Grace to You Resources

  • ARA-42-121

نُتابِعُ دِراسَتنا لإنجيل لُوقا والأصحاحِ التَّاسِع. ونحنُ نَتأمَّلُ في الأعداد مِن 23 إلى 27. ويأتي هذا النَّصُّ حَقًّا في صَميمِ تَعليمِ يَسوع. لِذا فإنَّنا لا نُحاوِلُ أن نُعَجِّلَ في دراسةِ هذا النَّصِّ البسيطِ والواضِح. والشَّيءُ الَّذي يَنبغي أن أُقاوِمَهُ هو أن أَستَمِرَّ شَهرًا بعدَ شَهْرٍ في التَّحَدُّثِ عن كُلِّ شَيءٍ قِيْلَ مُباشَرَةً أو ضِمنيًّا في هذا النَّصّ. وأنا أُقاوِمُ تلكَ الرَّغبةَ وأحاولُ أن أَمْضي قُدُمًا.

ولكِن إنْ كُنتُم تَسألونَ عَمَّا عَلَّمَهُ يَسوعُ، وعنْ تَعليمِهِ المِحوَرِيِّ الأكثر أهميَّةً سَتَجِدونَهُ هُنا لأنَّ يَسوعَ يَقولُ في العَدد 23: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأتِيَ وَرَائِي...". وفي تلكَ النُّقطة، يُمكنُنا أن نَتوقَّفَ ونَقول: "هذا أمرٌ مُهِمٌّ في مَأموريَّتِه. فقد جاءَ لكي يَطلُبَ ويُخَلِّصَ مَا قد هَلَك. وقد جاءَ لكي يَدعو النَّاسَ إليه". وَهُوَ يَقول: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأتِيَ وَرَائِي، إليكُم مَا يَنبغي أن يَفعَل".

لِذا فإنَّنا نَجِدُ هُنا الشُّروطَ اللَّازِمَةَ لأهَمِّ رِسالةٍ قُدِّمَتْ يَومًا على هذهِ الأرضِ، وهي رِسالةُ اتِّباعِ يَسوع. فما الَّذي يَعنيهِ أنْ تَكونَ تَابِعًا ليسوع؟ وما الَّذي يَعنيهِ أن تَكونُ تِلميذًا ليسوع؟ وما الَّذي يَعنيهِ أن تأتي وَراءَهُ؟ وما الَّذي يَعنيهِ أن تَصيرَ مَسيحيًّا؟ وما الَّذي يَعنيهِ أن تَكونَ مُخَلَّصًا؟ فهذا التَّعليمُ مَوجودٌ في صَميمِ الرِّسالَة.

وما يَقولُهُ يَسوعُ هُنا يَتحدَّثُ مُباشَرَةً عن تلكَ القضيَّة. لِذا، أنتَ تُريدُ أن تَتبَعَ المَسيحَ. أليسَ كذلك؟ وأنتَ تُريدُ أن تَأتي وَراءَ المَسيح، وتُريدُ أن تَكونَ لَهُ تِلميذًا، وتُريدُ أن تَكونَ "صُورةً مُصَغَّرَةً عَنِ المَسيح" لأنَّ هذا هُوَ مَعنى أن تَكونَ مَسيحيًّا. وأنتَ تُريدُ أن تَتبَعَهُ في مَلكوتِهِ؛ أيْ مَلكوتِ الله. وأنتَ تُريدُ غُفرانَهُ...الغُفرانَ الَّذي يُقَدِّمُهُ. وأنتَ تُريدُ الحَياةَ الأبديَّةَ الَّتي يَعِدُ بها.

حسنًا! "إنْ أردتَ ذلكَ..." [كَما يَقول] "...يجبُ عليكَ أنْ تُنْكِرَ نَفسَكَ، وأنْ تَحمِلَ صَليبَكَ كُلَّ يَومٍ، وأنْ تَتْبَعَني". وهذه الجُملةُ الَّتي قالَها يَسوعُ تَتَكَرَّرُ مَرَّاتٍ عديدة في أناجيلِ العهدِ الجديد. وأنا مُتيَقِّنٌ مِن أنَّهُ قالَ ذلكَ مَرَّاتٍ عَديدة وكثيرة، بل مِئاتَ المَرَّاتِ في خِدمَتِهِ الكِرازِيَّة لأنَّ هذا التَّعليمَ هُوَ جَوهَرُ التَّلمذةِ والخَلاص.

وقد تَأمَّلنا في العَناصِرِ الثَّلاثَة: أنْ تُنكِرَ نَفسَكَ، وتَحْمِلَ صَليبَكَ، وتَتْبَعَهُ. ولكنِّي أريدُ أن أتحدَّثَ عنها مَرَّةً أخرى، لا كأجزاءٍ مُنفَصِلَة، بل بِصورة إجماليَّة. وسوفَ أُحاولُ أن أقَدِّمَ لكم فَهْمًا مُلَخَّصًا لما يَقولُهُ حَقًّا هُنا. وَمِنَ المُهِمِّ أن نَفعلَ ذلكَ لأنَّ ما يَقولَهُ يَسوعُ مُناقِضٌ تَمامًا لِما يُنادي بهِ الوُعَّاظُ اليوم.

والحقيقةُ هي أنَّ الدَّعوةَ الرَّئيسيَّةَ إلى الخَلاصِ وكلماتِ رَبِّنا مُناقِضَة تَمامًا لطريقةِ تَفكيرِ النَّاسِ في ثَقافَتِنا. فنحنُ نَعيشُ في ثَقافَةٍ تُرَكِّزُ على حُبِّ الذَّاتِ (إنْ أردنا أن نَقولَ ذلكَ ببساطَة)، ونَعيشُ في ثَقافَةٍ غَارِقَةٍ في حُبِّ الذَّاتِ، وبِناءِ الأنا، وتَقديرِ الذَّاتِ، والشُّعورِ بمشاعِرَ طَيِّبَة تُجاهَ الذَّاتِ، والاعتِقادِ بأنَّكَ مُهِمٌّ، والاعتِقادِ بأنَّكَ قَيِّمٌ، والاعتِقادِ بأنَّكَ بَطَلٌ، والاعتِقادِ بأنَّكَ قد حَقَّقْتَ شَيئًا، والاعتِقادِ بأنَّكَ تَستحقُّ التَّكريمَ. فنحنُ غَارِقونَ في تَقديمِ الجَوائِزِ على كُلِّ شَيءٍ يَخْطُرُ بالبالِ وَلا يَخطُرُ بالبال. والآباءُ والأُمَّهاتُ مُنهَمِكونَ في تَعزيزِ الأنا لدى أولادِهم بِشَتَّى الطُّرُقِ الَّتي يَتَخَيَّلُها العَقلُ، فَضْلاً عن تَعزيزِ إحساسِهِم بِقيمَتِهم الذَّاتيَّة. فهذا هُوَ جِيلُ مُحِبِّي ذَواتِهم.

وأودُّ أن أُذَكِّرَكُم وحَسْب بِما جاءَ في الرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى تيموثاوسَ والأصحاحِ الثَّالثِ إذْ إنَّ الرَّسولَ بولسَ يُصَنِّفُ "مَحَبَّةَ الذَّاتِ" بأنَّها خَطِيَّة، أو في الحَقيقةِ: خَطِيَّة مُستَفحِلَة. وفي واحِدَةٍ مِنَ اللَّوائِحِ الَّتي يَذْكُرُ فيها الآثامَ (وَهُناكَ العَديدُ مِنها في رَسائِلِهِ)، يَبتدئُ لائحةَ الآثامِ في رِسالتِهِ الثَّانيةِ إلى تيموثاوسَ والأصحاحِ الثَّالثِ بالقول: "مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ" ثُمَّ "مُحِبِّينَ لِلْمَالِ"، ثُمَّ إنَّهُ يُتابِعُ الحَديثَ مُستعرِضًا لائِحَتَهُ. وهذا وَصْفٌ للأشخاصِ المُخادِعينَ وغيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ هُمْ خَارِجَ مَلكوتِ اللهِ، والَّذينَ لا يَعرِفونَ الحَقَّ. فَحُبُّ الذَّاتِ هو في رأسِ اللَّائِحَةِ مِنْ جِهَةِ المَوقِفِ البشريِّ الاعتياديِّ. فالخُطاةُ غَارِقونَ في الكِبرياء. وَهُم غَارِقونَ في أنفُسِهم. وقد جَعَلْنا حُبَّ الذَّاتِ الفَضيلَةَ السَّائِدَةَ والمُهيمِنَةَ في مُجتمَعِنا.

لِذا فإنَّنا هُنا أمامَ إنجيلٍ مُقَدَّمٍ لِجيلٍ مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ يَتَّصِفونَ لا فَقط بأنَّهُم مُتَكَبِّرونَ، بل إنَّهُم جَعَلوا الكِبرياءَ أُمَّ الفَضائِل. وَهُمْ يُحِبُّون ذَواتِهم، ويُحاولونَ أنْ يُشبِعوا كُلَّ نَزْوَةٍ، وكُلَّ رَغْبَةٍ، وكُلَّ طُموحٍ، وكُلَّ حُلُمٍ، وكُلَّ أَمَلٍ. وَهُمْ يُحاولونَ أن يُحَقِّقوا كُلَّ مَا يُفَكِّرونَ فيه، ويُحاولونَ أن يُضْفُوا قيمةً على كُلِّ شَيءٍ يَملِكونَهُ، وعلى كُلِّ شَيءٍ يَقولونَهُ، وعلى كُلِّ شَيءٍ يَفعلونَهُ. ونحنُ نَتَصَدَّى لتلكَ الثَّقافةِ بالإنجيل. وفي صَميمِ الإنجيلِ هذهِ الجُملة الافتتاحِيَّة: "أنتَ تُريدُ أنْ تَتبَعَني. أليسَ كذلك؟ وأنتَ تُريدُ أن تَدخُلَ مَلكوتَ اللهِ، وتُريدُ أنْ تُغفَرَ خَطاياكَ، وتُريدُ السَّماءَ الأبديَّة؟ إذًا، أَنْكِر نَفسَكَ، واحمِل صَليبَكَ، واخضَع لي تَمامًا". وَلا يُمكِنُكَ أنْ تَبلُغَ الجُزءَ المُختصَّ بالطَّاعَةِ ما لم تُنَفِّذ الجُزءَ المُختصَّ بالصَّليب. ولا يُمكِنُكَ أن تُنَفِّذَ ذلكَ ما لم تُنَفِّذ الجُزءَ المُختصَّ بإنكارِ نَفسِك.

وإنْ أردتُ أن أستَخدِمَ عِبارَةً لن تَنْسوها يَومًا، سأستَعيرُ هذهِ العِبارَةَ مِن "مارتن لوثر" (Martin Luther). وقد كانَ مارتن لوثر، كما تَعلمونَ، هو الَّذي ابتدأَ الإصلاحَ البروتستنتيّ. فقد كانَ كَاهِنًا في الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ الرُّومانيَّةِ، ولكنَّهُ فَهِمَ الحَقَّ المُختصَّ بالخلاصِ بالنِّعمةِ مِن خلالِ الإيمانِ وَحدَهُ، وبالمَسيحِ وَحدَهُ بِمَعزِلٍ عنِ الأعمالِ والطُّقوسِ، وهَلُمَّ جَرَّا. لِذا فقد عَقَدَ العَزْمَ على مُواجَهَةِ النِّظامِ الكاثوليكيِّ الرُّومانِيِّ؛ أيِ النِّظامِ الضَّخمُ المُوَحَدُّ القائمُ على الخطأ والتَّضليل. وقدِ انْتَقى خَمسًا وتِسعينَ جُملةً مُختلِفَة، أو خَمسةً وتِسعينَ احتِجاجًا مُختَلِفًا (وهَذا هُوَ سَبَبُ تَسمِيَتِنا بالبروتستنت؛ أيْ: المُحْتَجّون). فقدِ اختارَ خَمسًا وتِسعينَ جُملةً مُختلِفَة تُعارِضُ الكاثوليكيَّة. وقد كَتَبَها وعَلَّقَها على بابِ كنيسةِ "كاسل" (Castle Church) في "وِتنبرع" (Wittenberg).

والاعتِراضُ الرَّابِعُ مِنَ اعتراضاتِه، أوِ البَنْدُ الرَّابِعُ مِن بُنودِهِ الخَمسةِ والتِّسعينَ يَقولُ إنَّ القلبَ التَّائبَ، أوِ القلبَ الَّذي يأتي إلى اللهِ ويَقبَلُ الخَلاصَ ويَتَّسِمُ بالصِّفةِ التَّالية...وهذا هوَ الوَصفُ الَّذي استخدَمَهُ "بُغْضُ الذَّات"..."بُغْضُ الذَّات". وأنا أقتَبِسُ ما جاءَ في اعتراضِ لوثَر الرَّابِع: "لِذا، فإنَّ قَصَاصَ الخَطِيَّةِ يَستمِرُّ في مُلازَمَتِنا مَا دَامَ بُغْضُ الذَّاتِ مُلازِمًا لَنا". فقد قالَ إنَّ بُغْضَ الذَّاتِ هو التَّوبة الدَّاخليَّة الحَقيقيَّة. ويقولُ لوثر إنَّ هذا الأمرَ حَتْمِيٌّ في الإنجيل.

ولأنَّ النِّظامَ الرُّومانِيَّ (على غِرارِ كُلِّ نِظامٍ قائِمٍ على البِرِّ الذَّاتِيِّ والحُصولِ على الخَلاصِ مِن خلالِ الطُّقوسِ والأعمالِ الصَّالِحَةِ) هو نِظامٌ غَارِقٌ في حُبِّ الذَّاتِ، فقد تَصَدَّى لَهُ لوثر وقال: "إلى أنْ يُبغِضَ الخاطِئُ نَفسَهُ لن يَتمكَّنَ مِن دُخولِ مَلكوتِ الله". فمُنذُ وِلادَةِ الحركةِ البروتستنتيَّة، ومُنذُ وِلادةِ الإنجيلِ الَّذي خَرَجَ مِنْ ذلكَ القُمْقُمِ الَّذي بَقِيَ مَحبوسًا فيهِ نَحوَ ألفِ سَنَة بسببِ النِّظامِ الكاثوليكيِّ، مُنذُ خُروجِ الإنجيلِ مِن ذلكَ القُمقُمِ وَهُوَ قَائِمٌ على أساسِ بُغْضِ الخَاطِئِ لِذَاتِه.

فَالخاطِئُ يُبغِضُ نَفسَهُ لأنَّهُ يُدرِكُ أنَّهُ لا يُوجَدُ في جَسَدِهِ شَيءٌ صَالِحٌ، وأنَّهُ لا يُوجَدُ فيهِ شَيءٌ قَيِّمٌ، ولا يُوجَدُ شَيءٌ ذُو قيمَة. فالقلبُ (كَما قالَ إرْميا): "أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ". فَهُوَ شِرِّيرٌ جدًّا. وَكُلُّ جُزءٍ فينا سَقيم (كَما قالَ إشَعْياءُ) مِنْ أعلى الرَّأسِ إلى أَخمَصِ القَدَم. فلا يوجد فينا شَيءٌ صَالِحٌ. ولا يُوجدُ فينا شَيءٌ قَيِّمٌ. ولا يُوجَدُ فينا شَيءٌ ذُو قيمة. ولا يُوجَدُ فينا شَيءٌ يَستحقُّ الإكرامَ أوِ التَّقدير. وهذا يَتطلَّبُ مِنَّا أنْ نَعودَ إلى مَوقِفِ التَّطويباتِ مَرَّةً أخرى، وأنْ نَفهَمَ الفَقْرَ الرُّوحِيَّ، أوِ الإفلاسَ الرُّوحِيَّ، وأنْ تَفهَمَ أنَّكَ لا شَيء، وأنْ تَنظُرَ إلى كُلِّ شَيءٍ فَعَلتَهُ في حَياتِكَ (سَواءٌ كانَ شَيئًا دِينيًّا، أو تَعليميًّا، أو أخلاقيًّا، أو أيَّ شَيءٍ آخَرَ) وأنْ تَقولَ كَما قالَ الرَّسولُ بولُس: "إنَّهُ كُلُّهُ قُمامَة، وكُلُّهُ نُفايَة". ولكِنَّ هَذا الكَلامَ لا يَجِدُ قَبولاً لَدى أصحابِ بِدعَةِ حُبِّ الذَّات.

ولكِنْ بِصراحَة، مِنَ المُستَهْجَنِ جدًّا أنْ نَقولَ إنَّهُ بمقدورِ الإنسانِ أنْ يَقِفَ أمامَ اللهِ القُدُّوسِ، واللهِ البَارِّ، وأنْ يَدخُلَ إلى مُلكوتِهِ مِن دونِ أن يَرغَبَ في التَّحَرُّرِ مِنَ الخطيَّة، ومِن دونِ أن يَرغَبَ في فَهْمِ الخَطيَّةِ كَما يَنبغي أنْ تُفهَمَ؛ أيْ أنَّها سَائِدَة ومُهيمِنَة. فالأشخاصُ الَّذينَ يَأتونَ إلى اللهِ بِشروطِهِ، والأشخاصُ الَّذينَ يَأتونَ إلى اللهِ ويَدخلونَ مَلكوتَهُ هُمُ الأشخاصُ الَّذينَ يُدركونَ تَمامًا خَطيَّتَهُم.

وقد قالَ أيُّوبُ الَّذي يُوْصَفُ بأنَّهُ كانَ رَجُلًا كَامِلاً وَمُسْتَقِيمًا (بِحَسَبِ مَا جَاءَ في الأصحاحِ الأوَّل) قَالَ في الأصحاحِ الثَّاني والأربَعين عَنِ الله: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي". وقد قالَ أيضًا: "أَلومُ نَفسي". وفي اللُّغَةِ العِبريَّةِ: "أنا أُبْغِضُ نَفسي، وَأَحْتَقِرُ نَفسِي وكُلَّ شَيءٍ فِيَّ...كُلَّ شَيءٍ فِيَّ بِمَعزِلٍ عنِ اللهِ، وكُلَّ شَيءٍ فِيَّ يَختَصُّ بطبيَعتي البَشريَّة، وأيَّ شَيءٍ وكُلَّ شَيءٍ فِيَّ مُلَطَّخٌ ومُشَوَّهٌ بالسُّقوطِ والفَسادِ والخَطيَّةِ. فأنا أُبْغِضُ كُلَّ شَيءٍ يَختصُّ بِي".

وعندما كَتَبَ بولسُ إلى تيموثاوُسَ قالَ في رِسالَتِهِ الأولى إلى تيموثاوُس 1: 15: "صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا". فلم يَكُن هُناكَ شَيءٌ في بُولُس جَديرٌ بأنْ يَمْتَدِحَ بولُسُ بولُسَ. لِذا، لم يَكُن يُوجَدُ في بولُس أيُّ شَيءٍ جَديرٌ بِمَدْحِ الآخَرينَ لَهُ.

ولكِنَّ النَّاسَ اليَومَ يَفتَخِرونَ جدًّا بِمِقدارِ رَوعَتِهم، وبِصَلاحِهم، وبإنجازاتِهِم، وبأنَّهُم مُحبوبونَ جِدًّا، وبأنَّهُم نَاجِحونَ جدًّا، وبأنَّهُم قَيِّمونَ جِدًّا. ولكِنَّ إشَعْياءَ قالَ عندما رَأى اللهَ: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، فأنا إِنْسَانٌ بَغيضٌ في نَظَرِ نَفسي، وَصُورَتي عَن نَفسي مُهَلْهَلَة. وأنا في حَالٍ يُرْثَى لَها" لأنَّهُ كانَ يَرى نَفسَهُ في حَضْرَةِ اللهِ خَاطِئًا بَائِسًا. وقد أعلَنَ الدَّينونَةَ على نَفسِهِ لأنَّهُ قالَ إنَّهُ إنسانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْن. فهذا هو ما كانَ يَتحدَّثُ عنهُ. وهذا هُوَ إنكارُ الذَّات.

فهو لا يَعني أن أقول: "سوفَ أبيعُ مَنزِلي وأُعطي كُلَّ أموالي [بالضَّرورة] للفُقراء". وَهُوَ لا يَعني أن أقول: "سوفَ أعيشُ في فَقْرٍ وبُؤس". فَهُوَ لا يَعني ذلك. وَهُوَ لا يَعني أن أقولَ: "سوفَ أُنكِرُ على نَفسي كُلَّ حُقوقي مِنْ جِهَةِ المُمتلكاتِ الماديَّةِ، أوْ كُلَّ حُقوقي في العَمَل، أو مَا شَابَهَ ذلك"، بل يَعني أن أقول: "أنا أُنكِرُ أنَّهُ يُوجَدُ فِيَّ أيُّ شَيءٍ قَيِّم، أو أيُّ شَيءٍ مُعْتَبَر، أو أيُّ شَيءٍ صَالِح، أو أيُّ شَيءٍ يَستحِقُّ أن يُمنَحَ أيَّ مُكافأة، أو أيُّ شَيءٍ يَستحقُّ أن يُحْتَفَى بِهِ كما لو كانَ قُدوةً، أو أيُّ شَيءٍ يَستحِقُّ أنْ يُمْدَح". فهو هذا الشُّعورُ الغَامِرُ بأنَّكَ غَارِقٌ تَمامًا في خَطاياك.

وقد قالَ بُطرُسُ عندما وَجَدَ نَفسَهُ أيضًا في حَضرَةِ اللهِ المَاثِلَةِ في المَسيح: "اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَا رَبُّ، لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ!" فعندما أَدركَ حَقيقةَ أنَّ يَسوعَ هُوَ اللهُ لأنَّهُ كانَ يُمارِسُ سُلطانَهُ على السَّمَكِ في ذلكَ اليوم في إنجيل لوقا والأصحاحِ الخامِسِ، لم يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلٍ شَيءٍ آخَرَ سِوى أنْ يَمْقُتَ نَفسَهُ. فقد قال: "اخرُج مِن هُنا. فلا يَنبغي حَتَّى أنْ تُوْجَدَ في نَفسِ المَكانِ مَعي. ولا يَنبغي حَتَّى أنْ تَقتَرِبَ مِنِّي". وَهُوَ نَفسُ المَوقِفِ المَذكور في لوقا 18 بخصوصِ العَشَّارِ الَّذي طَأطَأَ رَأسَهُ لا يَشاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ لأنَّهُ لا يَعتَقِدُ أنَّهُ يَستَحِقُّ حَتَّى أنْ يَنظُرَ إلى أعلى لِئَلَّا يَنظُرَ اللهُ إلى وَجْهِ شَخصٍ بَائِسٍ مِثلهُ، ثُمَّ إنَّهُ قَال: "اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ". وَقد قَرَعَ عَلى صَدرِهِ، ولكنَّهُ لم يَرْفَع عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاء. فَهُوَ لا يُريدُ أنْ يَنظُرَ مُباشَرَةً إلى الله. فَهُوَ يَشعُرُ بعدمِ الاستِحقاقِ إلى هذا الحَدّ.

وعندما تَصيرُ مَسيحيًّا فإنَّ ذلكَ لا يَعني أنَّكَ تُدرِكُ فَجأةً ما يُمكِنُكَ أنْ تُقَدِّمَهُ إلى الله. فهُناكَ أمثِلَة أخرى كثيرة في الكتابِ المقدَّسِ عن رِجالٍ ونِساءٍ شَعروا عندما عَايَنوا اللهَ...شَعروا حَرفيًّا بالانسِحاقِ تَحتَ وَطْأةِ شُعورِهِم بانعِدامِ قيمَتِهم وبخطيَّتِهم. وبصراحَة، هذا الأمرُ غَريبٌ جدًّا عنِ الثَّقافةِ الَّتي نَعيشُ فيها. وَهُوَ غَريبٌ عنِ الثَّقافَةِ القائمةِ على مَحبَّةِ الذَّاتِ ومَشروعيَّةِ تَحقيقِ كُلِّ رَغبة أو نَزوة. فيُمكِنُكَ أنْ تَحصُلَ على أيِّ شَيءٍ وكُلِّ شَيءٍ تَرغَبُ فيه. ويُمكِنُكَ أنْ تَكونَ أيَّ شَيءٍ تَرغَبُ فيه. ويُمكِنُكَ أنْ تَحلُمَ بأيِّ حُلْمٍ وأنْ تَعيشَ حُلُمَك. فالهَدَفُ الأسمَى للحَياةِ هُوَ أنْ تَتَمَنَّى أيَّ شَيءٍ وتَراهُ يَتحقَّق، وأنْ تُصِرَّ على حُقوقِك، وأنْ تُصِرَّ على امتيازاتِك، وأنْ تُصِرَّ على احتِرامِ الآخرينَ لَك، وأنْ تُصِرَّ على مُكافأتِكَ وتَكريمِكَ وتَشجيعِك.

ولكِنَّ الأشخاصَ الَّذينَ يَدخُلونَ مَلكوتَ اللهِ لا يُصِرُّونَ على أيٍّ مِن هذهِ الأشياء. فَهُم يَشعرونَ أنَّهُم لا يَستحقُّونَ أيًّا مِن هذهِ الأشياء. فالأشخاصُ الَّذينَ يَدخُلونَ مَلكوتَ اللهِ يَكرَهونَ حَرفيًّا طَبيعَتَهُم البَشريَّة. فأنا أكرَهُ طَبيعَتي البشريَّة...أَكرَهُ طَبيعَتي البَشريَّة. وأنا أكرَهُ طبيعَتي البَشريَّة لأنَّ كُلَّ ما فِيَّ هُوَ الخَطِيَّة.

وهذا الشُّعورُ يُنشِئُ تَوبَةً. وَهُوَ يُنشِئُ رُجوعًا، وَتَوْقَا إلى النَّجاةِ والإنقاذِ مِنَ الحَالَةِ الَّتي أنتَ فيها، وإلى أنْ تَصيرَ مُختَلِفًا عَمَّا أنتَ عليهِ الآن، أوْ أنْ تَصيرَ كَما تَتَمَنَّى أنْ تَكون؛ أيْ أن تَكونَ إنسانًا صَالِحًا، ومُستَحِقًّا، وقَيِّمًا، وبَارًّا، ومُفيدًا. ففي إنجيل لُوقا 5: 32 قَالَ يَسوع: "لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَة". فلا يُمكِنُني أن أُساعِدَ الأشخاصَ الَّذينَ يَظُنُّونَ أنفُسَهُم أبرارًا. ولا يُمكِنُني أن أُساعِدَ الأشخاصَ المُعْجَبينَ بأنفُسِهم، أوِ المُعجَبينَ بديانَتِهم، أوِ المُعجَبينَ بأخلاقِهم، أوِ المُعجَبينَ بِغِناهُم، أوِ المُعجَبينَ بتَعليمِهم أو إنجازاتِهم. لا يُمكِنُني أن أُساعِدَ هَؤلاءِ النَّاس. فأنا لم آتِ لأجلِهم. وَهُمْ لا يَسمَعونَ رِسالَتي.

وفي إنجيل لوقا 13: 3، يُخبِرُنا يَسوعُ عن أهميَّةِ هذهِ التَّوبةِ إذْ نَقرأُ في العددِ الثَّالث: "كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ". وَهُوَ يَتحدَّثُ عنِ المَوتِ وَجَهَنَّم. وَهُوَ يُكَرِّرُ ذلكَ في العَددِ الخامِس: "كَلاَّ! أَقُولُ لَكُمْ: بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ". فَهُوَ يَقولُ لَنا مَرَّتَيْنِ إنَّنا سَنَموتُ وَنَهلِكُ إنْ لم نَتُب. والأشخاصُ الوَحيدونَ الَّذينَ يَتوبونَ هُمُ الخُطاةُ الَّذينَ يُدرِكونَ بُؤسَهُم. لِذا فإنَّ عَمَلَ الرُّوحِ القُدُسِ هو أنْ يُبَكِّتَ على خَطيَّة.

لِذا فإنَّ ما يَعنيه يَسوعُ هُنا هو: إنْ أردتَ أن تَدخُلَ مَلكوتي، وإن أردتَ أن تَتبَعَني، وإنْ أردتَ أن تُغفَرَ خَطاياكَ، وإن أردتَ الحَياةَ الأبديَّةَ، يجبُ عليكَ أن تَبتدئَ في كُرْهِ كُلِّ شَيءٍ يَفصِلُكَ عَنِّي، وأنْ تُدرِكَ أنَّ كُلَّ صَلاحٍ فيكَ هُوَ كَثَوْبٍ قَذِر، وأنْ تُبغِضَ كُلَّ شَيءٍ يَخُصُّكَ. وبعدَ أنْ أعَدْتَ تَعريفَ كُلّ ما تَمْلِكُهُ، أو كُلّ ما كَسِبْتَهُ، أو كُلَّ أعمالِكَ المَزعومَةِ بأنَّها بُؤسٌ، وبعدَ أنْ رأيتَ أنَّكَ لا تَستَحِقُّ شَيئًا، فإنَّكَ في المَوضِعِ المُناسِبِ تَمامًا لِطَلبِ العَون، وطَلَبِ الرَّحمةِ والنِّعمَة. لِذا فإنَّ الرِّسالةِ الحَقيقيَّةَ للإنجيلِ تَقولُ إنَّهُ يجبُ عليكَ أنْ تَبتَدِئَ في كُرْهِ كُلَّ شَيءٍ يَختَصُّ بِك. وهذهِ الرِّسالة لا تَحْظى بالقَبولِ في مُجتَمَعِنا.

ومَتى تَسمَعونَ وَاعِظًا يَعِظُ هَكذا؟ فَهِيَ ليسَت دَعوة وُدِّيَّةً. وهي لا تُخاطِبُ الثَّقافَةَ السَّائدةَ بِالمُستوى الَّذي يَليقُ بِها. وهذا نَوعٌ جَديدٌ مِنَ الذَّرائِعيَّة. جَرِّبوا ذلكَ في الكنائسِ الَّتي يَشعُرُ فيها غيرُ المُؤمِنينَ بالارتياح. مَتى كانت آخِرَ مَرَّة سَمِعتَ فيها شخصًا يَعِظُ قائلاً إنَّهُ يجبُ عليكَ أن تَكرَهَ نَفسَكَ، وأنْ تُبغِضَ نَفسَكَ، وأنْ تَزْدَري بنفسِكَ، وأنْ تَحتَقِرَ نَفسَكَ، وأن تُدرِكَ أنَّكَ لا تَستَحِقُّ شَيئًا؟ أيْ أنَّهُ لا يُوجَدُ شَيءٌ فيكَ...لا في ذِهنِكَ، ولا في عَواطِفِكَ، ولا في إرادَتِكَ، وأنَّهُ لا يُوجَدُ شَيءٌ في إنجازاتِكَ جَيِّدٌ حَقًّا، وأنَّهُ لا يُوجَدُ شَيءٌ يَستحِقُّ التَّكريمَ، ولا يُوجَدُ شَيءٌ يَستحقُّ أنْ يُعَد قُدوَةً...لا شَيء. ففي أفضلِ الأحوالِ فإنَّ أيَّ صَلاحٍ في الإنسانِ بِدونِ قُوَّةِ اللهِ وَمَجْدِ اللهِ هُوَ صَلاحٌ رَديء.

وقد كانَ يَسوعُ يَدعو الخُطاةَ دَائِمًا إلى بُغْضِ ذَواتِهم. والرِّسالةُ الَّتي يُنادَى بها اليومُ في الكنيسةِ هي (وقد سَمِعْتُ هَذا الكَلامَ مَرَّةً أخرى يومَ السَّبت عندما كُنتُ أُشاهِدُ مُبَشِّرًا على التِّلِفزيون): "هل تَشعُرُ بأنَّكَ لم تُحَقِّق ذاتَكَ؟ وهل تَشعُرُ أنَّ أحلامَكَ لم تَتحقَّق؟ وهل تَشعُرُ بالخَواءِ في قَلبِك؟ تَعالَ إلى يَسوعَ وَهُوَ سَيَملأُ قَلبَكَ، ويُحَقِّقُ أحلامَك"، إلَخ، إلَخ، إلَخ. وقد كانَ الكَلامُ كُلُّهُ عن حُصولِكَ على ما تُريد مِن يَسوع. ولكِنَّ هذا ليسَ الإنجيل.

ففي إنجيل لُوقا 24: 47 قالَ يَسوع: "عندما تَذهبونَ للكِرازَةِ، إليكُم المَوضوع: أَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيم". وهل تَعلمونَ مَا قَصَدَهُ؟ لا تَبتَدِئوا بعدَ أن تَخرُجوا مِنَ البَلدَة، بلِ ابتدِئوا مِن هُنا. فأنتُم لا تَحمِلونَ رِسالَةً إلى أورُشَليمَ ورِسالَةً أخرى للأماكِنِ الأخرى. ابتَدِئوا مِن هُنا، وابتَدِئوا الآنَ مِن هُنا (أيْ مِنْ أورُشَليم) بالرَّغمِ مِن أنَّ الرِّسالةَ لن تَحْظَى بالشَّعبيَّة. فَيجبُ عليكم أن تَبتَدِئوا مِن هُنا. وَمِنْ هُنا تَنطَلِقونَ إلى كُلِّ العَالَمِ وتَذهبونَ إلى كُلِّ أُمَّةٍ على الأرض وتَفعلونَ الشَّيءَ نَفسَهُ إذْ تَكرِزونَ أنَّهُ باسمِ يَسوعَ سَتُغفَرُ خَطايا النَّاسِ إنْ تَابوا...إنْ تَابوا.

والتَّوبَةُ تَنْجُمُ عنْ بُغْضِ الذَّات. فهي نِتاجُ ذلكَ المَوقِفِ المَذكورِ في التَّطويبات. فالنَّاسُ يَتوبونَ عندما يَنظُرونَ إلى أنفُسِهم ويَشعُرونَ بالخَجَلِ مِمَّا يُشاهِدونَهُ، وعندما يَنظرونَ إلى أنفُسِهم ويَشعرونَ بانكِسارِ القَلبِ لِما يُشاهِدونَهُ. فهي إعادَةُ تَوجيهٍ لِكُلِّ تَقييمِهم لِذاتِهم إذْ يَقولونَ: "أنا لا شَيء. بل أنا أقَلُّ مِن لا شَيء. أنا خَاطِئ. وأنا بَائِس. وأنا شِرِّيرٌ في أعماقي".

وبالمُناسَبَة، إنَّ التَّوبةَ ليسَت عَملاً بَشريًّا (كما قُلتُ في المَرَّةِ السَّابقة). فهي ليست عَملاً بَشريًّا. وهي ليست شَيئًا يَفعَلُهُ خَاطِئٌ مَيِّتٌ وأَعمى وأَصَمُّ ومُتَحَجِّرُ القَلبِ مِن تِلقاءِ نَفسِه. فالطَّريقةُ الوحيدةُ الَّتي قد يُدرِكُ فيها الخَاطِئُ ذلكَ هي عندما يَسمَعُ كلمةَ اللهِ وَرُوحَ اللهِ؛ أيْ عندما يأخُذُ رُوحُ اللهِ كلمةَ اللهِ ويَجعَلُ الخَاطِئَ يُدرِك حَالَتَهُ الحَقيقيَّة. ولكِن كيفَ يُمكِنُ للرُّوحِ القُدُسِ أنْ يَجعَلَ الخَاطِئَ يُدرِكُ حَالَتَهُ الحَقيقيَّةَ ما لم يُكْرَز بالحَقِّ؟ فهذا هو ما تَقولُهُ رِسالَةُ رُومية: "وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟" فيجب أن يَقولَ أحدٌ ذلك. والدَّعوةُ إلى التَّوبةِ ليست وَصِيَّةً لِتَقويمِ حَياتِكَ قبلَ أن تَأتي إلى المَسيح، بل إنَّها تُغَيِّرُ نَظرَتَكَ تَمامًا إلى نَفسِكَ وتَشمَلُ كُلَّ جُزءٍ مِن كِيانِك.

وهُناكَ ثَلاثُ كَلماتٍ يُونانيَّةٍ تُستَخدَمُ في العهدِ الجديدِ للإشارةِ إلى التَّوبة. وهي تُوَضِّحُ العَناصِرَ الثَّلاثَةَ للتَّوبة. فهُناكَ الكلمة "ميتانيئيئو" (metanoeo)؛ وهي تُستخدَمُ في مَواضِع عَديدة. فهي تُستَخدَمُ في إنجيل لوقا 11: 32، وإنجيل لوقا 15: 7 و 10. والكلمة "ميتانيئيئو" تُشيرُ بِصورة رَئيسيَّة إلى تَغييرِ طَريقةِ تَفكيرِك أو مَوقِفَكِ الذِّهنيَّ، أو تُغَيِّرُ فِكرَكَ. لِذا فإنَّ التَّوبةَ تَختصُّ بالذِّهن. فيجبُ عليكَ أن تُغَيِّرَ فِكرَكَ بخصوصِ نَظرَتِكَ إلى نَفسِك كي تَرى نَفسَكَ على حَقيقَتِها، وكي تَرى نَفسَكَ كَما يَصِفُكُ الكتاب المقدَّس، وكي تَرى نَفسَكَ كَما يَراكَ اللهُ، وكي تَرى نَفسَكَ إنسانًا سَاقِطًا، وبَائِسًا، وفاسِدًا مِن أعلى هَامَتِكَ إلى أخمَصِ قَدَمَيك.

والكلمةُ الثَّانيةُ المُستخدَمَةُ هي "ميتاميلوماي" (metamelomai)، وهي كلمة يُونانيَّة أخرى تَعني "تَوبَة". وهي تُستخدَمُ في إنجيل مَتَّى 21: 29-32؛ وهي تُرَكِّزُ فقط على النَّدَمِ والحُزن. فَما إنْ يُدرِكَ الذِّهنُ التَّعريفَ الحَقيقيَّ لي، هُناكَ شَيءٌ آخَرُ يَنتَقِلُ مِنَ الذِّهنِ إلى المَشاعِر. وحينئذٍ تَبتدِئُ المَشاعِر في العَمل فَيَشعُرُ المَرءُ بالحُزنِ، ويَشعُرُ بالخَجَل. فهذا هو مَعنى الكلمة "ميتاميلوماي".

وهُناكَ كلمة ثالِثَة وهي "إبيستريفوماي" (epistrephomai)؛ وهي أيضًا كلمة تَعني: "تَوبَة". وهي تُستخدَمُ في إنجيل لوقا 17: 4، وإنجيل لوقا 22: 32. وهي تَعني في الحَقيقة أنْ تُغَيِّرَ اتِّجاهَكَ في الحَياة. وهي تُشيرُ إلى إرادَتِك. لِذا فإنَّ التَّوبَةَ تَبتَدِئُ في ذِهنِكَ، وتَنتَقِلُ إلى عَواطِفِكَ، وتُعْمِلُ إرادَتَكَ.

وهذهِ هي العَناصِرُ الثَّلاثةُ المُختصَّةُ بالتَّوبة. فأنتَ تُغَيِّرُ نَظرَتَكَ إلى نَفسِك، وتَشعُرُ بالنَّدَمِ والحُزنِ على ذلك. لِذا فإنَّكَ تَدُورُ وتَسيرُ في الاتِّجاهِ المُعاكِس. وهذا يَضَعُكَ في مُواجَهَةٍ مَعَ الله. وحينئذٍ ستكونُ مِثلَ العَشَّارِ المَذكورِ في إنجيل لوقا والأصحاح 18. فسوفَ تَقول: "يا رَبُّ، يا رَبُّ، إنَّ عَقلي يَفهَمُ بُؤسي، وعَواطِفي تَشعُرُ بذلكَ حَتَّى إنِّي لا أستطيعُ أن أرفَعَ عَينيَّ، وأنا أقرَعُ على صَدري. وهَا هِيَ إرادَتي تَتَدَخَّلُ فأصْرُخُ إليكَ قائِلًا: ’اللَّهُمَّ ارْحَمْني أنا الخَاطِئ".

لِذا مِن جِهَةٍ فِكريَّة، التَّوبةُ تَبتدِئُ بالاعتِرافِ بالخطيَّة، وَبِفَهْمِ عَرْضِ وعُمْقِ تلكَ الخَطيَّة. ثُمَّ إنَّها تَنتَقِلُ إلى العَاطِفَةِ الَّتي تَجعَلُنا نَشعُرُ بشُعورٍ غَامِرٍ بالحُزنِ والانكِسارِ والنَّدَم. وهو الحُزْنُ الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ بولُس والَّذي يَقودُ إلى التَّوبة. ثُمَّ إنَّ الإرادَةَ تَعمَلُ على تَغييرِ الاتِّجاهِ بَعيدًا عنِ الخطيَّة نَحْوَ اللهِ، ونَحوَ المَسيحِ إذْ نَصرُخُ طَلَبًا للرَّحمَة. فهي ليست فقط تَغييرًا في الفِكر، بل هي تَغييرٌ في الفِكرِ والعَاطِفَةِ والإرادَة.

وقد كَتَبَ "ديفيد مارتن لويد-جونز" (David Martyn Lloyd-Jones): "التَّوبةُ تَعني أنَّكَ تُدركُ أنَّكَ مُذنِبٌ، وأنَّكَ خَاطِئٌ شِرِّير في حَضرَةِ اللهِ، وأنَّكَ تَستحِقُ غَضَبَ اللهِ ودَينونَته، وأنَّكَ سَتَذهَبُ إلى جَهَنَّم. وهي تَعني أنَّكَ تَبتَدِئُ في إدراكِ أنَّ هذا الشَّيءَ الَّذي يُدَعى ’خَطِيَّة‘ مَوجودٌ فيكَ، وأنَّكَ تَتوقُ إلى التَّخَلُّصِ مِنها حَتَّى إنَّكَ تُديرُ ظَهرَكَ لَها بِكُلِّ الأشكالِ والصُّوَر. وأنتَ تُنْكِرُ العَالَمَ أيًّا كانتِ النَّفَقَة؛ العَالَمَ وَفِكرَهُ وَشَكلَهُ، وأيضًا مُمارَساتِه. وأنتَ تُنكِرُ نَفسَكَ. وأنتَ تَحمِلُ صَليبَكَ. وأنتَ تَمضي وَراءَ المَسيح. وقد يَدعوكَ أقرَبُ الأشخاصِ وأعَزُّهُم إلى قَلبِكَ في العَالَمِ كُلِّه أحمَقَ، أو يَقولونَ أنَّكَ مَهْوُوسٌ بالدِّيْن. وقد تُعاني مَاديًّا. ولكِنَّكَ لا تُبالي بذلك. هذه هي التَّوبة" [نِهايةُ الاقتباس].

لِذا فقد قالَ يَسوعُ: "يَجِبُ عليكَ أنْ تُبغِضَ أُمَّكَ، وأنْ تُبغِضَ أباكَ وأخوكَ وأُختَكَ، وأنْ تَتْبَعَني". فهذهِ هِيَ عَلامَةُ كُلِّ مُؤمِنٍ حَقيقيٍّ.

والآن، لماذا أقولُ هذا الكَلامَ عنِ التَّوبةِ اليوم؟ ولماذا أقولُ كُلَّ هَذا الكَلامِ عنْ هذهِ الآية؟ لأنَّ هُناكَ مَعاني كَثيرة مُتَضَمَّنَة هُنا حَتَّى إنِّي أريدُ مِنكُم أن تَفهَموا الحَقيقةَ المُهِمَّةَ هُنا. فَلْنَعُد إلى العَدد 23. فهذا هو تَمامًا مَا يَتحدَّثُ عنهُ العَدد 23. فهو يَتحدَّثُ عن هذا النَّوعِ مِن تَقييمِ الذَّاتِ الَّذي يَقودُ إلى التَّوبة. فأنتَ تُريدُ أن تَأتي وَراءَ المَسيح. وأنتَ تُريدُ أن تُغَيِّرَ الاتِّجاهَ الَّذي تَسيرُ فيه وأنْ تَتبَعَهُ. وهذا هُوَ تَغييرُ الاتِّجاه. وهذهِ هي التَّوبة. وهذهِ هي الإرادَة. وهذهِ هي المَشيئَة.

والأمرُ يَبتدئُ بتَقييمِ الذَّاتِ فَتَرى نَفسَكَ بطريقةٍ مُختلفةٍ جَذريًّا عنِ الطَّريقةِ الَّتي كُنتَ تَنظُرُ بها دائمًا إلى نَفسِك. فيجبُ عليكَ أن تُبغِضَ نَفسَكَ. يجبُ عليكَ أن تُبغِضَ نَفسَكَ إلى الحَدِّ الَّذي تَكونُ فيهِ مُستعِدًّا حَرفيًّا للموتِ إنِ اقتَضى الأمرُ ذلك. وهذهِ نَتيجة طَبيعيَّة. فإنْ رأيتُ نَفسي على حَقيقَتِها، لِماذا أريدُ أن أَتَظاهَرَ بأنَّ حَياتي شَيءٌ عَظيم؟ فإنْ كُنتُ أرى نَفسي على حَقيقَتِها، وأردتُ أن أكونَ شَيئًا مُختلفًا تَمامًا عَنِّي، فإنَّ الموتَ سيكونُ شَيئًا جَذَّابًا بالنِّسبةِ إليَّ.

فأنا لن أكونَ الإنسانَ الَّذي ينبغي أن أكون في هذا العَالَم. فأنا لن أكونَ الإنسانَ الَّذي ينبغي أن أكون إلَّا إنْ مُتُّ. أليسَ كذلك؟ فلا أحَدَ مِنَّا يَرغَبُ في ذلك. فأنا أُريدُ أن تُغفَرَ خَطاياي. وأنا أُريدُ البِرَّ في حَياتي. وأنا أُريدُ مِلْءَ بَرَكَةِ الله. وعندما آتي إلى المَسيح، أريدُ أنْ تَخرُجَ الخَطِيَّةُ مِنَ الصُّورة. فقد مَلَلْتُ مِنْ خَطيَّتي. وقد مَلَلْتُ مِن نَفسي. وقد مَلَلْتُ وَتَعِبْتُ مِن نَفسي. وأنا أريدُ أن أتخَلَّصَ مِن كُلِّ ذلك، وأريدُ أن آتي إلى المَسيح، وأريدُ أن أسيرَ في طَريقٍ آخَر، وأريدُ أن أكونَ شَخصًا مُختلِفًا. ولا يُمكِنُني أن أُحَقِّقَ كُلَّ هذهِ الأشواقِ والرَّغْباتِ إلَّا بعدَ مَوتي.

لِذا، كَما هي حَالُ بُولُس، فإنَّ حَياتي ليست ثَمِينَةً عِنْدِي. فهُناكَ هذا الشَّوْقُ لَدَيَّ في أن أكونَ ما أُريدُ أن أكونَ في المَسيح، وما أَتوقُ إليهِ في المَسيح، وما أرغَبُ فيهِ في المَسيح. وهُناكَ جُوعٌ وعَطَشٌ إلى البِرِّ في أعماقي. وأنا أريدُ أن أتخلَّصَ مِنَ الخَطيَّة، وأريدُ أن أكونَ في مَوقِفٍ لا تُوجَدُ خَطِيَّةٌ فيه. لِذا فإنِّي أُرَحِّبُ بالموت. لِذا فإنَّ بولسَ يَقول: "وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ". فَهُوَ رِبْحٌ. فأنا لن أكونَ ما أُريدُ أن أكونَ وما يُريدُ مِنِّي اللهُ أن أكونَ إلَّا إذا مَضَيْتُ مِنْ هذهِ الحَياة.

لِذا فإنَّها ليست قَفْزَةً كَبيرةً إنْ أنكَرْتُ نَفسي وأَبْدَيْتُ استعدادي للمَوت. لِذا فإنَّ حَمْلَ الصَّليبِ يَعني ببساطَة: الاستعدادَ للموت. فقد كانتِ الصُّلبانُ أدواتٍ لإعدامِ النَّاس. ويَسوعُ يَقولُ هُنا إنَّ إنكارَ الذَّاتِ يَعني أنَّكَ قد تَعِبْتَ مِن نَفسِكَ جِدًّا حَتَّى إنَّكَ مُستعِدٌّ حَتَّى للموت. والآن، إنْ أردتَ أنْ تَتبَعَني، وإنْ أردتَ أنْ تَأتي وَرائي، يجبُ عليكَ أنْ تَشعُرَ بهذا: فيجبُ عليكَ أن تَفهَمَ حَالَتَكَ الحَقيقيَّة، ويجبُ أن تَتَأثَّرَ عَاطِفِيًّا بهذهِ الحَالَةِ فَتَشعُرُ بالحُزنِ والعَارِ إلى الحَدِّ الَّذي تَتُوقُ فيهِ إلى إنكارِ نَفسِكَ، وإلى المِضِيِّ قُدُمًا أيًّا كانَتِ النَّفَقة. فسوفَ تَتبَعُ المَسيحَ حَتَّى لوِ اقتَضى الأمرُ مَوتَكَ. هذهِ هي التَّوبة. فهذا هو مَعناها. فهي تَعني أنْ تُبغِضَ نَفسَكَ وأنْ تُنكِرَ نَفسَك.

وكما تَعلمونَ، مَا تَزالُ هُناكَ حَتَّى هذهِ اللَّحظة بَقايا أو مُخَلَّفاتٌ مِنْ عَدَمِ ثِقَتي بِطَبيعَتي، بَلْ وَحَتَّى بُغْضٌ لِذاتي. فقد قالَ لي أحدُ الأشخاصِ في أثناءِ حَديثي أمامَ الطَّلَبة...فقد كُنتُ أتحدَّثُ أمامَ الطَّلبةِ في الأسبوعينِ المَاضِيَيْنِ كَثيرًا. وبينَما كُنتُ أتحدَّثُ إليهم، قالَ لي أحَدُهُم: "أُريدُ وَحَسْب أنْ يَستخدِمَني الرَّبُّ. وَأريدُ وَحَسْب أنْ أكونَ نَافِعًا للرَّبّ. فأنا أريدُ أنْ أكونَ نَافِعًا للرَّبّ". وكانَ رَدِّي هُوَ: "يجب أن تَعلمَ أنِّي لا أُفَكِّرُ هكَذا لأنِّي لا أَملِكُ أيَّ شَيءٍ أُقَدِّمُهُ للرَّبّ. لِذا فإنَّني لا أُصَلِّي قائِلاً: ’يا رَبُّ، أريدُ أن أكونَ نَافِعًا لَكَ‘، بل إنَّ صَلاتي هي: ’يا رَبُّ، ما أرجوهُ هو أن تَستَخدِمَني أنتَ بِطريقةٍ مَا‘". فأنا أرجو ذلك. فأنا لا أُريدُ أن أفعلَ شَيئًا لأجلِ الرَّبِّ، بل إنِّي أرجو فقط أن يَفعَلَ الرَّبُّ شَيئًا مِن خِلالي.

وهل تَعلَمونَ الفَرقَ؟ أنا لا أُقَدِّمُ ذاتي قائِلاً: "يا رَبُّ، سوفَ أُقَدِّمُ لكَ حَياتي كي أفعلَ شَيئًا لأجلِكَ". دَعْكُمْ مِن هذا. فأنا لستُ آلَةً تَعمَلُ مِن تِلقاءِ ذَاتِها، بل أنا مُجَرَّدُ أداة. فيجبُ على شخصٍ ما أنْ يُمسِكَني. والشَّخصُ الَّذي يَنبغي أنْ يُمسِكَني هُوَ الله. ولكِنْ إنْ كُنتُ أداةً يُمكِنُكَ أنْ تَستخدِمَها فَيَكفيني أنَّكَ تَرْتَضي أنْ تَستخدِمَ إناءً غيرَ مُستَحِقٍّ مِثلي، إناءً خَزَفِيًّا كَهذا (كَما قالَ بولسُ)، أوْ وِعاءَ قُمامَةٍ مِثلي (كَما يَصِفُنا بولسُ في رِسالةِ كورِنثوسَ الثَّانية). فَهَذِهِ نِعمَة كَبيرة. إنَّها نِعمَة كَبيرة.

فلا يُوجَدُ فِيَّ أيُّ شَيءٍ صَالِح. ولا يُوجَدُ فِيَّ شَيءٌ نَافِع. لِذا عندما أَبلُغُ نُقطةً أريدُ فيها أن أَخلُصَ مِمَّا أنا فيه، وأبلُغُ نُقطَةً أُبغِضُ فيها ذاتي، وأصرُخُ إلى اللهِ قائلاً: "يا رَبُّ، لن أَضَعَ أيَّ حُدود". ولن أقولَ: "حسنًا يا رَبّ، يُمكِنُكَ أنْ تَمضي إلى هَذا الحَدِّ فقط. ويُمكِنُكَ فقط أنْ تَحصُلَ على كَذا وَكَذا". فأنا أترُكُ كُلَّ شَيءٍ لأنَّهُ لا يوجدُ أيُّ شَيءٍ أتَمَسَّكُ فيه. ولا يُوجَدُ أيُّ شَيءٍ لَهُ قيمة.

وهذا أمرٌ وَثيقُ الصِّلَةِ بالإيمانِ المُخَلِّص. أعمال 20: 21: "بِالتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ وَالإِيمَانِ الَّذِي بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح" كي يَكونَ الخَلاصُ مُتاحًا للأشخاصِ الَّذينَ يُريدونَ أن يَتبَعوا المَسيح. والسَّببُ في أنَّهُم يُريدونَ أن يَتْبَعوا المَسيحَ هو أنَّهُم يُؤمِنونَ بِه. ولكِنَّ الإيمانَ المُخَلِّصُ هُوَ إيمانٌ يَتَّسِمُ بالتَّوبة.

وعندما كانَ يَسوعُ يَكرِزُ، كانَ يَهدِفُ إلى جَلْبِ الخُطاةِ إلى هذهِ النُّقطة. والنَّاسُ الَّذينَ قَاوَموا الرِّسالةِ أكثرَ مِن غَيرِهم هُمُ الأشخاصُ الَّذينَ كانوا يَشعُرونَ بِمَشاعِرَ طَيِّبة جِدًّا تُجاهَ أنفُسِهم. أليسَ كذلك؟ أليسَ هذا صَحيحًا؟ وَمَنْ هُمُ الأشخاصُ الَّذينَ كانوا يَشعرونَ بمشاعِر طَيِّبة جدًّا تُجاهَ أنفُسِهم؟ اليَهودُ المُتَدَيِّنون، والفَرِّيسيُّونَ، والكَتَبة، ورَئيسُ الكَهَنة، والنُّخبةُ الدِّينيَّة، والمُؤسَّسة الدينيَّة. ففي أذهانِهم، كانوا أشخاصًا مُمَيَّزينَ جدًّا جدًّا. وكانُوا أحرارًا. فَهُمْ لم يَكونوا مُستعَبدينَ يَومًا لإنسان (كَما قالوا). وقد كانوا مُبْصِرينَ في نَظَرِ أنفُسِهم. وكانَ بمقدورِهم أنْ يَرَوْا الأشياءَ الصَّحيحةَ والرُّوحيَّة. وكانُوا يَتمتَّعونَ بالصِّحَّة. وكانوا أبرارًا. وكانُوا صَالِحين.

ومِنَ المُؤكَّدِ أنَّ يَسوعَ نَقَضَ ذلك. فقد قالَ لَهُم إنَّهُم عُميانٌ. وقد قالَ لَهُم إنَّهُم فَاسِدون. وقد قالَ لَهُم إنَّهُم يُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مُنْتِنَة ومَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ؛ أيْ جُثَثًا. فقد هَاجَمَ بِرَّهُم الذَّاتِيَّ. ويجب عليكم أن تَفعلوا ذلكَ لأنَّ هذهِ هي الخَطيَّة السَّائدة الَّتي تَدينُنا. وقد سَعَى يَسوعُ دَائِمًا إلى جَلبِ الخُطاةِ إلى تلكَ النُّقطةِ مِنْ بُغْضِ الذَّاتِ، وإلى النُّقطةِ الَّتي تَقولُ فيها كَما قالَ أيُّوب: "أنا أُبغِضُ نَفسي". وقد كانَ أيُّوبُ رَجُلاً بَارًّا، ولكِنَّهُ قالَ ذلك. فَكَمْ بالحَرِيِّ يَنبغي للإنسانِ غيرِ البَارِّ أن يَقولَ ذلك! ولكِنَّهُم، بسببِ غَرَقِهِم في حُبِّ ذَاتِهم وبِرِّهِمِ الذَّاتِيِّ، احتَقَروا رِسالَةَ يَسوعَ وقَتلوهُ بِسَبَبِها. والحَقيقةُ هي أنَّهُم لم يَكونوا غيرَ رَاغِبينَ في مَجيءِ المَسِيَّا. وَحَتَّى إنَّهُم لم يُلْغُوا احتِماليَّةَ أن يَكونَ المَسِيَّا.

فقد كانُوا بِحاجَةٍ إلى المَسِيَّا حَاجَةً مُلِحَّةً. وقد أرادوا (كَما رأينا سَابِقًا) طَعامًا مَجَّانِيًّا. وقد أرادوا أفضَلَ تَأمينٍ طِبِّيٍّ في العَالَم، وأرادوا أنْ يُشْفَى الجَميعُ طَوالَ الوقت، وأرادوا أنْ يَقوموا مِنَ الأمواتِ في حَالِ مَوتِهم...مَجَانًا مِن دُونِ دَفْعِ أقساط، وَمِن دُونِ إجراءاتٍ مُعَقَّدة. فَيَكفي أن تَذهبَ إلى يَسوعَ فَيَتَكَفَّلُ بالأمر مِن دُونِ إجراءاتٍ مَكتبيَّة. مِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُم أرادوا ذلك. وقد كانُوا مُستَعِدِّينَ لِقَبولِ ذلك. ولكِنَّ يَسوعَ اقتَحَمَ فِكرَهُم بهذهِ الرِّسالةِ الَّتي تَقولُ إنَّهُ يجبُ عليهم أن يُبغِضوا أنفُسَهُم عِوَضًا عن أن يُحِبُّوا أنفُسَهُم، وإنَّهُ يجبُ عليهم أن يَنظُروا إلى أنفُسِهِم كَأسرى مَساكين، وكأشخاصٍ عُميان ومَقهورين، وإنَّهُ يجبُ عليهم أن يَتَّصِفوا بالأوصافِ المَذكورِ في التَّطويباتِ؛ أيْ أنْ يَكونوا مَساكينَ في الرُّوح، وأنْ يَنوحُوا، وأنْ يَكونوا مُتَّضِعينَ، وأنْ يُدركوا أنَّهُم ليسوا أبرارًا، وأنْ يُظهِروا أنَّهُم جِياعٌ وعِطاشٌ إلى البِرّ، وأنْ يُبدوا الاستِعدادَ لاحتِمالِ الاضطِهادِ مِن دُونِ وُجودِ مَن يُصَفِّق لَهُم.

وقد كَرِهوا تلكَ الرِّسالةَ لأنَّهُم كانوا يُحِبُّونَ أنفُسَهُم. وهذهِ هي الحَقيقة. فإنْ كُنتَ تُحِبُّ نَفسَكَ حُبًّا بِشِدَّة، ينبغي أن تُبغِضَ نَفسَكَ. لِذا، إذا كُنتَ تُحِبُّ نَفسَكَ، سَتَكرَهُ هذهِ الرِّسالة. وَهَذا هُوَ ما جَعَلَ يَسوعَ يَقولُ هَذا في إنجيل مَتَّى 21: 31: "إنَّ العَشَّارينَ...". فقد كانَتِ الفئةُ الأكثرَ احتِقارًا وازدِراءً في إسرائيل هي فِئَةُ العَشَّارينَ الَّذينَ اشْتَرَوْا ذلكَ الامتيازَ مِنَ الرُّومان؛ أيْ حَقَّ جِبايَةِ الضَّرائِب. وَكانوا يَأخذونَ المَالَ مِنْ شَعبِهم. وكانُوا يَفعلونَ ذلكَ بالاستِعانَةِ بِمُجموعَةٍ مِنَ الرُّعاعِ واللُّصوصِ والأشخاصِ المُسَلَّحينَ الَّذينَ كانوا يَفعلونَ كُلَّ ما يَلزَمُ للحُصولِ على المَال: "إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ".

وهل يُمكِنُكَ أن تَتَخَيَّلَ إنْ كُنتَ قَائِدًا دينيًّا في إسرائيل أنْ يَقولَ لكَ يَسوعُ هذا الكَلام؟ "إنَّ العَشَّارينَ..."؛ وقد كُنتَ تَبْصُقُ على العَشَّارين "...والزَّواني يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ". لِماذا؟ لأنَّهُ مِنَ المُرَجَّحِ أنْ يُبغِضوا أنفُسَهُم أكثرَ مِنكُم أنتُم. فالتَّحَلِّي بِمَزيدٍ مِنَ الأخلاقِ العَاليةِ قد يُبعِدُكُم أكثر عن مَلكوتِ اللهِ. فَمِنْ مَنافِعِ التَّمَرُّغِ في عَواقِبِ الإثمِ المَريرَة هُوَ أنَّ ذلكَ قد يَجْعَلُكَ تَستَفيقُ على حَقيقَتِك.

وقد قُلتُ هَذا على مَرِّ السِّنين: النَّاسُ يَأتونَ إلى المَسيحِ عندما يَيأسونَ جِدًّا، وعندما يَبلُغونَ نُقطةَ الذُّعْرِ التَّامِّ ويَرغبونَ حَقًّا في أن يَتِمَّ إنقاذُهم، وعندما يَعلَمونَ أنَّهُم سَيَغرَقونَ حَرفيًّا ثَالِثَ مَرَّة في بَحرِ خُطاياهُم. وقد كانَتِ الحُثالَةُ الشِّرِّيرة في إسرائيل أكثرَ استِعدادًا للاعترافِ بخطاياهُم مِنَ الأشخاصِ الأبرارِ في أَعْيُنِ أنفُسِهم. ولا يُوجَد أيُّ خَلاصٍ لأيِّ شخصٍ مِن دُونِ تَوبَة.

فلا يُمكنكُم أن تَخلُصوا، يا أحبَّائي، مِن دونِ إنجيلَ يَسوعَ المَسيح؛ أيْ مِن دونِ الإيمانِ بِذاكَ الَّذي ماتَ وقامَ ثانيةً مِن أجلِكم (الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ) وكُلِّ الحَقائقِ المُختصَّة به. ولا يُمكِنُكَ أن تَخلُصَ بالإيمانِ بالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ إلَّا إذا كانَ ذلكَ الإيمانُ مَصحوبًا بالتَّوبة. وبالرَّغمِ مِن ذلك، هُناكَ أشخاصٌ...وقد عَلَّقْتُ على هذا الموضوع، ولكِنَّهُ بَقِيَ عَالِقًا في ذِهني لأنَّنا مُستمرُّونَ في الجَدَلِ بخصوصِه إذْ إنَّ هُناكَ أشخاصًا يَكتُبونَ كُتُبًا مَسيحيَّةً تَقولُ إنَّ الأشخاصَ الَّذينَ يَعيشونَ في أجزاءٍ نَائيةٍ مِنَ العالَم والَّذين لم يَسمعوا يَومًا عنِ اللهِ، ولم يَسمعوا يَومًا عن يسوعَ، ولم يَسمعوا يومًا عنِ الكتابِ المقدَّسِ أوِ الإنجيلِ يُمكِن أن يَخلُصوا مِن خلالِ النَّظرِ إلى أعلى والقول: "لأنِّي أُومِنُ بأنَّكَ مَوجودٌ في السَّماء، ولأنِّي أُوْمِنُ بأنَّكَ الخَالِق" فإنَّهم سيَذهبونَ إلى السَّماء. بعبارة أخرى، فإنَّ اللهَ (كما قالَ أحدُ الكُتَّابِ) لن يَكونَ عَادِلاً إن لم يأخُذهم إلى السَّماء. فَهُم ليسوا بحاجة إلى الإيمانِ بيسوعَ رَبًّا، بل إنَّهم ليسوا بحاجة إلى الإيمانِ بيسوع. وَحَتَّى إنَّهُم ليسوا بحاجة إلى مَعرفةِ أنَّ هُناكَ يَسوع. ولكِنْ ماذا عنِ التَّوبة؟ أينَ هِيَ؟ وماذا عَسانا أنْ نَفعل؟ أنْ نَحذِفَها وَحَسْب كي نَجعَلَ الأمرَ مُريحًا؟

لقد قالَ يَسوع: "هل تُريدُ أن تَدخُلَ مَلكوتي؟ إنَّ الأمرَ يَتطلَّب ما هو أكثر بكثير مِنَ الإيمانِ بوجودِ خَالِقٍ في السَّماء. فأينَ الشُّعورُ بالخِزْي؟ وأينَ النَّدَم؟ وأينَ التَّبكيتُ الشَّديدُ على الخطيَّة؟"

لِذا فإنَّ المَبدأَ أساسِيٌّ جدًّا. فهو حَقٌّ إنجيليٌّ أساسِيّ. فأنتَ تُريدُ أن تَتبَعَ يَسوعَ. أليسَ كذلك؟ إذًا، يجبُ عليكَ أن تُبغِضَ نَفسَكَ. فإنكارُ الذَّاتِ تَمامًا مِن مُنطَلَقِ إدراكِنا لحقيقةِ أنَّنا لا نَملُكُ أيَّ قيمة في حَالَتِنا غير المَفدِيَّة. وَحَتَّى إنَّ قيمَتَنا الوَحيدةَ في حَالَتِنا المَفديَّةِ تَتَلَخَّصُ في أنَّنا مُجَرَّدُ أداةٍ اختارَها الرَّبُّ بِسُلطانِه. لِذا، هُناكَ إنكارُ الذَّاتِ. ثُمَّ هُناكَ حَمْلُ الصَّليب، ثُمَّ اتِّباعُه. وهذا يُشيرُ إلى الطَّاعةِ التَّامَّةِ في أثناءِ اتِّباعِنا للمَسيح. وهذا تَذكيرٌ لَكُم بِالمَعنى المُتَضَمَّنِ في ذلكَ المَبدأ.

والآن، اسمَحوا لي أن أتحدَّثَ عنِ المُفارَقَةِ بِضْعَ دَقائق. فيسوعُ يَتوسَّعُ في هذا المبدأ ويَصنَعُ مِنهُ مُفارَقَةً إذْ يَقولُ في العَددَيْن 24 و 25: "فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟" فهذهِ هي المُفارَقة. فالمبدأُ وَاضِحٌ. وهُنا تَكمُنُ المُفارَقة. فهل تُريدُ أن تُنقِذَ حَياتَكَ؟ يجب عليكَ أن تَخسَرَها. وهل تُريدُ أن تَخسَرَ حَياتَكَ؟ إذًا تَمَسَّكْ بها.

وَهُنا، يَشرَحُ يَسوعُ ما قَالَهُ. وما قَالَهُ هُوَ: يجبُ عليكَ أن تُنكِرَ نَفسَكَ؛ أيْ أنْ تَبذُلَ حَياتَكَ. فيجبُ عليكَ أن تَتخلَّى عنِ الكُلِّ، وأن تَترُكَ كُلَّ شَيءٍ لأجلِ المَسيح. فأنتَ لا تُضيفُ المَسيحَ إلى حَياتِك، بل أنتَ تَتخلَّى عن كُلِّ شيء، وتَبيعُ كُلَّ شيء. ومِن خِلالِ بَذْلِ نَفسِكَ حَرفيًّا، وإنكارِكَ لنَفسِك، فإنَّكَ تَكسَبُ كُلَّ شَيء.

مِن جِهة أخرى، إذا أردتَ أن تُنقِذَ حَياتَكَ (في العَدد 24): "مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ..."، وهذا لا يَعني أنْ تَضَعَ حِزامَ الأمان وأنْ تكونَ مُحاطًا بالأكياسِ الهَوائيَّة. فهو لا يَتحدَّثُ عن ذلك. وَهُوَ لا يَتحدَّثُ أيضًا عن خُضوعِكَ لعمليَّة جِراحيَّة تُساعِدُ في شِفائِك. فنحنُ لا نَتحدَّثُ عنِ الحياةِ الجسديَّة، بل نَتحدَّثُ عنِ حَياتِكَ الأبديَّة هُنا...عن حَياتِكَ الأبديَّة. لِذا، أنتَ تُريدُ أن تُخَلِّصَ نَفسَكَ. أليسَ كذلك؟ هل تُريدُ أن تُنقِذَ حَياتَكَ؟ وهل تُريدُ أن تُنقِذَ نَفسَكَ؟ إذًا، اخسَر نَفسَك. فهذهِ هي الطَّريقةُ الوحيدة. وهل تُريدُ أن تَخسَرَ نَفسَكَ؟ وهل تُريدُ أن تَهلِكَ في جَهَنَّمَ الأبديَّة وأن تَتَعَذَّبَ إلى الأبد؟ إذًا تَمَسَّك بحياتِك. فهذه هي المُفارَقة البَسيطة.

والآية مَتَّى 10: 39 هي آية أخرى يَقولُ يَسوعُ فيها هذهِ الكَلمات. فهذا هو التَّعليمُ المُتَكَرِّرُ ليسوع. إنجيل مَتَّى 10: 39: "مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِــي يَجِدُهَا". وهُناكَ مَوضِعٌ آخر أعتقد أنَّهُ يُفَسِّرُ في الحَقيقة ما قَصَدَهُ هُنا هُوَ إنجيل يُوحَنَّا 12: 25 حيثُ يُكَرِّر يَسوعُ نَفسَ هذهِ المُفارَقة. إنجيل يُوحَنَّا 12: 25. استَمِعوا إلى هذهِ الكلمات: "مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا". وكما تَرى، إن أردتَ أن تُنقِذَ حَياتَكَ بسببِ حُبِّكَ لها، وبسببِ حُبِّكَ لِنفسِك، وبسببِ حُبِّكَ لِذاتِك، وبسببِ حُبِّكَ لشَهواتِك، وطُموحاتِكَ الشَّخصيَّة، وأحلامِكَ وأهدافِك، وبسببِ حُبِّكِ لكرامَتِكَ، وإنجازاتِكَ، وطَريقَكَ، وإرادَتِكَ؛ إنْ فَعلتَ ذلكَ فإنَّكَ سَتَخسَرُها. ثُمَّ إنَّ يَسوعَ قال: "وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ". وَهُنا يَقولُ يَسوعُ: يجبُ عليكَ أن تُبْغِضَ حَياتَكَ. وأنا مُتَيَقِّنٌ مِن أنَّ هذا هو المَوضِعَ الَّذي اقتَبَسَ مِنهُ "لوثر" مُصطَلَحَ "بُغْض الذَّات".

فإنْ كُنتَ تُحِبُّ نَفسَكَ، وإنْ كُنتَ غَارِقًا في حُبِّ ذاتِكَ، وفي تَقديرِ الذَّاتِ، وتَحرِصُ على تَلبيةِ كُلِّ احتياجٍ صَغيرٍ لديكَ، وتَحرِصُ على تَنفيذِ كُلِّ فِكرةٍ تَخطُر بِبالِكَ، وعلى تَحقيقِ كُلِّ أحلامِكَ، وخُطَطِكَ، وآمالِكَ، وطُموحاتِكَ، ستَخسَرُ حَياتَكَ. فسوفَ تَخسَرُ حَياتَكَ في جَهَنَّمَ الأبديَّة. فإنْ كُنتَ تُحِبُّ نَفسَكَ حُبًّا شَديدًا يَجعَلُكَ تَتَشَبَّثُ بها كَذاكَ الشَّابِّ الغَنِيِّ، ستَموتُ مِن دونِ الحُصولِ على الحياةِ الأبديَّة. أمَّا إذا كُنتَ تُبغِضُ نَفسَكَ، ستَحصُلُ على الحياةِ الأبديَّة. ويا لَهُ مِن خِيارٍ رَائِعٍ جدًّا! وما أعنيه هو أنَّهُ الخِيارُ الأفضَلُ بالمُطلَق. فهذا هُوَ كُلُّ شَيء. فإمَّا أنْ تُخَلِّصَ حَياتَكَ الآنَ وتَخسَرَها إلى الأبد، وإمَّا أنْ تَخسَرَ حَياتَكَ الآنَ وتُخَلِّصَها إلى الأبد. فالأمرُ بهذهِ البَساطَة.

وهُناكَ عِبارة صَغيرة في العَدد 24 يَنبغي أنْ نُشيرَ إليها: "مِن أجلي". "مِن أجلي". وهي لا تُشيرُ إلى ما يُمكِنُكُم أن تُسَمُّوهُ: "إنكارَ ذَاتٍ" لِغاياتٍ إنسانيَّة. فَهُوَ لا يَقولُ لَكَ أنْ تَخسَرَ حَياتَكَ مِن أجلِ العِدالَةِ، أو أن تَخسَرَ حَياتَكَ مِن أجلِ الدِّينِ، أو أن تُكَرِّسَ حَياتَكَ لتصيرَ رَاهِبًا أو لِتَصيري رَاهِبَةً، أو أن تُقَدِّمَ نَفسَكَ قُربانًا، أو أن تُشعِلَ النَّارَ بنفسِكَ كما يَفعلُ الكاهِنُ البُوذِيُّ كي تُظهِرَ تَكريسَكَ للهِ، أو أن تَضَعَ حِزامًا نَاسِفًا حَولَكَ كما يَفعلُ الانتِحاريُّونَ المُسلِمونَ ظَنًّا مِنهُم بأنَّهُم سَيَذهبونَ إلى السَّماءِ ويَحصُلُ كُلٌّ مِنهُم على اثنَتَيْنِ وسَبعينَ زَوجَةً مِنَ الحُوْرِ العِيْن تَنتَظِرُهُ على وِسَادَاتٍ خَضراء كَما لو أنَّ ذلكَ هُوَ تَكريسٌ شَديدٌ لله.

فنحنُ لا نَتحدَّثُ عن ذلكَ النَّوعِ، بل إنَّ هُناكَ نَوعًا واحدًا فقط مِن إهلاكِ النَّفسِ هُنا. وهُناكَ نَوعٌ واحِدٌ فقط مِن بَذْلِ الذَّاتِ، ونَوعُ واحِدٌ فقط مِن إنكارِ الذَّاتِ وهو: "مِن أجلي". فلا توجد قيمة أو فَضيلَة في ما يَفعَلُهُ هَؤلاءِ النَّاس. فعندما يَحرِقُ البُوذِيّونَ أنفُسَهُم، وعندما يُفَجِّرُ المُسلِمونَ أنفُسَهُم فإنَّهُم إنَّما يَحرِقونِ أنفُسَهُم في جَهَنَّمَ الأبديَّة. فلا يُوجَد أيُّ فَضْلٍ يُحْسَبُ لَهُم بِغَضِّ النَّظَرِ عن شِدَّةِ تَدَيُّنِهم، وبِغَضِّ النَّظَرِ عن شِدَّةِ ذلكَ التَّكريس. فما يَتحدَّثُ عنهُ يَسوعُ هُنا هو أن يَترُكَ المَرءُ حَياتَهُ، ويُنكِرَ نَفسَهُ، ويُبغِضَ نَفسَهُ في حَالَتِهِ الخَاطِئَةِ المَيؤوسِ مِنها، ويُسَلِّمَ حَياتَهُ ليسوعَ المَسيح: "مِن أجلي"؛ أيْ: "بسببي". فهذا هو مَعنى تلكَ العِبارة...بِسَبَبي. فالطَّريقةُ الوحيدةُ الَّتي تُخَلِّصُ فيها حَياتَكَ أبديًّا، والطَّريقةُ الوحيدةُ الَّتي تُتيحُ لكَ قَضاءَ الأبديَّةِ في السَّماءِ في حَضرَةِ اللهِ وفي مِلْءِ الفَرحِ هي أن تُسَلِّمَ حَياتَكَ كُلَّها ليسوعَ المسيح.

وفي العَدد 25، يَقولُ يَسوعُ هذهِ الكلماتِ المُدهشة حَقًّا: "لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟" وهذهِ مُبالَغَة أَدَبِيَّة. والحقيقةُ هي أنَّهُ في ضَوْءِ هَذا المَثَلِ التَّوضيحِيِّ فإنَّ هذهِ مُبالَغة قُصوَى. فيسوعُ يَقولُ: "أنا أعلَمُ ما تُفَكِّرونَ فيه. أنا أعلَمُ ما تُفَكِّرونَ فيه. فأنتُم تُفَكِّرونَ قائلين: ’أنا إنسانٌ صَالِحٌ بِكُلِّ تأكيد. وقد فَعلتُ كَذا، وفَعلتُ كَذا، وحَصَلْتُ على هذا التَّكريمِ وذلكَ التَّكريم. وأنا لديَّ هذا الطُّموحُ، وهذهِ الرَّغبة، وأوَدُّ أن أفعلَ هذا، وأن أفعلَ ذاكَ. وأنا لَدَيَّ العَديدُ مِنَ الخُطَط، ولديَّ عَلاقاتٌ خَاصَّةٌ أريدُ أن أَحميها. وهل تَدري شَيئًا، هُناكَ أشياءٌ كثيرةٌ سأخسَرُها. أنتَ تَطلُبُ الكَثيرَ مِنِّي!‘". وقد قالَ الشَّابُّ الغَنِيُّ: "أتَدري شَيئًا؟ أنا غَنِيٌّ. فأنا أَملِكُ الكَثير. وأنتَ تَطلُبُ مِنِّي الكَثير".

لِذا فقد قالَ يَسوعُ: "حسنًا! إليكُم هذا المَثَلَ التَّوضيحيَّ الافتراضِيّ: ماذا لو أنَّكَ رَبِحْتَ العَالَمَ كُلَّهُ؟ ما رأيُكَ في ذلك؟" وهذهِ هي أقصَى مُبالَغة مُمكِنَة. فلا يُمكِنُكَ أن تَربَحَ مَا هُوَ أكثر مِن ذلك. "حسنًا! لِنَقُل أنَّكَ رَبِحْتَ العَالَمَ كُلَّهُ، وأنَّكَ حَصَلْتَ على كُلِّ مَا فيهِ مِن مُمتَلكات، وعلى كُلِّ ما فيهِ مِن مَنازِل، وسَيَّارات، ومَلابِس، وأراضي، وعلى كُلِّ ما فيهِ مِن إكرامٍ ومَكانَة، وعلى كُلِّ سُلطانٍ فيه، وعلى كُلِّ قُدرَتِهِ على تَقديمِ كُلِّ شَيءٍ لَكَ مِن جِهَةِ الأشياءِ المَاديَّةِ، ومِن جِهَةِ التَّقديرِ، ومِن جِهَةِ المَكانَةِ، والشُّهرةِ، والنُّفوذِ، وكُلِّ شَيءٍ يَخطُر بِبالِك. لِنَقُل إنَّكَ حَصلتَ على كُلِّ شَيء. ماذا سَتَنتَفِع؟ ما الَّذي يَعنيه ذلك؟ وماذا سَيَنفَعُكَ ذلك؟"

والكلمة تَعني وَحَسْب: "مَا نَفْعُ ذلك؟" أو: "مَا الفائدةُ مِن ذلك؟" أو "مَا الَّذي سَتَجنيهِ مِن ذلك؟" أو: "مَا الَّذي سَتَكسَبُهُ إنْ أَهْلَكْتَ نَفسَكَ أو خَسِرتَها؟" أيْ إنْ خَسِرتَ نَفسَكَ؟ نَفسَكَ الأبديَّةَ، أو كَما يَقولُ البَشيرُ مَتَّى: "أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟" فَما هي قِيمةُ نَفسِكَ؟ ما هي قيمةُ نَفسِكَ الأبديَّة؟ إنَّ قيمَتَها تَفوقُ كُلَّ العَالَمِ الزَّائِل. فسوفَ تَموتُ بعدَ بِضْعِ أنفاس. وسوفَ يَكونُ هُناكَ مَصيرٌ أبَدِيٌّ يَنتَظِرُكَ. فلا يَجدُرُ بِكَ أن تُصَدِّقَ الاعتقادَ الشَّائِعَ لدى النَّاسِ وَهُوَ أنَّ الشَّخصَ الَّذي يَملِكُ مُمتلكاتٍ أكثر هو الأكثَرُ سَعادَةً. أيْ لِمُجَرَّدِ أنَّكَ تَملِكُ أشياءً أكثر، أو عَلاقاتٍ أفضل، أو عَلاقاتٍ مُختَلِفة، أو تَملِكُ نُفوذًا أكبر، أو تأثيرًا أكبر، أو تَحظى باحتِرامٍ أكبر، أو أيَّ شَيءٍ أكثر مِنَ الآخرين.

ولكِنَّ يَسوعَ يَقولُ إنَّكَ إن كُنتَ تَملِكُ حَرفيًّا كُلَّ الغِنَى الأرضِيِّ وَخَسِرْتَ نَفسَكَ الأبديَّة فإنَّها صَفْقَةٌ سَيِّئَة. إنَّها صَفْقَةٌ سَيِّئَة. لأَنَّهُ مَاذَا تَنْتَفِعُ لَوْ رَبِحْتَ العَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرْتَ نَفسَكَ؟ لِذا فإنَّ يَسوعَ يَقول: "انظُر! مِنَ الأفضل أن تَخسَر حَياتَكَ الآنَ إقرارًا مِنْكَ بأنَّها لا تُساوي شَيئًا بأيِّ حَال لأنَّها ستَكونُ شَيئًا مَجيدًا، وشيئًا رائعًا، وشَيئًا مُبارَكًا، وشَيئًا مُفرِحًا، وشَيئًا قَويًّا، وشَيئًا مُسالِمًا، وشيئًا مُكَرَّمًا إلى أبدِ الآبِدينَ وَدَهْرِ الدَّاهِرين". فهذه هي رِسالةُ الإنجيل. وهذا هُوَ الخِيارُ المَوضوعُ أمامَك.

وفي المَرَّةِ القادِمَة، سوفَ نَتأمَّلُ في العَدَدَيْن 26 و 27 إذْ إنَّ يَسوعَ قالَ إنَّ كُلَّ شخصٍ سَيَقِفُ أمامَ عَرْشِ الدَّينونَةِ في اليومِ الأخير ويُدانُ أبديًّا بِحَسَبِ طَريقةِ تَجاوُبِهِ مَعَ هَذهِ الرِّسالة. واسمَحوا لي أن أُلَخِّصَ ذلكَ بِسُهولة: حُبُّ الذَّاتِ سَيُرسِلُكَ إلى جَهَنَّم. أمَّا بُغْضُ الذَّاتِ فَسَيُرسِلُكَ إلى السَّماء. والإيمانُ بالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ شَيءٌ لازِمٌ. والإيمانُ بالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ (المَقرونُ بالتَّوبةِ الحَقيقيَّةِ) هُوَ شَيءٌ مَطلوب. وكُلٌّ مِنهُما هُوَ عَمَلٌ قَديرٌ يَقومُ بِهِ رُوحُ اللهِ في القلبِ المُستَعِدِّ مِن خلالِ فَهْمِ الحَقِّ. لِذا فإنَّنا نَكرِزُ بالحَقّ.

يا أبانا، نَأتي الآنَ في خِتامِ خِدمَتِنا الرَّائعةِ في هذا الصَّباح مُعَبِّرينَ لكَ عن شُكرِنا على التَّرانيمِ، والمُوسيقا، والتَّراتيل، ومُعَبِّرينَ لكَ عن شُكرِنا على إتاحَةِ الفُرصةِ لنا بأن نَأتي أمامَكَ في الصَّلاةِ، وبأنْ نُعطي. ونحنُ نَشكُرُكَ الآنَ على الكلمة. ومَرَّةً أخرى، لقد سَمِعنا مِنْ فَمِ المُخَلِّصِ نَفسِهِ. ومَرَّةً أخرى، لقد جِئْنا أمامَ حَضْرَتِكَ فَتَكَلَّمْتَ أنت. فهذا هُوَ حَقُّكَ. وهذا حَقٌّ مُقَدَّمٌ إلينا في مِلْءِ النِّعمةِ والمحبَّةِ. وَهُوَ حَقٌّ لم يَكُن يَنبغي أنْ يُعلَنَ، ولكِنْ تَمَّ إعلانُهُ لأنَّكَ بِطَبيعَتِكَ إلَهٌ مُخَلِّص؛ ولأنَّكَ إلَهٌ يُريدُ أن يُخَلِّصَ الخُطاة.

ونحنُ نُصَلِّي، يا رَبُّ، أنْ تَكونَ المُناداةُ بهذا الحَقِّ، أيْ بِرسالةِ الصَّليبِ الَّتي هِيَ جَهالَةٌ لَدى العَالَم، أنْ تَكونَ القُوَّةُ الَّتي تُخَلِّصُ كَثيرينَ حينَ يَسمَعون ويُؤمِنون. ونحنُ نُصَلِّي، يا رَبُّ، أنْ تَعمَلَ عَمَلَ بُغْضِ الذَّاتِ وإنكارِ الذَّاتِ في قُلوبِ كَثيرين، وَحَتَّى في قُلوبِ المُؤمِنينَ مِنَّا كي نَستمِرَّ في زَرْعِ ذلكِ فينا كي لا نَسقُطَ مَرَّةً أخرى في خَطيئةِ الكِبرياءِ الشَّنيعة وَالاتِّكالِ على الذَّات؛ بل أن نَعلَمَ دائمًا أنَّ هُناكَ شَيئًا عَجيبًا ومُدهِشًا عندما تَختارُ بِنَعمَتِكَ أنْ تَستخدِمَنا كأداةٍ لِمَجدِكَ.

نَشكُرُكَ، يا أبانا، لأنَّ رُوحَ اللهِ يَعمَلُ هذهِ الأشياءَ في القَلبِ مِن خلالِ الحَقِّ. نُصَلِّي لأجلِ تلكَ الغَايَة اليوم باسمِ المُخَلِّص. آمين!

This sermon series includes the following 0 messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Playlist
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

I'm from:

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize