
قبلَ بُطولة كُرة القَدم، قرأتُ قِصَّةً مُدهشةً عن "رونالد ريغان" (Ronald Reagan) في صحيفة "لوس أنجليس تايمز" (L.A. Times). فقد كان يَهُمُّ بمُغادرةِ مُؤتمرٍ صِحافِيٌّ في "نيو همبشر" (New Hampshire) فَطَرَحَ عليهِ أحدُ الصِّحافِيِّينَ سُؤالاً: "مَن فَريقُكَ المُفَضَّل في بُطولةِ كُرة القَدم؟" فأجابَ رونالد ريغن، الَّذي كان حَاكِمًا سَابِقًا لولايةِ كاليفورنيا وَصَارَ آنذاكَ الرَّئيسَ المُرْتَقَب، أجابَ دُونَ تَرَدُّدٍ: "فَريقُ الكِباش" (The Rams). ثُمَّ يَبدو أنَّ نُورًا لَمَعَ في عَقلِهِ فَتَدارَكَ نَفسَهُ وقال: "مَهلاً! أنا لم أَعَدُ مُرَشَّحًا لِحُكْمِ ولايةِ كاليفورنيا. أتَمَنَّى أن يَفوزَ الفَريقُ الأفضَل".
مِنَ المُدهِشِ كَمْ أنَّ وَلاءَنا هَشٌّ! أليسَ كذلك؟ فإن كانت هُناكَ ضُغوطٌ خَارجيَّةٌ مُعيَّنة، قَد نَحيدُ بسهولةٍ شَديدةٍ بسببِ الظُّروفِ أوِ الأشخاصِ الَّذينَ نُريدُ التَّأثيرَ فيهم. وهذا جُزءٌ لا يَتجزَّأُ مِنَ الحَياةِ بالنِّسبةِ لأغلبيَّةِ النَّاس. وأرجو أن نَتمكَّنَ مِن خِلالِ دراسَتِنا للأصحاحِ الثَّالثِ مِن سِفْرِ دانيال في هذا المساء أن نَفعلَ ما فَعلناهُ مَرَّاتٍ عَديدةً في أثناء دراستنا لِسِفْرِ دانيال؛ أيْ أن نَتَعلَّمَ أن نَرسُمَ خَطًّا، وأن نُسَمِّي ذلكَ الخَطَّ: "المَبادِئ"، وَأن نَعقِدَ العَزْمَ في أذهانِنا وقُلوبِنا على أنَّنا لن نَحيدَ عن ذلكَ الخَطّ.
ولن يَكونَ مِنَ السَّهلِ علينا أن نَفعلَ ذلك. واسمَحُوا لي أن أقتَرِحَ عليكُم طَريقةً بَسيطَةً للنَّظرِ إلى هَذا الأمر. إنَّ قَراراتِنا وَمواقفَنا وَسُلوكيَّاتِنا تَتَقَرَّرُ بِحَسَبِ شَيءٍ مِنْ شَيئَيْن: إمَّا بِحَسَبِ الضَّغْطِ الخارِجيِّ، وَإمَّا بِحَسَبِ المَبدأِ الدَّاخليّ. سَوفَ أُعيدُ ذلكَ مَرَّةً أخرى. إنَّ قَراراتنا وَمواقفَنا وَسُلوكيَّاتِنا تَتَقَرَّرُ بِحَسَبِ شَيءٍ مِنْ شَيئَيْن: إمَّا بِحَسَبِ الضَّغْطِ الخارِجيِّ، وَإمَّا بِحَسَبِ المَبدأِ الدَّاخليّ. والمَعركةُ تَدورُ طَوالَ الوقتِ في حَياتِنا بينَ هذينِ الشَّيئَيْنِ المُتناقِضَيْن.
ونحنُ بَارِعونَ جدًّا في تَبريرِ أنفسِنا. لِذا، في أغلبِ الأحيانِ، عندما نَخضَعُ للضّغطِ الخَارجيِّ فإنَّنا نَتظاهَرُ بأنَّهُ مَبدأٌ داخِلِيٌّ. ولكِنْ بِصورةٍ رَئيسيَّةٍ، يجبُ علينا أن نَنظُرَ إلى ذلكَ الخَطّ. فَهَلْ نَفعلُ ما نَفعلُ، ونَقولُ مَا نَقولُ، ونَتصرَّفُ بالطَّريقةِ الَّتي نَتصرَّفُ بها لأنَّنا نُؤمِنُ بذلكَ أَمْ لأنَّنا نَشعُرُ بالضَّغطِ الَّذي يُمارَسُ علينا مِنَ الخَارِج؟ وَهل تَتغيَّرُ مَبادِئُنا بحسبِ الضَّغوطِ الَّتي تُمارَسُ علينا؟
هُناكَ أوقاتٌ أَجِدُ فيها نَفسي في مَوقفٍ إنْ قُلتُ فيهِ مَا أُوْمِنُ بهِ سَأُنَفِّرُ مِنِّي أشخاصًا كَثيرين. وَأنا أَجِدُ نَفسي عندَ ذلكَ الخَطّ. فَهَلْ أقولُ ما أُوْمِنُ بِهِ استِنادًا إلى مَبدأٍ داخليٍّ أَم أخضَعُ للضَّغطِ الخارجيِّ وأجعلُهُم يَسمَعونَ مَا يَرغبونَ في سَماعِه؟
وإن كُنتَ تَعملُ في نِطاقِ التِّجارةِ وسَنَحَتْ لكَ فُرصةُ العُمْرِ، كَما نُسَمِّيها، لِعَقْدِ صَفْقَةٍ مُربِحَةٍ مِن خلالِ المُساومةِ قَليلاً، رُبَّما مِن خِلالِ كِذبةٍ صَغيرةٍ، أو مِن خِلالِ الغِشِّ قَليلاً، أو مِن خِلالِ التَّحايُلِ على القانونِ بطريقةٍ تَعتَقِدُ أنَّها غير مُضِرَّة، هَل تَخضَعُ لذلكَ النَّوعِ مِنَ الضَّغطِ الخَارجيِّ، أَم أنَّكَ تَتصرَّفُ بِصورةٍ تَامَّةٍ وكامِلةٍ على أساسِ مَا تَعلَمُ أنَّهُ يَنْسَجِمُ مَعَ مَبادِئِكَ الدَّاخليَّة؟ فَهذهِ هي حَقًّا النُّقطةُ الجَوهريَّةُ فيما نَعيشُ ونَتحرَّكُ في هذا العَالَم.
وَبِصَراحَة، إنْ كانَ العالَمُ بحاجَةٍ إلى شَيءٍ فإنَّهُ يَحتاجُ الآنَ إلى رِجالٍ ونِساءٍ يَعمَلونَ وَفقًا للمبادئِ الدَّاخليَّة. ولا أدري كيفَ تَنظرونَ أنتُم إلى هذا الأمرِ، ولكنْ سَواءَ كُنَّا نَتحدَّثُ عن نِطاقِ السِّياسَةِ أو أيِّ شيءٍ آخر، فإنَّنا نَتعَبُ مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ يَخَضعونَ للضُّغوطِ الخارجيَّةِ ويَقولونَ ما يُريدُ الآخرونُ مِنهم أن يَقولوه.
والآن، إذْ نَأتي إلى الأصحاحِ الثَّالثِ مِن سِفْرِ دانيال، سوفَ نَلتقي ثَلاثةَ رِجالٍ تَصَرَّفُوا بحسبِ مَبادِئهم الدَّاخليَّةِ ولم يُبالوا قَطّ بالضّغطِ الخارجيِّ. ولأنَّنا نَتْبَعُ يَسوعَ المسيح، أعتقدُ أنَّ هُناكَ أمورًا كثيرةً يُمكِنُنا أن نَتعلَّمَها مِن هؤلاءِ الرِّجالِ الثَّلاثة. وأريدُ مِنكُم أن تَضَعُوا أنفسَكُم مَكانَهُم في هذا المَساء. وأريدُ مِنكم أن تَرَوْا أنفسَكُم هُناك. فَلا يَهُمُّني أن تَرَى شَدْرَخ وَميشَخ وَعَبْدنَغُو بِقَدْرِ مَا يَهُمُّني أن تَرَى نَفسَكَ هُنا، وأنْ تَرى حَقيقَةَ مَوقِفِكَ في حَالةٍ مُشابِهَة.
لَقد حَلَّلْتُ ذلكَ المَوقفِ في ذِهني على مَدى الأسابيعِ المَاضِيَة. وأريدُ حَقًّا أن أضعَ نَفسي في العِظَة. وأريدُ مِنكُم أن تَضَعُوا أنفسَكُم في العِظَة لأنَّ هذا هُوَ الشَّيء الوَحيد الَّذي سيَجعلُها ذَاتَ مَغزى بالنِّسبةِ إليكُم. فَلا يَهُمُّنا حَقًّا أن نَرى أنَّ هؤلاءِ الرِّجالِ العِبرانيِّينَ فَعَلوا مَا فَعلوه. وَلا يَهُمُّنا ذلكَ حَقًّا في وَقتِنا الحَاضِرِ مَا لم يَكُن هُناكَ شَيءٌ نُحَقِّقُهُ هُنا على الصَّعيدِ الشَّخصيِّ مِن خِلالِ الطَّريقةِ الَّتي نُواجِهُ بها العَالَم. فَهل نَضَعُ اللهُ أوَّلاً؟ وَهَل نَضَعُ كَلِمَتَهُ أوَّلاً؟ وَهل نَفعلُ مَا نَفعل استِنادًا إلى مَبادِئِنا الدَّاخليَّةِ وَحَسْب؟ أَم أنَّنا نَحيدُ، ونُساوِمُ، وَنَتصرَّفُ وَفقًا للضَّغطِ الخَارجيِّ؟
كانَ "ستَدَرْت-كينيدي" (Studdert-Kennedy) خَادِمًا أنجليكانِيًّا وَراعِيًا في "وورستر" (Worster) بإنجلترا، وَرَجُلَ دِيْنٍ أيضًا في الحَربِ العَالميَّةِ الأولى. وقد كَتَبَ أشعارًا جَميلةً جدًّا جدًّا كانت وَما تَزالُ المُفَضَّلَةَ لَديَّ. فإلى جَانِبِ كَوْنِ "ستدرت-كينيدي" شَاعِرًا، كانَ رَاعِي كَنيسة ورَجُلَ دِيْن. وبِصِفَتِهِ رَجُلَ دِيْنٍ يَخدِمُ في الجيش، كانَ يَنبغي لهُ أن يَذهبَ إلى الحَربِ وأن يَترُكَ عائلتَهُ. وكانَ لهُ ابْنٌ صَغير. وقد كَتبَ رسالةً إلى ابنِهِ الصَّغيرِ مِنَ الخَنادِقِ في فَرَنْسا حيثُ كانُوا يَخوضونَ مَعركةً خَطِرةً جدًّا. وإليكُم مَا كَتَبَهُ. وَمِنَ الواضِحِ أنَّ الأُمَّ هِيَ الَّتي قرأتِ الرِّسالةَ لابنِها لأنَّهُ لم يَكُن يَعرفُ القِراءةَ بَعد.
"أوَّلُ صَلاةٍ أريدُ أن يَتعلَّمَ ابني أن يَتلوها لأجلي هِيَ ليست: ’يا رَبُّ احفَظ أبي سَالِمًا‘، بَل إنَّ أوَّلَ صَلاةٍ أريدُ أن يَتَعَلَّمَها ابني هي: ’يا رَبُّ، اجعَل أبي شُجاعًا. وإنْ كانت تُوجَدُ أمامهُ مَهامٌّ صَعبة، امْنَحْهُ القُوَّةَ على تَنفيذِها‘. فالحياةُ والمَوتُ ليسَا مُهِمَّيْنِ يا بُنَيّ. أمَّا الصَّوابُ والخَطأُ فَمُهِمَّان. فإنْ مُتُّ شُجاعًا سَأكونُ أَبًا تَفْتَخِرُ بِهِ. أمَّا إنْ عِشْتُ في العَارِ أمامَ اللهِ فإنَّهُ شَيءٌ مرعِبٌ تَعجَزُ الكلماتُ عَن وَصفِه. وأعتقدُ أنَّهُ يَنبغي أنْ تُراعي السَّلامةَ أنتَ أيضًا، وكذلكَ أُمُّك. ولكِنْ ضَعْها في المَرتبةِ الثَّانية. ضَعْها في المَرتبةِ الثَّانيةِ دائمًا لأنَّها ليست مُهِمَّة بِقَدرِ الشَّجاعَة".
وَقد كانَ "ستدرت-كينيدي" مُحِقًّا. فإنْ مَاتَ الأبُ وَهُوَ أمينٌ فإنَّهُ أبٌ يَفْتَخِرُ بِهِ أولادُهُ. أمَّا إنْ عَاشَ حَياةَ مُساومةٍ فإنَّهُ شَيءٌ مُخيف. وَهذهِ هي حَياةُ النَّزاهَةِ وعَدمِ المُساومةِ الَّتي يَدعونا اللهُ إليها. وَهَذا هُوَ بالضَّبط مَا سنَراهُ في حَياةِ هؤلاءِ الرِّجالِ الثَّلاثةِ الَّذينَ تَمَكَّنُوا مِن مُواجَهَةِ ضَغطٍ خَارجيٍّ يَعجَزُ العَقلُ حَقًّا عَن تَخَيُّلِهِ؛ ولكنَّهُم اتَّخَذُوا قَراراتٍ صَائبةً استنادًا إلى مَبدأٍ دَاخِلِيٍّ تَسَلَّموهُ مِن خِلالِ الوَحيِ الإلهيِّ الَّذي تَعَلَّموه.
وَأودُّ أن أقولَ مَرَّةً أخرى إنِّي لا أتحدَّثُ فقط عن عَالَمِ السِّياسة، أو عَن عَالَمِ الحُكومة، أو عَن عَالَمِ التِّجارة، بَل أقولُ لكم إنَّ كنيسةَ يَسوعَ المسيحِ بحاجَةٍ إلى أشخاصٍ لا يُمْكِنُ لأيِّ ضَغطٍ خَارِجِيٍّ أن يُخيفَهُم. وَلكِنَّ الأمرَ ليسَ كذلكَ في كُلِّ الحَالات.
وقد عَبَّرَ أَحَدُ الشُّعراءِ عن ذلكَ بالكلماتِ التَّالية: "رأيتُ الشَّهيدَ على الخَشَبَة، ولكنَّ أَلْسِنَةَ اللَّهَبِ لم تَتَمَكَّن مِن زَعْزَعَةِ شَجَاعَتِهِ، ولا تَمَكَّنَ المَوتُ مِن إدخالِ الخَوفِ إلى نَفسِه. فسألتُهُ مِن أينَ لَهُ هذهِ القُوَّة. فَنَظَرَ بانتصارٍ إلى السَّماءِ وَقال: ’المَسيحُ هُوَ الكُلّ‘". وَهذا هُوَ قَلبُ الفِتيةِ العِبرانيِّينَ الثَّلاثَة. وأُصَلِّي أن يُعطيكُم اللهُ نَفسَ ذلكَ القَلبِ فيما تَتَعَلَّمونَ في هذا المَساءِ مِن هذا المَقطعِ الرَّائِع.
والآن، تَكشِفُ لنا القِصَّةُ عَن ثَماني سِماتٍ رَئيسيَّة. وَكَما قَالَ "جيري" (Jerry) في المَرَّةِ السَّابقة، فإنَّنا تَحَدَّثنا عَنِ السِّمَةِ الأولى. وقد قُلتُ لَهُ إنَّني سأُحاولُ أن أُنهي السِّماتِ المُتَبَقِّيةَ (مِنَ الثَّانية إلى الثَّامنة) في هذا المَساء؛ ولكِنَّ الجَميعَ لم يُصَدِّق كَلامي! ولكنَّنا سنَرى. فَالنَّصُّ سَرْدِيٌّ وَيَأتي على شَكلِ قِصَّة. فَنحنُ نَرى الاحتفالَ، ثُمَّ الأمرَ، ثُمَّ المُؤامرةَ، ثُمَّ الضَّغطَ، ثُمَّ الشَّجاعَةَ، ثُمَّ العَواقِبَ، ثُمَّ الرَّفيقَ، ثُمَّ المَدْح.
وبِدافِعِ الفُضولِ، أَوَدُّ أن أُضيفَ المُلاحَظةَ التَّالية: نَحنُ لا نَرى دانيال هُنا في هذا النَّصّ. وأعتقدُ أنَّ هَذهِ النُّقطةَ مُهِمَّةٌ جِدًّا لَنا. فنحنُ جَميعًا نَعرِفُ عَن شَخصيَّةِ دانيال العَظيمة وَفضيلَتِهِ كَما هُوَ مُبَيَّنٌ في الأصحاحِ الأوَّلِ والأصحاحِ الثَّاني. وَقد رأينا جَميعًا قُوَّةَ الشَّخصيَّةِ الَّتي كانَ يَتمتَّعُ بها دَانيالُ، وكيفَ أنَّهُ لم يُساوِم بخصوصِ أطايِبِ المَلِكِ وَخَمْرِ مَشروبِهِ وَأنشِطَتِهِ. وأعتقدُ أنَّنا شَعَرنا بأنَّ حَنَنْيَا وَمِيشَائِيل وَعَزَرْيَا المَعروفينَ بِشَدْرَخ وَمِيشَخ وَعَبْدَنَغُو (وَفقًا لأسمائِهم البَابليَّة) يَتَعَلَّقونَ وَحَسْب بِأذيالِ مِعْطَفِ دَانيال. وَلأنَّ الرَّبَّ أرادَ أن يُعَرِّفَنَا أنَّ الأمرَ ليسَ كذلك، لم يَسمَح بِوجودِ دانيال في تلكَ الحَادِثَة.
وَحَتَّى إنَّهُ لن يَكونَ مَوجودًا عندما تَحدُثُ كُلُّ الأشياءِ المُدَوَّنةِ في الأصحاحِ الثَّالث. وَهذا أمرٌ مُدهِشٌ في ذَاتِهِ لأنَّ مَا حَدَثَ كَانَ أمرًا عَظيمًا في مَملكةِ بَابِل. ولا بُدَّ أنَّ دانيال كانَ خَارجَ البَلَدِ في مَأموريَّةٍ مُهِمَّةٍ جدًّا بِصِفَتِهِ رَئيسًا للوُزراءِ أوْ بتلكَ الصِّفةِ الرَّسميَّةِ الَّتي كانَ يَعمَلُ بها في ذلكَ الوَقتِ تَحديدًا. ولكِنَّهُ لم يَكُن مَوجودًا. لِذا، فقد وَقَفَ هؤلاءِ الرِّجالُ الثَّلاثةُ بِمُفردِهم؛ ولكنَّهُم وَقَفُوا بِشجاعَة.
أوَّلاً، هُناكَ الاحتفال. انظروا إلى الأعدادِ مِن 1 إلى 3. وَقد تَأمَّلنا فيها مِن قَبل، ولكنِّي سَأُذكِّرُكُم بها وَحَسْب: "نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ..." - فَهُوَ مَلِكُ بَابِل حيثُ تَمَّ سَبْيُ هؤلاءِ الفِتيةِ الثَّلاثةِ العِبرانيِّينَ مَعَ كُلِّ مَا تَبَقَّى مِن أُمَّةِ يَهوذا. "نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ صَنَعَ تِمْثَالاً مِنْ ذَهَبٍ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ سِتُّ أَذْرُعٍ [أيْ أنَّ ارتِفاعَهُ كانَ نَحْوَ سَبعةٍ وعِشرينَ مِترًا، وَعَرضَهُ نَحو مِتران وسَبعينَ سنتمترًا]، وَنَصَبَهُ فِي بُقْعَةِ دُورَا فِي وِلاَيَةِ بَابِلَ. ثُمَّ أَرْسَلَ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ لِيَجْمَعَ الْمَرَازِبَةَ وَالشِّحَنَ وَالْوُلاَةَ وَالْقُضَاةَ وَالْخَزَنَةَ وَالْفُقَهَاءَ وَالْمُفْتِينَ وَكُلَّ حُكَّامِ الْوِلاَيَاتِ، لِيَأْتُوا لِتَدْشِينِ التِّمْثَالِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ.
"حِينَئِذٍ اجْتَمَعَ الْمَرَازِبَةُ وَالشِّحَنُ وَالْوُلاَةُ وَالْقُضَاةُ وَالْخَزَنَةُ وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُفْتُونَ وَكُلُّ حُكَّامِ الْوِلاَيَاتِ لِتَدْشِينِ التِّمْثَالِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ، وَوَقَفُوا أَمَامَ التِّمْثَالِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ".
والآن، نَقرأُ هُنا أنَّ نَبوخَذنَصَّر صَنَعَ تِمثالاً أوْ صَنَمًا ضَخمًا لنفسِه مُظْهِرًا نَفسَهُ بأنَّهُ إلَهٌ. وقد طَلَبَ مِن أعلى أصحابِ المَناصِبِ في الإمبراطوريَّةِ البَابليَّةِ أن يَأتوا ويَسجُدوا لَهُ. وَكما قُلتُ لَكُم سَابقًا، لا بُدَّ أنَّ الرَّأسَ الَّذي مِن ذَهَب (والَّذي كَانَ رَمْزًا لِنبوخَذنَصَّر في رُؤيا دانيال عنِ إمبراطوريَّاتِ العَالمِ الأربع) هَيْمَنَ على عَقلِهِ حَتَّى إنَّهُ فَكَّرَ في أنْ يَصنَعَ تِمثالاً عَظيمًا مِن ذهبٍ لِتَمجيدِ نَفسِه.
وَكانَ التِّمثالُ يَرمِزُ إلى المَلِكِ، وكانت إمبراطورِيَّتُهُ تُجَسِّدُ حَقيقةً عَظيمةٍ. لِذا فقد أرادَ مِنَ الجَميعِ أن يَسجُدوا ويَعبُدوه. وكانَ نَبوخَذنَصَّر يَفعلُ ببساطَةٍ ما يَفعلُهُ كُلُّ الرِّجالِ الَّذينَ لا يَعرِفونَ اللهَ؛ أيْ أنْ يَعبُدوا أنفسَهُم. فَهُمْ يَختَرِعُونَ آلهةً تُوافِقُ تَفكيرَهُم وذِهنَهُم وَمَوقِفَهُم.
وَبَعدَ أنْ نَصَبَ هذا التِّمثالَ العَظيمَ وطَلَبَ مِنَ الجَميعِ أن يَسجُدَ لَهُ، وَجَدَ الرِّجالُ العِبرانيُّونَ الثَّلاثةُ أنفسَهُم في مَوقفٍ لا يُحسَدونَ عليهِ لأنَّهم كانوا يَعرفونَ مَا تَقولُهُ شَريعةُ اللهِ عَن عِبادَةِ الأوثانِ، ويَعرفونَ مَعنى صُنْعِ الأصْنامِ وَنَجاسَةَ ذلكَ في فِكْرِ الله. وَكانوا يَعرِفونَ أنَّ هذا الأمرَ غَيرُ مَقبولٍ. وَكانُوا يَعرفونَ أنَّهُ يَنبغي لهم أن يَتَّخِذُوا قَرارًا.
والآن، سوفَ تُلاحِظونَ أنَّ جَميعَ النُّبَلاءِ كانوا عَديمي الشَّخصيَّةِ لأنَّنا نَقرأُ في العَددِ الثَّاني أنَّ نَبوخَذنَصَّر استَدعاهُم جَميعًا. ثُمَّ نَقرأُ في العَددِ الثَّالِثِ سَرْدًا مُذِلاًّ لَهُم جَميعًا بطريقةٍ سَاخِرَةٍ. ثُمَّ نَقرأُ أنَّهُم جميعًا: "وَقَفُوا أَمَامَ التِّمْثَالِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ".
بِعبارةٍ أخرى، كانَ جَميعُ هؤلاءِ القَادَةِ السِّياسِيِّينَ، وهؤلاءِ المَسؤولينَ في بَابل مُستعدِّين لعملِ أيِّ شيءٍ لإرضاءِ نَبوخَذنَصَّر. فقد كانوا مُستعدِّينَ للمُساومةِ على كُلِّ مَبادِئهم، أيَّا كانتِ الآلهةُ الَّتي يَعبُدونَها أو لا يَعبُدونَها. وَكَانُوا مُستعدِّينَ لِوَضْعِ كُلِّ ذلكَ جَانِبًا، وَلِفِعْلِ كُلِّ مَا يَتَطَلَّبُهُ الأمرُ لكَسْبِ رِضا هَذا الإنسانِ، وَتَجَنُّبِ العِقابِ أوِ حَتَّى الإعدامِ إن لم يَفعَلُوا ذلك.
لِذا فقد وَقَفَ جَميعُ هؤلاءِ المَسؤولينَ الكِبار هُناكَ وَكانُوا على أُهْبَةِ الاستعدادِ للمُساوَمَةِ كَالعَادَة. والسَّببُ في تَكرارِ ألقابِ هَؤلاءِ في العَددِ الثَّالثِ هُوَ في اعتقادي لإذلالِهم والسُّخريةِ مِنهُم بِسَببِ ضُعفِ شَخصيَّتِهم الوَاضِح.
والآن، نَنتقلُ مِنَ الاحتفالِ إلى الأمْرِ في العَددِ الرَّابع: "وَنَادَى مُنَادٍ بِشِدَّةٍ: «قَدْ أُمِرْتُمْ أَيُّهَا الشُّعُوبُ وَالأُمَمُ وَالأَلْسِنَةُ...". والآن، اسمَحُوا لي أن أَذكُرَ مُلاحظةً هُنا. إنَّ العِبارةَ "الشُّعُوب وَالأُمَم وَالأَلْسِنَة" هي صِيغةٌ شَائعةٌ تُشيرُ إلى حَشْدٍ مِنَ النَّاس. وهي تُستخدَمُ مَرَّةً أخرى في نفسِ الأصحاحِ والعَددِ السَّابع. وهي تُستخدمُ مَرَّةً أخرى في اعتقادي في العَدد 29. أجل: "الشُّعُوب وَالأُمَم وَالأَلْسِنَة". وهي تُستخدَمُ في الأصحاحِ الرَّابع: "الشُّعُوب وَالأُمَم وَالأَلْسِنَة" في العَددِ الأوَّل. وهي تُستخدَمُ مَرَّةً أخرى في اعتقادي في الأصحاحِ السَّادس. وهي طَريقةٌ شَائعةٌ وَحَسْب لمُخاطبةِ أيَّة مَجموعةٍ كَبيرةٍ مِنَ النَّاس. لِذا فإنَّهُ يَدعُو كُلَّ هذا الحَشْدَ ويَأمُرُهُم بِالقيامِ بِشَيءٍ مَا.
وَما هُوَ هَذا الشَّيء؟ إنَّهُ مَذكورٌ في العَددِ الخَامِس: "عِنْدَمَا..." – وَهَذا يَعني في اللَّحظةِ المُحَدَّدة. فَهُوَ يُريدُ خُضُوعًا كَامِلاً في لَحظةٍ مُحَدَّدةٍ بِدِقَّة. "عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِيرِ وَالْمِزْمَارِ وَكُلِّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ، أَنْ تَخِرُّوا وَتَسْجُدُوا لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ".
والآن، مِنَ الوَاضحِ أنَّهُ كَانَت تُوجَدُ لَدى هذا المَلِكِ جَوْقَةٌ مَلَكِيَّةٌ تَضُمُّ كُلَّ هذهِ الآلاتِ وتَعزِفُ دُونَ شَكٍّ مُوسيقَا حِسِّيَّة تَجذِبُ أنظارَ الجَميعِ إلى التِّمثالِ كي يَسجُدُوا لَهُ. وهُناكَ مُلاحظةٌ مُدهشةٌ هُنا؛ وَأنا أقولُ هَذا لكلايتون (Clayton). فَهُناكَ آلاتٌ نَفخيَّةٌ وآلاتٌ وَتَرِيَّةٌ هُنا. فَقد كانَ يُوجَدُ قَرْنٌ وَنَايٌ (وَهُما آلَتانِ مُوسيقيَّتانِ مِنْ آلاتِ النَّفْخ). وبالمُناسَبة، كانَ صَوتُ القَرْنِ خَفيضًا، وَصَوتُ النَّايِ أعلى مِنه.
وَكانَ هُناكَ عُوْدٌ (وَهِيَ آلَةُ الهَارب)؛ وَهِيَ آلةُ هَارب أصغر حَجمًا وأعلى صَوتًا. وكانَ هُناكَ رَبابٌ. ومِنَ الصَّعبِ جدًّا أن نَعرِفَ مَعنى الكلمة الأصليَّة هُنا. والحقيقة هِيَ أنَّنا لا نَعرِفُ البتَّة مَا هِيَ تلكَ الآلة. أعتذرُ عن ذلك. ثُمَّ كان هناك سِنْطيرٌ. وَهُناكَ الكَثيرُ مِنَ التَّخمينِ بشأنِ هذهِ الآلاتِ؛ ولكِن لا فائدةَ مِن ذلك. إذًا، كان يوجدُ أيضًا سِنْطير؛ وهي آلةٌ تُشبِهُ الهارب. فقد كانَ العُودُ آلةَ هَارب عَالية الصَّوت، والسِّنطيرُ آلةَ عُودٍ خَفيضةَ الصَّوت. ثُمَّ كانَ يُوجدُ مِزمارٌ. وصَدِّقوني أنَّ ذلكَ المِزمارَ هُوَ آلةُ القِرْبَة. وَقد راحَت كُلُّ تلكَ الآلاتِ تَعزِفُ المُوسيقا. وعندَ ابتداءِ العَزفِ، كانَ يَنبغي للجميعِ أن يَخِرُّوا وَيَسجُدُوا للتِّمثال.
والآن، بِصراحَة يا أحبَّائي، كانَ هذا الرَّجُلُ مُتَكَبِّرًا جدًّا. فقد جَمَعَ كُلَّ الأُمَّة، وكُلَّ كِبارِ المَسؤولين. وَقد أَمَرَ الجَوْقَةَ المَلَكِيَّةَ بالحُضور. وعندما صَارَ الجَميعُ مُستعدًّا، كانَ يَنبغي للجَميعِ حَالَ سَماعِهِم صَوتَ المُوسيقا أنْ يَسجُدوا لِتِمثالِهِ الضَّخم.
وَأودُّ أن أُضيفَ بأنَّ المُوسيقا كانت دَائِمًا جُزءًا مِنَ الأشياءِ الحِسِّيَّةِ، وَأنَّها كانت دَائِمًا مُرتبطةً بعِبادَةِ الأوثان. وكما هِيَ حَالُ أيِّ شَيءٍ صَالِحٍ آخرَ أَعطاهُ اللهُ لنا، استَخدمَ الشَّيطانُ المُوسيقا للتَّرويجِ لِنِظامِهِ الشِّرِّير. أليسَ كذلك؟ وَهُوَ لم يَنْجَح يَومًا في القِيامَ بذلكَ أكثرَ مِمَّا هُوَ نَاجِحٌ في يَومِنا هَذا.
حَسَنًا! بَعدَ ذلكَ نَقرأُ عَنِ العَواقِبِ في العَددِ السَّادِس: "وَمَنْ لاَ يَخِرُّ وَيَسْجُدُ، فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ يُلْقَى فِي وَسَطِ أَتُّونِ نَارٍ مُتَّقِدَةٍ". ولا أدري مَاذا يُمكِنُ أن تَكونَ غيرَ نَارٍ مُتَّقِدَة إنْ كَانَ هُناكَ أَتُونٌ مُشتَعِلٌ! لِذا، نَحنُ نَفتَرِضُ أنَّهُ تَمَّ إضْرامُ النَّارِ في الأَتُونِ لإحمائِهِ جَيِّدًا لِكَي تَفهَموا أنَّهُ يَستخدِمُ هُنا صِيغَةَ المُبالَغَة. فأيُّ شَخصٍ يَرفُضُ السُّجودَ يُحْسَبُ خَائِنًا وَيُطرَحُ في أَتونِ نَارٍ مُتَّقِدَة. فإنْ عَارَضْتَ عَظَمَةَ نَبوخَذنَصَّر، سَتكونُ نِهايَتُكَ مَحتومَة.
والحَقيقةُ هِيَ أنَّ أغلبيَّةَ النَّاسِ يَخضَعونَ للظُّروفِ الخَارِجيَّةِ والضَّغطِ الخَارِجِيِّ. فَهُم يَخضَعونَ لأيِّ شَيءٍ يُطلَبُ مِنهُم أكثرَ مِمَّا يَتَمَسَّكونَ بِمَبادِئهم الدَّاخليَّة. لِذا فإنَّ العَددَ السَّابعَ يَقول: "لأَجْلِ ذلِكَ وَقْتَمَا..." [أيْ في تِلكَ الَّحظةِ تَحديدًا] "...وَقْتَما سَمِعَ كُلُّ الشُّعُوبِ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِيرِ وَكُلِّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ، خَرَّ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ..." [وَهِيَ نَفسُ العِبارَةِ الَّتي قَرأناها مِن قَبل] "...وَسَجَدُوا لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبَهُ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ".
والآن، هَل تُريدونَ أن تَلتَقُوا حَشْدًا مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ لا يُفَكِّرونَ، بَلْ يَشعُرونَ بالفَزَع؟ هَا هُمْ هَؤلاء. وَهَذا هُوَ مَا يَفعلُهُ أغلبيَّةُ النَّاسِ في الحَياة. فأنتَ تَفعلُ مَا يَنبغي لَكَ أن تَفعلَهُ مِن أجلِ الحُصولِ على مَا يُمكِنُكَ الحُصولُ عليه. وَأنتَ تَعيشُ في أَحَطِّ مُستوىً مُمكِن، وتُساوِمُ على مَبادِئِكَ الدَّاخليِّةِ بسببِ الضَّغطِ الخَارجيِّ. فالنَّاسُ يَخضَعونَ عَادَةً للنِّظام. وَهُمْ يَخضَعُونَ للسُّلطات. وَهُم يَفعلونَ مَا يُفْرَضُ عَليهم. فَعندما يَخافونَ مِن فُقدانِ مَنصِبِهم فإنَّهُم يُساوِمون.
وَمَعَ أنَّ النَّصَّ لا يُخبرُنا بذلك، فإنَّنا نَعلَمُ أنَّهُ في تلكَ الأثناءِ كَانَ هُناكَ شَيءٌ آخرُ يَجري. فَقد سَجَدَ الجَميعُ باستِثناءِ ثَلاثةِ أشخاص. وَلا شَكَّ في أنَّ الجَميعَ قَد رَآهُم. فَهُم لم يَسجُدوا. لِذا فإنَّنا نَنتقلُ مِنَ الاحتفالِ إلى الأمْرِ، ثُمَّ إلى المُؤامَرَةِ في العَددِ الثَّامِن... إلى المُؤامَرة. والآن، لاحِظُوا مَا يَلي:
"لأَجْلِ ذلِكَ تَقَدَّمَ حِينَئِذٍ رِجَالٌ كَلْدَانِيُّونَ وَاشْتَكَوْا عَلَى الْيَهُود". والآن، لقد أخبرتُكُم عندما ابتدأنا في دراسةِ هذا السِّفْر أنَّهُ كَانَ هُناكَ نَحْو 75 مِنَ الفِتيانِ الَّذينَ تَمَّ سَبْيُهُم مِنَ البَلاطِ المَلَكِيِّ في يَهوذا إلى البَلاطِ المَلَكِيِّ في بَابِل لكي يَتِمَّ تَدريبُهم على العَملِ في ذلكَ البَلاطِ والإشراف على شُؤونِ اليَهود. ولكِن مِنْ بَيْنِ كُلِّ هَؤلاءِ الفِتيةِ الخَمسةِ والسَّبعين، وَهُوَ رَقْمٌ تَقريبيٌّ إذْ إنَّهُ قَد يَكونُ أكثرَ أو أقَلّ، ولكِن مِن بَينِ كُلِّ هؤلاءِ الفِتيةِ الَّذينَ تَمَّ سَبْيُهُمْ مِنَ النَّسلِ المَلَكِيِّ في يَهوذا، نَرى أنَّ أربعةً مِنهُم فَقَط لم يُساوِمُوا، وَهُمْ: دَانيال وَرِفاقُهُ الثَّلاثة.
لِذا، يُمكِنُنا أن نَفتَرِضَ أنَّ بَقيَّةَ الفِتيةِ سَجَدُوا مَعَ البَقيَّة. فَقد خَضَعُوا للنِّظامِ وَتَأقلَمُوا مَعَهُ. فقد انْجَرَفُوا وَراءَ النِّظامِ ولم يَشاؤوا أن يَجلِبُوا المَتاعِبَ لأنفسِهم. لِذا فقد فَعَلُوا مَا فَعَلَهُ الجَميع. ولكِن مِنَ الوَاضِحِ مِن خِلالِ مَا جَاءَ في العَددِ الثَّامِنِ، أنَّ هَؤلاءِ الثَّلاثَة لم يَسجُدوا. وَأَوَدُّ أن أُضيفَ بأنَّ هؤلاءِ الفِتية كَانُوا آنذاكَ قد صَارُوا على الأرجَحِ في سِنِّ العِشرين. فَقد كَانُوا شُبَّانًا. وَهَذا يُرينا ثَباتًا رَائِعًا لأشخاصٍ في عُمْرِهم.
والآن، أريدُ مِنكُم أن تُلاحِظُوا في العَددِ الثَّامِنِ كلمةً مُهِمَّةً جدًّا... أو كَلِمَتَيْنِ في الحَقيقة. الأولى هِيَ الكلمة "كَلْدَانِيُّون". فقد كانَ الكَلدانِيُّونَ العَمودَ الفِقْرِيَّ في الثَّقافَةِ والتَّرتيبِ الهَرَمِيِّ في بَابِل. ولكِن عندما أَظْهَرَ هؤلاءِ الرِّجال الثَّلاثة هذهِ الشَّخصيَّةَ القَويَّةَ، وعندما تَمَكَّنَ دانيالُ مِن تَفسيرِ حُلْمِ نَبوخَذنَصَّر، تَمَّتْ تَرْقِيَةُ دَانيال ورِفاقِهِ الثَّلاثةِ إلى مَناصِبَ مَرموقَة جدًّا. وَمِنَ المُرَجَّحِ أنَّهُم صَاروا يَشْغَلونَ مَناصِبَ أعلى مِنَ الكَلدانِيِّينَ أنفسِهم.
انظُروا إلى الأصحاحِ الثَّاني والعَددِ التَّاسعِ والأربَعين: "فَطَلَبَ دَانِيآلُ مِنَ الْمَلِكِ، فَوَلَّى شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ عَلَى أَعْمَالِ وِلاَيَةِ بَابِلَ. أَمَّا دَانِيآلُ فَكَانَ فِي بَابِ الْمَلِك". فقد شَغَلَ دَانيالُ... أعتقدُ أنَّهُ يُمْكِنُنا أن نَقولَ إنَّهُ كَانَ في هذا الوَقتِ قَد صَارَ رَئيسَ وُزراءِ بَابِل، وَأنَّ الثَّلاثةَ الآخرينَ صَاروا مِن كِبارِ المَسؤولينَ على أعمالِ بَابِل أو وِلايَةِ بَابِل. لِذا فقد تَمَّتْ تَرقِيَتُهم. وَقد استاءَ الكَلدانِيُّونَ مِن ذلك، وَغَضِبوا مِن ذلك. لِذا فإنَّنا نَقرأُ أنَّهُم "اشْتَكَوْا على اليَهود".
وَالكلمة "اشْتَكَوْا" هُنا هِيَ كَلِمَةٌ مُدهشة. فَهِيَ تَعني حَرفيًّا: "يَنْهَشُ قِطَعًا مِنْ". حسنًا؟ فهي تُستخدَمُ للإشارةِ إلى "نَهْشِ قِطَعٍ مِنَ اللَّحمِ الَّتي مُزِّقَتْ مِنْ جُثَّةٍ كَما يَفعلُ وَحْشٌ كَاسِرٌ عندما يَنْهَشُ اللَّحْمَ والأنسجةَ مِنَ الضَّحيَّةِ وَيَأكُلُها. فقد جَاءَ الكَلدانِيُّونَ بطريقةٍ خَبيثَةٍ، وبطريقةٍ مَقيتَةٍ تُشبِهُ مَا يَفعَلُهُ أَكَلَةُ لُحومِ البَشَرِ لكي يَنهَشُوا هَؤلاءِ اليَهودَ وَيُمَزِّقوهُمْ إرْبًا إرْبًا. لِذا فإنَّها ليسَت لَفظَة قَانونيَّة. فَالآيةُ لا تُشيرُ إلى تَوجيهِ تُهْمَةٍ في مَحكمةٍ، بَلْ إلى رَغْبَةٍ خَبيثةٍ وَحَقودَةٍ تَرمِي إلى تَمزيقِ أجسادِهم. فَعلى غِرارِ أَكَلَةِ لُحومِ البَشَرِ، جَاءَ الكَلدانِيُّونَ وَاشْتَكُوا على هؤلاءِ الرِّجالِ الثَّلاثةِ اليَهود.
وَلا شَكَّ في أنَّ الكَلدانِيِّينَ... وأعتقدُ أنَّهُ يَنبغي لنا أن نَتذكَّرَ النُّقطةَ التَّاليةَ وَهِيَ أنَّهُم كَانُوا أداةً بِيَدِ الشَّيطان لأنَّهُم كَانُوا في الأصلِ كَهَنَةَ الإلَهِ الَّذي يُعرَفُ باسْم "بيل-مَرودَخ"؛ وَهُوَ الإلَهُ الرَّئيسيُّ؛ عِلْمًا بأنَّ الكلمة "بيل" تُشيرُ إلى نَفسِ الإلهِ المَعروفِ باسْمِ البَعْل. لِذا فقد وَجَدوا فُرصَةً سَانِحَةً لَهُم. وَقَد هَيَّجَهُم الشَّيطانُ مِن خِلالِ نِظامِهِم الدِّينيِّ البَاطِلِ على تَمزيقِ هؤلاءِ الرِّجالِ العِبرانيِّينَ الثَّلاثة.
وَقد خَاطَبُوا المَلِكَ بِرِياءٍ كَما لو أنَّهُم يُدافِعونَ عَنهُ. وَقدِ اتَّهُموا اليَهودَ كَما لو أنَّهُم يُساعِدونَ المَلِكَ في مَعرفةِ إنْ كَانَ الجَميعُ قَدْ أَطاعوا أَمْرَهُ. ثُمَّ نَقرأُ في العَددِ التَّاسِع: "أَجَابُوا وَقَالُوا لِلْمَلِكِ نَبُوخَذْنَصَّرَ: «أَيُّهَا الْمَلِكُ، عِشْ إِلَى الأَبَد". فَقد أَسْمَعُوا المَلِكَ كُلَّ الكَلامِ الحُلْوِ الَّذي يُحِبُّ أن يَسمَعَهُ. "نَحْنُ هُنا حَقًّا، أيُّها المَلِكُ، ونُريدُ أن نُؤكِّدَ لَكَ وَلاءَنا". ولكِنَّهُم كَانُوا يَحسِدونَ هؤلاءِ الرِّجال اليَهود الثَّلاثة على مَناصِبِهم، ويُبدونَ كُلَّ استِعدادٍ لِفِعلِ أيِّ شَيءٍ لِتَغييرِ ذلك. ولكِنَّهُم جَاءُوا بِرِياء.
ثُمَّ نَقرأُ في العَددِ العَاشِر: "أَنْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَصْدَرْتَ أَمْرًا...". ثُمَّ إنَّهُم يُفَصِّلونَ ذلك: "بِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَسْمَعُ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِيرِ وَالْمِزْمَارِ وَكُلِّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ، يَخِرُّ وَيَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ. وَمَنْ لاَ يَخِرُّ وَيَسْجُدُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فِي وَسَطِ أَتُّونِ نَارٍ مُتَّقِدَةٍ". وَهَذا صَحيحٌ تَمامًا. فَهَذا وَصْفٌ دَقيقٌ لِما قَالَهُ المَلِك. فَقد أَعادُوا ذِكْرَ المِعْيارِ، ثُمَّ كَشَفُوا عَنِ المُشكلةِ الحَقيقيَّةِ في العَددِ الثَّاني عَشَر:
"يُوجَدُ رِجَالٌ يَهُودٌ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ عَلَى أَعْمَالِ وِلاَيَةِ بَابِلَ...". وَهَذا هُوَ مَا كَانَ يُغيظُهُم حَقًّا؛ أيْ مَا جَاءَ في الأصحاحِ الثَّاني والعَدد 49. فَقَد ثَارَ غَضَبُهُم حَقًّا حِينَ رَأَوْا أنَّ هؤلاءِ المَسبيِّينَ اليَهودَ تَوَلَّوْا مَناصِبَ مَرمُوقَة. "يُوجَدُ رِجَالٌ يَهُودٌ: شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُوَ. هؤُلاَءِ الرِّجَالُ لَمْ يَجْعَلُوا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ اعْتِبَارًا. آلِهَتُكَ لاَ يَعْبُدُونَ، وَلِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَ لاَ يَسْجُدُونَ".
إنَّهُم مُجَرَّدُ عَبيدٍ، وَرَهائِنَ مِن بَلَدٍ آخر، وغُرَباء. وَقد جَعَلْتَهُم حُكَّامًا، وَهُمْ يَحكُمونَنا. هَذا هُوَ الغَيْظُ الَّذي كَانَ يَأكُلُهم. ويُمكِنُكم هُنا أن تَرَوْا لَمْحَةً صَغيرةً مِن خَطيئةِ الحَسَدِ البَغيضَة. فاللهُ يَقولُ على سَبيلِ المِثالِ في سِفْرِ الأمثال 14: 30: "حَيَاةُ الْجَسَدِ هُدُوءُ الْقَلْبِ، وَنَخْرُ الْعِظَامِ الْحَسَدُ". وَقد كَتَبَ "ج. ألين بلير" (J. Allen Blair): "الحَسَدُ عندَ المُؤمِنِ يُشبِهُ السُّوْسَ الَّذي يَنْخُرُ العِظامَ إذْ إنَّهُ يَستَنزِفُ أيَّةَ قُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ وَنَفْعٍ رُوحِيٍّ".
وَقد كانَ هَذا هُوَ مَا حَدَثَ في حَياةِ شَاوُل. فقد كَانَ مَلِكًا عَظيمًا مَمسوحًا مِنَ اللهِ ليكونَ شَاهِدًا للرَّبِّ. ولكِن بسببِ خَطيئةِ الحَسَدِ، انْحَطَّتْ حَياةُ شَاوُل وَصارَتْ عَديمةَ النَّفْع. فقد سَمِعَ شَاوُلُ النَّاسَ يُغَنُّونَ قَائلين: "ضَرَبَ شَاوُلُ أُلُوفَهُ وَدَاوُدُ رِبْوَاتِهِ". وَقد كانت تلكَ أُغنية وَحَسْب؛ ولكِنَّها أَضْرَمَتْ في قَلبِهِ شُعورًا شِّريرًا بالحَسَد. ونَقرأُ في سِفْرِ نَشيدِ الأنشاد 8: 6: "الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَة". فالغَيْرَةُ وَالحَسَدُ يُشبهانِ مَادَّةً حَارِقَةً. فَالحَسَدُ يُحْرِقُ حَرفيًّا النَّفس. وَهُوَ يُدَمِّرُ جَمالَ النَّفسِ كَما يُدَمِّرُ القَبرُ جَمالَ الجَسَد. لِذا فقد اضْطَرَمَتْ قُلوبُ الكَلدانِيِّينَ بِخطيئةِ الحَسَدِ فَجَاؤوا وَقَالوا ذلكَ الكَلامَ للمَلِك.
والآن، لاحِظُوا أنَّهُم اتَّهَموهُم بثلاثةِ أشياء في العَددِ الثَّاني عَشَر: أوَّلاً، نَقرأُ في مُنتصفِ الآية: "هؤُلاَءِ الرِّجَالُ لَمْ يَجْعَلُوا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ اعْتِبَارًا". أوَّلاً، إنَّهُم لم يَحْتَرِموك، ولم يُعطوكَ أيَّ اهتِمام، ولم يَتجاوَبُوا مَعَكَ، ولم يُظْهِرُوا لكَ التَّقديرَ الَّذي تَستَحِقُّهُ.
ولكِنَّ هَذا غَير صَحيح. فَقد طَبَّقُوا بأمانَةٍ المَبدأَ المَذكورَ في إنجيل مَتَّى 22: 21 حيثُ قَالَ رَبُّنا: "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ لله". فَقَدْ نَفَّذُوا دُونَ أَدنى شَكٍّ مَسؤوليَّتَهُم تُجاهَ المَلِكِ طَالَما أنَّ ذلكَ لم يَكُن يَتَعارَضُ مَعَ مَسؤوليَّتِهم تُجاهَ الله. فَقد كَانُوا مُواطِنينَ صَالِحين. وَقد تَجاوَبُوا مَعَ المَلِك. ارجِعُوا إلى الأصحاحِ الأوَّلِ حيثُ تَجِدونَ أنَّهُم كَانُوا يَحْتَرِمونَ المَلِك.
أمَّا التُّهْمَتانِ الثَّانية والثَّالثة فَكانَتا صَحيحَتَيْن. العَدد 12: "آلِهَتُكَ لاَ يَعْبُدُونَ"؛ وَهَذهِ تُهْمَةٌ صَحيحة. "وَلِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَ لاَ يَسْجُدُون". والشَّيءُ المُدهِشُ هُنا هُوَ التَّالي: لَقد كانَ هَؤلاءِ الرِّجالُ الثَّلاثةُ يَعرِفونَ عُقوبَةَ العِصيان. ويَجِبُ عليكُم أن تَسألوا أنفسَكُم: كيفَ يُمكِنُ لأيِّ شَخصٍ أن يَضَعَ مَبدأً عَالِيًا جدًّا وَأنْ يَقِفَ في وَسْطِ النَّاسِ جَميعًا في الوقتِ الَّذي سَجَدُوا فيهِ كُلُّهم. فقد وَقَفُوا هُناكَ رَاسِخين وَكَانُوا مُستعدِّينَ للطَّرْحِ في وَسَطِ أَتونِ نَارٍ مُتَّقِدَة؟ هذهِ هِيَ الشَّخصيَّةُ يا أحبَّائي. فَهِيَ تَسْتَنِدُ إلى المَبادِئِ الدَّاخليَّةِ، لا إلى الضَّغطِ الخَارِجِيِّ.
والآن، فَكِّرُوا وَحَسْب في الضَّغط. فَكِّروا في ذلك. فَقد كَانَ نَبوخَذنَصَّرُ صَديقًا لَهُم، وَكانَ نَبوخَذنَصَّرُ صَاحِبَ فَضْلٍ عَليهِم. وَكانَ مَصيرُهُم في يَدَيْه. وَكانَتْ مُقاوَمَةُ نَبوخَذنَصَّر شَيئًا عَقيمًا تَمامًا. فَهُمْ لا يَملِكونَ أيَّ مَصدرٍ آخر. كَما أنَّ أيَّ تَقَدُّمٍ مُستقبليٍّ سَيُحرِزونَهُ في بَابِل يَتوقَّف تَمامًا على وَلائِهم. وكانَ بِمَقدورِهم أن يَقولوا لأنفسِهم: "التِّمثالُ ليسَ شَيئًا بأيَّةِ حَال. لِذا، مَا المُبَرِّرُ لِلقلقِ بشأنِهِ؟ سَوفَ نَسجُدُ لَهُ كَما يَفعلُ البَقيَّة، ولكِنَّنا سَنُصَلِّي للهِ الحَقيقيِّ".
وَكانَ بِمَقدورِهم أن يَقولوا: "إنَّ الجَميعَ يَفعلُ ذلك. إنْ أردنا أن نَكْرِزَ لهؤلاءِ النَّاسِ يَنبغي أن نَكونَ جُزءًا مِنهُم". وكانَ بِمَقدورِهم أن يَقولوا: "مِنَ الوَاضِحِ أنَّ النَّارَ ستَكونُ مُميتَةً. وَإنْ مُتْنا لن نَكونَ نَافِعينَ للهِ. فَنَحْنُ نَشْغَلُ مَناصِبَ عَالية جدًّا. ولكنْ إنِ احتَرَقْنا سَنُفْسِدُ كُلَّ الخُطَّة".
وَكانَ بِمَقدورِهم أيضًا أن يُفَكِّروا قَائِلين: "إنْ لم نَسجُد، سَنَقَعُ بأيدي هؤلاءِ الكَلدانِيِّينَ الغَيورين". وَرُبَّما فَكَّروا قَليلاً في أنَّ المَوتَ لم يَكُن جُزءًا مِنَ الوَصْفِ الوَظيفيِّ.
فَهُناكَ أمورٌ كثيرةٌ كانَ يُمكِنُ أن تُمارِسَ عَليهِم ضَغطًا. ولكِن على الرَّغمِ مِن كُلِّ ذلكَ، ظَلُّوا ثَابِتينَ تَمامًا ولم يُسَاوِمُوا قَطّ. وَمِنَ المُدهِشِ في المَوقِفِ الَّذي كَانُوا فيهِ أن يَقِفوا بِثَباتٍ هَكذا! يُحكَى أنَّ "ستيفن جيرارد" (Stephen Girard)، المَليونير غَير المُؤمِن في فيلادلفيا، قَالَ قبلَ سَنواتٍ لمُوَظَّفيه يَومَ سَبْتٍ إنَّهُ يَنبغي لَهُم أن يَأتُوا في اليَومِ التَّالي لِتَفريغِ سَفينة وَصَلَتْ للتَّوّ. وكانَ اليومُ التالي هو الأحد. لِذا فقد تَقَدَّمَ شَابٌّ وقال بِعَصَبيَّة: "سَيِّد جيرارد! لا يُمكنُني أن أعملَ يومَ الأحد". قَالَ صَاحِبُ العَمل: "حسنًا! إنْ لم يَكُن بمقدورِكَ أن تَفعلَ مَا أطلُبُهُ مِنكَ، يُمكِنُنا أن نَنفصِل".
قَالَ الشَّابُّ: "أنا أعلَمُ ذلكَ يا سَيِّدي، وَأعلمُ أيضًا أنَّ لَديَّ أُمًّا أرْمَلَةً يَنبغي أنْ أهْتَمَّ بها؛ ولكنِّي لا أستطيعُ أن أعملَ يومَ الأحد". قَالَ السَّيِّد جيرارد: "حسنًا! اذهب إلى المُحاسِبِ كي يُعطيكَ حِسابَك".
وطَوالَ ثَلاثة أسابيع طَويلة، كَما يَقولُ كَاتِبُ السِّيرة، رَاحَ الشَّابُّ يَجُوبُ الشَّوارعَ بَحثًا عَن عَمَل. وَذاتَ يَومٍ طَلَبَ رَئيسُ أحدِ المَصارِفِ مِنَ السَّيِّد جيرارد أن يُرَشِّحَ لَهُ شَخصًا مُناسبًا للعملِ في مَصْرِفٍ جَديدٍ على وَشْكِ الافتتاح. وبعدَ أن فَكَّرَ جيرارد قليلاً أعطاهُ اسْمَ ذلكَ الشَّابِ الَّذي طَرَدَهُ.
قَالَ رَئيسُ المَصرِف: "ولكنِّي أعتقدُ أنَّكَ قُلتَ إنَّكَ طَرَدْتَهُ!". قَالَ جيرارد: "أجل، لأنَّه لم يَقبَل أن يَعمل يَومَ الأحد. ولكنِّي أريدُ أن أقولَ لكَ إنَّ الشَّخصَ الَّذي يَختارُ أن يَخْسَرَ عَمَلَهُ بسببِ مَبدأٍ هُوَ شَخصٌ يُمكِنُكَ أن تَأتَمِنَهُ على أموالِك".
لِذا، يَنبغي أن تَسألَ نَفسكَ أنَّهُ لو كُنتَ مَحَلَّ نَبوخَذنَصَّر، لماذا سَتَشغَلُ نَفسَكَ بثلاثةِ أشخاص. أليسَ كذلك؟ فَالجَميعُ قَد سَجَدُوا. فَلماذا تَشغَلُ نَفسَك؟ ولكِن هَل لاحَظتُم يَومًا أنَّ الإنسانَ المُصابَ بِجُنونِ العَظَمَةِ لا يُطيقُ شَخصًا واحِدًا لا يَنصاعُ لأوامِرِه؟ فوجودُ شَخصٍ وَاحِدٍ لا يَنصاعُ إليهم يَجعلُهم يَغضَبون؛ فَما بَالُكُم إنْ وُجِدَ ثَلاثَةُ أشخاص! لِذا فإنَّ نَبوخَذنَصَّر لم يَكُن مَسرورًا بِسُجودِ الجَميعِ باستثناءِ ثَلاثة أشخاص. فالأشخاصُ المُصابونَ بِجُنونِ العَظَمَة لا يَشعُرونَ بالرِّضا إلاَّ إذا خَضَعَ الجَميع إليهم.
لِذا فإنَّنا نَقرأُ هُنا عَنِ المُؤامَرة. وَمِنَ المُؤامرةِ نَنتقلُ إلى السِّمَةِ الرَّابعةِ في هذهِ القصَّةِ وهي: الضَّغط. والمقصودُ بالضَّغطِ هُنا هُوَ أنَّنا نَجِدُ أنَّ نَبوخَذنَصَّر يُواجِهُ الثَّلاثَة، ويُحاولُ أن يُرغِمَهُم على القيامِ بشيءٍ أكثرَ مُلاءمةً لَهُ. ولكِنَّنا نَجِدُ أنَّهُم لا يَتزعزعون. لاحِظُوا ذلك. سَوفَ نَقرأُ الأعدادَ مِن 13 إلى 15. تَابِعوا النَّصَّ أثناءَ قِراءَتي لَهُ: "حِينَئِذٍ أَمَرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ بِغَضَبٍ وَغَيْظٍ..."؛ والآن، هَذا يُريكُم مَن يَكونُ هَذا المَلِك. فهذهِ الكلماتُ قَويَّة. فقدِ اسْتَشَاطَ غَضَبًا لأنَّ هَؤلاءِ الرِّجالَ العِبرانِيِّينَ الثَّلاثة لم يَسجُدوا لَهُ. فقد كُنَّا نَتَخَيَّلُ أنَّهُ سَيَقول: "لقد سَجَدَ آلافُ الأشخاصِ. لِذا، لَن أَشغَلَ نَفسي بثلاثةِ أشخاصٍ لم يَسجُدوا. فالأغلبيَّةُ السَّاحِقَةُ سَجَدَت".
ولكِنَّكَ لن تَقولَ ذلك إنْ كُنتَ شَخصًا مِثلَ نَبوخَذنَصَّر. فَقد غَضِبَ جدًّا وَأمرَ "بِإِحْضَارِ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ. فَأَتَوْا بِهؤُلاَءِ الرِّجَالِ قُدَّامَ الْمَلِكِ. فَأَجَابَ نَبُوخَذْنَصَّرُ وَقَالَ لَهُمْ: «تَعَمُّدًا يَا شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُوَ لاَ تَعْبُدُونَ آلِهَتِي وَلاَ تَسْجُدُونَ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتُ!"
لاحِظُوا أنَّهُ أَسْقَطَ التُّهمةَ الأولى الَّتي لَفَّقَها الكَلدانِيُّونَ لَهُم في العَددِ الثَّاني عَشَر بأنَّهُم لَم يَجعَلوا للمَلِكِ اعتبارًا لأنَّهُ كَانَ يَعلمُ أنَّ ذلكَ غَير صَحيح. لِذا فقد أَسْقَطَ التُّهمةَ الأولى؛ ولكِنَّهُ قَالَ: "تَعَمُّدًا...لاَ تَعْبُدُونَ آلِهَتِي وَلاَ تَسْجُدُونَ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتُ؟"
ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ كُلَّ الكَلامِ الَّذي قِيلَ سَابِقًا: "فَإِنْ كُنْتُمُ الآنَ مُسْتَعِدِّينَ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ صَوْتَ الْقَرْنِ وَالنَّايِ وَالْعُودِ وَالرَّبَابِ وَالسِّنْطِيرِ وَالْمِزْمَارِ..." وَلا بُدَّ أنَّهُ حَفِظَ ذلكَ الخِطاب. "...وَكُلَّ أَنْوَاعِ الْعَزْفِ إِلَى أَنْ تَخِرُّوا وَتَسْجُدُوا لِلتِّمْثَالِ الَّذِي عَمِلْتُهُ. وَإِنْ لَمْ تَسْجُدُوا فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ تُلْقَوْنَ فِي وَسَطِ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ".
ثُمَّ إنَّهُ يُضيفُ السُّؤالَ الغَبِيَّ التَّالي: "وَمَنْ هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدَيَّ؟" وبهذا نَرى أنَّهُ بَالَغَ حَقًّا في غُرورِه. "مَنْ هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدَيَّ؟" فَيبدو أنَّ ذَاكِرَةَ هذا الرَّجُلِ قَصيرة. فقد نَسِيَ الإلَهَ نَفسَهُ الَّذي يَقدِرُ أن يَكشِفَ الأحلامَ والرُّؤى. فَيا لَهُ مِن شَخصٍ مَجنون!
فَهُوَ يَقولُ: "تَعَمُّدًا؟..." – "تَعَمُّدًا..." [في العَدد 14] "...لا تَسجُدون؟" وأعتقدُ أنَّهُ يُمكِنُنا أنْ نَحسِبَ لهذا الرَّجُلِ أنَّهُ كَانَ عَادِلاً. فهو يُعطيهم على أقَلِّ تَقدير فُرصةً للدِّفاعِ عن أنفسِهم قبلَ أن يَطرحَهُم في أَتونِ النَّارِ استِنادًا إلى اتِّهامِ الكَلدانِيِّينَ لَهُم. وأنا مُتَيَقِّنٌ مِنْ أنَّهُ كَانَ يَعلَمُ أنَّهُم كَانُوا مُنزَعِجينَ قَليلاً مِمَّا كَانَ يَجري سِياسيًّا.
ولكِنَّ غُرورَهُ جَعَلَهُ غَاضِبًا. وقد كَانَ غَاضِبًا جدًّا في هذهِ النُّقطة. وَحَتَّى إنَّهُ وَصَلَ إلى نُقطةٍ عَانَدَ فيها اللهَ، وتَحَدَّى بِسُلطانِهِ سُلطانَ الله: "مَنْ هُوَ الإِلهُ الَّذِي يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدَيَّ؟"
وَيا لِحَماقَةِ وَجَهالَةِ ذلكَ النَّوع مِنَ الغُرور. فعندما تُعانِدُ اللهَ السَّرمَدِيَّ لا بُدَّ أنَّك سَتَجِدُ غَرِيْمَكَ الأقوى مِنك. وَهُوَ يَجِدُ غَرِيْمَهُ الأقوى مِنهُ في هذا الأصحاحِ والأصحاحِ الَّذي يَليه كَما سَنَرى. فَهل نَسِيَ أنَّ إلَهَ دَانيال أعظمُ مِن كُلِّ آلِهَةِ بَابِل بِمَا في ذلكَ آلِهَتَهُ الَّتي لم تَتمكَّن مِن تَفسيرِ أحلامِهِ وَلا مِن مُساعَدَتِهِ بأيَّةِ طَريقةٍ أو شَكلٍ أو صُورة؟ فيبدو أنَّ هذا الرَّجُلَ الوَثَنِيَّ الأحمقَ قد نَسِيَ في خِضَمِّ جُنونِ عَظَمَتِهِ تلكَ الحَقيقة.
إذًا، نَحنُ نَنتقِلُ مِنَ الاحتفالِ إلى الأمْرِ، ثُمَّ إلى المُؤامَرَةِ، ثُمَّ إلى الشَّجاعَةِ في العَدد 16. وَهذهِ هِيَ الذُّروة؛ وَهِيَ رَائعةٌ جدًّا: "فَأَجَابَ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُوَ وَقَالُوا لِلمَلِكِ" – والآن، نَحنُ نَراهُم في ذلكَ المَوقِفِ، يا أحبَّائي. فَماذا سَيَقولونَ يا تُرَى؟ "يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ". فَهُمْ لا يُلَقِّبونَهُ بتلكَ الألقابِ وَلا يَقولونَ لَهُ: "أَيُّهَا الْمَلِكُ، عِشْ إِلَى الأَبَدِ!"، بَلْ يَقولون: "يَا نَبُوخَذْنَصَّرُ، لاَ يَلْزَمُنَا أَنْ نُجِيبَكَ عَنْ هذَا الأَمْرِ". وَأنا أُحِبُّ ذلك. وَما مَعنى ذلك؟
بِصورةٍ رَئيسيَّةٍ: "لَيسَ لَدينا مَا نَقولُهُ لَك!" وَهَذهِ ليسَتْ عَجْرَفَةً، بَلْ إنَّهُ لم يَكُن يُوجَدُ لَديهم مَا يَقولوه. فَقد كَانُوا يُقِرُّونَ وَحَسْب بِذَنبِهم. "ليسَ لَدينا مَا نَقولُهُ لَكَ مِن جِهَةِ إنكارِ مَا حَدَث، وليسَ لَدينا مَا نَقولُهُ لَكَ مِن جِهَةِ تَفسيرِ مَا حَدَث لأنَّ التَّفسيراتِ لا تَعني أيَّ شَيء. لِذا، لَنْ نُحاولَ أن نُقَدِّمَ لَكَ إجابَةً البَتَّة. نَحْنُ لم نَسجُد، وَلَنْ نَسجُد".
لَقد خَدَمُوا نَبوخَذنَصَّر بأمانَةٍ قَدرَ استِطاعَتِهم. وَلكِنَّ السُّجودَ لِذلكَ التِّمثالِ كَانَ أكثر مِن طَاقَتِهم. ثُمَّ تَأتي أَهَمُّ جُملة. والحَقيقةُ هِيَ أنَّها رُبَّما كَانَت أَهَمُّ جُملةٍ قَالَها إنسانٌ في كُلِّ الكتابِ المقدَّسِ، وَأعظمَ تَأكيدٍ للإيمانِ الحَقيقيِّ في أيِّ مَوضِعٍ في الكتابِ المقدَّس إذْ نَقرأُ في العَدَدَيْن 17 و 18: "هُوَذَا يُوجَدُ إِلهُنَا الَّذِي نَعْبُدُهُ..." – وَهَذهِ جُملةٌ مُباشِرَةٌ جدًّا "...يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَنَا مِنْ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ، وَأَنْ يُنْقِذَنَا مِنْ يَدِكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ [بِطَريقةٍ أو بأخرى]. وَإِلاَّ فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا لَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، أَنَّنَا لاَ نَعْبُدُ آلِهَتَكَ وَلاَ نَسْجُدُ لِتِمْثَالِ الذَّهَبِ الَّذِي نَصَبْتَهُ". فَهذا هُوَ الكَلامُ النِّهائِيُّ والأخيرُ والفَصْلُ.
فلم يَكُن هُناكَ أيُّ تَبريرٍ، أو حِوارٍ. لا! "ماذا تُريدُ مِنَّا أن نَفعل؟ هَل تُريدُ مِنَّا أن نَنْحَني نِصْفَ انْحِناءَه؟" لن نَفعلَ ذلك. فقد قَالوا: "لا يُوجَدُ لَدينا شَيءٌ نُدافِعُ بِهِ عَن أنفسِنا. وليسَ لَدينا جَوابٌ. وَليسَ لَدينا تَبريرٌ. وليسَ لَدينا مَا نَقولُهُ سِوى أنَّ إلَهَنا الَّذي نَعبُدُهُ أعظَمُ مِنكَ. وَهُوَ سَيُنَجِّينا مِن نَارِكَ، وَمِنْ أَتونِ النَّارِ. وَحَتَّى إن لم يَفعل ذلك، لَن نَسجُدَ لهذا التِّمثال".
يا لَها مِن كَلِماتٍ حَازِمَة! وَيا لِقُوَّةِ إيمانِ هؤلاءِ الرِّجالِ الثَّلاثة! وَيا لَها مِن شَجاعَة! فَنَحنُ جَميعًا نَتَّفِقُ على ذلك فيما نَجلِسُ في مَقاعِدِنا المُريحَةِ هُنا. ولكِنَّهُم كَانُوا يَقِفونَ على حَافَةِ أَتونِ نَارٍ. وَقد كَانَت شَهادَتُهم ثَابِتَةً وَراسِخَةً. وَكانَ إيمانُهم حَقيقيًّا في أحْلَكِ لَحْظَة.
ويا أحبَّائي، أَوَدُّ أن أقولَ لَكُم إنَّهُم كَانُوا رَاسِخينَ لأنَّهم كَانُوا مُكَرَّسينَ تَمامًا لمبادِئِهم الدَّاخليَّة. فَقد تَعَلَّمُوا كلمةَ اللهِ وعَرَفوا أنَّهُ يجبُ عليهم أن يُجيبوا بطريقةٍ مُعيَّنةٍ استِنادًا إلى الحَقِّ الإلَهِيِّ، وأنَّهُ لا يَجوزُ لَهُم أن يُسَاوِمُوا على ذلكَ بِغَضِّ النَّظرِ عَنِ الضُّغوطِ الخَارجيَّة. يا لَها مِن فَضيلَة! ولم يَكُن ذلكَ يَتوقَّفُ على مَا إذا كَانُوا سيَحصُلونَ على مُعجِزَةٍ أَم لا. فَقد كَانُوا مُستعدِّينَ لقَبولِ مَشيئةِ اللهِ حَتَّى لو كَانَ ذلكَ يَعني أنَّهم سَيَموتونَ بسببِ عَدَمِ السُّجودِ لِصَنَم.
وَأودُّ أن أقولَ لَكُم إنَّهُ إنْ كَانَ يُوجَدُ شَيءٌ يُمكِنُنا أن نُقَدِّمَهُ لهذا العَالَمِ فإنَّهُ هَذا الرُّوحُ، أو هَذهِ النَّزاهَةُ الَّتي لا تُساوِمُ، وَلا تَتزعزَعُ، والَّتي لِسانُ حَالِها هُوَ: "سَأبقَى أمِينًا لألهي حَتَّى لو كَلَّفَني ذلكَ حَياتي". أَلَسْنَا نَسجُدُ طَوالَ الوقتِ لأصنامِ القَرنِ العِشرين مِن أجلِ الحُصولِ على مَا نُريدُ الحُصولَ عَليهِ في وَسْطِ أُناسِ هَذا العَالَم؟ ولكِنَّهُم كَانُوا يَعرِفونَ عَمَى ذلكَ المَلِكِ الوَثنيِّ، وَكَانُوا يَعرِفونَ أنَّ التَّبريراتِ المُطَوَّلَةَ ليست مُجْدِيَةً. وَقد كَرَّسُوا أنفسَهُم وَحَسْب لله.
وَعَلى غِرارِ أيُّوب في سِفْرِ أيُّوب 13: 15، قَالُوا: "هُوَذَا يَقْتُلُنِي. لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئًا. فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ". فَقد كَانُوا يَعرفونَ أنَّ مَا سيَحدُثُ لأجسادِهم ليسَ مُهِمًّا، بَلْ إنَّ المُهِمَّ هُوَ أن تَبقى أرواحُهُم رَاسِخَةً في الحَقِّ الإلهِيِّ. وَهَذا الكَلامُ مُوَجَّهٌ إلينا، يا أحبَّائي. فَيجبُ علينا أن نَعيشَ حَياةً خَاليةً مِنَ المُساومةِ، وَلا تَرضى بأنْ تَسجُدَ لأيِّ صَنَمٍ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الثَّمَن؛ لا لِصَنَمِ الشَّعبيَّةِ الوَاسِعَة، وَلا لِصَنَمِ الرَّاحَة، وَلا لِصَنَمِ الشُّهرة، وَلا لِصَنَمِ الحُصولِ على إعجابِ العَالَم، وَلا لأيِّ صَنَمٍ مِنَ الأصنامِ الَّتي نَصنَعُها بأيدينا. فَلا مَجالَ للمُساوَمَةِ في حَياةِ الشَّخصِ الَّذي يَقِفُ مَوقِفًا رَاسِخًا كَهذا.
فَاللهُ يَبقى إلَهًا صَالِحًا عِندَما لا يَشفي كَما هِيَ حَالُهُ عِندَما يَشفي. وَاللهُ يَبقى إلَهًا مُحِبًّا عندما لا يُوَفِّرُ كُلَّ مَا نَظُنُّ أنَّنا بِحاجَةٍ إليهِ كَما هِيَ حَالُهُ عِندَما يُوَفِّرُ ذلك. وَاللهُ يَبقى إلَهًا مُنْعِمًا عندما يَقولُ "لا" كَما هِيَ حَالُهُ عِندَما يَقولُ: "نَعَم". فاللهُ هُوَ الله. واللهُ يَنبغي أن يُعبَدَ دُونَ أيَّة تَنازُلات. وَما يَفعَلُهُ يَبقى شَأنًا خَاصًّا بِهِ. ويُمكنُكم أن تُلَخِّصُوا ذلكَ بالقولِ أنَّهُ مِن زَاوِيَةِ اللهِ فإنَّ المَوتَ جَيِّدٌ مِثلَ الحَياة. أليسَ كذلك؟
وَقد قَالَ بولسُ ذلك: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ [ماذا؟] رِبْحٌ". فالمَوتُ لم يَضَع يَومًا أيَّ خَوفٍ في قَلبِه. والمَوتُ لم يُرْغِمْهُ يَومًا على المُساوَمَة. وَذاتَ يَومٍ، وَضَعَ بولسُ رَأسَهُ على خَشَبَةٍ فيما لَمَعَتْ فَأسٌ تَحتَ أشِعَّةِ الشَّمسِ قبلَ أن تَهْوي وتَفصلَ رأسَهُ عَن جَسَدِه. ولكِنَّهُ لم يَتراجَع يَومًا ولم يُساوِم.
اسمَعوني: إنَّ الرَّبَّ يَدعونا إلى ذلك. فَفي سِفْرِ الخُروج 32: 26، نَقرأُ السُّؤالَ التَّالي: "مَنْ لِلرَّبِّ؟" ونَقرأُ في إنجيل مَتَّى والأصحاحِ العَاشِر: "كُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قُدَّامَ النَّاسِ أَعْتَرِفُ أَنَا أَيْضًا بِهِ قُدَّامَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَات". ونَقرأُ في إنجيل مَرقُس 8: 38: "مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي فِي هذَا الْجِيلِ الْفَاسِقِ الْخَاطِئِ، فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَسْتَحِي بِهِ".
بِعبارةٍ أخرى، هُناكَ دَعوةٌ للتَّكريسِ وعدمِ المُساوَمَةِ عندما يَختصُّ الأمرُ بالاعترافِ بحقيقةِ اللهِ والثَّباتِ فيه. والعَالَمُ يَأتي إلينا المَرَّةَ تِلوَ المَرَّةِ ويَدعُونا إلى السُّجودِ لأصنامِه. فَنَحنُ نُريدُ أن نَحظَى بِشَعبيَّةٍ وَاسِعَة، ونُريدُ أن نَكونَ مَشهورين، ونُريدُ أن نَكونَ مَحبوبين، ونُريدُ أن نَجمَعَ المَالَ، ونُريدُ أن نَحصُلَ على تَرقيةٍ، ونُريدُ أن نَحصُلَ على عَلاماتٍ مُمتازة، ونُريدُ أن نَجذِبَ شَخصًا مَا. لِذا فإنَّنا نُساوِمُ ونَجعلُ أنفسَنا عَديمِي النَّفعِ، ونُقَدِّمُ شَهادَةً سَلبيَّة.
لَقد شُفِيَ نُعْمانُ [في سِفْرِ المُلوكِ الثَّاني والأصحاحِ الخَامِسِ] مِنْ بَرَصِهِ وَوَقَفَ أمامَ أليشَع وَقال: "لاَ يُقَرِّبُ بَعْدُ عَبْدُكَ مُحْرَقَةً وَلاَ ذَبِيحَةً لآلِهَةٍ أُخْرَى بَلْ لِلرَّبِّ". وَهَذا جَيِّدٌ؟ فَنُعمانُ يَقول: "مِنَ الآن فَصاعِدًا، لَن يُوجَدَ في قَلبي إلَهٌ غَير يَهْوَه". "ولكِن عَنْ هذَا الأَمْرِ يَصْفَحُ الرَّبُّ لِعَبْدِكَ [فَهَذا هُوَ مَا قَالَهُ لأليشَع]: عِنْدَ دُخُولِ سَيِّدِي إِلَى بَيْتِ رِمُّونَ لِيَسْجُدَ هُنَاكَ، وَيَسْتَنِدُ عَلَى يَدِي فَأَسْجُدُ فِي بَيْتِ رِمُّونَ، فَعِنْدَ سُجُودِي فِي بَيْتِ رِمُّونَ يَصْفَحُ الرَّبُّ لِعَبْدِكَ عَنْ هذَا الأَمْر". فَقد كَانَ نُعمانُ حَريصًا جدًّا على عَدَمِ المُساوَمَة. لِذا فقد قَالَ: "انظُر! لا يُوجَدَ في قَلبي غَيرَ يَهْوَه. ولكِن عندما يَحتاجُ المَلِكُ للمُساعَدَةِ في السُّجودِ لإلَهِهِ، سَوفَ يَسْتَنِدُ إلَيَّ في سُجودِهِ. لِذا، لِيَتَ الرَّبَّ يَصْفَحُ لِي لأنِّي لَنْ أفعلَ ذلكَ بِنِيَّةِ عِبادَةِ ذلكَ الإلَه". وَقد قَالَ لَهُ أليشَع أنْ يَمضي بِسلام.
فَهل إيمانُنا حَقيقيّ جدًّا حَتَّى إنَّهُ لا يُوجَد ثَمَنٌ يُمكِنُ أن يَجعَلَنا نُساوِم؟ لَقد قَالَ "مارتن لوثر" (Martin Luther) عندما كَانَ مَاضِيًا بِمُفرَدِهِ لمُواجَهَةِ سَاعَةِ الحِرْمانِ الكَنَسِيِّ المَحتومِ في المَجْمَعِ الَّذي يُعرَفُ باسْم "مَجْمَع ڤورمز" (The Diet of Worms)، ولكي يَمْثُلَ أمامَ المَلِكِ تشارلز الخامِس (King Charles V)، وأمامَ حَبْرِ رُومَا، وأمامَ كُلِّ الأُمَراءِ المُجتَمِعين، قَالَ مَا يَلي؛ وَهِيَ كَلِماتٌ رَائعة. فقد قَالَ مَارتن لوثر: "سَوفَ تَحظَى قَضِيَّتي بالتَّزكِيةِ مِنَ الرَّبِّ لأنَّهُ حَيٌّ وَصَاحِبُ كُلِّ سُلطانٍ، وَهُوَ الَّذي حَفِظَ الفِتيةَ الثَّلاثةَ في أَتونِ نَارِ المَلِكِ البابلِيِّ. وَحَتَّى إنْ لم يَكُن مُستعدًّا لِحِفْظِي فإنَّ حَياتي ليست شَيئًا إذا مَا قُورِنَتْ بالمَسيح. تَوَقَّعُوا أيَّ شَيءٍ مِنِّي إلاَّ الهَرَبَ والتَّراجُع. فأنا لن أهرُبَ، ولن أتراجَعَ، بَل أُصَلِّي أن يُقَوِّيني الرَّبُّ يَسوع".
وَقد اسْتَمَدَّ لُوثَر شَجاعَتَهُ مِن هؤلاءِ الفِتيةِ العِبرانيِّينَ الثَّلاثة. فهو لم يَقُل: "خَلِّصْني"، بَل قَالَ: "إنْ أرادَ اللهُ أن يَأخُذَ حَياتي فإنَّها ليسَت شَيئًا". وبالنَّظَرِ إلى رِجالِ اللهِ العُظماءِ هَؤلاءِ وَآخرينَ فإنَّنا نَتَصَدَّى لِضَغطِ العالَمِ الَّذي يُطالِبُنا بالسُّجودِ لأصنامِهِ بِكُلِّ صُمودٍ وَثَبات. وقَد كَتَبَ أحدُ الأشخاصِ قَائِلاً: "إنْ كَانَ هُناكَ صَنَمٌ عَزيزٌ على قَلبي، أيًّا كَانَ هَذا الصَّنَم، سَاعِدني على أن أَخلَعَهُ عَن عَرشِهِ وَأنْ أعبُدَكَ أنتَ وَحدَكَ". وَلا عَجَبَ أنَّنا نَقرأُ في رِسالةِ يُوحَنَّا الأولى 5: 21 أنَّ يُوحَنَّا يَختِمُ رِسالَتَهُ الرَّائعةَ بالكلماتِ التَّالية: "احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الأَصْنَام".
لِذا فإنَّنا نَرى الاحتفالَ، والأمرَ، والمُؤامرةَ، والضَّغطَ، والشَّجاعَة. والآن، سَوفَ نَرى العَواقِب. وَسوفَ نَنظُرُ إلى هذهِ النُّقطة في عُجالَة في العَدد 19: "حِينَئِذٍ امْتَلأَ نَبُوخَذْنَصَّرُ غَيْظًا". فَقد قَرأنا في العَدد 13 أنَّهُ أَمَرَ بإحضارِهِم "بِغَضَبٍ وَغَيْظٍ". وَالآن، نَقرأُ أنَّهُ امْتَلأَ غَيْظًا. "وَتَغَيَّرَ مَنْظَرُ وَجْهِهِ". وَهَل تَعلَمونَ مَا مَعنى ذلك؟ هَذا يَعني أنَّهُ قَطَّبَ وَجْهَهُ. فقد كانَ غَاضِبًا جدًّا حَتَّى إنَّهُ ابتدأَ في تَقطيبِ وَجْهِهِ والعَبَسِ في وُجوهِهم. إنَّهُ رَجُلٌ رَاشِدٌ؛ ولكِنَّهُ رَاحَ يَتَصَرَّفُ بِجُنون! فقد جُنَّ جُنونُهُ وَأرادَ أن يَجعلَ الجَميعَ يَسجُدونَ لَهُ. لِذا فقد غَضِبَ جِدًّا وابتدأَ يَعْبِسُ في وُجوهِهم ويَتكلَّم. والآن، إنَّهُ يَفعلُ شَيئًا غَبِيًّا: "وَأَمَرَ بِأَنْ يَحْمُوا الأَتُونَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مُعْتَادًا أَنْ يُحْمَى".
والآن، قَد تَقول: "لَقد أرادَ أن يَجعلَ الأتونَ حَارِقًا حَقًّا". أجل، ولكِنَّ هَذِهِ غَباوَة. فإنْ أردتَ أن تُعَذِّبَ إنسانًا حَقًّا فإنَّكَ تُخَفِّضُ الحَرارةَ وَتُطيلُ فَترةَ العَذاب. أمَّا زِيادَةُ حَرارةِ الأَتونِ سَبْعَةَ أضعافٍ فتَعني أنَّ العَذابَ سيَكونُ أقَلّ. ولكِنَّهُ لم يَكُن يَدري مَا الَّذي يَفعَلُه. فقد فَقَدَ زِمامَ السَّيطرةِ على نَفسِه. وَنَحْنُ هُنا في سَاحَةٍ تَعِجُّ بالأشخاصِ المُجامِلينَ الَّذينَ يَسْعَوْنَ إلى إرضاءِ المَلِك، ونَرى هؤلاءِ الفِتية الثَّلاثة يُثيرونَ حَفيظَةَ نَبوخَذنَصَّر، وَيُغضِبونَهُ، ويَجعلونَهُ يَتصرَّفُ بِحَماقَة. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "حَمُّوا الأتونَ سَبعةَ أضعافٍ".
ثُمَّ نَقرأُ في العَدد 20: "وَأَمَرَ جَبَابِرَةَ الْقُوَّةِ فِي جَيْشِهِ بِأَنْ يُوثِقُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ وَيُلْقُوهُمْ فِي أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَة". ووَفقًا للمَعلوماتِ المُتاحَة لَدينا، ومِن خِلالِ تَحليلِ النَّصِّ، مِنَ المُرَجَّحِ أنَّ هَذا الأتونَ كَانَ حُفرةً في الأرضِ لَها فُتحَةٌ في الأسفل وفُتحة في الأعلى. وَيبدو أنَّهُم طَرَحُوهُم في الأتونِ مِنَ الفُتحةِ العُلويَّةِ في حينِ أنَّ النَّارَ كَانَت تُضْرَمُ مِن أسفَل.
وَكانَ نَبوخَذنَصَّر يَجلِسُ في شُرفَةٍ تُطِلُّ على تلكَ الفُتحَةِ العُلويَّةِ ويَستطيعُ مِن خِلالِها أن يَرى مَا يَجري. لِذا فقد تَمَّ إحْماءُ النَّارِ أكثرَ فأكثر فَأكثر. وَقدِ استَدعَى رِجالاً أشِدَّاءَ (أيْ أقوى الجُنودِ لَديهِ، أو رُبَّما حُرَّاسَهُ الشَّخصيِّينَ) وأمَرَهُم أن يُوْثِقوهُم ويَطرحوهُم في أَتونِ النَّارِ المُتَّقِدَة.
"ثُمَّ أُوثِقَ هؤُلاَءِ الرِّجَالُ فِي سَرَاوِيلِهِمْ وَأَقْمِصَتِهِمْ وَأَرْدِيَتِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأُلْقُوا فِي وَسَطِ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ". والشَّيءُ المُدهِشُ هُنا هُوَ أنَّ السَّروايلَ والأقمصةَ والأردِيَةَ والمَلابِسَ تُشيرُ إلى أنَّهُم كَانُوا يَرتَدونَ مَلابِسَ أنيقَة. وما أعنيه هُوَ أنَّهُم كَانوا يَرتَدونَ مَلابِسَ مُنَاسَبِيَّة... أيْ مَلابِسَ.... لا أدري مَا الكلمة الصَّحيحة! لقد كَانُوا يَرْتَدونَ مَلابِسَ فَاخِرَة. أَنا أُصيبُ حِيْنًا وأُخطِئُ حِيْنًا. فقد حَاولتُ أن أَعثُرَ على الكلمةِ المُناسبَة. وعلى أيَّةِ حَال، لقد كَانوا يَرتَدونَ مَلابِسَ فَاخِرَة تَليقُ بتلكَ المُناسَبة. وَقد غَضِبَ المَلِكُ جدًّا ولم يَهدأ غَضَبُهُ البَتَّة.
وَكانَ الفِتيةُ الثَّلاثةُ في حُلَّةٍ رَسميَّةٍ. وأعتقدُ أنَّ مَا قَصَدَ الرُّوحُ القُدُسُ أن يَقولَهُ لَنا هُنا هُوَ أنَّهُم جَاؤوا حَقًّا لِفِعْلِ الصَّوابِ واستَجابُوا لِدَعوةِ المَلِك. فَهُمْ لم يُظهِروا أيَّ تَمَرُّدٍ. فقدِ ارْتَدُوا المَلابِسَ الَّتي تَليقُ بتلكَ المُناسَبةِ العَظيمة؛ ولكنَّهُم لم يَتمكَّنوا مِن عِصْيانِ إلَهِهم. لِذا فقد قَبَضُوا عَليهُم بِسُرعة دُونَ أن يَسْمَحُوا لَهُم بِتَبديلِ مَلابِسِهِم. فقد أَوْثَقوهُم وَطَرَحوهُم في أتونِ النَّار. وَكما قُلتُ، مِنَ المُرَجَّحِ أنَّهُم طَرَحوهُم فيهِ مِن فُتْحَةٍ في الأعلى.
والآن، مِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُم عَلِمُوا أنَّ اللهَ لن يُخَلِّصَهُم مِنَ النَّار. وَلا شَكَّ في أنَّهُم أدركوا ذلكَ بوضوحٍ في طَريقِهم إلى الأتون. حينئذٍ، حَانَ وَقتُ الخُطَّةِ البَديلة. فإنْ لم تَتَمَكَّن مِنَ النَّجاةِ مِنَ النَّار، يَنبغي أن تَرجو في أنْ تَنجُو في النَّار. وَهذا هُوَ مَا حَدث. لِذا، فقد عَلِمُوا أنَّهُم لن يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَجَنُّبِ الاختبار؛ ولكنَّهُم اتَّكَلوا على أنَّ اللهَ سيُقوِّيهم على احتمالِ تلكَ التَّجربةِ لأجلِ مَجدِه. ورُبَّما تَذَكَّروا كلماتِ إشَعْياء 43: 2 المُعَزِّيَة: "إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ، وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ". فَلا بُدَّ أنَّ تلكَ الآيةَ عَزَّتْهُم. أليسَ كذلك؟
ولكِنَّ الجُنودَ لم يَنْجُوا. فنحنُ نَقرأُ في العَدد 22: "وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلِمَةَ الْمَلِكِ شَدِيدَةٌ..." [إذْ إنَّهُ كَانَ غَاضِبًا جدًّا] "...وَالأَتُونَ قَدْ حَمِيَ جِدًّا، قَتَلَ لَهِيبُ النَّارِ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ". فالجُنودُ الَّذينَ طَرَحُوهُم في الأتونِ احتَرَقُوا جميعًا وَماتُوا. فَالأشخاصُ الَّذينَ كَانُوا في الخَارِجِ احتَرَقُوا وَمَاتُوا، والأشخاصُ الَّذينَ طُرِحُوا في الأتونِ كَانُوا يَقضُونَ وَقتًا مُمتِعًا! فقد مَاتُوا بسببِ حَرارَةِ النَّار.
وفي العَدد 23: "وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ الرِّجَالِ، شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُوَ، سَقَطُوا...". وَهَذا هُوَ مَا يَدعونا إلى الاعتقادِ بأنَّهُ كَانَت هُناكَ فُتْحَةٌ في الأعلى وَأنَّهُم أَسْقَطوهُم مِنْها "...مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ". والآن، لو لم تَكونوا تَعرِفونَ هذهِ القِصَّةَ بأسرِها لَقُلتُ لَكُم: "تَعالوا في الأسبوعِ القَادِمِ لِتَعلَموا مَا الَّذي حَدَث"؛ ولكِنَّنا سَنُتابِع.
ونَحنُ نَنتقلُ مِنَ العَواقِبِ إلى الرَّفيقِ في العَدد 24: "حِينَئِذٍ تَحَيَّرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ وَقَامَ مُسْرِعًا فَأَجَابَ وَقَالَ لِمُشِيرِيهِ: «أَلَمْ نُلْقِ ثَلاَثَةَ رِجَال مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ النَّارِ؟» فَأَجَابُوا وَقَالُوا لِلْمَلِكِ: «صَحِيحٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ». أَجَابَ وَقَالَ: «هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رِجَال [لَيسُوا مُوْثَقينَ، بَل] مَحْلُولِينَ يَتَمَشَّوْنَ فِي وَسَطِ النَّارِ وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ، وَمَنْظَرُ الرَّابعِ شَبِيهٌ بِابْنِ الآلِهَةِ»".
والآن، قَد تَظُنُّونَ أنَّ نَبوخَذنَصَّر كَانَ مَهزوزًا عندما ابتدأَ هذا الأمر، ولكِنَّهُ اهْتَزَّ حَقا الآن. فقد كانَ يَجلِسُ ويُشاهِدُ مَا يَحدُثُ مِن بَعيد، ويُراقِبُ مَا يَجري مِن خِلالِ تلكَ الفُتحة. وَقد نَظَرَ إلى هُناكَ فَصُدِمَ مِن بِضعةِ أمور: أوَّلاً، لَقد رأى أربعةً وليسَ ثَلاثة! ثُمَّ إنَّهُ رَأى أنَّهُم ليسوا مُوْثَقينَ، بَل مَحلولين! وَهُمْ ليسُوا مَطروحينَ، بَل يَتَمَشَّوْنَ! وَهُمْ لم يَحتَرِقوا وَلم يَهلِكوُا، بل إنَّهُم لم يَتأذُّوا قَطّ. والرَّابِعُ شَبيهٌ بابنِ الآلِهَة. وَهُمْ لم يَكونوا يَبحَثونَ عَنِ المَخْرَج، بَل كَانُوا يَنتظرونَ بِصَبْرٍ ويَتَمَتَّعونَ بَعضُهُم بِرفقةِ بَعض.
وَماذا عَنِ العِبارَةِ "ابنِ الآلِهَة" فَمَن يَكونُ هَذا؟ لَقد كانَ نَبوخَذنَصَّرُ وَثنيًّا. ولم يَكُن بِمَقدورِهِ أن يَعرِفَ ابْنَ اللهِ إنْ رآه. ولم يَكُن بمقدورِهِ أن يَفهَمَ ظُهورَ المَسيحِ قَبلَ تَجَسُّدِهِ أو هَيئةَ المَسيحِ كَما هُوَ مَذكورٌ في الأصحاحِ الثَّامِن عَشَر مِن سِفْرِ التَّكوين. ولكنِّي أعتقدُ أنَّ مَا كَانَ يَدورُ في ذِهْنِ نَبوخَذنَصَّر عندما قَالَ تِلكَ العِبارة هُوَ كَائِنٌ مَلائِكِيٌّ لأنَّهُ في العَدد 28 مِن هذا الأصحاحِ نَفسِهِ يَستخدِمُ الكلمة "مَلاك". فَيبدو لي أنَّ نَبوخَذنَصَّر رَأى كَائِنًا خَارِقًا للطَّبيعَةِ اعتقدُ أنَّهُ مَلاك.
والآن، هُناكَ مَن يَرى أنَّهُ كَانَ المَسيح. ورُبَّما كَانَ هَذا صَحيحًا. وهُناكَ مَن يَرى أنَّهُ كَانَ مَلاكًا. وبصراحَة، يا أحبَّائي، لا تُوجَد طَريقة يُمكِنُنا مِن خِلالِها أن نَعرِفَ ذلكَ يَقينا. فَنحنُ نَعلَمُ أنَّ المَسيحَ ظَهَرَ في أوقاتٍ مُعَيَّنة في العهدِ القديمِ، ولكِنْ سَواءَ كَانَ مَا رَآهُ ظُهورًا للمَسيحِ بِهَيئةٍ خَاصَّةٍ قَبلَ تَجَسُّدِهِ على الأرضِ، أو مَلاكًا، فإنَّ الأمرَ ليسَ مُهِمًّا حَقًّا. بل إنَّ النُّقطةَ المُهِمَّةَ في اعتقادي هِيَ أنَّ اللهَ أرسلَ ذلكَ المَلاكَ إلى أَتونِ النَّارِ لكي يُفَسِّرَ لهؤلاءِ الرِّجالِ الثَّلاثةِ مَا يَجري. وَقد كَانُوا يَتَمَشَّوْن. وَكانَ هَذا المَلاكُ يَقولُ لَهُم: "لقد أرسَلَني اللهُ لكي أحفَظَكُم في وَسَطِ هذهِ النَّار. لَن تَحتَرِقُوا. سَوفَ نَستَمتِعُ بالشَّرِكَةِ مَعًا إلى أنْ يَحينَ وَقتُ المَشهَدِ التَّالي في القِصَّة.
وأعتقدُ أنَّهُم عَلِمُوا أنَّهُم لن يَحتَرِقُوا، وَأنَّ اللهَ أرسلَ مَلاكَهُ لكي يَحفَظَهُم. وعندما يَقولُ الكتابُ المقدَّسُ إنَّ الرَّبَّ يَقولُ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين 13: 5: "لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ"، أعتقدُ أنَّ اللهَ يَقصِدُ ذلك. وأعتقدُ أنَّ اللهَ يُرسِلُ مَلائِكَتَهُ لكي يَعتَنُوا بِنا في الأحوالِ الصَّعبَة.
وَقبلَ ذلكَ بِسنواتٍ طَويلة، حَظِيَ إيليَّا بتَكريمٍ مُشابِهٍ إذْ إنَّ مَلائكةَ اللهِ جَاءت إليهِ شَخصيًّا لكي تُقَدِّمَ لَهُ الطَّعامَ في وقتٍ كَانَ فيهِ يُعاني مِن إحباطٍ شَديد. ويُمكنكم أن تَقرأوا ذلكَ في سِفْرِ المُلوكِ الأوَّل والأصحاح 19. وَما أروعَ أن نَعلَمَ أنَّنا لا يُمكِنُ أن نَمُرَّ بأيَّة تَجارِب دُونَ أن يَكونَ اللهُ مَعَنا. وكُلَّما زَادَتْ حَرارةُ النَّارِ زَادَتْ حَلاوَةُ الشَّرِكَة.
وكما تَعلَمونَ، يُمكنُني أن أقولَ لكم يا أحبَّائي مِن خِلالِ خِبرتي الشَّخصيَّةِ أنَّهُ عندما أَجِدُ نَفسي في مَوقفٍ يَنبغي لي فيه أن أتَّخِذَ مَوقِفًا مُعَيَّنًا في قَضِيَّةٍ مَا دُونَ أن يَكونَ ذلكَ المَوقِفُ مَألوفًا، وتَبتدِئُ في رُؤيةِ المُقاوَمةِ فإنَّكَ ستَشعُرُ بشعورٍ رَائعٍ بالرِّفْقَةِ الإلهيَّة. وَقد تَحَدَّثَ بُطرسُ عَن حَقيقةِ أنَّهُ عِندَما نَتعرَّضُ للاضطهادِ فإنَّ رُوحَ النِّعمةِ والمَجدِ يَحِلُّ عَلينا. وَلَطالَما شَعَرتُ بهذا الإحساسِ الرَّائعِ بأنَّ اللهَ يُقَوِّيني. وَقد كَانُوا هُنا في أَتونِ النَّارِ يَستمتِعونَ بالرِّفقةِ الإلهيَّة.
إذًا، لقدِ انتقلنا مِنَ الاحتفالِ إلى الأمرِ، ثُمَّ إلى المُؤامرةٍ والضَّغطِ، ثُمَّ إلى الشَّجاعَةِ والعَواقِبِ، والرِّفْقَةِ، وَنأتي أخيرًا [سَواءَ صَدَّقتُم ذلكَ أَمْ لم تُصَدِّقوه] إلى المَدْح... المَدْح. وَمِنَ السَّهلِ جدًّا أن نَرى ذلكَ في العَدد 26: "ثُمَّ اقْتَرَبَ نَبُوخَذْنَصَّرُ إِلَى بَابِ أَتُّونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ وَأَجَابَ، فَقَالَ: يَا شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو، يَا عَبِيدَ اللهِ الْعَلِيِّ" – وكيفَ عَرَفَ ذلك؟ مِنَ الوَاضِحِ أنَّهُ التَقى غَرِيْمَهُ الأقوى مِنه. "اخْرُجُوا وَتَعَالَوْا". وأنا أُحِبُّ ذلك. "فَخَرَجَ شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو مِنْ وَسَطِ النَّارِ". ويَنبغي أن تُصَدِّقوا أنَّ نَبوخَذنَصَّر كَانَ يَفْرُكُ عَينيهِ طَوالَ هَذا الوقت.
ثُمَّ نَقرأُ بعدَ ذلك: "فَاجْتَمَعَتِ الْمَرَازِبَةُ وَالشِّحَنُ وَالْوُلاَةُ وَمُشِيرُو الْمَلِكِ وَرَأَوْا هؤُلاَءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لِلنَّارِ قُوَّةٌ عَلَى أَجْسَامِهِمْ، وَشَعْرَةٌ مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ، وَسَرَاوِيلُهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَرَائِحَةُ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ".
والآن، لَقد تَفَحَّصُوا الأمرَ. فعندما كُنتُ في الجَامِعَةِ ذاتَ مَرَّة، كُنتُ بِحاجَةٍ إلى شِراءِ مَلابِسَ رِياضيَّة؛ ولكِنِّي لم أَكُنْ أَمْلِكُ المَالَ لِشرائِها. فقد كَانَت أُمِّي تُرسِلُ إلَيَّ دَائِمًا الحَلْوَياتِ ولكن ليسَ المَال! لِذا فقد كُنتُ بحاجةٍ إلى مَلابسَ رِياضيَّة. وَكانَ هُناكَ مَتْجَرٌ تَعَرَّضَ لِحَريقٍ في المِنطَقَةِ المُجاورةِ للجامِعَة. لِذا فقد قَرَّرْتُ الاستفادَةَ مِنَ التَّخفيضاتِ على البِضاعَةِ الَّتي تَعَرَّضَتْ لِرائحةِ الحَريق. ولا يُمكِنُني أن أنسى رَائحةَ تلكَ المَلابس. فقد التَصَقَتْ رائِحَتُها بي حَتَّى الآن! فقد ارتَدَيْتُ تلكَ المَلابسِ نَحوَ ثَلاثِ سَنواتٍ في الجَامعة ولم تُفارِقْني رَائِحَتُها قَطّ! والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُ عندما كَانَ النَّاسُ يَقتربونَ مِنِّي كَانُوا يَبتَدِئونَ في الشَّمِّ تَلقائِيًّا. وَإنْ كُنتَ قد تَعَرَّضْتَ لرائحةِ حَريقٍ، لا بُدَّ أنَّكَ تَعلَمُ أنَّ رَائحةَ الحَريقِ الَّتي تَتَغَلغَلُ في المَلابِسِ لا تُفارِقُها.
لِذا فقد حَقَّقُوا تَحقيقًا كَامِلاً في الأمرِ فَوَجَدُوا أنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِهِمْ لَمْ تَحْتَرِقْ، وَأنَّ سَرَاوِيلَهُمْ لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَأنَّ رَائِحَةَ النَّارِ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِمْ.
"فَأَجَابَ نَبُوخَذْنَصَّرُ وَقَالَ [والآن، لاحِظُوا مَا قَالَهُ]: «تَبَارَكَ إِلهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ". وَقد تَقول: "لقدِ اهْتَدَى نَبوخَذنَصَّر". وَهَذا خَطأ. فَهُوَ يَقولُ في العَدد 26: "الله الْعَلِيّ". وَهَذا يَعني أنَّهُ لم يَتَخَلَّى عَن إيمانِهِ بوجودِ آلِهَةٍ عَديدة، ولكِنَّهُ وَضَعَ هَذا الإلَهَ في رَأسِ اللاَّئِحَةِ وَحَسْب. فَهُوَ لا يَقولُ: "اللهَ الواحِدَ الحَقيقيّ"، بَل يَقولُ وَحَسْب: "لا بُدَّ أنَّكَ أعلى إلَهٍ". هذا هُوَ كُلُّ ما في الأمر. فَهُوَ يُحافِظُ على إنكارِهِ لِوَحدانِيَّةِ اللهِ أو على اعتقادِهِ بوجودِ آلِهَةٍ عَديدة.
وهُنا، عِندما يَقولُ: "تَبَارَكَ إِلهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ" فإنَّهُ يُقِرُّ وَحَسْب بِما يُسَمِّيهِ اللاَّهوتِيُّونَ: "الوَحْدانِيَّة المَشُوبَة"؛ أيِ الاعتقادُ بأنَّ لِكُلِّ أُناسٍ وَأُمَّةٍ آلِهَتُها. وبِمَفهومِ الوَحدانِيَّة المَشُوبَة، لَم يَكُن نَبوخَذنَصَّر يُمانِعُ في وُجودِ إلَهِ شَدْرَخ وَمِيشَخ وَعَبْدَنَغُو، بَل حَتَّى إنَّهُ كانَ مُستعدًّا للقولِ في هذهِ النُّقطةِ إنَّ هَذا هُوَ أَعظمُ إلَهٍ بينَ كُلِّ الآلِهَة. وَهَذا بَعيدٌ كُلَّ البُعدِ عَنِ القولِ بأنَّهُ الإلَهُ الوَحيد. أليسَ كذلك؟
"تَبَارَكَ إِلهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ، الَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبِيدَهُ الَّذِينَ اتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ الْمَلِكِ وَأَسْلَمُوا أَجْسَادَهُمْ لِكَيْلاَ يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإِلهٍ غَيْرِ إِلهِهِمْ". فَهُوَ يَقولُ: "أنا أُبارِكُ إلَهَ هَؤلاءِ الأشخاصِ الَّذينَ لم يَقبَلوا أن يُساوِمُوا أو أن يَعبُدوا أيَّ إلَهٍ آخَر".
وَأنا أُحِبُّ العِبارَةَ التَّاليةَ في العَدد 28: " وَأَسْلَمُوا [مَاذا؟] أَجْسَادَهُمْ". وَما الآيةُ الَّتي تُشبِهُ ذلك؟ رُومية 12: 1: "قَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ [مَاذا؟] ذَبِيحَةً حَيَّةً... وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ". وَهَذا هُوَ تَمامًا مَا فَعَلوه. وَإنْ أردتُم مَثَلاً إيضاحِيًّا على مَا جَاءَ في رِسالة رُومية 12: 1 و2، هَا هُوَ. فَقد أَسْلَمُوا أجسادَهُم. وَهُوَ يَقولُ: "مُبارَكٌ اللهُ الَّذي يَستطيعُ أن يَحصُلَ على مِثلِ هَذا الوَلاءِ مِن شَعبِه".
اسمَعوني: يُمكِنُنا أن نُدْهِشَ العَالَمَ، ويُمكِنُنا أن نَقلِبَ العَالَمَ الوَثنيَّ رَأسًا عَلى عَقِب حَرفِيًّا مِن خِلالِ عَيشِ حَياتِنا بِلا مُساومةٍ حَتَّى يَقولوا على الرَّغمِ مِن عَدَمِ إيمانِهم إنَّ إلَهَنا هُوَ اللهُ العَلِيُّ، وَحَتَّى يَقولوا على الرَّغمِ مِن عَدَمِ إيمانِهم: "مَبارَكٌ إلَهُ هؤلاءِ الأشخاص. فَأيُّ إلَهٍ يَستطيعُ أن يَحصُلَ على مِثلِ هَذا الوَلاءِ لا بُدَّ أن يَكونَ إلَهًا عَظيمًا".
ثُمَّ نَجِدُ المَدْحَ في العَدد 29: "فَمِنِّي قَدْ صَدَرَ أَمْرٌ بِأَنَّ كُلَّ شَعْبٍ وَأُمَّةٍ وَلِسَانٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالسُّوءِ عَلَى إِلهِ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ، فَإِنَّهُمْ يُصَيَّرُونَ إِرْبًا إِرْبًا، وَتُجْعَلُ بُيُوتُهُمْ مَزْبَلَةً...". وَقد كانَ ذلكَ أشنَع تَحقيرٍ مُمكِن؛ أيْ أن تَأخُذَ بَيتَ شَخصٍ وتَجعَلَهُ مَزبلةً أو مَكانًا قَذِرًا. "...إِذْ لَيْسَ إِلهٌ آخَرُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَجِّيَ هكَذَا". حِينَئِذٍ قَدَّمَ الْمَلِكُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ فِي وِلاَيَةِ بَابِلَ". وعندَما تَكونُ في مَنْصِبٍ مَرمُوقٍ وتَحظَى بِتَرقيةٍ فإنَّها تَكونُ تَرقيةً مُمَيَّزَة.
وإنْ كُنتُم تَظُنُّونَ أنَّ الكَلدانِيِّينَ كَانُوا مُتضايِقينَ في بِدايةِ الأصحاحِ الثَّالثِ، يُمكِنُكم أن تَتخيَّلوا كيفَ كَانَ الأمرُ في نِهايةِ الأصحاحِ الثَّالِث. فَهُوَ يَقولُ إنَّ أيَّ شَخصٍ يَتكلَّمُ بالسُّوءِ على إلِهَتِهم سيُقَطَّعُ إرْبًا إرْبًا، ويُجْعَلُ بَيتُهُ مَزْبَلَةً. لم يَكُن نَبوخَذنَصَّر شَخصًا أحمَقًا. لِذا فقد عَقَدَ العَزْمَ على أن يَكونَ لَطيفًا مَعَ هَذا الإلَهِ لأنَّهُ إنْ أرادَ يَومًا شَيئًا مَا فإنَّهُ يُريدُ مِن هَذا الإلَهِ أن يَكونَ في صَفِّه.
سُئِلَ أَحَدُ مُدَرِّبي مُنْتَخَبِ كُرَةِ القَدَمِ الوَطَنِيِّ ذَاتَ مَرَّة عَنْ سَبَبِ احتفاظِهِ بِخادِمٍ مَسيحيٍّ على الخَطِّ الجَانِبِيِّ، ثُمَّ سَألَهُ السَّائِلُ: "هَل تُؤمِنُ بالله؟" فَأجابَ قَائِلاً: "في الحَقيقةِ، لا أدري! ولكِن إنْ كَانَ اللهُ مَوجودًا، أريدُهُ أن يَكونَ إلى جَانِبي". وَهَذا يُمَثِّلُ نَبوخَذنَصَّر. فَقد أرادَ أن يَكونَ اللهُ إلى جَانِبِه.
والآن، اسمَحُوا لي أن أختِمَ بِسُرعة. قَد لا نُواجِهُ أنا وأنتُم البتَّة على الأرجَحِ خَطَرَ أَتُونِ نَارٍ. أليسَ كذلك؟ قَد لا نُواجِهُ ذلكَ البَتَّة. ولكِنَّكُم ستُواجِهُونَ التَّجربةَ بالنَّارِ... صَدِّقوني! وكذلكَ أنا. وَسَوفَ تَأتي التَّجرِبَةُ مِن مَصادِرَ عَديدة. فأوَّلاً، هُناكَ الشَّيطانُ الَّذي يُهاجِمُنا. فَقَد هَاجَمَ يَسوعَ وَجَرَّبَهُ. فَهُوَ "يَجُولُ" كَما يَقولُ بُطرسُ "كَأَسَدٍ زَائِرٍ...مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ". وَهُوَ المُشتَكي على الإخوة. وَهُوَ يُريدُ أن يَزرَعَ أفكارًا شِرِّيرةً. وَقد قَالَ بولسُ نَفسُهُ إنَّهُ حَصَلَ عَلى مَلاكٍ مِنَ الشَّيطانِ لِيَلْطِمَهُ. والشَّيطانُ سَيُجَرِّبُنا مِن خِلالِ الجَسَد.
ثَانِيًا، سَوفَ يُعَذِّبُنا العَالَمُ. فَسَوفَ يُحاوِلُ العَالَمُ أن يُغوينا. وَسَوفَ يُحاوِلُ العالَمُ أن يَضطَهِدَنا. وَسَوفَ يُحاوِلُ العالَمُ أن يُرغِمَنا على المُسَاوَمَة. وَسَواءَ صَدَّقتُم ذلكَ أَم لم تُصَدِّقوه، سَوفَ يَسْمَحُ اللهُ بوجودِ تَجاربَ في حَياتِنا، وبأنْ يَخْتَبِرَ إيمانَنا. أليسَ كذلك؟ ونَحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الثَّاني عشر مِنَ الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّين كيفَ أنَّ اللهَ يَشَاءُ أن يُؤدِّبَنا.
لِذا، لا بُدَّ أن تَأتي التَّجارِب. بَعضٌ مِنها مِنَ الشَّيطانِ، وبَعضٌ مِنها مِنَ العَالَمِ، وبَعضٌ مِنها سَيَسمَحُ بِهِ اللهُ. ولكِنَّ الغَايَةَ الرَّئيسيَّةَ مِن كُلِّ هذهِ التَّجارِب هُوَ أنْ نَتَنَقَّى ونَقِفَ بِشَجاعَةٍ دُونَ مُساوَمَة. وَيَقولُ كَاتِبُ التَّرنيمة: "عندَما تَجِدونَ أنَّ اتِّباعَكُمْ لي يَقودُكُمْ إلى أَتُونِ النَّارِ، اعلَمُوا أنَّ نِعْمَتي تَكفيكُم وَتَسُدُّ احتياجاتِكُم، وَأنَّ اللَّهيبَ لَن يَحرِقَكُم. فَكُلُّ مَا سَيَحدُثُ آنذاكَ هُوَ أنَّ النُّفايَاتِ سَتَحْتَرِق، وَأنَّ الذَّهَبَ سَيَتَنَقَّى أكثر". أَتَرَوْن؟ دَعُونا نُصَلِّي:
يَا أبانا، أنا أَذْكُرُ أنَّهُ عِندَما كَانَ أَحَدُ المُحارِبينَ يَخرُجُ للحَربِ في العُصورِ الوُسطَى، كانَ أوَّلُ شَيءٍ يَنبغي لَهُ أن يَفعلَهُ هُوَ أن يَجْثُو ويُحاوِلَ أن يَثني سَيفَهُ بِرُكبَتِهِ لِيَرى إنْ كَانَ سَيَنكَسِر. فَقد كَانَ بِحاجَةٍ إلى أن يَعرِفَ أنَّ سَيفَهُ سَيَصمُدُ في حِمَى المَعرَكة. ويا رَبُّ، نَحنُ سُيوفُكَ بِطَرائِقَ عَديدة. وَهُناكَ أوقاتٌ قَد تَثْنينا بِرُكبَتِكَ لِتَرى إنْ كُنَّا سَنَنكَسِر. فإنْ لم نَنكَسِر فإنَّكَ سَتَستخدِمُنا لإحرازِ انتصاراتِ عَظيمَة.
لَيتَنا نَثِقُ في قُوَّتِكَ المُخَلِّصَة. وَليتَنا نَسمَحُ للضَّغطِ والاختباراتِ والتَّجارِب الَّتي نَمُرُّ بها أن تَكونَ أشياءً تُنَقِّينا كَما يُنَقَّى الذَّهب. وَليتَنا لا نُساوِم وَلا نَتَخَلَّى عَنِ البَرَكاتِ الَّتي هِيَ مِن نَصيبِنا عندما نَكونُ أُمناء. وَليتَنا نَعرِفُ أنَّهُ في كُلِّ تلكَ الأوقاتِ العَصيبةِ، يُوجَدُ إلى جَانِبِنا شَخصٌ شَبيهٌ بابْنِ الآلِهَةِ، وأنَّهُ يُوجَدُ رَفيقٌ إلَهِيٌّ يُقَوِّينا في خضَمِّ المَعركة.
اجعَلنا أشخاصًا لا نُساوِم، واجعَلنا مِثلَ هؤلاءِ الفِتيةِ كي نَقِفَ بِثَباتٍ فيقولُ العَالَمُ: "مُبارَكٌ إلَهُ هَؤلاءِ الأشخاصِ الَّذي استَطاعَ أن يَحصُلَ مِنهُم على مِثلِ هَذا الوَلاء". لَيتَ هذهِ تَكون شَهادَتنا. باسْمِ المَسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.