ الفِكْرِيُّ. أمَّا في العددِ الرَّابِعِ فنَجِدُ الجانبَ العاطِفِيَّ. فلأنَّ عَقْلَكَ مُقْتَنِعٌ بأنَّكَ مُفْلِسٌ روحيًّا، فإنَّ عواطِفَكَ تَجِيْشُ فَتَحْزَنُ على ذلكَ الإفلاس. فهذه هي حالُ شَعْبِ المَلَكوت. فالمَسْكَنَةُ بالرُّوحِ تَعني أنْ نُدْرِكَ أنَّنا لا نِمْلِكُ شيئًا، وأنَّنا لا شيء، وأنَّنا لا نَستطيعُ أنْ نَفعلَ شيئًا. وهذا يَجْعَلُ المَرْءَ يَنْقَبِضُ، ويَنْكَمِشُ على نفسِهِ، ويَشْعُرُ أنَّهُ مُتَسَوِّلٌ لا يَمْلِكُ أيَّ مصادِر، وأنَّهُ عاجِزٌ عن مُساعدةِ نفسِهِ.
وما يَقولُهُ (أيْ ما يَقولُهُ رَبُّنا) في العددِ الثَّالث هو: "هَنيئًا للرَّجُلِ المِسْكين رُوحيًّا، والذي هو مُجَرَّدُ شخصٍ مُتَسَوِّل يَسْتَجْدي الرَّحْمَة والنِّعمة". فهذهِ الفِئَة مِنَ الأشخاصِ هي الَّتي تَدْخُلُ مَلكوتَ اللهِ؛ أيْ مَلكوتَ السَّماوات.
لِذا، ما الَّذي نَقْصِدُهُ، يا أصدقائي؟ اسمعوني جَيِّدًا: إنَّ الدُّخولَ إلى ملكوتِ اللهِ يَبتدئُ بالشُّعورِ بالعَجْزِ التَّامِّ والعَوَزِ الرُّوحِيِّ. فهو يَبتدئ بالشُّعورِ بالإفلاسِ الرُّوحِيِّ. فهذه هي نُقطةُ البداية. فطالَما أنَّكَ تَعيشُ على هذهِ الأرض، لن تَدخُلَ ملكوتَ اللهِ إلَّا إذا كنتَ تَشْعُرُ بالإفلاسِ الرُّوحيّ. وإذا كنتَ واحِدًا مِنْ أولادِ الملكوت، لن تَفْقِدَ يومًا ذلكَ الإحساس. ولكِنْ يجب أنْ تَعْلَمَ أنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيكَ شَيْءٌ صَالِحٌ". فطالَما أنَّنا على قَيْدِ الحياةِ، يجب علينا أنْ نَشْعُرَ دائمًا بهذهِ المَسْكَنَة الرُّوحِيَّة. وإنْ لم تَكُنْ هذه المَسْكَنَة موجودة أصلاً، فإنَّكَ لستَ مُؤمِنًا حقيقيًّا. وإنْ لم تَكُنْ موجودة فيكَ الآن، هُناكَ شَكٌّ في حَقيقَةِ إيمانِك لأنَّ هذه المَسْكَنَة هي جُزْءٌ لا يَتَجَزَّأُ مِنْ شَعْبِ المَلكوت.
ويُشيرُ "جورج مكدونالد" (George McDonald) إلى هذا المَبدأ في تَفسيرِهِ للعِظَة على الجبل فيقولُ الآتي: "إنَّ المَساكينَ المُعْوَزينَ بالرُّوح، أيِ الأشخاصَ المُتَواضِعينَ في قُلوبِهِم، الذينَ لا توجد لديهم طُموحات عَظيمة، ولا أنانيَّة، ولا يَحتقرونَ الآخرين، ولا يَنْتَظِرونَ المَدْحَ مِنَ النَّاسِ؛ أيْ أولئكَ الأشخاصَ المُتواضِعينَ الذينَ لا يُمَجِّدونَ أنفُسَهُمْ، وبالتَّالي لا يَنتظرونَ التَّمجيدَ مِنَ الآخرين، بَلْ يَبْذِلونَ أنفُسَهُم؛ أولئكَ هُمَ الأشخاصُ الأحرارُ الذينَ لَهُمُ المَلَكوت. فهؤلاءُ هُمْ مُواطِنو أورُشَليم الجديدة، وَهُمُ الأشخاصُ الذينَ يُدركونَ عَوَزَهُم الرُّوحيَّ. فَهُمْ ليسوا أشخاصًا يَفتقرونَ إلى الأصدقاء، ولا يَفتقرونَ إلى النُّفوذ، ولا يَفتقرونَ إلى الشُّروطِ المَطلوبة، ولا يَفتقرونَ إلى المال، بل هُمْ أُناسٌ مَساكينُ بالرُّوح إذْ يَشْعُرونَ أنَّهُمْ مَخلوقات مِسْكينة ولا يَعرفونَ أيَّ شيءٍ في أنفُسِهِم قد يَجعلهم مَسرورينَ بأنفُسهم، ولا يَرغبونَ في أيِّ شَيءٍ قد يَجعلُهم فَخورينَ بأنفسهم. فَهُمْ أُناسٌ يُدركونَ أنَّهُم بحاجة إلى الكثير لكي تَصيرَ حياتُهُم تَستحقُّ العيشَ، ولكي يَصيرَ وُجودُهُمْ شيئًا مَقبولاً، ولكي يَصيروا صَالِحينَ للحياة. هؤلاءِ هُمُ الأشخاصُ المَساكين الذينَ قالَ الربُّ عنهم أنَّهُم مَغْبوطون". ويَقولُ "مكدونالد": "عندما يَقولُ الإنسانُ: ’أنا وَضيعٌ وعديمُ القيمة‘ فإنَّ أبوابَ الملكوتِ تُفْتَحُ لَهُ".
إنَّ مِثْلَ هذه المَسْكَنَة بالرُّوحِ، يا أحبَّائي، كما جاءَ في العددِ الثَّالث، تَقودُ إلى الحُزْنِ المذكور في العدد الرَّابع. وَهُوَ حُزْنٌ حَقيقيٌّ على الخطيَّة. والشَّخصٌ المُعْوَزُ هوَ الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أنْ يقول: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ". والشَّخصُ المُعْوَزُ هوَ الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ أنْ يقول: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ". انظروا إلى داوُد. فبعدَ خطيئَتِهِ المُرَوِّعة مع بَثْشَبَع، وبعدَ أنْ وَضَعَ خُطَّةً لِقَتْلِ زَوْجِها "أُورِيَّا"، أَدْرَكَ لا فقط فَقْرَهُ المُدْقِع، وَأَدْرَكَ لا فقط أنَّهُ مُعْدَمٌ، ولا فقط أنَّهُ بالخطيَّةِ قد حَبِلَتْ بِهِ أُمُّهُ (كما جاءَ في المزمور 51)، بل إنَّهُ حَزِنَ حُزْنًا عَميقًا جدًّا اخْتَرَقَ أعْماقَ كِيانِهِ.
وانظروا إلى أيُّوب. فقد كانَ أيُّوبُ يَمْلِكُ كُلَّ شيء. وهل تَعلمونَ كَمْ كانَ أيُّوبُ غَنِيًّا؟ لقد كانَ أيُّوبُ غَنِيًّا جِدًّا حَتَّى إنَّهُ يَقولُ في سِفْرِ أيُّوب 29: 6 إنَّهُ كانَ يَغْسِلُ عَتَبَةَ بَيْتِهِ باللَّبَن. وهذهِ دَلالة على الغِنَى الحَقيقيّ. ولكنَّ ذلكَ يَجْعَلُ العَتَبَة زَلِقَة جِدًّا أيضًا. فقد كانَ أيُّوبُ يَمْلِكُ كُلَّ شيء. ولكِنَّهُ لم يَصِرْ رَجُلًا بِحَقّ إلَّا عندَ وُصولِنا إلى الأصحاح 42 بَعْدَ أنْ أَفْحَمَهُ اللهُ تَمامًا فأدْرَكَ أنَّهُ لا شيء. وهو يقول: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي". وقد كانَ رَدُّهُ: "لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَاد". وكُلُّ شخصٍ يَحْصُل على صُورة حقيقيَّة لنفسه في ضَوْءِ اللهِ يَفْعَلُ الشَّيءَ نفسَهُ. فهذه هي الطَّريقُ الوحيدُ المُؤدِّية إلى الملكوت. فيجب عليكَ أنْ تَزْحَف.
والكلمة "حَزَانَى" في هذهِ الآية هي أَقوى مِنْ جَميعِ الكلماتِ اليونانيَّة الأُخرى. وهي تُستخدَم حَصْرًا للتَّعبيرِ عنِ الحِدادِ على المَوتَى، وعلى الرِّثاءِ العَميقِ لِشَخْصٍ مَحبوبٍ جَدًّا مَات. وفي التَّرجمةِ السَّبعينيَّة، تُستخدَم هذه الكلمة للتَّعبير عن حُزْنِ يَعقوب عندما أَخْبَروهُ أنَّ ابْنَهُ يُوْسُف قد مات (في تكوين 37). وهي تُستخدَم في الأناجيل (في إنجيل مَرْقُس مَثَلاً – وتحديدًا في الأصحاح 16 والعدد 10) إذْ نَقرأ: "فَذَهَبَتْ هذِهِ [وَهَذا حَدَثَ، دُوْنَ شَكٍّ، بعدَ مَوْتِ المسيح] وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ". فهي الكلمة نفسُها. وهي أقوى كلمة يمكنكَ أنْ تَستخدِمَها لِوَصْفِ شخصٍ يَنوحُ على مَوْتِ شَخْصٍ عَزيزٍ جِدًّا على قلبِه. ويمكنكم أنْ تَجِدوها في رُؤيا 18 إذْ إنَّ النِّظامَ الشِّرِّيرَ سيَنوحُ على انْهيارِ التِّجارة عندَ دَمارِ بابِل العظيمة في زَمَنِ الضِّيقة.
والآنْ، اسمَحوا لي أنْ أقولَ شيئًا آخَر عن هذه الفكرة المُختصَّة بهذه الكلمة نفسِها. فالكلمة تَحْمِلُ فِكرة الكَرْب الدَّاخليّ العميق، لا النَّوْح الخارجيّ فقط. فهناكَ كلمة يونانيَّة أخرى تُستخدَم للتَّعبيرِ عنِ الصُّراخِ عندَ الحِداد. ولكِنَّ هذه الكلمة تُعَبِّر عن ألمٍ دَاخليٍّ عميق. ونحنُ نَراها تُسْتَخْدَم لوَصْفِ حَالِ داوُد إذا رَجَعْتُم إلى المزمور 32. واسمحوا لي أنْ أقرأَ بِضْعَ آياتٍ لكم.
المزمور 32: 3: "لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ". ولعَلَّكُم تَعلمونَ أنَّهُ عندما لم يكن داودُ يَعترِف بخطيئَتِهِ أمامَ اللهِ، كانَ يَشْعُرُ أنَّ الحُزْنَ يُمَزِّقُهُ. فقد كانَ يَنْهَشُهُ مِنَ الدَّاخِل: "لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي [أيْ: عُصَارَة حَياتي، أوْ: الدَّمُ والعُصارَة اللَّمْفاويَّة وكُلُّ هذه الأشياء، واللُّعابُ، وكُلُّ شيءٍ آخَر في الجِسْم] "تَحَوَّلَتْ إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ". فقد شَعَرَ بِبُؤْسٍ في كُلِّ كِيانِهِ. ثُمَّ إنَّهُ يَقول: "أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي".
وفي المزمور 51، يَفْتَكِرُ داوُد بالخطيَّة نفسِها الَّتي اقترَفَها معَ بَثْشَبَع ويقول: "اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا". فأنا عَاجِزٌ عن إبْعادِ تِلْكَ الخطيَّة عن عينيَّ. وأنا عَاجِزٌ عن إبعادِها عن فِكري.
وَهُوَ يقول في العدد 10: "قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي". اسمعوني: عندما نَاحَ داوُدُ على خَطيَّته واعتَرَفَ بخطيَّتِه، تَطَهَّرَ مِنها. وقد كانَ موقِفُهُ مُختلفًا تمامًا.
وهل تَعلمونَ ما الَّذي قالَهُ في المزمور 32 حينَ تَحَرَّرَ مِنْ ذلكَ الشُّعورِ بالذَّنْب؟ لقد قال: "طُوْبَى [أو: "هَنيئًا"]". "طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُل لاَ يَحْسِبُ لَهُ الرَّبُّ خَطِيَّةً". فهل تَعلمونَ لماذا يَكونُ الحَزانى سُعداء؟ لأنَّ الحَزانى على الخطيَّة هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ [ماذا؟] يُغْفَرُ لَهُم. أمَّا بقيَّةُ العالم فيجب عليهم أنْ يَعيشوا وَهُمْ يَشعرونَ بالذَّنب إلى ما لا نِهاية مِنْ دُوْنِ تَعْزِيَة.
واسمحوا لي، يا أحبَّائي، أنْ أقولَ الآتي: إنَّ السَّعادة لا تأتي بسببِ الحُزْن، بل تَأتي بسببِ ما يَفعلُه اللهُ عندما تَحْزَن. فإنْ كُنْتَ مُؤمِنًا وحاولتَ أنْ تَستمرَّ في اقترافِ الخطيَّة والتَّغاضي عنها، ستَرى آثارَها المُدَمِّرَة. أمَّا إذا اعترفتَ بها فإنَّكَ سَترى الحُريَّة والفرح النَّاجِمَيْن عنِ الغُفران.
اسمعوني: لقد اختبرَ داودُ دُموعَ الوَحدة. وقد اختبرَ داودُ دُموعَ الرَّفض. وقد اختبرَ دُموعَ الشُّعورِ بالإحباط، ودُموعَ اليأسِ وخيبةِ الأمل. وقد اختبرَ دُموعَ الهزيمة. وقد اختبرَ حَتَّى الدُّموعَ غيرَ اللَّائقةَ النَّابعةَ مِنْ شُعورِهِ بالذَّنب حينَ حاولَ أنْ يُكَفِّرَ عن خطيئته. ولكِنْ لا يوجد شيء كَسَرَ قلبَ داود وجَعَلَهُ يَبكي أكثرَ مِنْ خطيئتهِ الشخصيَّة. وحينئذٍ فقط عَزَّاهُ اللهُ فقال: "طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ".
"طُوبَى للحَزانى". وهل تَعلمونَ ما الَّذي يَقولُهُ العالَم؟ "ضَعْ مَشاكِلَكَ في كيسٍ قديم وابتسم. ابتسم. ابتسم". ولكنَّ الكتابَ المقدَّسَ يقول: "احْزَن. احْزَن. احْزَن".
انظروا إلى رسالة يَعقوب والأصحاح الرَّابع. فنحنُ، يا أصدقائي، لا نَفْعَل ذلكَ بالقدر الكافي في حياتِنا. ليسَ بالقدر الكافي. فنحنُ نقرأُ في رسالة يعقوب 4: 8 هذه الكلماتِ الَّتي أُريدُ مِنكُم أنْ تَسمعوها: "اِقْتَرِبُوا إِلَى اللهِ فَيَقْتَرِبَ إِلَيْكُمْ. نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ". ثُمَّ استمعوا إلى العدد 9: "اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ".
اسمعوني: لا توجد كلمة أعظم قد تَخْطُر ببالي للتَّعبيرِ عن حالِ المسيحيَّة في وقتنا الحاضِر سِوى أنَّها ينبغي أنْ تَبكي عوضًا عنِ الضَّحِك. فقلبي يَحْزَن حينَ أَرى رُعُونَة وحَماقة وسَخافة ما يَجري باسمِ المسيحيَّة. وأنا لديَّ كلمة لهؤلاءِ الناس. وكلمتي لهؤلاءِ الناس هي: "اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ".
اسمعوني: لا يوجد شخصٌ دَخَلَ ملكوتَ اللهِ دونَ أنْ يَنوحَ على خَطاياه الشَّخصيَّة. ولا يمكنكم أنْ تُثْبِتوا لي أو لأيِّ شخصٍ آخر أنَّكم مؤمنون حقًّا ما لم يكن يوجد في حياتِكُم بأسْرِها نفسَ هذا الشُّعورِ بالحُزْن على الخطيَّة في حياتكم الشخصيَّة.
وأنا لا أُمانِعُ في أنْ أكونَ سَعيدًا لأنَّ خَطايايَ قد غُفِرَت، ولكنِّي لا أستطيعُ أنْ أتمتَّعَ بتلك السَّعادة إلَّا إذا اعترفتُ بخطاياي. فالمؤمنُ هو شخصٌ يَنْكَسِرُ دائمًا بسببِ الخطيَّة. والحقيقة هي أنَّهُ قد باتَ مِنَ الصَّعبِ عليَّ أنْ أكونَ سَعيدًا جِدًّا الآن. إنَّهُ أمرٌ صعب. فقد كُنْتُ أكثرَ سعادة مِمَّا أنا عليهِ الآن. فأنا أعرفُ أُمورًا كثيرةً تَجْعَلُ مِنَ الصَّعبِ عليَّ أن أكونَ سعيدًا.
وقد قالَ حِزْقيال هذه الكلمات (في حزقيال 21): "سَيْفٌ سَيْفٌ حُدِّدَ وَصُقِلَ أَيْضًا...فَهَلْ نَبْتَهِجُ؟" فقد قال: "هل يُفْتَرَضُ بنا أنْ نَضْحَكَ ونَمْزَح؟ هُناكَ سَيْفٌ حُدِّدَ وَصُقِل". بعبارة أخرى: إنَّ اللهَ مُتَأهِّبٌ لإنزالِ دينونتِهِ الأخيرة. فما الَّذي نَضْحَكُ عليه؟ إنَّها ليست نُكْتَة!
وفي إشعياء 22: 12، نَرى كلمة أخرى بخصوصِ الموضوعِ نفسِه: "وَدَعَا السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى الْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ وَالْقَرَعَةِ وَالتَّنَطُّقِ بِالْمِسْحِ". وقد كانَ يُعطي صُورةً عنِ الدَّينونةِ القادمةِ على أورُشليم. وَهُوَ يقولُ: "يجب عليكم أنْ تَبكوا". ثم نقرأ في العدد 13: "فَهُوَذَا [وما الَّذي رَآه؟] بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ، ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ". بعبارة أخرى، لقد كانوا يُقيمونَ حَفلاً كبيرًا، ووليمةً كبيرةً، ويَشربونَ الخَمْرَ: "لِنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ، لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ". "فَأَعْلَنَ فِي أُذُنَيَّ رَبُّ الْجُنُودِ: لاَ يُغْفَرَنَّ لَكُمْ هذَا الإِثْمُ حَتَّى تَمُوتُوا".
لماذا؟ لأنَّهُ طالما أنَّكَ تَضحَك على الخطيَّة فإنَّكَ لن تَختبرَ يومًا التَّطهير. أَتَرى؟ فهل تَضحك حينَ تَرى الشَّرَّ؟ وهل تَضحك حينَ يُعْرَضُ الشَّرُّ على شاشَةِ التِّلفزيون؟ وهل تَضحك حينَ تَسمعُ أنَّ أحدَ الأشخاصِ فَعَلَ شَرًّا؟ وهل تَضحكُ على نُكاتٍ قَذِرَة؟ فهل هذه الأشياء مُضْحِكَة في نَظَرِك؟
نحنُ نَقرأُ في سِفْرِ الأمثال 2: 14 أنَّ البعضَ يَفْرَحونَ "بِفَعْلِ السُّوءِ". ونقرأُ في رسالة تسالونيكي الثَّانية 2: 12 عِبارةً قصيرةً تَصِفُ هؤلاءِ بأنَّهُم: "سُرُّوا بِالإِثْمِ". فهل تَفعلُ ذلك؟ والحقيقة هي أنَّني أُوْمِنُ، يا أحبَّائي، بأنَّ الكنيسةَ اليوم لا تُدركُ الخطيَّة كما ينبغي. وهي لا تَمْلِك عقيدة سليمة فيما يَختصُّ بالخطيَّة. فنحنُ نَظُنُّ (أو هناكَ أشخاصٌ كثيرونَ يَظُنُّونَ) أنَّ الحياةَ المسيحيَّة مَزْحَة، وأنَّ الكنيسة هي شيءٌ يُمْكِنُكَ أنْ تَسْخَرَ مِنْهُ وتَضْحَكَ عليه.
وهناكَ أشخاصٌ عَيَّنوا أنفُسَهُم نُقَّادًا للكنيسة وراحوا يَهْجُونَ الكنيسَةَ ويَسْخَرونَ مِنْها كما لو كانَتْ نُكْتَةٍ أوْ شيئًا يُمْكِنُهُم أنْ يَضْحَكوا عليه. وَهُمْ يَصرِفونَ كُلَّ وقتِهم في التَّفكيرِ في طُرُقٍ مُضْحِكَةٍ للتَّعليقِ على المسيحيَّة. فنحنُ نَعْبَثُ بطريقةٍ مسيحيَّة. وأنا لستُ ضِدَّ المَرَح. وأنتُم تَعلمونَ ذلك. وأنا أعتقد أنَّ العهدَ القديمَ واضحٌ تمامًا في ذلك إذْ يقول: "القَلْبُ الفَرْحَانُ يُطَيِّبُ الجِسْمَ". ولكِنْ أتَعلمونَ أنَّنا قد فَقَدْنا اتِّزانَنا تَمامًا حَتَّى إنَّنا فَقَدْنا هذا الشُّعورَ بِرُمَّتِه. أليسَ كذلك؟
فالنَّاسُ يَقولون: "إنَّ هذه الحركة الخمسينيَّة هي أعظمُ نَهضةٍ رأيتُها في حَياتي". اسمعوني: أنا لم أَرَ مِثْلَ هذا العَبَث ومِثْلَ هذهِ السَّخافة طَوالَ حَياتي. وهذا بَعيدٌ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الحُزْن. فالتَّبكيتُ على الخطيَّة ينبغي أنْ يَسْبقَ الاهتداءَ ويجب أنْ يَعْقُبَهُ. فهذا هو سَبيلُ الغِبْطَة.
وكما تَعلمونَ فإنَّ هذا مُدهشٌ. فبعضُ المَسيحيِّينَ يَعيشونَ حياتَهُم بأسْرِها وَهُمْ يُحاولونَ البحثَ عنِ السَّعادة. وَهُمْ يَطلبونَ المَشورَةَ ويَقرأونَ كُتُبًا عنِ السَّعادة مِثْلَ "السِّرَّ المَسيحيَّ لحياةٍ سَعيدة" (The Christian Secret of a Happy Life). وَهُمْ يُحاولونَ أنْ يَعثروا على هذه السَّعادة. ولكِنَّ ما هُمْ بِحاجة إلى القيامِ بِهِ في الحقيقة هو أنْ يَنوحوا لأنَّ هذا هُوَ طَريقُ السَّعادة.
وعندما تُدْرِكُ أنَّكَ مُفْلِسٌ رُوحيًّا، وتُدركُ أنَّكَ خاطِئٌ، قد تَتَجاوَبُ بطُرُقٍ عديدة. أوَّلاً، قد تُنْكِرُ ذلكَ (كَما كانَ يَفْعَلُ الفَريسيُّونَ) وَتَتظاهَرُ بالسَّعادة، وتَعيشُ حياةً مُمتلئة بالخِداعِ، وتَجْعَلُ الآخرينَ يَظُنُّونَ أنَّكَ تَعيشُ حياةً رائعةً. أوْ عندما تُدركُ إفلاسَكَ الرُّوحِيَّ، قد تُقِرُّ بذلك وتُحاول أنْ تُغَيِّرَ تلكَ الحال بنفسك بأنْ تقول: "يجب عليَّ أنْ أكونَ سَعيدًا. يجب عليَّ أنْ أَسْعى جاهدًا لكي أكونَ شخصًا أفضَل". وهذا يُسَمَّى بالتَّسَلُّحِ الأخلاقِيِّ. أوْ قد تُقِرُّ بذلك وتَشْعُرُ بيأسٍ شديدٍ وتَنْتَحِر (كما فَعَلَ يَهوذا). فأنتَ تَشعُرُ بالعَجْزِ. فأنتَ خاطِئٌ، وأنتَ تَعلمُ ذلك ولا تستطيعُ أنْ تُعالِجَ ذلك.
وهُناكَ شابٌّ في كنيسَتِنا كانَ يأتي إلى هذه الكنيسة منذُ أنْ جِئتُ إليها. وقبلَ يومين، بَل يومَ أمس، أَطْلَقَ النَّارَ على نفسِهِ فَعَثَروا عليهِ مَيْتًا. فقد كانَ يَعلمُ أنَّهُ خاطئٌ بِكُلِّ تأكيد، ولكنَّهُ لم يتمكَّن مِنْ مُعالجةِ الأمر. فقد كانَ اليأسُ عميقًا جدًّا حتَّى إنَّهُ انْتَحَر. لذلك، قد تُنْكِرُ ذلك وتَتظاهَرُ بالعَكْس. وقد تُقِرُّ بذلك وتُحاول أنْ تُغَيِّرَ ذلك بنفسك. وقد تُقِرُّ بذلك وتَغرَق في مُستنقَعِ اليأس. أو يمكنكَ أنْ تُقِرَّ بذلك وتَلتجئ إلى اللهِ مِنْ أجلِ الحصولِ على النِّعمة والرَّحمة. والخِيارُ الأخيرُ هو الخِيارُ الصَّحيح.
وما الَّذي فَعَلَهُ الابْنُ الضَّالّ حينَ وَجَدَ نَفْسَهُ يأكُلُ طَعامَ الخَنازير؟ هل أَنْكَرَ أَحْوالَهُ؟ وهل قالَ: "أنا على ما يُرام. وهذا الطَّعامُ ليسَ سَيِّئًا جِدًّا. سوفَ أَتَخَطَّى ذلك"؟ أَمْ أنَّهُ أَقَرَّ بذلك وقال: "سوفَ أَجْتَهِدُ في العملِ في هذه المزرعة وأُثْبِتُ لهم أنِّي بارِعٌ في العمل"؟ أَمْ أنَّهُ أَقَرَّ بذلك وشَعَرَ باليأسِ وَانْتَحَر؟ لا. لقد فَعَلَ الصَّواب. لقد أَقَرَّ بذلك ثُمَّ عادَ راجِعًا إلى أبيه حيثُ وَجَدَ النِّعمةَ والرَّحمة. فقد حَزِنَ.
والخلاصُ يَتطلَّب تَوبةً، ويَتطلَّب نَوْحًا. واللهُ يُطالِبُنا بذلك. وأنا أشعُرُ حقًّا، يا أحبَّائي، أنَّ هناكَ أشخاصًا كثيرينَ في هذا العالَم يَظُنُّونَ أنَّهُم مُؤمنون؛ ولكنَّهم لا يأتونَ إلى المسيحِ بِروحٍ مُنْكِسِرَة، ولا يَنوحونَ على الخَطيَّة مَعَ أنَّها الطَّريقُ الوَحيدُ لِدُخولِ المَلكوت. وإنْ لم تَكُنْ تَحْيا هكذا الآن، فإنَّني أَتساءَلُ إنْ كُنْتَ قَدْ خَلَصْتَ يَوْمًا.
ولِعِلْمِكُم، فإنَّهُ مِنَ المُدهشِ أنَّهُ عندما يَقولُ شَخْصٌ لشخصٍ آخر في الوَسَطِ المَسيحيِّ: "هل أنتَ مُؤمِن" فإنَّهُ يَقولُ: "أَجَل". "وكيفَ تَعْرِفُ ذلك؟" وغالبًا فإنَّهُ يَقول: "أَذْكُرُ الوقتَ الَّذي تَقَدَّمْتُ فيهِ إلى الأمام"، أو: "أَذْكُرُ أنِّي سَلَّمْتُ كَذا". بعبارة أخرى، فإنَّ أساسَ يَقينهم بأنَّهم مُؤمنونَ يَقومُ على الماضي. ولكنَّ هذا الأساسَ مَغلوطٌ. فالعهدُ الجديدُ لا يُعَلِّمُ ذلك البَتَّة.
فالعهدُ الجديدُ لا يَتحدَّثُ البَتَّة عَنْ قَرار. والعهدُ الجديدُ لا يَتحدَّثُ البَتَّة عنِ التقدُّمِ إلى الأمام، ولا يَتحدَّثُ البَتَّة عَنْ مَلْءِ اسْتِمارَة، ولا يَتَحَدَّثُ البَتَّة عن مُشيرٍ يُخْبِرُكَ أنَّكَ مُخَلَّص. بل إنَّ كُلَّ ما يَتَحَدَّثُ عنهُ هو أنَّكَ مُؤمِنٌ إنْ كانَ هُناكَ دَليلٌ حَاضِرٌ على ذلك. أَتَرَوْن؟ فهذه هي دائمًا النُّقطة الجوهريَّة.
فنحنُ نقرأُ في رسالة كورِنثوس الثانية 12: 21: "لأَنِّي أَخَافُ إِذَا جِئْتُ [مَرَّةً أُخرى]...أَنْ يُذِلَّنِي إِلهِي عِنْدَكُمْ، إِذَا جِئْتُ أَيْضًا وَأَنُوحُ عَلَى كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ أَخْطَأُوا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَتُوبُوا عَنِ النَّجَاسَةِ وَالزِّنَا وَالْعَهَارَةِ الَّتِي فَعَلُوهَا". فبولُس الحَبيب يقول: "إنْ لم تَنوحُوا على ذلك، فإنَّ كُلَّ ما تَبَقَّى هو أنْ أَنوحَ أنا على ذلك".
فاللهُ يُطالِبُنا بالتَّوبة. وَهُوَ يُطالِبُنا بأنْ نُدركَ الخطيَّة. وأنا لا أتحدَّثُ عنِ البُكاءِ إشْفاقًا على الذَّات، بل أتحدَّثُ عنِ التَّوبة الحقيقيَّة. وإنْ لم تكونوا تُدركونَ الفَرْقَ فأنتُم في وَرطة.
وبالمُناسبة، نَقرأُ في 2كورِنثوس 2: 7 أنَّهُ لا يَجوزُ لنا أنْ نَدَعَ أيَّ شخصٍ "يُبْتَلَعَ...مِنَ الحُزْنِ الْمُفْرِط". فقد يُبالِغُ المَرْءُ في الحُزْن. كذلك، قد يَقودُ الحُزْنُ المَرْءَ أحيانًا إلى الشُّعورِ بأنَّهُ مُتَفَوِّقٌ رُوحيًّا أوْ أنَّهُ أَقْدَسُ مِنَ الآخرين. وهذا يُشبِهُ الفتاةَ الصَّغيرةَ الَّتي رأت شخصًا مُتَجَهِّمًا فقالت إنَّهُ لا بُدَّ أنْ يكونَ مَسيحيًّا رُوحيًّا جِدًّا. فالسَّعادة تأتي مِنَ النَّوْحِ الحَقيقيّ: "القَلْبُ المُنْكَسِرُ وَالمُنْسَحِقُ يَا اَللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (المزمور 51).
وهل يمكنني أنْ أَقولَ لكم المزيد؟ فأنا أُوْمِنُ بالآتي: أنَّنا نَحْزَنُ بسببِ فَقْرِنا المُدْقِعِ رُوحيًّا بسببِ خطيَّتِنا، وأنَّنا نَدْخُلُ الملكوتَ ونَستمرُّ في القيامِ بذلك طَوالَ حَياتِنا. وهذا واضِحٌ في رُومية 7. وقد أَشَرْتُ إلى ذلك في هذا الصَّباح وأريدُ منكم أنْ تَرَوْا ذلك. رومية 7. فالنَّاسُ يَظُنُّونَ أنَّ هذا الأمرَ حَدَثَ لبولُس في حياتِهِ السَّابقة، وأنَّهُ بوصولهِ إلى الأصحاح 8 فإنَّهُ لا يُعاني تلك المشكلة. ولكنَّ هذا الظَّنَّ غيرُ صحيح.
فهو يقول في رُومية 7: 15: "إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ". وَهُوَ يقول في العدد 17: "بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ". وَهُوَ يُتابِعُ الحَديثَ عنها: "فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي" (في العدد 18)، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ". وَهُوَ يُتابِعُ حَديثَهُ قائلاً في العدد 20: "بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ". وَهُوَ يقول: "إِذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي. فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ. وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي".
بعبارة أخرى، فإنَّ البِرَّ والخطيَّة يَتَصَارَعان: "وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" بعبارة أخرى، فإنَّ هذا الأمرَ هُوَ نَهْجٌ حَياةٍ بالنِّسبةِ إلَيَّ. فهو ليسَ أمرًا فَعَلَهُ مَرَّةً واحدةً وحسب. فنحنُ نقرأ في العدد 25: " أَشْكُرُ اللهَ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا!" والنَّاسُ يَقولون: "إنَّها النُّصْرَة". ولكنَّهم لا يَقرأونَ بقيَّةَ النَّصِّ: "إِذًا أَنَا نَفْسِي بِذِهْنِي أَخْدِمُ نَامُوسَ اللهِ، وَلكِنْ بِالْجَسَدِ نَامُوسَ الْخَطِيَّةِ!" فلأنَّهُ اخْتَبَرَ النُّصرةَ مِنْ قَبْل، فإنَّ هذا لا يَعني أنَّهُ اخْتَبَرها مَرَّةً وإلى الأبد. فقد كانَ يُجاهِد ضِدَّ الخطيَّة كُلَّ يوم مِن أيَّام حياته إلى أنِ التقى يسوعَ وجهًا لوجه. فهذا نَهْجُ حياةٍ قائمٍ على مُقاومةِ الخطيَّة. وهذا أمرٌ لا يتغيَّر.
اسمعوني: انظروا إلى الأصحاح 8 والعدد 23 إذْ يقول: "وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضًا نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا". اسمعوني: إنَّهُ ليسَ فقط أَنين الخَليقة. بل إنِّي سَئِمْتُ هذا الصِّراع. وقد سَئِمْتُ هذه الخطيَّة. وأنا أُريدُ الرَّاحة.
لذلك، لا عَجَب أنَّهُ قال: "لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ". ولا عَجَب أنَّهُ قالَ في 2كورنثوس 5: "فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ". اسمعوني، يا أحبَّائي: لقد خَلَصْتُم بأنْ أدركتُم إفلاسَكُم الرُّوحيَّ وحَزِنْتُم على خطيَّتِكُم. ويجب أنْ تفعلوا ذلكَ بَقِيَّةَ حياتِكُم. فيجب أنْ تَحْزَنوا حقًّا حينَ تُخْطِئون.
والحقيقة هي أنَّ يوحنَّا (في رسالة يوحنَّا الأولى) يُقَدِّمُ الأدلَّةَ على حَقيقةِ إيمانِ الشَّخصِ. وواحدٌ مِنْ هذه الأدِلَّة هو الآتي: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا". وما يَعنيهِ ذلك حقًّا في السِّياقِ هوَ الآتي: إنْ استمرَّينا في الاعترافِ بخطايانا، فإنَّنا نُقَدِّمُ الدَّليلَ على أنَّنا نَحْنُ مَنْ نِلْنا الغُفران. بعبارة أخرى، فإنَّ الذينَ يُغْفَر لهم، ورعايا الملكوت، وأولادَ الملك، وأولادَ اللهِ يَتَّصِفونَ بالاعترافِ الدَّائمِ بالخطيَّة.
وما زِلْتُ أَذْكُرُ أنَّ شخصًا قالَ لي ذاتَ مَرَّة: "لقد تَحَرَّرْتُ". وَهُوَ طالبٌ في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس. "لقد تَحَرَّرتُ. فقد شَرَحَ أحدُ الأشخاصِ مَعنى الآية 1يوحنَّا 1: 9 فعَرَفْتُ أنِّي لستُ مُضْطَرًّا إلى الاعترافِ بخطاياي. ويا لهُ مِنْ شُعورٍ رائع". فقلتُ: "ومَتى اكتشفتَ ذلك؟" "قبلَ بِضعة أشهر". فقلت: "عظيم! ولكنِّي أوَدُّ أنْ أَطْرَحَ عليكَ سؤالاً: هل تَعترف بخطاياك؟" فقال: "لقد أخبرتُكَ للتَّوّ: لا حاجةَ إلى القيامِ بذلك".
قُلتُ: "أنا أَعْلَمُ أنَّكَ قُلْتَ ذلك. ولكِنْ هل تَعترِف بخطاياك؟" فقال: "أجل. ولكِنْ هذا هو ما يُزعِجُني". فقلتُ: "إنَّهُ أمرٌ جَيِّد". فأيَّا كانَ ذلكَ الشَّيء الَّذي تَعَلَّمْتَهُ، فإنَّكَ نَقَضْتَهُ مِنْ خلالِ طَبيعَتِكَ الجديدة الَّتي هي الصِّفَة الَّتي تُمَيِّز أيَّ مُؤمِنٍ إذْ إنَّهُ يُعْتَرِفُ بخطاياه".
وبالمناسبة، ارجعوا إلى إنجيل مَتَّى والأصحاح الخامس. فالفِعْلُ هُنا يَرِدُ بصيغة المُضارِع: "بينثونتيس" (penthountes). فَهُوَ عَمَلٌ مُستمرٌّ بِمَعنى أنَّ الأشخاصَ الَّذينَ يَحْزَنونَ دائمًا هُمُ الَّذينَ يَتَعَزَّوْنَ دائمًا". وقد قالَ "لوثر" في اعتراضاتِهِ الخمسة والتِّسعين إنَّ حياتَنا بأسْرِها هي توبة مُستمرَّة ونَدَمٌ مُستمرّ. وقد صَرَخَ داوُد قائلاً (في المزمور 38): "لأَنَّ آثامِي قَدْ طَمَتْ فَوْقَ رَأسِي. كَحِمْل ثَقِيل أَثْقَلَ مِمَّا أَحْتَمِلُ". فقد كانَتِ التَّوبة نَهْجَ حَياةٍ لديه. وقد بَقِيَ يُواجِه خَطاياه كَواقِعٍ طَوالَ حياتِهِ.
وهل تَعلمونَ شيئًا؟ نَجِدُ في العهدِ الجديد بمُجملِه الكثيرَ عن يسوع. ولكنَّنا لا نَراهُ ولا مَرَّة في العهدِ الجديد بأسْرِه يَضْحَك. فنحنُ لا نَقرأ أنَّهُ ضَحِكَ. ولا أدري إنْ كانَ قد ضَحِكَ أَمْ لا، ولكنَّ ذلكَ ليسَ مُدَوَّنًا. ومِنَ الصَّعبِ عليَّ أنْ أتخيَّل أنَّهُ كانَ يَضْحَكُ كثيرًا. فقد جاعَ. وقد غَضِبَ. وقد عَطِشَ. ولكنَّنا لا نَقرأُ عنهُ أنَّهُ ضَحِكَ مَعَ أنَّ الضَّحِكَ جُزءٌ لا يَتجزَّأُ مِنَ العواطفِ البشريَّة. ولكنَّنا نَقرأُ عنهُ أنَّهُ بَكى. فقد كانَ رَجُلَ أَوْجاعٍ ومُخْتَبِرَ الحَزَن.
وأعتقد أنَّنا قد تَخَلَّينا عن ذلك. فقد صِرْنا عَبيدًا للتَّسلية، والبحثِ عنِ الإثارة، وهَوَسِ المُتعة، وهذا العالَمِ السَّخيفِ الَّذي يَكْثُرُ فيهِ الحَمْقى والمُهَرِّجونَ والمُمَثِّلونَ الكوميديُّونَ الَّذي يحاولُ البعضُ منهم أنْ يَقومُ بعُروضٍ في الكنيسة. ولَعَلَّكُمْ لاحظتُم ذلكَ الرَّجُل الَّذي تَمَّ تَقديمُهُ على بَرنامجٍ تلفزيونيٍّ مسيحيٍّ بوصفِهِ "المُمَثِّلَ الكوميديَّ المَسيحيَّ الأكثر شُهْرَةً!" ولكِنْ مَنْ مِنَّا يَحتاجُ إلى أشخاصٍ كهؤلاء؟ هذا هو المَعنى المقصود. فَهْل تُدركونَ الآنَ مَعنى أنْ تَنوحوا على خطاياكم؟
وما هي نَتيجَةُ ذلك؟ هذا هو السُّؤالُ الثَّاني. وسوفَ تكونُ الإجابة عنِ الأسئلة الباقية أقصَر. وأنا لم أَقُلْ كُلَّ ما أُريدُ أنْ أقول رَدًّا على السُّؤالِ الأوَّل. وأنتُم تُدركونَ أنَّكم بالكاد تَتَعَلَّمونَ جُزءًا صغيرًا أسبوعًا بعدَ أسبوع. والعيشُ في إحباطٍ كهذا هوَ أمرٌ صعبٌ جدًّا. ولكِنْ ما هي نتيجة الحُزْن؟ فقد تقول: "حسنًا! ما الَّذي سَأَجْنيهِ مِنَ الحُزْن؟ فقد نُحْتُ، وبَكَيْتُ، وحَزِنْتُ على خطاياي. فما الَّذي سأجنيه؟" التَّعْزِيَة...التَّعزية. وبالمُناسبة، كما قلتُ مِنْ قَبل، فإنَّ الحَزانى ليسوا مَغْبوطينَ لأنَّهُمْ يَحزنون. بل إنَّ الحَزانى مَغبوطونَ لأنَّهُمْ يَتَعَزَّوْن. فإنْ لم تَحْزَنْ، لن تَتَعَزَّى. وإنْ حاولتَ فقط أنْ تُخفي شُعورَكَ بالذَّنْب، فإنَّ النَّدَمَ سيأكُلُك. فلا توجد غِبْطَة في حُزْنِ العالَم لأنَّهُ لا يُنْشِئُ تَعزيةً.
وبالمُناسبة، فإنَّهُمْ يَستخدمونَ ضَميرَ التَّوكيدِ "آوتوي" (autoi) هُنا. وهذا يَعني: "طُوْبَى للذينَ يَستمرُّونَ في الحُزْنِ لأنَّهم [دُوْنَ سِواهُم] يَتَعَزَّوْن". فالحَزانى هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يَختبرونَ تَعزيةَ اللهِ. والحَزانى على الخطيَّة هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يَعْرِفونَ مَعْنى أنْ تُجِفِّفَ يَدُ يسوعَ المسيحِ المُحِبِّ دُموعَهُم. فَهُمْ سَيَتَعَزَّوْن "باراكاليئو" (parakaleo)، وهي نفس الكلمة الَّتي اشتُقَّت منها الكلمة "باراكليت" (paraclete) الَّتي تُسْتَخْدَمُ للإشارة إلى الشَّخصِ الَّذي يُسْتَدْعى لتقديمِ المَعونَة، وهو ذاكَ الَّذي أشارَ إليهِ يسوعُ بأنَّهُ "المُعَزِّي".
وبالمناسبة، فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُخبرُنا أنَّ اللهَ يُعَزِّي في المزمور 30: 5، والمزمور 50: 15، وإشعياء 55: 6 و 7، وميخا 7: 18-20، وَهَلُمَّ جَرَّا إذْ نَقرأُ عنِ التَّعزيةِ الَّتي يُعَزِّينا اللهُ بها. فهو يُعينُنا، ويُغيثُنا، ويَسْمَعُ أنَّاتِ قُلوبِنا، ويَسُدُّ حاجاتِنا. وَيَسوعُ موجودٌ دائمًا لكي يَشْفَعَ فينا، ويُنْذِرَنا، ويُقدِّمَ المشورة لنا، ويَتعاطَفَ مَعنا، ويُشَجِّعَنا، ويُقوِّينا، ويَغفِر لنا، ويَرُدَّنا إليه. وهذا كُلُّهُ يُنْشِئُ فينا تَعْزِيَةً.
وعندما يَصْعَد حُزْنُنا إلى عَرْشِ اللهِ، فإنَّ تَعزيتَهُ العجيبة والفريدة تأتينا مِنْهُ مِن خلالِ المسيح. لِذا فإنَّ الكتابَ المقدَّسَ يقولُ عنهُ إنَّهُ "إِلهُ كُلِّ تَعْزِيَة". وهل تَعلمونَ مَنْ كانَ المُعَزِّي؟ لقد كانَ المُعَزِّي الأوَّل هو يسوع لأنَّهُ قال: "حينَ أَمْضي أُرْسِلُ إليكُم [ماذا؟] مُعَزِّيًا آخَر". فقد كانَ هو المُعَزِّي الأوَّل. فاللهُ هُوَ إلَهُ كُلِّ تَعزية. والمسيحُ (المُعَزِّي الأوَّل) كانَ أوَّلَ مَنْ جاءَ للتَّعزية. ثُمَّ إنَّ الرُّوحَ القُدُسَ تَابَعَ ذلكَ العمل. فاللهُ هو إلَهُ التَّعزية. والمسيحُ هُوَ مَسيحُ التَّعزية. والرُّوحُ القُدُسُ هُوَ رُوْحُ التَّعزية.
وأنا لا أُوْمِنُ، يا أحبَّائي، أنَّ هذهِ التَّعزيةَ تَختصُّ بالمستقبل فقط. فأنا لا أُوْمِنُ بِمُجَرَّدِ القول: "احْزَنوا يا رِفاق لأنَّكم ستَتَعَزَّوْنَ في الملكوت". فأنا لا أعتقدُ أنَّ هذا هُوَ المَعنى المقصود. فعندما أُفَكِّرُ في الرَّابِطِ هُنا (وهذا شيءٌ يمكنكم أنْ تَدرسوهُ بأنفسكم بالتَّفصيل في اللُّغة اليونانيَّة). فالتَّطبيقُ هنا يَختصُّ بأنَّ التَّعزيةَ تَسيرُ جنبًا إلى جنبٍ معَ الحُزْن. فطالَما أنَّكَ مُستمرٌّ في النَّوْحِ على خطاياك، فإنَّكَ ستستمرُّ في الحصولِ على التَّعزية. فالكلامُ هُنا يُشيرُ إلى الحاضِر.
وهناكَ بُعْدٌ مُستقبليٌّ لهذه التَّعزية. وهذا مُؤكَّدٌ! فهناكَ بُعْدٌ مُستقبليٌّ إذْ حينَ نَدْخُلُ الملكوتَ الأبديَّ فإنَّنا نَقرأُ في سفر الرُّؤيا 21: 4: "وَسَيَمْسَحُ اللهُ [ماذا؟] كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ". ولكِنَّ ذلكَ سيحدث في المستقبل.
ولكِنَّ الفِعْلَ هُنا يَرِدُ بصيغةِ الحاضِر. فالرُّوحُ هو المُعَزِّي. وعندما كانَ المسيحُ على الأرض، كانَ هو المُعَزِّي. وبالمُناسبة، فإنَّ كلمةَ اللهِ تُعَزِّي أيضًا. هل تَعلمونَ ذلك؟ فالكتابُ المقدَّسُ مُعَزِّي. فنحنُ نَقرأ في رسالة رومية 15: 4: "لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ" [ثُمَّ اسمعوا هذه العِبارة] "وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ...". فلماذا كُتِبَ الكتابُ المقدَّس؟ لكي يُعَزِّينا. لأنَّهُ يُخبرُنا عنْ محبَّةِ اللهِ، ويُخبرنا عن غُفرانِه، ويُخبرنا عن مَعونَتِه، ويُخبرنا عن تَشجيعِهِ، وحُضورِهِ، وكُلِّ هذه الأشياء.
لِذا يمكننا أنْ نَقولَ إنَّ العَمَلَ الشَّخصيَّ الَّذي يقومُ بهِ الرُّوحُ القُدُسُ هوَ أنَّهُ يُعَزِّينا. والكتابُ المقدَّسُ يُعَزِّينا. وأوَدُّ أنْ أقولَ لكم شيئًا آخرَ وَهُوَ أنَّنا نُعَزِّي بعضُنا بعضًا. أليسَ كذلك؟ وكم أُحِبُّ أنْ أَسْمَعَ كَلِماتِ الرَّسولِ بولُس: "لكِنَّ اللهَ ...عَزَّانَا بِمَجِيءِ فُلان وَفُلان". فعندما نَعترِف بخطايانا فإنَّ اللهَ يُعَزِّينا مِنْ خلالِ العملِ الداخليِّ للرُّوح، ومِن خلالِ عمل الكلمة، ومِن خلالِ الخِدمةِ الَّتي يقومُ بها مؤمنونَ آخرون.
وحينَ نَتَعَزَّى فإنَّنا نَفْرَح. فالسَّعادة هي مِنْ نَصيبِ الحَزانى لا لأنَّهم حَزانى، بل لأنَّ حُزْنَهُمْ يُنْشِئُ تَعزيةً. وكم أُحِبُّ ما قالَهُ يسوعُ في إنجيل مَتَّى 11: 28 إذْ نَقرأ: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِــي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ". وهل تَعلمونَ شيئًا؟ أنت لن تأتي باحثاً عنِ الرَّاحة إلَّا إذا كنتَ تَعْلَمُ أنَّكَ تَحْمِلُ حِمْلاً. أليسَ كذلك؟ فإنْ شَعَرْتَ أنَّ حِمْلَكَ ثَقيلٌ، وإنْ شَعَرْتَ بخطيئتك، وإنْ شَعَرْتَ أنَّ ذلكَ الحِمْلَ يَحْني ظَهْرَكَ وأنَّهُ ثَقيلٌ جِدًّا، سَتَأتي طَلَبًا للرَّاحة. وهو يأخُذُ حِمْلَكَ الثَّقيلَ ويُعطيكَ نِيْرَهُ الهَيِّن وحِمْلَهُ الخَفيف.
اسمعوني: إذا حَمَلْتُ على ظَهري مَعاييرَ اللهِ ووصايا المَسيحِ، فإنَّهُ حِمْلٌ خَفيفٌ بالمُفارَقَة معَ حِمْلِ خَطاياي الثَّقيل. فهُناكَ تَعزية. هُناكَ تَعزية طَالَما أنَّنا نَنوحُ وَنَعْتَرِفُ بخطايانا. فالأمرُ، يا أحبَّائي، يَتَلَخَّصُ في ذلك. والآن، اسمعوني: حينَ تَعترفُ بخطاياكَ يومًا بعدَ الآخر، ويومًا تلوَ الآخر أمامَ الرَّبِّ، فإنَّهُ يُعطيكَ تَعْزِيَةً. إنَّهُ يُعطيكَ تَعزيةً. ومِنْ خلالِ تلك التَّعزية تأتي السَّعادة. وحينئذٍ، يمكنك أنْ تَبتسم، ويمكنكَ أنْ تَضحَك، ويمكنكَ أنْ تَبْتَهِج.
وقد تقول: "أنا أَعْرِفُ المَعنى الآن. إنَّهُ الحُزْنُ على الخطيَّة. وأنا أَعرفُ النَّتيجة. فسوفَ أَتَعَزَّى. ومِنْ خلالِ التَّعزية تأتي السَّعادة". واسمحوا لي أنْ أَطرحَ عليكم سؤالاً ثالثًا. كيفَ يمكنني أنْ أَحْزَنَ؟ كيفَ يمكنكَ أنْ تَحْزَن؟ هذانِ هُما السُّؤالانِ الأخيران. وأريدُ منكم أنْ تُفَكِّروا فيهما. كيفَ يمكنكَ أنْ تَصيرَ حَزينًا؟ أوَّلاً، تَخَلَّصْ مِنَ العَوائِق. تَخَلَّصْ مِنَ العَوائق.
وقد تقول: "ماذا تَعني يا جون؟" أعني أنَّ الأغلبيَّة مِنَّا لديهم عوائِق تَمنعهم مِن إدراك وجود خطيَّة حقًّا في حياتهم. فهذه هي الأشياءُ الَّتي تُقَسِّي قُلوبَنا. وهذه هي الأشياء الَّتي تَجعل مَشاعِرَنا تَتَحَجَّر. وهذه هي الأشياء الَّتي تَجعلنا نُقاوم الرُّوح وتَجعلنا غيرَ مُرْهَفي الحِسِّ. فالقلبُ المُتَحَجِّرُ لا يَحْزَن. بل هو يَتَجَنَّب النِّعمةَ حَتَّى إنَّ كُلَّ نِعْمَةِ اللهِ لا تَقْدِرُ أنْ تُلَيِّنَهُ. وهو يَذْخَرُ لِنَفْسِهِ غَضَبًا فِي يَوْمِ الغَضَب. إذًا، يجب عليكَ أنْ تَتَخَلَّصَ مِنَ العوائِق. ويجب عليكَ أنْ تَتخلَّصَ مِنْ ذلكَ الجُزْءِ المُتَحَجِّر. وقد تقول: "وما هي تلك الأشياء الَّتي تَجعلُ القلبَ مُتَحَجِّرًا؟" اسمحوا لي أنْ أَذْكُرَ عَدَدًا منها بِسُرعة.
إليكم لائحةً بالأشياءِ الَّتي تُعيقُ الحُزْن. وهذه هي الأشياء الَّتي تَجعلُ القلبَ مُتَحَجِّرًا. أوَّلاً: حُبّ الخطيَّة. اسمَعْني: إذا كنتَ تُحِبُّ خطاياك، فإنَّكَ سَتُحَجِّرُ قلبَكَ وتَتمادى في عَدَمِ التَّوبة. فسوفَ تُحَجِّرُ قلبَكَ إذا كنتَ تُحِبُّ الخطيَّة. ثانيًا: اليأس...اليأس. وهل تَعلم ما الَّذي يَقولُهُ اليأس؟ إنَّ اللهَ لا يَستطيعُ أنْ يَغْفِرَ هذه الخطيئة. فهو يُقَلِّلُ شَأنَ قُدرةِ اللهِ. وَهُوَ يُقَلِّلُ شَأنَ دَمِ المَسيح. وَهُوَ يُقَلِّلُ شَأنَ نِعمةِ اللهِ. وَهُوَ يَرْسِمُ صُورةً للهِ تَختلف تمامًا عن صُورتِه الحقيقيَّة.
ونحنُ نقرأ في سِفْر إرْميا 18: 12: "فَقَالُوا: «بَاطِلٌ! لأَنَّنَا نَسْعَى وَرَاءَ أَفْكَارِنَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ حَسَبَ عِنَادِ قَلْبِهِ الرَّدِيءِ»". بعبارة أخرى: فإنَّهم يقولونَ إنَّ اللهَ لا يستطيعُ أنْ يَفعلَ أيَّ شيءٍ لنا بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال. فنحنُ أشخاصٌ مَيؤوسٌ مِنْ حالَتِنا. لذلك، لِنَفْعَل ما نَشاء. وهذا هو لِسانُ حَالِ اليأس. واليأسُ يُعيقُ الرَّحْمَة بسببِ الجهل. وَهُوَ يُعيقُ النِّعمة بسببِ الشَّكّ. اسمعوني: لا أدري كم حالَتُكَ سَيِّئة. ولا أدري كم أنْتَ غارِقُ في الشَّرِّ. ولكِنَّ نِعمةَ اللهِ قادرة أنْ تَصِلَ إليكَ وأنْ تُغَيِّرَكَ. فواحدٌ مِنَ الأشياءِ الَّتي تُعيقُ الحُزْنَ هوَ أنْ تُحِبَّ الخطيَّة. والعائِقُ الثَّاني هُوَ اليأسُ لأنَّهُ يُحاوِلُ أنْ يُخفي رَحمةَ اللهِ وراءَ غَيْمَةِ الموتِ.
ثالثًا: الغُرور. فهناكَ عائقٌ آخر للحُزْنِ وَهُوَ الغُرور. والغُرورُ يَعني أنْ تقولَ: "أنا لستُ بهذا السُّوء. فأنتَ لا تَعْرِفُني إنْ كُنتَ تَظُنُّ أنَّهُ يجبُ عليَّ أنْ أَحْزَن على حَالي. فأنا على ما يُرام. والحقيقة هي أنَّني جَيِّدٌ جِدًّا". إنَّ كَلامَكَ يُشْبِهُ طَبيبًا جاهِلاً يُحاولُ أنْ يُعالِجَ مَرَضًا مُميتًا كما لو كانَ زُكامًا. اسمعوني: طالما أنَّ يسوعَ المسيحَ اضْطُرَّ إلى سَفْكِ دَمِهِ والموتِ على الصَّليبِ عَنْ خطاياكَ، فإنَّكَ إنسانٌ سَيِّئ. بل سَيِّئٌ جِدًّا. وكذلكَ هي حالي أنا أيضًا.
وبالمُناسبة، إذا كنتَ تَظُنُّ أنَّكَ لستَ سَيِّئًا جدًّا، فإنَّكَ أسوأُ مِنْ أيِّ شخصٍ آخر لأنَّ هذه أسوأ خطيَّة على الإطلاق. إذًا، هُناكَ عَوائِقُ حُبِّ الخطيَّةِ، واليأس، والغُرور. وكذلك هي حالُ المُكَابَرة (وهذا هوَ العائقُ الرَّابع). وهل تَعلمونَ ما هي المُكابَرة؟ إنَّها النِّعْمَة الرَّخيصَة.
وهذا يَعني أنْ يَقولَ المَرْءُ: "لقد قلتُ يومًا إنَّني أريدُ يسوعُ في قلبي، وقَبِلْتُ ذلك، وتَقَدَّمْتُ إلى الأمامِ. وقد تَعَمَّدْتُ. لِذا، ما الَّذي سأقلقُ عليه؟ فيمكنني أنْ أفعلَ ما شِئْتَ. وسَأكونُ على ما يُرام. فلا حاجةَ إلى أنْ أعترفَ بخطاياي. فقد كنتُ أنزعجُ مِمَّا أفعل، ولكِنِّي كنتَ أُشْبِهُ الشَّابَّ الَّذي أخبرتُكم عنه في هذا الصَّباح والذي قالَ ذاتَ يوم: "لا حاجةَ إلى أنْ تُغَيِّرَ أيَّ شيءٍ في حياتِك. فقط اقبَل يسوعَ وكُلُّ شيءٍ سيكونُ على ما يُرام". فَهُو سَيُنَظِّفُ كُلَّ شيء.
ونقرأ في سفر إشعياء 55: 7: "لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَان". وإنْ لم يَترُك الشِّرِّيرُ طَريقَهُ، هُناكَ ما يَدعونا إلى الإيمان بأنَّهُ لم يَحْصُل على الغُفران. لذلك، لا تُكابِر البَتَّة. فلا وُجودَ لما يُسَمَّى "النِّعمَة الرَّخيصَة". ولا تُوجد رُخْصَة للخطيَّة. لِذا، هُناكَ عَوائِقُ حُبِّ الخطيَّة، واليأس، والغُرور، والمُكابَرة.
خامسًا: هناكَ شَيءٌ آخر يُعيقُ الحُزْنَ وَهُوَ التَّأجيل؛ أيْ أنْ تقول: "سوفَ أفعلُ ذلكَ ولكِن لاحقًا! ففي يومٍ مِنَ الأيَّام، سأتفَحَّصُ خَطايايَ جَيِّدًا وأتَّخِذُ قرارًا بهذا الخُصوص". أتريدونَ أنْ تَعلموا شيئًا؟ قد يكونُ الأوانُ قد فات. فنحنُ نقرأ في رسالة يعقوب 4: 14: "لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ".
وقبلَ أنْ تَبتدئ بالتحدُّثِ عنِ الغَدِ، مَنَ الأفضل أنْ تُدرك أنَّ الغَدَ قد لا يأتي. لذلك، لا تكن أحمَق. اسمعوني: كُلَّما سَارَعْتُم في مُعالجةِ المَرَض، سَارَعَتِ التَّعزية إليكُم. ومَعَ التَّعزية تأتي الغِبْطَة. أمَّا إنْ لم تُعالجوها في الوقتِ المُناسب، فسوفَ تَبقونَ طَوالَ الأبديَّة مِنْ دونِ الله. لذلك، لا تُؤجِّل ذلك.
إذًا، ما هي المُعَوِّقات؟ حُبّ الخطيَّة، واليأس، والافتخار، والمُكابَرة، والتَّأجيل. وسوفَ أُضيفُ عائقًا آخر: الضَّحِك...الضَّحِك. وقد تقول: "ماذا تَعني بذلك؟" ما أعنيه هو أنَّ هناكَ أُناسًا لا يريدونَ أنْ يَنظروا إلى الحياةِ نَظرةً واقعيَّة، بل يريدونَ أنْ يَضحكوا طَوالَ الوقت. فالحياةُ في نَظَرِهِم مُجَرَّد حَفلة كبيرة. وطالَما أنَّهُ بمقدورهم أنْ يُبقوا الحَفْلَةَ مُستمرَّة فإنَّهم لا يريدونَ أنْ يُواجهوا الحقيقة.
استمعوا إلى ما جاءَ في سِفْر عاموس 6: 5. فهو يَتحدَّث عنْ هؤلاءِ الأشرارِ فيقولُ إنَّ هُناكَ وَيْلاً يَتَوَعَّدُهم: "وَيْلٌ للهَاذِرينَ مَعَ صَوْتِ الرَّبَابِ، المُخْتَرِعينَ لأَنْفُسِهِمْ آلاَتِ الْغِنَاءِ كَدَاوُدَ، الشَّارِبينَ مِنْ كُؤُوسِ الخَمْرِ [والإشارة هُنا إلى الكؤوسِ الكَبيرة كما لو أنَّ الكؤوسَ الصَّغيرة لم تَكُن كافِيَة]، وَالَّذِينَ يَدَّهِنُونَ بِأَفْضَلِ الأَدْهَانِ وَلاَ يَغْتَمُّونَ عَلَى انْسِحَاقِ يُوسُفَ. لِذلِكَ الآنَ يُسْبَوْنَ فِي أَوَّلِ الْمَسْبِيِّين". فما أَحْمَقَ أولئكَ الذينَ يَضحكونَ دُوْنَ وُجودِ ما يَدْعو إلى الضَّحِك. فلا مَكانَ للضَّحِك. ولا سَبَبَ يَدْعو إليه. فقد كانَ ينبغي أنْ يَنوحوا.
ونقرأُ في سِفْر أيُّوب 30: 31 إشارة أخرى إلى هذا العائِق: "صَارَ عُودِي لِلنَّوْحِ، وَمِزْمَارِي لِصَوْتِ الْبَاكِينَ". بعبارة أخرى، أنتم تَعلمونَ أنَّ عالَمَنا مُوْلَعٌ بالحفلاتِ والموسيقا. وأنتُم تَعلمونَ أنَّ واحدًا مِنْ أوَائِلِ الأشياءِ الَّتي سيفعلُها اللهُ حينَ يُبْطِلُ كُلَّ شيءٍ وتأتي الضِّيقةُ هو أنَّهُ سيُوْقِفُ كُلَّ مُوسيقا. فهل تَعلمونَ أنَّ هذا مَذكورٌ في رُؤيا 18 إذْ إنَّ كُلَّ موسيقا ستتوقَّف؟ وحينئذٍ، سوفَ يُضْطَرُّ النَّاسُ إلى الوُقوفِ ومواجَهَةِ الحقيقة. أطْفِئوا المِذياعَ بينَ الحينِ والآخر. فهذا يُساعِدُكُم على إدراكِ ما يَجري حَقًّا في داخِلِكُم.
إذًا، هُناكَ حُبُّ الخطيَّة، واليأس، والغُرور، والمُكابَرة، والتَّأجيل، والضَّحِك. فهذه هي العَوائِق. وقد تقول: "ولكنْ يا جون، كيفَ نَتخلَّص مِنَ العَوائِق؟" إنَّ واحدةً مِنَ الطُّرُق هي أنْ تَنظُر إلى الصَّليب. فإذا كنتَ مَشغولاً بكُلِّ هذهِ الأغاني ولا تَفهم أهميَّةَ الصَّليب، فإنَّكَ لا تَفهم ما فَعَلَهُ المسيح. انظر إلى مَوْتِ المسيحِ لأجلِك. وإنْ لم يَكْسِر ذلكَ قَلْبَكَ المُتَحَجِّر، لا أدري ما الَّذي سيَكسِره.
وقد كَتَبَتْ "كريستينا روزيتِّي" (Christina Rosetti) هذه الكلمات:
هَلْ أنا حَجَرٌ ولستُ خَروفًا،
حَتَّى أَقِفَ، يا سَيِّدي المسيح، تحتَ صَليبِكَ،
وأَعُدَّ قَطْراتِ دَمِكَ النَّازِفِ ببُطء - قَطْرَةً قَطْرَة،
دُوْنَ أنْ أَبْكي؟
فلم تكن هذه هي حالُ تلكَ النِّسْوَة اللَّاتي أَحْبَبْنَكَ
وَبَكَيْنَ عَليكَ بُكاءً مُرًّا؛
ولم تَكُنْ هذه هي حالُ بُطرُس السَّاقِط الَّذي بَكى بِمَرارة؛
ولم تَكُنْ هذه هي حَالُ اللِّصِّ الَّذي تأثَّرَ جِدًّا؛
ولم تكن هذه هي حالُ الشَّمسِ والقمر
اللَّذانِ حَجَبا وَجْهَيْهِما في سَماءٍ خاليةٍ مِنَ النُّجوم،
فَغَطَّى ظَلامٌ مُرْعِبٌ الأرضَ وَقْتَ الظَّهيرة --
بل هذه هي حالي أنا، فقط أنا.
وبالرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّكَ لا تَتْرُكْني،
بل تَطْلُبُ خَروفَكَ، لأنَّكَ الرَّاعي الحَقيقيّ لِخِرافِك؛
فأنتَ أعْظَمُ مِنْ مُوسى إذْ تَلتفتُ وتَنْظُرُ مَرَّةً أُخرى
وتَضْرُبُ صَخرةً.
اسمَعْني. إذا كانت لديكَ عَقَباتٌ في الطَّريق، انظر إلى الصَّليب نَظرةً فاحصةً، وانظر كم أنتَ بحاجة ماسَّة إلى يسوعَ المسيح، وكم أنتَ بحاجة ماسَّة إلى الاعترافِ بخَطاياك. انظر إلى الثَّمن الَّذي دَفَعَهُ. لذلك، أَزِلْ أوَّلاً العوائِق. ثانيًا، ادرُس الخطيَّة في الكتاب المقدَّس. ادرسها. فداودُ يقول: "وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا". ادرس داوُد. وادرُس إشعياء الَّذي قال: "وَيْلٌ لِي! ... لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ". وادرُس إرْميا الَّذي بَكى على الخطيَّة. وادرُس بُطرس الَّذي قال: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ". واستمع إليهم وهُم يَتحدَّثونَ عن خطاياهم. وبعدَ أنْ تُقارِن نفسكَ بأعْظَمِ رِجالٍ عاشوا على الأرض، حاول أنْ تُقنِع نفسَكَ أنَّكَ لستَ خاطئًا.
إنَّ الخطيَّةَ تَحْتَقِرُ وَصايا اللهِ. والخطيَّة تَستخفُّ بمحبَّتِه. وهي تُحْزِن رُوْحَهُ. وهي تَحْتَقِرُ بَرَكَتَهُ. فالخطيَّة تُؤثِّرُ فينا تأثيرًا هائلاً. فهي تَجْعَلُنا عُراةً. وهي تَجعلُنا نَجِسين. وهي تَسْلِبْنا ثَوْبَنا وَتاجَنا. وهي تُلَطِّخُ مَجْدَنا. وهي تَتركنا نَرْتَدي ثيابًا بالِيَةً ورَثَّة. ومعَ أنَّنا خُلِقْنا على صورة الله، فإنَّنا نصيرُ كالحَيَواناتِ الهالكة. لذلك، تَخَلَّص مِنَ العوائِقِ، وادرُس الخطيَّة.
ثالثًا: صَلِّ أنْ يُبَكِّتَ اللهُ قَلْبَك. ففي نهايةِ المطافِ، لا أحدَ سِوى الله يَستطيعُ أنْ يَفعلَ ذلك. وهو لا يَرُدُّ مَنْ يَسْألَهُ. إذًا، ما مَعنى هذه الآية؟ إنَّها تَعني أنْ تَحْزَنَ على الخطيَّة. وما هي النَّتائج؟ التَّعزية والسَّعادة. وكيفَ تَحْزَن؟ بأنْ تَتخلَّصَ مِنَ العَوائقِ، وتَدْرُسَ الكتابَ المقدَّسَ، وتُصَلِّي.
وفي الخِتام، كيفَ يمكنني أنْ أَعْرِف أنَّني واحِدٌ مِنْ هؤلاءِ الحَزانَى؟ كيفَ أَعْلَمُ أنِّي واحدٌ منهم؟ الأمرُ بَسيطٌ جِدًّا. هل أنتُم مُستعدُّون؟ اسأل نفسك إنْ كُنْتَ مُرْهَفَ الحِسِّ للخطيَّة. فهل أنتَ كذلك؟ فكيفَ هي رَدَّةُ فِعْلِكَ تُجاهَ الخطيَّة؟ هل تَضحك عليها؟ وهل تَتركُها ولا تُبالي بها؟ وهل تَجِدُ مُتْعَةً فيها؟ هُناكَ أشخاصٌ مِنكم يَفعلونَ الخطيَّة. وهُناكَ أشخاصٌ يَعيشونَ فيها، في جميعِ أشكالِ الخطيَّة، دونَ أنْ يُعالِجوها. ورُبَّما كانت تلك الخطيَّة تَختصُّ بحياتِكَ الأخلاقيَّة. ورُبَّما كانت خطيَّة في عَمَلِك. ورُبَّما كانت خِيانَة. ورُبَّما كانت إهمالاً للصَّلاة. ورُبَّما كانت عَدَمَ الافتكارِ بِكُلِّ ما هُوَ صَالِحٌ، أوْ إهمالاً للمحبَّة. ورُبَّما كانت أيَّ شيءٍ آخر. ولكِنْ أَتَعلمونَ ما الشَّيءُ المُهِمُّ؟ إنَّهُ: ما رَدُّ فِعْلِكَ تُجاهَ الخطيَّة؟
فهل تَحزَن على خطاياك؟ واسمحوا لي أنْ أتوسَّعَ في ذلك. فأنا أُوْمِنُ أنَّكَ إذا كُنْتَ نائِحًا حقيقيًّا، فإنَّكَ ستحزَنُ لا فقط على خطاياك، بل ستَحزنُ أيضًا على خطايا العالَم. فإذا نَظرتُم إلى سِفْرِ إرْميا ستَرَوْنَ أنَّ إرْميا بَكى قائلاً: "يَا لَيْتَ رَأسِي مَاءٌ...فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً". وقد تَسْأل: "وما الَّذي تُريدُ أنْ تَبكي عليهِ يا إرْميا؟" "أريدُ أنْ أبكي على هؤلاءِ الشَّعبِ. فهؤلاءِ أُناسٌ خُطاة وتحتَ الدَّينونة. فَهُمْ سيُدانون". فهل تَشعُر بهذه المشاعر تُجاه خطايا الآخرين؟
وقد جَلَسَ يَسوعُ على الجبل ونَظَرَ إلى أورُشليم في الأسفل. ونقرأُ أنَّهُ بَكى. وقد قال: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!" فهو لم يكن يَبكي على نفسِه، بل كانَ يبكي عليهم. وإذا نَظرتم إلى حِزْقيال، ستَرونَ أنَّ حِزْقيال يَبكي في الأصحاح 9، بل في كُلِّ الأصحاحَيْن 9 و 10. ويمكنكم أنْ تَقرأوا ذلك. ولكنَّنا نقرأ في الأصحاح 9 والعدد 4: "وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: «اعْبُرْ فِي وَسْطِ الْمَدِينَةِ، فِي وَسْطِ أُورُشَلِيمَ، وَسِمْ سِمَةً عَلَى جِبَاهِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَئِنُّونَ وَيَتَنَهَّدُونَ عَلَى كُلِّ الرَّجَاسَاتِ الْمَصْنُوعَةِ فِي وَسْطِهَا»". اذْهَبْ وَابْحَثْ عنِ الأشخاصِ النَّائِحين. اذهب وَابْحَثْ عنِ الأشخاصِ الذينَ يَبكونَ على إخوتهم وأخواتِهم.
وفي المزمور 119 الطَّويل...في ذلك المزمور الطَّويل والعدد 136، نَقرأ: "جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ" (يَقولُ المُرَنِّم). فهل تبكي هكذا؟ وهل يَنكسِرُ قلبُكَ حَرفيًّا عندما يَنكسرُ قلبُ اللهِ؟ وهل تقولُ معَ داوُد في المزمور 69: "لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ". أيْ: أنا أبكي عندما تَبكي.
وفي سِفْرِ المَراثي 1: 16، يَقولُ إرْميا: "عَلَى هذِهِ أَنَا بَاكِيَةٌ. عَيْنِي، عَيْنِي تَسْكُبُ مِيَاهًا لأَنَّهُ قَدِ ابْتَعَدَ عَنِّي الْمُعَزِّي". وما أعنيه هو: هل تَبكي حقًّا على خطاياك وعلى الخطايا المُنتشرة مِنْ حَولِك؟ فإذا كُنْتَ نائِحًا، فإنَّكَ ستَفعل. وأنا لا أتحدَّثُ عنْ تَجَهُّمِ وَجْهِكَ مِنَ الخارِجِ فقط كما كانَ يَفعلُ الفَرِّيسيّونَ المُراؤونَ في الأصْحاحِ السَّادسِ مِنْ إنجيل مَتَّى إذْ كانوا يَتَجَهَّمونَ خارِجِيًّا فقط ولا يَنوحونَ مِنَ الدَّاخِل.
وأنا لا أتحدَّثُ عنِ النَّوْحِ الزَّائِفِ الَّذي يُشْبِهُ ما فَعَلَهُ شاوُل في 1صوئيل 15 إذْ قال: "قَدْ أَخْطَأْتُ" ثُمَّ هَمَسَ لِصَموئيل: "وَالآنَ فَأَكْرِمْنِي أَمَامَ شُيُوخِ شَعْبِي" لِئَلَّا أُشَوِّهَ سُمْعَتي. فأنا لا أتحدَّثُ عن ذلك.
بل هل أنتَ مُرْهَفُ الحِسِّ تُجاهَ الخَطيَّة؟ والطَّريقة الثَّانية لمعرفة إنْ كُنْتَ نائِحًا هي: هل تَشْعُرُ بِغُفرانِ اللهِ؟ هل تَختبرُ الفَرَحَ في حياتِك؟ وهل تَختبرُ السَّلامَ الحقيقيَّ، والسَّعادةَ الحقيقيَّة، والتَّعزية الحقيقيَّة النَّابعة مِنْ حياةِ الغُفرانِ والتَّطهيرِ والنَّقاوة؟ أرجو أنْ تكونَ نائِحًا لأنِّي أريدُكَ أنْ تَتَعَزَّى وأريدُكَ أنْ تكونَ سَعيدًا. واللهُ يُريدُ ذلكَ أيضًا. لِنَحْنِ رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي:
كَمْ نَشكُركُ، يا أبانا، على الوقتِ الرَّائعِ الَّذي صَرَفْناهُ في دراسةِ كلمَتِكَ في هذا المساء. ويا لَها مِنْ حقائق دَسِمَة، وعميقة، ومُشْبِعَة، وعَظيمة! بارِكْ كُلَّ نَفْسٍ هنا. وساعِدني، يا رَبُّ، على أنْ أكونَ نَائِحًا. فأنا أريدُ أنْ أكونَ الشَّخصَ الَّذي تُريدُ أنْ أكون. وأريدُ أنْ أتألَّمَ حينَ تتألَّم. وأريدُ أنْ أكونَ مُرْهَفَ الحِسِّ تُجاهَ خَطاياي. وأريدُ، يا رَبُّ، أنْ يكونَ قَلْبي مُرْهَفًا تُجاهَ الخطيَّةِ الَّتي تَحْدُثُ في العالم، والخطايا الَّتي تَحْدُثُ في وَسَطِ الإخوة، والخطايا الَّتي يَقْتَرِفُها حَتَّى أولئكَ الذينَ لا يُسَمُّونَ باسْمِك. فليتني أحْزَنُ دائمًا على الخطيَّة.
أرْجوكَ ألَّا تَسْمَح بأنْ أصيرَ بارِدًا. ولا تَسْمَح أنْ أصيرَ قاسِيًا ولا أنْ أَفْقِدَ رَهافَةَ حِسِّي. بل ساعِدْني أنْ أُدافِعَ عَنْ كَرامَتِكَ بِحماسَةٍ عَظيمَة، وأنْ أُدافِعَ عَنْ مِعْيارِ البِرِّ خاصَّتِك. وعندما أَكْسِرُ هذا المِعيارَ أوْ يَكْسِرُ أيُّ شخصٍ آخر هذا المِعيارَ، ليتَ قَلبي يَحْزَن لأنِّي سأختبر حينئذٍ، وحينئذٍ فقط، التَّعزيةَ العظيمةَ والسَّعادةَ العظيمة الَّتي تُريدُ أنْ تُعطيني إيَّاهُما.
ونَسألُكَ يا رَبّ، أنَّهُ إنْ كانَ هناكَ أشخاصٌ في هذا المكان وهذه اللَّيلة لم يَنْكَسِروا على خطاياهم، ولم يَشْعُروا يومًا بالإفلاسِ الرُّوحِيِّ الَّذي يُؤدِّي إلى حُزْنِهم، نُصَلِّي أنْ تكونَ هذه اللَّيلة هي اللَّيلة المَنشودَة الَّتي يَلْتَجِئوا فيها نَائِحين إلى الشَّخصِ الوحيدِ الَّذي يَستطيعُ أنْ يُعَزِّي قُلوبَهم، أيْ إلى الربِّ يسوعَ المسيحِ الَّذي ماتَ ودَفَعَ أُجرةَ خَطاياهم.
وفيما يَختصُّ بنا نحنُ المُؤمِنينَ الذينَ رُبَّما نَسَيْنا كيفَ يَنبغي أنْ تَكونَ رَدَّةُ فِعْلِنا تُجاهَ الخطيَّة، والذينَ رُبَّما تَقَسَّتْ قُلوبُنا قليلاً، وصِرْنا نَتَمَثَّلُ بالعالَمِ، وَنَسَيْنا مِقْدارَ الشَّرِّ الموجودِ في العالَم، ولم نَعُدْ نتألَّمُ حينَ نَرى الخطيَّة، نَسألُكَ يا أبانا أنْ تُجَدِّدَ رُوْحَ البِرِّ فينا لكي نَشْعُرَ بما تَشْعُر بِه.
سَدِّد كُلَّ حاجَةٍ، يا أبانا، أيًّا كانت. وأيَّا كانتِ العلاقةُ الَّتي تُريدُ أنْ تكونَ قائمةً بينَنا وبينَك، ساعِدْنا على تَحْقيقِ مَشيئَتِكَ تِلْكَ في حَياتِنا. باسْمِ المَسيحِ نُصَلِّي. آمين.

This article is also available and sold as a booklet.