
لنفتَح على الأصحاح السَّادس مِن إنجيل لوقا. أشعُرُ في كلِّ يومِ أَحَد أنَّ قَلبي مُتشوِّقٌ جدًّا للتَّعليم مِن هذا السِّفر. وأنا أَحسِبُ الأيَّامَ الَّتي صَرفتُها خلالَ هذا الأسبوع في التَّحضير مُحاولاً قدر استطاعتي أن أستخلصَ الزُّبدةَ وأن أُقدِّمَ لكم أَغنى ما في هذا النَّصِّ – أَحسِبُ ذلكَ تَحَدِّيًا وامتيازًا. ونأتي إلى إنجيل لوقا 6: 20. ومِن بدايةِ العدد 20 إلى نهاية الأصحاح، نجد عظةً رائعةً لربِّنا. وهي نفس العظة المُدوَّنة في إنجيل مَتَّى والأصحاحات 5-7 والَّتي تُعرَف بالعِظَة على الجَبل.
فقد دَوَّنَ مَتَّى هذه العظة. والحقيقة هي أنَّ عَددَ الكلماتِ الَّتي ذَكَرها مَتَّى مِن عظة يسوع تَفوقُ عدد الكلمات الَّتي ذَكرها لوقا. فالعظة الَّتي يَذكرُها لوقا هي الأقصر، مع أنَّها تَتبَع نفس التَّرتيب والتَّسلسُل. فالحقائق الَّتي يُدَوِّنُها مَتَّى ولوقا مِن هذه العظة العظيمة متشابهة جدًّا. وفي أثناء دراستنا لهذه الآياتِ (أيِ الآياتِ مِن 20-49) سنكون في حاجة دائمة إلى عَقْدِ مُقارناتٍ بينها وبين قصَّة مَتَّى.
هذه هي تلك العظة الشَّهيرة على الجبل. وهناك أشخاص يَنظرون إلى هذه العظة كما لو كانت مَجموعة مِن القِيَم الأخلاقيَّة؛ ولكنَّها ليست كذلك. فهي عظة عن الخلاص. والحقيقة هي أنَّها أَدَقُّ عِظَة قَدَّمَها يسوعُ وحَدَّدَ فيها هُويَّةَ الأشخاصِ المُخلَّصين وهُويَّةَ الأشخاصِ غير المُخَلَّصين. ففي نهاية المطاف، إنَّها عظة تُحَدِّد مَن سيَذهبون إلى السَّماء ومَن سيَذهبون إلى جَهنَّم. فهي ليست عظةً عَن هُويَّةِ الأشخاص المُتديِّنين، بل عن هُويَّة الأشخاصِ المُخَلَّصين. وهي ليست عظةً عن هُويَّة الأشخاص الَّذينَ يعيشون حياة أخلاقيَّة، بل عن هُويَّة الأشخاص الَّذينَ يَعرفون الله. لِذا فإنَّها عظة مُهمَّة جدًّا مِن شَفَتَيِّ يسوعَ شخصيًّا. وهناك اختلافاتُ بين قصَّة مَتَّى وقصَّة لوقا. وهناك أسباب لذلك. فقد قَدَّمَها يسوعُ في الحقيقة باللُّغة الآراميَّة، ولكنَّ كُلاًّ مِن مَتَّى ولوقا كَتباها باللُّغة اليونانيَّة. لذا، رُبَّما تَرجَمَ كُلٌّ منهما كلمةً آراميَّةً بطريقة مُختلفة باستخدام مُرادفاتِها.
وهناك حقيقة أخرى أيضًا وهي أنَّ مَتَّى ولوقا لا يُقدِّمان لنا العظة كاملةً. فيمكنني أن أقرأ ما كَتبهُ لوقا في ثلاث أو أربع دقائق. ويمكنني (وأنتم أيضًا) أن نَقرأ ما كَتبَهُ مَتَّى في عشر دقائق؛ أي أن نَقرأ ما جاءَ في إنجيل مَتَّى والأصحاحات 5 و6 و7 في عشر دقائق. وأنا أَعلمُ أنَّ يسوعَ لم يَعِظ عشر دقائق. وآمُل أنَّه لم يَعِظ عشر دقائق. وأنا أَعلم أنَّه لم يَعِظ عشر دقائق. ولكنَّ مَتَّى يُقدِّم لنا مُلَخَّصًا مُوجَزًا بعباراتٍ دقيقة، ولكنَّهُ مُلَخَّصٌ مُوجَز. فهو ليس كلُّ ما قالَهُ. لِذا، قد نجد أحيانًا اختلافات بين ما يقولُه مَتَّى وما يقولُه لوقا.
فمثلاً، حَتَّى في التَّطويبات توجد اختلافات. ولكنَّ الإجابة عن ذلك ببساطة هي كالتَّالي: في أثناء قيامِ يسوعَ بالوعظ؛ وهي عظات لم تكن مُدَّتُها تَقِلُّ عن خمسين دقيقة أو ساعة أو ساعة ونصف. فقد كان قادرًا على جذب انتباه الحشود ساعتين أو ثلاث ساعات دون أَدنى شَكٍّ، ولا سيَّما في زَمنٍ لم تكن فيه وسائل إعلام، وكان النَّاسُ قد تَعلَّموا أن يُصغوا. فقد كان يَعلمُ كيفَ... كان يَعلمُ كيف يفعل ذلك جيِّدًا. وعندما كان يسوعُ يَعِظ دقائق طويلة أو رُبَّما بضع ساعات، كان يُكَرِّرُ الحقائق الَّتي يَذكرُها في عظته ويُعيدُ صياغَتَها بطرق عديدة. لذا، مِن المُرجَّح أنَّ السَّببَ في ما تقرأونه في إنجيل مَتَّى وإنجيل لوقا مِن تَطويبات (إذ إنَّ مَتَّى يَذكُر تِسعةً منها في حين أنَّ لوقا يَذكُر أربعةً، ومَتَّى يَذكُرُها بطريقة ولوقا يَذكُرها بطريقة أخرى) أنَّ السَّببَ في ذلك يَرجع ببساطة إلى أنَّ مَتَّى يُدَوِّن واحدةً مِن الطُّرُقِ الَّتي استخدمَها يسوعُ في قولِ ذلك، في حين أنَّ لوقا يُدَوِّنُ إعادة الصِّياغة الَّتي قالها يسوع.
فأنا أَعلمُ (بصفتي واعظًا) أنَّني أُكَرِّرُ الشَّيءَ نفسَهُ مِرارًا. فأنا أقول شيئًا ثُمَّ أقوله مباشرةً بطريقةٍ أخرى مع إدخال تَعديلاتٍ طَفيفة عليه لأنَّكم تَعلمون ما قُلتُهُ في المَرَّة الأولى. فقد أَزيدُ عليه أو أُنقِص منهُ في المرَّة الثَّانية الَّتي أقوله فيها. لِذا، إن رأيتُم اختلافات فإنَّ هذه هي بِضعة أسباب لحدوث ذلك. ولكنِّي مُقتنعٌ تمامًا بأنَّ هذه هي نفس العظة؛ مع أنَّه مِن المَنطقيِّ أن تَعتقدوا أنَّ يسوعَ قَدَّمَ العظةَ على الجبل في أماكن أخرى كثيرة. وحتَّى إنَّ هناك مُفسِّرين يُسَمُّونَ هذه العِظَة: "العِظَة على السَّهل" ظَنًّا منهم أنَّه قَدَّمَ العِظة المذكورة في إنجيل مَتَّى على جَبَل، وأنَّهُ قَدَّمَ هذه العظة على سَهل.
ولا أعتقد أنَّه يوجد أيُّ سبب للتَّعَنُّتِ في ذلك. ولا أدري لماذا يقولون ذلك. فأنا أعتقد أنَّه مِن المُرَجَّح جدًّا أنَّها نفس العظة؛ ولكنَّ لوقا استَخلصَ مِن العِظة بوحيٍ مِن الرُّوح القُدُس الأمورَ الَّتي تُلائِم قَصدَهُ. ولكن مِن المؤكَّد أنَّ يسوعَ قَدَّمَ هذه الحقائق في كلِّ مكانٍ ذهب إليه. ولا شَكَّ أنَّهُ كَرَّرَ مُحتوى هذه العِظة المَرَّة تِلو المَرَّة تِلو المَرَّة تِلو المَرَّة، وفي مَكانٍ تِلو الآخر تِلو الآخر تِلو الآخر لأنَّهُ جَوهريٌّ جدًّا.
لِذا، سوف نَبتدئ في هذا الصَّباح بإلقاء نَظرة على هذه العِظة الكلاسيكيَّة الَّتي قَدَّمَها يسوع. والآن، لماذا يُقدِّم لوقا إلينا هذه العظة؟ إنَّ الإجابةَ العامَّة عن هذا السُّؤالِ هي لأنَّ لوقا يَستعرضُ بطريقةٍ دقيقةٍ ونظاميَّةٍ وشاملةٍ ومُقنِعَةٍ البُرهانَ تِلو الآخر، والدَّليلَ تِلو الآخر، والإثباتَ تِلو الآخر على أنَّ يسوعَ هو المَسيَّا، والله الظَّاهِر في الجسد، ومُخلِّص العالَم. فهذا هو قَصدُ لوقا. فقد كَتَبَ إنجيلَهُ (كما فَعلَ مَتَّى ومَرقُس ويوحنَّا) لإثباتِ أنَّ يسوعَ هو المَسيَّا – اللهُ الظَّاهرُ في الجسد.
والبراهينُ تأتي مِن المُعجزاتِ الَّتي صَنَعَها، ومِن طَردِه للشَّياطين، ومِن سَيطرته على عناصر الطَّبيعة، ومِن ولادته المُعجزيَّة، ومِن كلِّ تلك الأشياء الَّتي ذَكرها لوقا في الأصحاحات الأولى. ولكن لا يوجد دليلٌ أقوى على لاهوتِ يسوعَ أو مَسيحانيَّة يسوعَ مِن تَعليمه. فتعليمُه عميقٌ جدًّا، وطبيعَةُ هذا التَّعليم إلهيَّة بوضوح. فمُحتواهُ يُناقِض تمامًا طريقة البشر في التَّفكير، وسُلطانُه راسخٌ ومُطلَقٌ بطريقة تُشير إلى أنَّه حقًّا صوت الله. فهذا حَقٌّ إلهيٌّ نَقِيٌّ مِن شَفتيِّ اللهِ/الإنسان. لذا فقد تحدَّث يسوعُ بسُلطانٍ لم يكن النَّاسُ مُعتادين عليه. فقد تحدَّث بسُلطانٍ عن كلِّ شيء. فكلُّ شيءٍ قالَهُ كان مُطلَقًا ونِهائيًّا في سُلطانِه. ولم يكن شيءٌ مِمَّا عَلَّمَهُ يسوعُ خاضعًا للحِوارِ أو النِّقاشِ أوِ الجِدال.
وقد صُدِمَ النَّاسُ جدًّا مِن سُلطانه حتَّى إنَّنا نقرأ في نهاية العظة على الجبل (حسبما يقول مَتَّى) أنَّهم بُهِتوا لأنَّه كانَ يَتكلَّم بمثلِ هذا السُّلطان. وهو لم يَقتبس يومًا أقوالَ أحدٍ سوى الله. وهو لم يَقتبس أقوالَ الله كما لو أنَّ اللهَ كان صاحبَ السُّلطانِ الَّذي يَبعُدُ مَسافاتٍ، بل تَكَلَّمَ ببساطة بصفته الله. وقد كان ينبغي قَبول كُلِّ تَعليمِه مِن مُنطلقِ أنَّه تَعليمٌ ذو سُلطانٍ، ومِن دون جِدالٍ أو تَعديلٍ أو نِقاش. وقد قالَ النَّاسُ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَان!"
والحقيقةُ هي أنَّه تَكلَّم بنفس السُّلطان الَّذي تَكلَّم به عندما خَلَقَ الكون. فنحن نقرأ في إنجيل يوحنَّا والأصحاح الأوَّل أنَّ "كلَّ شَيءٍ بِهِ كانَ"؛ أي أنَّهُ خُلِقَ مِن قِبَلِ الربِّ يسوع. ونقرأ في سِفْر التَّكوين والأصحاح الأوَّل أنَّ كلَّ شيءٍ خُلِقَ بكلمة مِنه. فعندما تَكلَّم بسُلطانٍ عند الخَلْق، أَمَرَ كُلَّ الأشياء في الكون أن تُوجَد فوُجدت حالاً. فسواءٌ تَكلَّمَ في ناسوتِه إلى البحر لكي يُهَدِّئَ عاصفةً، أو تَكلَّمَ إلى شَيطانٍ لكي يَهرُب، أو تَكلَّمَ إلى مَرضٍ لكي يَختفي، أو تَكلَّمَ إلى بَشرٍ لكي يُغيِّرَ حياتهم، فإنَّ سُلطانَه كان مُطلَقًا. وقد كان هذا السُّلطانُ الثَّابتُ المَنيعُ موجودًا عندما تَكلَّمَ عن الأمور الروحيَّة. فعندما تَكلَّمَ عن مَلكوتِه، وعندما تَكلَّمَ عن الخلاص، تَكَلَّم بنفس السُّلطان.
فالتَّعليمُ الرُّوحيُّ ليسوعَ، أو بعبارة أخرى: لاهوتُ يسوعَ، والإنجيلُ، وكلُّ شيءٍ قالَهُ عن الأمور الروحيَّة، وكلُّ شيءٍ قالَهُ عن موضوعِ الخلاص، وملكوتِ الله، وملكوت السَّماواتِ كان بصورة قاطعة الكلمة الفاصِلَة والنِّهائيَّة. لِذا فإنَّنا نقرأ في نهاية الكتاب المقدَّس إنَّكَ إن زِدْتَ أيَّ شيءٍ على ما هو مَكتوبٌ هنا، أو حَذفتَ أيَّ شيءٍ منه فإنَّكَ ستَحصل على الضَّرَباتِ المَكتوبة في هذا الكتاب.
ولكنَّ الشَّيءَ الَّذي يَجعل مِن الصَّعب على النَّاس أن يَسمعوا ويَفهموا حتَّى هذا اليوم هو حقيقة أنَّ ما عَلَّمَهُ يسوعُ كان مُناقضًا تمامًا للتَّفكير البشريِّ، بل وحتَّى لتفكير الأشخاص المُتديِّنين. والحقيقة هي أنَّ اليهود المُتديِّنين، أو قادة اليهود المُتديِّنين، أو أَفْطَن النَّاسِ لاهوتيًّا وَجدوا تَعليمَ يسوع بَغيضًا. وقد وَجدوا أنَّه مُسيء. وقد وَجدوا أنَّه يُهَدِّد وجودَهم. وحتَّى إنَّهم قَرَّروا أنَّه تعليمٌ خاطئ جدًّا وإنَّه كان يَتكلَّم مِن الشَّيطان. والآن، لماذا استنتجوا مِثل هذا الشَّيء؟ لأنَّ كلَّ شيء عَلَّمَهُ كان مُناقضًا تمامًا لكلِّ شيءٍ كانوا يُفَكِّرون فيه. والحقيقة هي أنَّهم قَرَّروا أن يُسْكِتوه بأن يَقتلوه قبل أن يَقلِبَ كلَّ النِّظامَ الدِّينيَّ اليهوديَّ.
وكما تَرون، فإنَّ تعليمَ يسوعَ لا يُضيفُ شيئًا إلى الحِكمة الدينيَّة التَّقليديَّة، ولا يَحذِفُ شيئًا منها؛ بل يَستبدلها. فتعليم يسوع آنذاك، وتعليم يسوع الآن لأنَّهُ نفسُه كما هو مُدَوَّن هنا في الكتاب المقدَّس ليبقى خالدًا إلى الأبد... إنَّ تعليمَ يسوعَ آنذاك والآن يُناقض كلَّ تفكير الإنسانِ الأساسيّ. وهو يَنقُضُ كلَّ دوافِعه سواء كانت عِلمانيَّة أو دينيَّة. وهو يَقلبُ عالَمَ الإنسانَ رأسًا على عَقِب. وهو يَقلب تفكيرَهُ رأسًا على عَقِب. وتعليم يسوعُ آنذاك والآن ليسَ مُنافقًا أو مُداهِنًا، وهو ليس حِكمةً بشريَّة أو عاديَّة. والحقيقة هي أنَّ تعليم يسوع بعيدٌ كلَّ البُعد عن كلِّ شيء نَعتقد أنَّه صحيح بذهننا الطَّبيعيّ. فهو يُناقِض كلَّ شيء. فهو يُناقض الأفكار البشريَّة. وهو يُناقض الدَّوافع البشريَّة.
لِذا، عندما تَكلَّم يسوعُ عن القضايا الروحيَّة، وعندما تَكلَّم عن ملكوته، وعندما قَدَّمَ القَوانينَ والمبادئَ المُختصَّة بملكوته، وعندما تَحدَّثَ عن كيف نَعرف الله وكيف نَرِث الحياة الأبديَّة، فإنَّ ما عَلَّمَه أَطاحَ حَرفيًّا بالقِلاع الإيديولوجيَّة الَّتي بَناها البشرُ بعناية فائقة، ثُمَّ إنَّه هَدَمَ أساساتها وجَعَلَها أنقاضًا. فتعليمُهُ مُختلفٌ عَمَّا نُفَكِّر فيه عادةً. وهذا المقطع يُبيِّن ذلك منذ بداية هذه العظة الرَّائعة. فالآياتُ الأولى تَحوي تناقُضًا ظَاهريًّا. وهي تُبيِّن كيف أنَّ يسوعَ نَقَضَ التَّفكير الدينيَّ التَّقليديَّ، وحتَّى التَّفكير العِلمانيَّ التَّقليديَّ.
استمعوا إلى ما قال ابتداءً مِن العدد 20: "وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: «طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ. طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ. طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ. اِفْرَحُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَتَهَلَّلُوا، فَهُوَذَا أَجْرُكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاءِ. لأَنَّ آبَاءَهُمْ هكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ. وَلكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الأَغْنِيَاءُ، لأَنَّكُمْ قَدْ نِلْتُمْ عَزَاءَكُمْ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الشَّبَاعَى، لأَنَّكُمْ سَتَجُوعُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الضَّاحِكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَحْزَنُونَ وَتَبْكُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَنًا. لأَنَّهُ هكَذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ يَفْعَلُونَ بِالأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ".
والآن، قد يبدو هذا الكلامُ في نَظرِ الإنسانِ العاديِّ جُنونًا. فمتى كان الفَقْرُ والجوعُ والحُزنُ والرَّفضُ بَرَكة؟ ومَتى كان الغِنى والشِّبَع والسَّعادة والشُّهرة لَعنة؟ بعبارة أخرى، إنَّ جميع النَّاس في العالم تقريبًا يعيشون حياتهم لكي يُحَوِّلوا الفَقرَ إلى غِنى، والجوعَ إلى شِبَع، والحُزنَ إلى فَرح، والرَّفضَ إلى شَعبيَّةٍ واسعة. ولكنَّ هذا هو المقصود. أليس كذلك؟ فالعالَمُ وكُلُّ تفكيره مُناقضٌ للحقّ. لِذا فإنَّ الرَّسول بولس يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس والأصحاح الأوَّل إنَّ حِكمةَ اللهِ جَهالةٌ عند البشر، وإنَّ حكمةَ البَشرِ جَهالةٌ عند الله. وفي رسالة رومية والأصحاح الأوَّل، قال بولس إنَّ الإنسانَ يَحسِبُ نفسَهُ حكيمًا، ولكنَّه أَبْلَه. فهذا هو ما يقولُهُ النَّصُّ اليونانيُّ. ونقولُ مَرَّةً أخرى إنَّ المسيحيَّة لا تُضيفُ شيئًا إلى ذكاءِ الإنسان، بل تَحِلُّ مَحَلَّهُ.
لِذا فإنَّ يسوعَ هنا لا يَقتبسُ كَلامَ أحد، بل يتكلَّمُ بسُلطان بصفتِه الله، ويُبَيِّن هُويَّةَ الأشخاصِ المُباركينَ وهُويَّةَ الأشخاصِ المَلعونين. وما يقولُهُ مُناقض تمامًا للتَّفكير التَّقليديّ. وهذه ليست عِظَة عن الأخلاق، بل هي عِظَة عن الخلاص. فهذه كلمة ذات سُلطان مِن الله تَضع المِعيار الَّذي يمكن لأيِّ شخصٍ أن يَستخدمه لفحص حالته الروحيَّة. وأعتقد أنَّكم موجودون هنا في الكنيسة في هذا الصَّباح وترغبون في تَمييز حالتِكم الروحيَّة. وأعتقد أنَّكم موجودون هنا لأنَّكم مُهتمُّون بملكوت الله. ومِن العَجيبِ جدًّا أن نَرى أُمَّةً تَعملُ مُنذ سنواتٍ طويلة على إِقصاءِ اللهِ عن الخِطابِ العامِّ، ولكنَّها تَذكُرُ اسمَهُ الآنَ في كُلِّ جُملةٍ تقولها تقريبًا. ولكنِّي أَفترِضُ أنَّكم هنا لأنَّكم مُهتمُّون بكيفيَّة ارتباطكم بالله وبما يُوفِّرُهُ لكم ذلك مِن جهة الرَّجاء في المُستقبل.
إن كانت هذه هي الحالة، وكنتم ترغبون في معرفة حالتكم، إليكم المِعيار الَّذي يمكنكم أن تَستخدموه لمعرفة ذلك. إليكم الفحص. فهذه العظة (عندما نَصِلُ إلى نهايةِ العدد 49) ستُحَدِّد بِلا أَدنى شَكٍّ المِعيار الَّذي يمكنك أن تَقيس به حياتك إذ ستتمكَّن حينئذٍ مِن معرفة إن كنتَ تَعرفُ اللهَ أو لا تَعرفُه، وإن كنتَ مُتَّجِهًا إلى السَّماء أو إلى جَهنَّم، وإن كنت مُخلَّصًا أو ضَالاًّ. ومِن بين جميع الأشياء الَّتي يمكنك أن تَعرفها، هذا هو الشَّيءُ الأَهَمّ. فيجب عليك أن تَعلم إن كنتَ مُباركًا أو مَلعونًا.
والآن بصراحة، بالنِّسبة إلى اليهود في زمن يسوع، وبالنِّسبة إلى أيِّ شخصٍ آخر حتَّى في يومِنا هذا، إنَّ ما يُطالبنا به يسوعُ هو تَغييرٌ جَذريٌّ جدًّا. والحقيقة هي أنَّ ذلك يتطلَّب في اعتقادي ما يُمكنكم أن تُسَمُّوهُ تَغييرًا عَمليًّا كبيرًا جدًّا. فيجب عليك أن تَخرج خارج نِطاقِ ذاتِكَ المألوف وأن تُفَكِّر بطريقة مُختلفة. ومِن المُحزن أنَّ اليهودَ الَّذين عَلَّمَهُم يسوعُ هذا التَّعليم المَرَّة تِلو المَرَّة في أثناء خدمته، بما في ذلك القادة، لم يُظهِروا يومًا أيَّ استعدادٍ للخروج خارج نِطاقِهم المألوف. وَهُم لم يقوموا يومًا بإجراءِ ذلك التَّغييرِ العَمليِّ، بل رَفضوا يسوعَ، وطَالبوا بإعدامه لكي يُبعدوه عن طريقهم لأنَّه كان شخصًا مُزعجًا. وما يزالُ العالَمُ هكذا اليوم. فسواءٌ فَكَّرتُم في اليهودِ أو بقيَّةِ العالَم الأُمَمِيّ (أي غير اليهود)، فإنَّ أغلبيَّة العالَم ما يزال يَرفض ما عَلَّمَهُ يسوع. ولكن إن أردتم أن تَفهموا جَوهرَ وَلُبَّ رسالته، يجب عليكم أن تَفهموا هذه المسألة المُختصَّة بالمُفارقة بين البَركة واللَّعنة، وأن تُمَيِّزوا ما إذا كنتم في عِدادِ المُبارَكينَ أو في عِدادِ المَلعونين.
والفكرة مِن البَرَكة واللَّعنة لم تكن فِكرةً جديدةً بالنِّسبة إلى اليهود. فقد كان لديهم العهد القديم. وكانوا يَعلمون ما إذا كانَ اللهُ قد بَايَنَ بين البَرَكة واللَّعنَة. فَمِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ فَعلَ ذلك في سِفْر التَّثنية والأصحاحين 27 و28. فقد كان هناك وقتٌ قالَ اللهُ فيه: إن أَطعتُموني سأُبارككم، وإن لم تُطيعوني سألعَنُكم. وقد بَيَّن ذلك بعبارات واضحة جدًّا في ذلك الجزء مِن العهد القديم. ولكن بالرَّغم مِن أنَّهم كانوا يَفهمون أنَّه يوجد مَكانٌ للبَرَكة ومَكانٌ لِلَّعنَة، فإنَّ ديانتهم كانت قد زاغَت كثيرًا عن الحقِّ حتَّى إنَّهم لم يكونوا يَعرفونَ ما هو ذلك المكان. والحقيقة هي أنَّهم كانوا ينظرون إلى الأمر نَظرةً معكوسةً تمامًا. لذا فإنَّ يسوعَ هُنا يُقَوِّمُ تفكيرَ كلِّ شخصٍ ويَقلِب كلَّ حِكمةٍ بشريَّةٍ تقليديَّة.
واسمحوا لي أن أُمَهِّدَ الموضوعَ لكم حسبما جاءَ في العدد 20. فلوقا يُخبرنا أنَّ يسوعَ: "رَفَعَ عَيْنَيْهِ إِلَى تَلاَمِيذِهِ وَقَال...". والآن، لقد كانت هذه العظة مُوَجَّهة في الأصل إلى تلاميذه. والآن، اسمحوا لي أن أُعَرِّفَ ذلك لكم. فالتَّلاميذُ هُم فئة مِن ثلاث فئات كانت تُحيط بيسوع. ارجعوا قليلاً إلى العدد 17. فقد حَدَّدَ يَسوعُ للتَّوّ هُوِيَّةَ الرُّسُلَ الاثني عشر. فَهُمْ يُدْعونَ رُسُلاً. وقد سَمَّاهُم رُسُلاً حسبما جاءَ في نهاية العدد 13. لِذا فقد حَدَّدَ للتَّوّ هُوِيَّةَ الرُّسُلَ الاثني عشر. وَهُم أكثرُ مجموعة مُقَرَّبة إليه. وقد نَزَلَ معهم. فقد نَزلَ بعد أن كان قد صَعِدَ إلى الجَبل وصَلَّى إلى الآب. ثُمَّ إنَّهُ نَزَلَ قليلاً، ودَعا التَّلاميذَ، وأخذهم إلى تَلَّة صغيرة، ودعاهُم مِن المَجموعة الكبيرة، وحَدَّدَ هُويَّتهم بأنَّهم الاثنا عشرَ رَسولاً؛ وهي كلمة تَعني المَبعوث أو المُرسَل. فقد صاروا وُعَّاظًا تحت التَّدريب. وقد كانوا أقرب وأَعَزَّ رُفقاء ليسوع – الاثنا عشر.
لِذا فقد نَزلَ معهم. وعندما عادوا إلى مَوْضِعٍ سَهْلٍ في الجبل، كان هناك جَمْعٌ كبيرٌ مِن تلاميذه؛ وَهُم يَختلفون عن الرُّسُل. وكما قلتُ لكم في الأسبوع الماضي، كان هذا الحَشْدُ جُمهورًا مُختَلَطًا مِن النَّاس الَّذينَ كانوا مُنجذبين ليسوعَ بسبب سُلطانِه على العالَم الماديّ، وسُلطانِه في الشِّفاء، وسُلطانِه على العالمِ الرُّوحيِّ، وسُلطانه في طَرد الشَّياطين، وتَعليمِه العميقِ ذي السُّلطان. فقد كانوا مُكَرَّسينَ نَوعًا ما. وَهُم تلاميذ ("ماثيتيس" – “mathetes”)؛ أي مُتَعلِّمون. إنَّهم تلاميذُ يسوع. فقد ذهبوا إلى المدرسة. فقد تركوا جوانب الحياة المُختلفة المُختصَّة ببيوتهم وأعمالهم وصاروا الآن في مدرسة يسوع. فَهُم يَرتحلونَ ويَتنقَّلونَ معه، ويَستمعون إليه يومًا تِلو الآخر. والمجموعة الثَّالثة هي الجُمهورُ الكَثيرُ (كما يقولُ العدد 17): "وَجُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ وَسَاحِلِ صُورَ وَصَيْدَاءَ". وهؤلاءِ هُمُ الفُضوليُّون. إذًا هناكَ تلك المجموعة الحميمة المؤلَّفَة مِن الرُّسُل، وتلك المجموعة المُتوسِّطة مِن المُتعلِّمين أوِ التَّلاميذ، ثُمَّ المجموعة الثانويَّة الَّتي تَضُمُّ الفُضوليِّين.
والآن، يُوَجِّه يسوعُ رسالته إلى التَّلاميذ؛ أي إلى تلك المجموعة المُتوسِّطة. والنَّاسُ في تلك المجموعة يَتفاوتونَ كثيرًا في مستويات إيمانهم بيسوع. فقد كانوا مَفتونين به، ومُعجَبينَ جدًّا به، ومُنجذبينَ إليه. فقد كانوا يؤمنونَ نوعًا ما بأنَّ هذا قد يكون المَسيَّا. وكان بعضٌ منهم قد اختبروا الخلاصَ الحقيقيَّ وقَبلوا المسيحَ تَمامًا. فقد أَكلوا جَسَدَهُ وشَرِبوا دَمَهُ كما قال. بعبارة أخرى، لقد قَبلوهُ تمامًا. وكان أُناسٌ منهم على وَشْكِ القيام بذلك. وكانَ بعضٌ منهم قد سمعوا الكثيرَ مِن تعليمه وانزعجوا منهُ وقَرَّروا المُغادرة. وكان بعضٌ منهم يَقفونَ مَوقفَ الحِياد. ولكنَّهم كانوا جَمْعًا مُختَلَطًا في جميعِ أرجاء المكان.
فقد كانوا يُشبهونكم في هذا الصَّباح. فنحن لدينا عَددٌ كبيرٌ مِن النَّاس هنا. وَهؤلاءِ يَضُمُّون تلك المجموعة الحميمة مِن الأشخاص المُنخرطين جدًّا؛ أي الأشخاص الَّذينَ يخدمون الربَّ في جميع جوانب حياتهم. فَهُمْ الشُّهودُ الأُمناءُ، وَهُم يُحبُّون المسيحَ، ويَخدمونه، ويعيشون لكي يَخدموه. وهناك أيضًا المجموعة الثَّانويَّة؛ أي الأشخاص الَّذينَ يَكتفونَ بالنَّظر وحسب بدافعِ الفُضولِ لما يَجري هنا، وبدافع الفُضولِ لما نُعَلِّمُه، ولما يُعلِّمُه الإنجيلُ، ولما يُعلِّمُه الكتابُ المقدَّس. فقد انجذبوا بسببِ شيءٍ رَأَوهُ في حياة شخصٍ ما أو سَمعوا أنَّه يحدث في الكنيسة فجاءوا إلى هنا بدافعِ الفُضول.
ولكن هناك أيضًا تلك المجموعة مِن الأشخاص في الوسط مِن المُتعلِّمين. فربَّما تأتون إلى هنا أسبوعًا تِلو الآخر وتَتعلَّمون. وهناك أشخاص كثيرون منكم يعرفون المسيح. وأنتم تَنمونَ روحيًّا. وهناك أشخاصٌ يأتونَ إلى معرفة المسيح. وهناك أشخاصٌ يَجلسونَ وحسب في حِيادٍ دون أن يُكَرِّسوا أنفسهم له؛ ولكنَّكم ما زلتُم هنا. وهناك أشخاصٌ منكم يَعيشونَ في وَهْمٍ لأنَّكم لا تريدون أن تَتوبوا عن خطاياكم؛ وَهُم أشخاص يَستعدُّون للمغادرة. ولكن هذه هي المجموعة الَّتي خاطَبَها يسوعُ، وهي المجموعة الَّتي أُخاطبُها أنا أيضًا لأنَّ ما أرادهم يسوعُ أن يَعرفوا بوجوده هو المِعيار الَّذي يمكنك أن تَحكُم مِن خلالِه على حالتك الروحيَّة؛ أي ما إذا كنتَ مُباركًا أو مَلعونًا. فيجب عليك أن تَعرف ذلك. وإليكَ كيف تستطيعُ أن تَعرف ذلك.
إذًا هذه هي، بصورة أساسيَّة، المجموعة الَّتي يُوَجِّه إليها تَعليمَه. والحقيقة هي أنَّ العدد 20 يقول إنَّه "رَفَعَ عَيْنَيْهِ" إليهم؛ أي إلى المُتَعَلِّمين (بمستوياتهم المُختلفة) الَّذينَ كَرَّسوا أنفسَهم لاتِّباعهم بصورة دائمة بسبب انجذابهم إلى تَعليمه وسُلطانه. والآن، لم يكن هؤلاءِ جميعًا مؤمنين حقيقيِّين لأنَّنا نَعلم ذلكَ مَثلاً مِن خلال ما جاء في إنجيل يوحنَّا 2: 23-25 إذ نَقرأُ أنَّ كثيرينَ آمنوا به، ولكنَّه لم يَأتَمِنْهُم على نَفسِه لأَنَّهُ كانَ يَعْرِفُ ما في قلوبهم. فقد كان يَعرف أنَّ إيمانهم ليس إيمانًا مُخَلِّصًا. فهو لم يكن ثِقةً كاملةً. لذا فهو لم يَأتمِن على نفسه ذلك النَّوع مِن الإيمان السَّطحيّ. وفي إنجيل يوحنَّا 6: 66 وما يليه، لَعلَّكم تَذكرون أنَّ يسوع قَدَّمَ لهم تعليمًا أكثر مِن قدرة فئةٍ مِن النَّاسِ على التَّقَبُّل. لذا فإنَّنا نقرأُ أنَّ تلاميذَهُ... أو أنَّ كثيرينَ مِن تلاميذِهِ... لم يعودوا يَمشون معه. فقد اختفوا. ثُمَّ نقرأ في إنجيل يوحنَّا 8: 31 أنَّه كان يوجد أشخاص آخرون آمنوا به ولكنَّه قال لهم: "إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي".
لِذا فإنَّنا نَعلم أنَّ هذه مجموعة مُختَلطة كما أنَّ الكنيسة مُختلَطة. فهناك أشخاصٌ في طريقهم إلى معرفة المسيح، وأشخاصٌ يَعرفون المسيح، وأشخاصٌ مُحايدون، وأشخاصٌ في طريقهم إلى الخارج لأنَّهم ليسوا مُستعدِّين لتكريس أنفسهم. لِذا فإنَّني أُوَجِّهُ إليكم جميعًا الكلامَ... الكلامَ ذا السُّلطانِ الَّذي قالَهُ يسوع في هذه التُّحفة مِن الحقِّ الروحيِّ والَّتي تُسَمَّى: "العِظَة على الجَبل". فهي الكلام الَّذي تحتاجون إلى سماعه لأنَّه يجب عليكم أن تَعرفوا إن كنتم في عِدادِ المُبارَكينَ أو في عِدادِ المَلعونين. وهي عِظة تَصْمُدُ، أو هذا الحَقُّ يَصمُدُ مَدى الدَّهر كفحصٍ مِعياريٍّ للخلاصِ الحقيقيّ. ومع أنَّ هذا الأمر واضحٌ جدًا لي، فإنَّه ليس واضحًا على ما يبدو لِشُرَّاحٍ كثيرين يَكتبون عن هذا المَقطعِ بتشويشٍ خطير. ولكنَّه ليس مُربِكًا، بل هو بسيطٌ ومُباشِر.
والآن، لكي أُبَيِّن لكم قَصدَ يسوع مِن هذه العِظة، يجب عليكم أن تَنظروا قليلاً إلى نهاية العظة لأنَّ أيَّ واعظٍ جيِّد لا بُدَّ أن يُقدِّمَ خُلاصةَ كلِّ ما قالهُ ويُوضِّح قَصدَهُ. فالعظة تَنتهي بالكلماتِ التَّاليةِ إذ نقرأ في العدد 47: "كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ. يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذلِكَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْر". وهؤلاءِ هُم الأشخاص الَّذينَ يَسمعون كلامه ويَعملون به، أو يُطبِّقونه، أو يعيشونَه. فهو يَسودُ على حياتهم فتكونُ حياتُهم مُؤسَّسةً على أساسٍ صَخريٍّ. وعندما تأتي الدَّينونة لا يُمَسُّون. "وأمَّا..." [في العدد 49] "...الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذلِكَ الْبَيْتِ عَظِيمًا! فعندما تأتي الدَّينونة، إمَّا أن تَصمُدَ وإمَّا أن تَسقُط. وذلك يَتوقَّف على ما إذا كُنتَ في عِدادِ المُبارَكينَ أوِ المَلعونين.
لِذا، لِنَنظر نَظرةً فاحصةً على الطَّريقة الَّتي يَفتَتِحُ بها يسوعُ العِظَة. فهناك كَلمتان رئيسيَّتان: "طُوبَى" وَ "وَيْل". وتحتَ كُلٍّ مِن هاتين الكلمتين هناك أربع جُمَل. فهناك أربعُ تطويبات وأربعة وَيلات. وهذا تَناقُضٌ غريب. فهو تَناقُضٌ يُخالِفُ التَّفكير البشريَّ. طُوبى للمَساكين، والجِياع، والحَزانَى، والمَرفوضين. ووَيلٌ للأغنياء، والشَّباعَى، والضَّاحِكينَ، وأصحابِ الشَّعبيَّة الواسعة. فهي مُناقضة تمامًا لطريقة تفكير النَّاس. والآن، لننظر إلى الكلمة "طُوبَى". فهي الكلمة اليونانيَّة "ماكاريوي" (makarioi)، ومعناها: "الأوفَر سَعادةً" – "الأوفَر سَعادةً". فهي تُشيرُ إلى شخصٍ يَتمتَّع بأفضل حالة مُمكنة ... يَتمتَّعُ بأفضل حالة مُمكنة. أمَّا الكلمة "وَيْلٌ" ("أُواي" – “ouai”) باليونانيَّة فتعني: "الأكثر تَعاسَةً" – "الأكثر تَعاسَةً". وهي تُشيرُ إلى الشَّخص الَّذي هو في أسوأ حالة مُمكنة. فالمُطَوَّبونَ يَتمتَّعون بأفضل حالة مُمكنة، والمَلعونونَ يَحتملونَ الآلامَ المُرافقة لأسوأ حالة مُمكنة. فهذان هُما المكانان الوحيدان اللَّذان يعيش فيهما النَّاس. فأنتَ تَعيشُ إمَّا في هذا المكانِ وإمَّا في ذاك المكانِ. فإمَّا أن تكونَ في عِدادِ المُبارَكين، وإمَّا في عِدادِ المَلعونين. فلا توجد منطقة وُسطى.
والآن، اسمَحوا لي أن أُسارِعَ إلى القول إنَّه عندما تقرأون "طُوباكُم أيُّها المَساكينُ" أو "طُوباكُم أيُّها الكَذا"، أو "وَيلٌ لَكُم..." أو "وَيلٌ لَكُم..."، أريد منكم أن تَفهموا أنَّ هذه ليست أُمنيات. فهذه ليست أُمنية. وهذا ليسَ رَجاء. وهذه ليست حتَّى صلاة. فهي لا تَعني: "يا رَبّ، أرجوكَ أن تُباركَ الأشخاصَ الفُقراء "، أو: "يا رَبّ، أرجوكَ أن تُبارِك الجِياعَ والباكينَ والمُبْغَضين"، أو: "يا رَبّ، أرجوكَ أن تَلعَن الأغنياءَ والشَّباعَى والضَّاحِكينَ وأصحابَ الشَّعبيَّة الواسعة". فهي ليست صلاة. فهي لا تُشبِه: "يا رَبّ، بارِك أمريكا"؛ وهي أُمنية نَسمعُها كثيرًا جدًّا، وهي رَجاء أو أُمنية أو صَلاة بأن يَفعل اللهُ شيئًا مِن الواضح أنَّه بحاجة إلى أن يُعمَل. ومِن المؤكَّد أنَّه لا يوجد خطأ في أن نُصَلِّي تلك الصَّلاة؛ ولكنَّ هذا ليس هو المقصود هنا.
فهذه جُمَل مُثبَتَة تُفيدُ ذِكرَ حقائق. فالمساكينُ مُبارَكون. والجِياعُ مُبارَكون. والبَاكونَ مُبارَكون. والمَرفوضونَ مُبارَكون. والأغنياءُ والشَّباعَى والضَّاحِكونَ والمَشهورونَ مَلعونون. فهي جُمَل تُبَيِّن حقائق. فهو مَرسومٌ إلهيٌّ ذو سُلطانٍ نابِعٌ مِن قرارٍ إلهيٍّ مَحتوم. فهو حُكْمٌ مَقْضِيٌّ. فهذه حقائق مُطلَقة مُقدَّمة بسُلطانٍ ومُعلَنة على حياة البَشر. فهناك أشخاص حَصلوا على بَركةٍ واستحسانٍ أَبديَّيْنِ مِن الله. فهذه حقيقة. وهناك أشخاصٌ حَصلوا على لَعنةٍ وازدراءٍ أبديَّيْنِ مِن الله. وهذه حقيقة أيضًا. والسُّؤالُ هو: إلى أيِّ مَجموعة تَنتمي أنت؟ فللمساكين، هُناكَ بَرَكة. وللمُتَّكِلينَ على أنفسِهم، هناكَ لَعنة.
والآن، لنَبتدئ بالنَّظر إلى المُبارَكين. عندما وَعظتُ هذه المادَّة عن التَّطويباتِ في إنجيل مَتَّى، أو في الحقيقة، عندما وَعظتُ عن العِظَة على الجبل، استغرقني الأمرُ سنة لتعليمِ ذلك هنا لأنَّها كانت مُفَصَّلة جدًّا. وعندما وَعظتُ عنِ التَّطويبات، استَغرقني الأمرُ بضعة أشهر. ولكنِّي فَعلتُ ذلك في إنجيل مَتَّى. فإن أردتم الاطِّلاعَ على كلِّ تلك التَّفاصيل والأمور الدَّقيقة المُختصَّة بِفَهْمِ التَّطويبات، يمكنكم أن تَقرأوا شَرحَ إنجيل مَتَّى أو أن تَستمعوا إلى العِظات المُسَجَّلة عن التَّطويبات في دراسة مَتَّى لأنَّني لن أُعيدَ ذلك مَرَّةً أخرى. فسوفَ أَمُرُّ مُرورًا سَريعًا على هذا المَقطَع.
والحقيقة هي أنِّي سأُنهي النَّصَّ الَّذي أمامَنا في صَباحَيِّ يومِ أحد فقط. وسوفَ نُكمِل الجزءَ المُتبقِّي بسرعة أيضًا لأنَّنا قُمنا في الماضي بدراسة مُوسَّعة له. وهذا جَيِّد لأنَّه أحيانًا عندما تَدخلُ في تفاصيل كثيرة وتَتوسَّعُ في الشَّرح، قد تُضَيِّع النُّقطة المَقصودة. لِذا سوفَ تكون هذه الطَّريقة أكثر تَرابُطًا بالنِّسبة إليكم، وسوفَ تَرَوْنَ الصُّورة الكبيرة. ونَأمُلُ في أن تَفهموا العظةَ كما سَمِعَها المُستمعونَ الأصليُّونَ وفَهِموها. وأعتقدُ أنَّ يسوعَ وَعَظَ هذه العِظة في خمسِ أو سِتِّ ساعات كَحَدٍّ أقصى لأنِّي أعتقد أنَّ هذا هو الوقتُ الَّذي أحتاجُ أنا إليه.
لنبتدئ بالتَّطويبات. لنبتدئ بالتَّطويبات. فالتَّطويبةُ الأولى تَختصُّ بالفَقر. أَليست هذه مُفارَقة؟ بَرَكة الفَقر (في العدد 20). فيسوعُ يَبتدئُ العِظة، ولوقا يُدَوِّنُها: "طُوبَاكُمْ [أو يا لِغِبْطَتِكُم] أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ، لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ اللهِ". والآن، قد تقول: "أنا لا أَفهم ذلك. فأنا فَقيرٌ ولا أُحِبُّ ذلك. ألسنا نَسعى جميعًا في العالَم ونُحاول أن نَحُلَّ مُشكلةَ الفَقر؟ والفَقرُ...أنا لا أجدُ الفقرَ بَرَكة بالضَّرورة حَتَّى في الكتاب المقدَّس. أَلا يقولُ سفرُ الأمثال والأصحاح الثَّلاثون: "اِثْنَتَيْنِ سَأَلْتُ مِنْكَ [في العدد 7]، فَلاَ تَمْنَعْهُمَا عَنِّي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ: أَبْعِدْ عَنِّي الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ. لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي [أي أعطِني ما يَكفي حاجَتي]، لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلهِي بَاطِلاً".
نحنُ نَقرأُ هنا كلماتِ إنسانٍ بارٍّ يَقول: "يا رَبّ، لا تُعطِني فَقرًا لِئلاَّ أَفتَقِرَ وأسرِقَ وأتَّخِذَ اسمَكَ باطِلاً". فالفقرُ في ذاتِه ليس بالضَّرورة بَركةً. إذًا، ما المَعنى المقصود؟ إنَّه لا يَتحدَّث عن الفَقرِ الماديِّ. فهو لا يتحدَّثُ عن الاقتصاد. إذًا، ما نوعُ الفقرِ الَّذي يتحدَّث عنه؟ يُقدِّم لنا إنجيل مَتَّى جُملةً أخرى قالها يسوعُ في تلك العظة نفسِها: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوح". فهذا هو ما يَتحدَّثُ عنه. فاللهُ لا يُباركُ النَّاسَ وحسب لأنَّهم فُقراء. فهذه حقائق. فالفُقراءُ ليسوا مُبارَكين. ولن يَحصُلَ جميعُ الفُقراءِ بسبب فَقرهم وحسب على ملكوت الله. فأنتَ لا تَهتدي بِفَقرِك. فالنَّصُّ لا يَتحدَّث عن ذلك.
فاللهُ لا يُقَدِّمُ الخلاص للنَّاسِ بسبب أنَّهم في حاجة اقتصاديَّة أو ماليَّة، بل إنَّه يَتحدَّثُ عن الفقرِ الروحيِّ. فالأشخاصُ المُباركونَ هُم أشخاصٌ يَفهمونَ فَقرَهُم الرُّوحيَّ. فَهُم يَفهمونَ الحالةَ المُفلِسَةَ لنفوسهم. وَهُم يَفهمون أنَّهم لا يَملِكونَ أيَّة مَصادر يَحصلونَ مِن خلالِها على رِضَى الله. وَهُم يَفهمونَ أنَّ الخلاصَ ليسَ بالأعمال، أي ليسَ بالأعمال الصَّالحة، أو الأعمال البارَّة، أو الطُّقوس، أو الشَّعائِر، أو الأفكار الدينيَّة، أو المشاعر أو ما إلى ذلك. فَهُم يَفهمون أنَّه في نهاية المَطافِ، بِغَضِّ النَّظر عن صَلاحِهم البَشريِّ الَّذي قد يُظهرونَهُ، وبِغَضِّ النَّظر عن انخراطِهم في الدِّين، وبِغَضِّ النَّظر عن الطُّقوس الَّتي قد يَشتركون بها، فإنَّهم مُفلِسون. فلا شَيء مِن هذه الأشياء يَمتلك القُدرة على شِراء الخلاص. فهذه هي النُّقطة الجوهريَّة.
ارجِعوا إلى الأصحاح الرَّابع الَّذي لا بُدَّ أن نَرجِعَ إليه باستمرار. فعندما ذهبَ يسوعُ إلى المَجمَعِ في النَّاصرة، أي في بَلدته، في الأصحاح الرَّابع إذ إنَّه ذهبَ إلى المَجمَعِ هناك. كانَ هؤلاء أقرباؤه، وأصدقاؤه، وعائلتُه المُمتدَّة، وأشخاصٌ يَعرفونه. فقد تَرعرعَ هناك. فقد عادَ إلى النَّاصرة، وعادَ إلى بَلدته، وإلى مَجمَعِه، وإلى الأشخاص الَّذينَ يعرفونه أكثر مِن أيِّ أشخاصٍ آخرين لأنَّهم راقبوهُ وَهُوَ يَنمو إلى أن صار عُمرُهُ ثلاثين سنة ثُمَّ غادرَ وابتدأ خِدمتَه. وقد جاءَ وقال لهم: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ"، واقتبسَ مِن سِفْر إشعياء والأصحاح 61، وقال إنَّهُ هُوَ المَقصودُ بذلك الكلام. فقد قال ذلك في العدد 21: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ. أنا هو المَسيَّا. أنا هو المَمسوحُ مِن الرُّوحِ القُدُس الَّذي قيلَ إنَّهُ سيأتي. فقد مَسَحَني لأكرِزَ بالخبرِ السَّارِّ. وهذا هو الخَبرُ السَّارُّ: الخَبرُ السَّارُّ هو الغُفران. الخَبرُ السَّارُّ هو البِرّ. الخَبرُ السَّارُّ هو أنَّ وُعودَ اللهِ ستَكتمل وتتحقَّق. ولكنَّ هذا الخبرَ السَّارَّ هو للمساكينِ، والمَأسورينَ، والعُميَ، والمقهورينَ أو المُنسَحِقين".
فقد جئتُ لأُقدِّمَ الخبرَ السَّارَّ. ولكنَّ الأشخاص الوحيدينَ الَّذينَ يَسري عليهم الخبرُ السَّارُّ هُم أولئكَ الَّذينَ يَرَوْنَ أنفسَهم مساكينَ، ومأسورينَ، وعُميانًا، ومُنسَحِقين. وماذا حدث؟ لقد شَعَر النَّاسُ في المَجمَع بالاستياءِ مِن هذا الكلام. بل إنَّهم شعروا بما هو أكثر مِن الاستياء. فقد غضبوا. بل إنَّهم شعروا بما هو أكثر مِن الغضب؛ فقد اغتاظوا. وقد أخذوا يسوعَ ابنَ بَلدتهم... فقد كانوا يَعرفونه جيِّدًا. فهؤلاءِ هم أقرباؤه وأصدقاؤه الَّذينَ كَبِروا معه... أخذوهُ وجاءوا به إلى حافَّةِ الجَبلِ وحاولوا أن يَطرحوهُ مِن فوقِ تلك الحَافَّة وَيَقتلوه لأنَّه قال إنَّهم فُقراءَ ومأسورينَ وعُميانًا ومُنسَحِقينَ روحيًّا؛ أي أنَّهم هُمُ المُفْلِسون. فقد قال ذلك ولم يَقبلوا كلامَهُ. وقد غَضِبوا بسبب ذلك. فقد كانوا أبرارًا جدًّا في أعيُن أنفُسهم، وكانوا مُقتَنِعينَ جدًّا أنَّهم فَعلوا كلَّ الأشياء الَّتي تُرضي الله، وأنَّهم استحقُّوا مِن خلالِ بِرِّهم الذَّاتيِّ علاقتهم السَّليمة مع اللهِ حتَّى إنَّهم أرادوا أن يَقتلوه. فقد أَظهروا كُلَّ تلك العَداوة لَهُ. وقد حاولوا أن يَقتلوهُ بِطَرحِهِ مِن فوق حافَّة الجبل.
المُطَوَّبونَ هُم ليسوا أولئك الَّذينَ يَظُنُّون أنَّهم أغنياء روحيًّا، وليسوا أولئك الَّذينَ يَظُنُّون أنَّ بِرَّهُم الذَّاتيَّ الشَّخصيَّ يَكفي لشراء الخلاصِ لهم. والحقيقة هي أنَّ الكلمة "فَقير" هي "بتوكوس" (ptochos) – والكلمة "بتوكوس" مُشتقَّة مِن الكلمة "بتوسو" (ptosso). والكلمة "بتوسو" تعني: يَتَذَلَّل ويَنكَمِش مِثل المُتَسَوِّل. فهي كلمة تُشير إلى شخصٍ يَنزِل إلى مُستوى التَّسَوُّل. وبهبوطِه إلى ذلك المُستوى مِن التَّسَوُّل فإنَّهُ عارٌ وذُلٌّ حتَّى إنَّ الشَّخص يَنكَمِش يَتذلَّل ويَنكمِش. فهي ليست صورة شخص مُتحايِل أو مُتسوِّل زائف يَتظاهر بالفقرِ مُلتجئًا إلى المَكرِ والحيلة، بل إنَّ الشَّخصَ المُشار إليه هنا هو شخص في أدنى مُستوى مُمكن. فلا يوجد مُستوى أَدنى مِن هذا. فلا يمكنك أن تَنزِل إلى مُستوى أدنى مِن الكلمة "بتوكوس". ولا يُمكنك أن تكون فقيرًا أكثر مِن ذلك. فأنتَ مُعْدَمٌ ولا تَملِكُ أيَّ شيء.
والأمرُ لا يَقتصر فقط على أنَّك لا تَملكُ أيَّ شيء، بل إنَّكَ لا تَملِك القدرة على كَسبِ أيِّ شيء. لذا فإنَّكَ تَهبِط إلى حَياةِ التَّسَوِّلِ المُذِلَّة. ولأنَّ ذلكَ مُهينٌ جدًّا ومُعيبٌ جدًّا وقَبيحٌ جدًّا، فإنَّكَ لا تَنظر حَتَّى إلى أعلى، بل إنَّك تَنكَمِش، وتُغَطِّي وَجهكَ، وتَرفَعُ يدكَ إلى أعلى. وقد قال يسوعُ إنَّ أولئكَ الأشخاصَ مُباركون. وهو يُشيرُ إلى المُتَسَوِّلينَ روحيًّا الَّذينَ يَعلمون أنَّهم لا يَملكون شيئًا يُقدِّمونه إلى الله: لا أعمال، ولا شيء، ولا شَيء يَكسبونَ به استحسانَهُ. وهي تُشيرُ إلى مُستوى في الحياة وضيعٍ جدًّا حتَّى إنَّكَ لا يُمكن أن تَنحَدِر إلى مُستوى أخفَض منه. فأنتَ مُفلِسٌ جدًّا حتَّى إنَّك لا تستطيع أن تَصيرَ مُفلِسًا أكثر مِن ذلك. فأنتَ لا تَملِك أيَّ شيء ولا تَملِك القدرة على كَسْبِ أيِّ شيء. فأنتَ تُشبه ذلك العَشَّار المَذكور في لوقا 19 الَّذي صَعِدَ إلى الهيكل ليُصلِّي. وما الَّذي فَعلَهُ؟ نقرأ أنَّه لم يَرفع عَينيه. لماذا؟ إنَّهُ صُورة المُتَسَوِّل الذَّليل المُنكَمِش الَّذي يَرفَع يَدَه فحسب إلى أعلى ويقول: "اللَّهُمَّ ارحمني، أنا الخاطِئ". فأنا أشعرُ بحَرجٍ شديد، وأنا أشعرُ بخِزْيٍ شَديد، وأنا ذَليلٌ جدًّا حتَّى إنِّي لا أستطيعُ أن أنظر إليك". وهذا هو الإنسانُ المِسكين بالرُّوح المِذكور في سِفْر إشعياء 66: 2. وهذا هو الإنسانُ الَّذي يَعلم أنَّه لا يَملِك أيَّ شيء.
ولكنَّ اليهودَ لم يكونوا يَرَوْنَ أنفسهم بتلك الطَّريقة. فقد كانوا النُّخبة الروحيَّة. وكانوا يَظُنُّون أنَّ أعمالَهم الصَّالحة قد ضَمِنَت لهم البِرّ. وكانوا يَظُنُّون أنَّ طُقوسَهم الدينيَّة قد ضَمِنَت لهم البِرّ. ولكنَّهم كانوا مُخطئين تمامًا. وقد قَلبَ يسوعُ ذلك المَفهوم رأسًا على عَقِب. فالأشخاصُ الَّذينَ يَعلمون أنَّهم لا يَملِكون شيئًا ويَتسَوَّلونَ هُم المُبارَكون. ولماذا هُم مُباركون؟ "لأَنَّ لَكُمْ مَلَكُوتَ الله". لأنَّ المَلكوتَ سيكونُ مِن نَصيبِكُم. وهذا مُدهش. فأنتَ لا تأخُذ شيئًا مِن الملكوت، بل تَحصُل على الملكوت... أي عليهِ كُلِّه. فأنت تَصيرُ وارثًا لله، ووارثًا مع المسيح، ومالِكًا لكلِّ شيءٍ في الملكوت، ولكلِّ ما يُقدِّمُه الملكوتِ: الحياة الأبديَّة، والغُفران، والنِّعمة، والرَّحمة، والفرح، والرَّجاء، والأمان، والتَّعزية، والسَّلام، والمحبَّة، والبِرّ، وكلّ ما هو لك. فهو كُلُّه مِن نَصيبِك.
فالأشخاصُ المُتَّضِعون يُدركون أنَّهم لا يَملكونَ شيئًا يَمتدحونَ به أنفسَهم قُدَّام الله، بل يَتذلَّلونَ، ويَنكمشونَ، ويَنظرونَ إلى الأسفل، ويَرفعون يَدًا فارغةً، ويَطلبون مِن الله أن يَملأها بالنِّعمة والرَّحمة. وهؤلاءِ هُم المساكينُ بالرُّوح الَّذينَ يَتباركونَ لأنَّ الخلاصَ يا أصدقائي هِبَة. فهو ليسَ بالأعمال: "لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ". ولكنَّ الأشخاص الَّذينَ يُشبهونَ المُتَسَوِّلين ويَمُدُّون يَدَهم للحصول على النِّعمة، فإنَّهم يحصلون على الملكوتِ هُنا والآن؛ أي كُلَّ بَركاتِ الخلاص.
وفي المستقبل، عندما يأخذُ المَلكوتُ شَكلَهُ في المُلْكِ الألفيِّ، سوف تَملِك في ملكوتِ المسيحِ على الأرض ألفَ سنة. وبعد ذلك، سوف تتمتَّع بكُلِّ غِنى المملكة الأبديَّة في السَّماءِ الجديدة والأرض الجديدة. فهو كُلُّه لك... كُلُّه لك. لاحظوا الفعل "لَكُم المَلكوت". فالجُزءُ الألفيُّ مِن الملكوت لم يأتِ بعد. والجزءُ الأبديُّ لم يأتِ بعد. ولكنَّ الملكوت لكم الآن لأنَّ الملكوتَ بِرٌّ وفَرحٌ وسلامٌ في الرُّوح القُدُس (كما يقول بولس في رسالة رومية). ونحنُ نَملِك كلَّ ذلك الآن: البِرّ والفَرح والسَّلام في الرُّوح القُدُس.
أمَّا الصِّفة الثَّانية للأشخاص المُباركين فنجدها في التَّطويبة الثَّانية وهي تَطويبة الجُوع... تَطويبة الجُوع. فنحن نقرأ في العدد 21: "طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْجِيَاعُ الآنَ، لأَنَّكُمْ تُشْبَعُونَ". ونقولُ مَرَّةً أخرى إنَّ المَعنى المقصودَ هو ليس الطَّعام الماديّ، بل الرُّوحيّ. فنحن نقرأ في إنجيل مَتَّى 5: 6: "طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى [ماذا؟] الْبِرِّ". وقد قال يسوعُ ذلكَ مَرَّةً، وكانَ هو كلّ ما يَحتاجُ أن يقولَه. ونحنُ نَفهم نَوع الجوع الَّذي يتحدَّث عنه. فهو الرَّغبة الشَّديدة في البِرّ. فَلِسانُ حَالِ هذا الشَّخصِ هُوَ: "انظر! أنا لا أملِكُ شيئًا. أنا مُفلِس. أنا مُتَسَوِّل. أنا لا أستطيعُ أن أَنالَ خلاصي بقدرتي، ولكنِّي جَائِعٌ إلى البِرّ". وما أعنيه هو أنَّك إن لم تكن جائعًا إلى البِرّ فإنَّك لن تَطلبه.
لِذا فإنَّ المُبارَكين هُم الأشخاص الَّذينَ يُوجد لديهم شَوْقٌ عَميقٌ وشديدٌ للقَبول مِن الله. فَهُم يريدون أن يَتصالَحوا مع الله. وَهُم يريدون علاقةً مع الله. وَهُم يريدون غُفرانًا. وَهُم يريدون أن يَتخلَّصوا مِن خطاياهُم. وَهُم يريدون أن يكونوا في شركة مع الله. وَهُم يريدون الحياة الأبديَّة. وهناك أشخاص كثيرون في بَلدنا لا يريدون أن يَموتوا في انفجار، ولا يريدون أن تَسقُط بهم الطَّائرة، ولا يُريدون أن تَهبُطَ أسعار أسهُمهم، ولا يُريدون أن يَخسروا وظائفهم. ولكنَّ هذا بعيدٌ كلَّ البُعد عن الجوع والعطش إلى البِرّ. فالحديثُ هنا هو عن نَفسٍ تُدرك بألمٍ فَراغَها وتَشعر بجوعٍ شديدٍ إلى الحياة الَّتي تُرضي اللهَ وتُكرِمُه وتَعرفُه.
وهذا يُشبه ما جاء في المزمور 42: 1 و 2 إذ يقولُ المُرَنِّم: "كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ". أو المزمور 63: 1 و 2: "يَا اَللهُ، إِلهِي أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ". والحقيقة هي أنَّه عندما كانت مَريم تُسَبِّح الله بعد حصولها على الإعلان بأنَّها ستصيرُ أُمَّ المَسيَّا إذ إنَّها سَبَّحتِ الله في الأصحاح الأوَّل والعدد 53 مِن إنجيل لوقا وقالت: "أَشْبَعَ الْجِيَاعَ خَيْرَاتٍ". فهو يُشبِعُ القلبَ الجائع رُوحيًّا. فهذا جوعٌ للغُفران، وجوعٌ للبِرّ، وجوعٌ للقداسة.
إذًا أوَّلاً، هناك الإقرارُ بالفَقر والإفلاس الرُّوحيِّ. ثُمَّ هناكَ الجوعُ للبِرّ. فيجب عليك أن تُدرك أوَّلاً ما الخَلل وما الشَّيء الَّذي يَنقُصُك، ثُمَّ يجب عليك أن تُدرك الشَّيء الَّذي أنت بحاجة مُلِحَّة إليه وتَتوقُ إليه. فحيثُ يوجد ذلك الجوع الَّذي يقول: "يجب عليَّ أن أحصل على المسيح وإلاَّ سأموت"، أو "يجب عليَّ أن أنالَ الخلاصَ وإلاَّ سأموت"، فإنَّ ذلك الجوع هو المُؤشِّر على البَرَكة لأنَّ التَّطويبةَ تقول: "لأَنَّكُمْ تُشْبَعُون". والكلمة "تُشبَعون" هي تَرجمة للكلمة "كورتاتزو" (chortazo) ومعناها: "يُعَلَّف" إذ إنَّها تُستخدَمُ لتعليف الحَيَوانات. ولكنَّنا لسنا جميعًا نأكُل هكذا، ولكن قد نأكُلُ حتَّى التُّخمة أحيانًا. فأحيانًا نأكُل حتَّى لا نعود قادرين على الأكل.
ولكن في أغلبِ الأحيان في ثقافتنا فإنَّ الغايةَ مِن أكلِنا تَنحَصِر في رغبتِنا في تحقيق شكلٍ جسديٍّ مُعيَّن. لِذا فإنَّ الأغلبيَّة منكم لا يتوقَّفون عن الأكل عندما تُتْخَمون في كلِّ مَرَّة تأكلون فيها، بل أنتُم تَضبُطون أنفسَكم لِئَلاَّ تُعانوا بسبب ما قد ينجم عن ذلك مِن عواقب جسديَّة تَختصُّ بشَكلِكُم أو صِحَّتِكُم. أمَّا الحَيَواناتُ فلا تفعل ذلك. فالحيواناتُ لا تُبالي بشكلها، بل تستمرُّ في الأكل إلى أن تشعر بأنَّها لا ترغب في أكل المزيد. وهذه هي الكلمة المُستخدمة للتَّعبير عن ذلك. والفكرة هي أنَّ الجِياعَ سَيُشبَعونَ تمامًا. لِذا فإنَّه يقول: إن كنتم جِياعًا حقًّا إلى البِرّ، سوف أعطيكم ذلك البِرّ إلى النُّقطة الَّتي تَشبعون فيها تمامًا. ونقرأ في المزمور 34: 10: "وَأَمَّا طَالِبُو الرَّبِّ فَلاَ يُعْوِزُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ". ونقرأ في المزمور 23: 1: "الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ". ونقرأ في سِفْر إرْميا 31: 14: "وَيَشْبَعُ شَعْبِي مِنْ جُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ".
اقرأوا المزمور 107. ويمكنكم أن تقرأوه بأنفسكم. "اِحْمَدُوا الرَّبَّ... لأنَّهُ مَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً". فهذه هي صورة الشِّبَع التَّامّ. ونجد في سِفْر إشعياء والأصحاحين 25 و49 صورةً لوليمةٍ مَسيحانيَّة. فعندما يأتي المسيح سوف نُدعَى جميعًا إلى المائدة. وعندما نأتي إلى المائدة سنأكل كلَّ الطَّعام الوفير الَّذي يُوَفِّرُهُ اللهُ لنا على المائدة المسيحانيَّة. وهي ليست وليمة حقيقيَّة، بل استعارة أو صورة أو رمز للشِّبَع الَّذي يُوفِّرُه المسيَّا للشَّخص الموجود في ملكوته. ولوقا يُدَوِّن كلمات يسوع الَّتي يتحدَّث فيها عن ذلك. فنحنُ نقرأ مَثلاً في الأصحاح 12 والعدد 37: "طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدُمُهُمْ". فعندما يأتي المسيَّا ثانيةً، سوف يُقيم هذه الوليمة العظيمة فنذهب إليها. وسوف يَخدمُنا يسوعُ ويُطعِمُنا إلى أن نَشبَع تمامًا. وهذه صورة عن الشِّبَع الروحيَّ الَّذي نحصل عليه مِن خلال مُخلِّصنا.
ونقرأ مَرَّةً أخرى في الأصحاح 13 والعدد 29 كلمات يسوع: "وَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَمِنَ الْمَغَارِبِ وَمِنَ الشِّمَالِ وَالْجَنُوبِ، وَيَتَّكِئُونَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ". ونقرأ في الأصحاح 14 والعدد 15: "فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ: «طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ»". فقد كانت توجد هذه الفكرة عن الوليمة المسيحانيَّة لأولئك الَّذينَ يُؤمنونَ بالله. وسوف نَذهب جميعًا إلى مكانِ الشِّبَع التَّامّ على مائدةِ الله في ملكوته. والمؤمنون الحقيقيُّون يَتوقون إلى ذلك، ويجوعون إلى البِرِّ الَّذي يُشبِع القلب الفارغ.
التَّطويبة الثَّالثة في نهاية العدد 21: "طُوبَاكُمْ أَيُّهَا الْبَاكُونَ الآنَ، لأَنَّكُمْ سَتَضْحَكُونَ". طُوباكُم أيُّها الباكونَ الآن. ومَتَّى يُدَوِّنُ أنَّ يسوعَ قال: "طُوبَى لِلْحَزَانَى". وهؤلاءِ هُم الأشخاص الَّذينَ يَحزنونَ على تلك الحالة. فَهُم حَزينون على إفلاسِهم الروحيّ. وَهُم حَزينون على غِيابِ البِرّ. وَهُم يَتوقونَ إلى ذلك. وَهُم يَرون أنفسَهم مِثل أولئكَ المساكين المأسورينَ والعُمي والمُنسَحِقين المذكورين في الأصحاح الرَّابع والعدد 18. فَهُم ثَقيلو الأحمال. وَهُم يَشعرونَ بخيبة الأمل. وَهُم خائفون. وَهُم يَتألَّمون. وَهُم بائسون. وهذا هو الحُزنُ الَّذي يُنشِئُ تَوبةً. إنَّهُ الحُزنُ الَّذي يُنشِئُ تَوبةً. فهو ذلك الحُزن الَّذي كَتبَ عنه يعقوب إذ نقرأ في رسالة يعقوب 4: 9: "اكْتَئِبُوا وَنُوحُوا وَابْكُوا. لِيَتَحَوَّلْ ضَحِكُكُمْ إِلَى نَوْحٍ، وَفَرَحُكُمْ إِلَى غَمٍّ. اتَّضِعُوا قُدَّامَ الرَّبِّ فَيَرْفَعَكُمْ". فهذا هو الاتِّضاعُ والتَّواضُعُ والحُزنُ الَّذي يُنشِئُ تَوبةً.
وقد كَتبَ بولسُ عنه في رسالة كورنثوس الأولى، أو بالأحرى في رسالة كورنثوس الثَّانية والأصحاح السَّابع فَقَدَّمَ حَقًّا أفضل تعريفٍ للتَّوبة الحقيقيَّة في الكتاب المقدَّس. رسالة كورنثوس الثَّانية 7: 10: "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ. وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتًا". ونجدُ هنا تعريف هذه التَّوبة الحقيقيَّة. فما هي الجِدِّيَّة الَّتي أنشأها هذا الحُزنُ الَّذي بحسب مشيئة اللهِ فيكَ، وما السُّخْط أو الخوف أو الشَّوق أو الحماسة؟ إنَّها هذه الرَّغبة الشَّديدة في أن تكون طاهرًا، وفي أن تَتنقَّى، وفي أن تتغيَّر. فهو حُزنٌ بحسب مشيئة الله.
لِذا فإنَّنا نجد هنا صورةً للشَّخص المُبارَك. فَهُو يَفهم إفلاسَهُ الرُّوحيَّ، ويَتوقُ إلى البِرّ، ويَبكي على حالته الخاطئة. والبُكاءُ هُنا يُرَكِّز على الله، لا على الإنسان. فهو يُرَكِّز على الله. فَهؤلاءِ يَتنهَّدونَ ويَبكونَ على خَطيئتهم قُدَّام الله ويَتوقونَ إلى أن يَغفر لهم. وماذا يقولُ يسوع؟ "الأشخاصُ الَّذينَ يَبكونَ هكذا سيَضحكون". سوف تَضحكون. فأنتم لن تَتعَزَّوا فقط (كما تُدوِّنُ التَّطويباتُ المذكورة في إنجيل مَتَّى أنَّ يسوعَ قالها)، بل سوف تَضحكون. فهذا هو ضَحِك مَن نالوا الغُفران. وهذا هو ضَحِك الأشخاص الَّذين تَحَرَّروا مِن الأحمال الثَّقيلة. وهذا هو ضَحِك الأشخاص الَّذين نالوا الحُريَّة. فالآية إرْميا 31: 13 تقول: "وَأُحَوِّلُ نَوْحَهُمْ إِلَى طَرَبٍ، وَأُعَزِّيهِمْ وَأُفَرِّحُهُمْ مِنْ حُزْنِهِمْ". وأنا أعتقد أنَّ أنقى وأقوى عاطفة لدى المؤمِن هي الفَرح. فَخلاصُنا، وسلامُنا مع الله، ورجاؤنا في الحياة الأبديَّة هو الَّذي يُنشئ في النهاية فَرحًا في قلوبنا. لِذا فإنَّ الفرحَ يَصيرُ العاطفةَ السَّائدة لأنَّه خُلاصة كلِّ بَركاتِ الملكوت.
لذا، يمكنك أن تَفحصَ حياتَك. هل تُدرك إفلاسَكَ الرُّوحيَّ؟ هل لديكَ جوعٌ شديدٌ للبِرّ؟ هل حياتُك مُمتلئة بالحُزن على خطيئتك؟ وفي الوقت نفسه، هل تَحَوَّلَ فَقرُكَ إلى غِنى لأنَّكَ دَخلتَ الملكوتَ وصِرتَ تَعلم الآن امتيازاتِك في المسيح؟ هل تَحَوَّلَ جوعُكَ إلى شِبَعٍ لأنَّ بِرَّ المسيح يُغطِّيكَ ولأنَّ اللهَ أيضًا حَسِبَ إيمانَكَ بِرًّا؟ وهل تَحَوَّلَ نَوحُكَ إلى فَرح لأنَّك مُمتلئ بالفرح بسبب ما صَنَعَهُ اللهُ؟ إن كان هذا هو أنت، فإنَّكَ في عِدادِ المُبارَكين.
وهناك بَرَكة أخرى. فالتَّطويبة الرَّابعة هي تَطويبة الرَّفض. فنحن نقرأ في العدد 22: "طُوبَاكُمْ إِذَا أَبْغَضَكُمُ النَّاسُ، وَإِذَا أَفْرَزُوكُمْ وَعَيَّرُوكُمْ، وَأَخْرَجُوا اسْمَكُمْ كَشِرِّيرٍ مِنْ أَجْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ". والآن، هذه تطويبة مُدهشة. وهي تُشير إلى أنَّ عمل التَّطويبات الثَّلاث الأولى قد تَمّ. فقد انتقلتَ مِن الفقرِ الروحيِّ إلى الغِنى، ومِن الجوعِ إلى الشِّبَع، ومِن الحُزن إلى الفرح. وحياتُك قد تَغيَّرت. وهذا واضح. والآن تأتي بَرَكة الرَّفض. وهذه لا تُشيرُ إلى الطَّريقة الَّتي تَرى بها نفسَك، بل إلى الطَّريقة الَّتي يَراكَ بها العالَم ويُعاملوكَ بها. وهي دَليلٌ أيضًا على حالتك المُبارَكة. ولكن يجب عليكم أن تَنتظروا إلى المَرَّة القادمة لكي نَتأمَّل في ذلك ثُمَّ نُنهي "الوَيلات". صَلُّوا مَعي:
لا يُمكننا يا رَبُّ سوى أن نَسألكَ أن تَبتدئ في القيام بعمل نِعمتِك في قلوبنا جميعًا مِن خلال عمليَّة الفحص الذَّاتيِّ القادرة أن تقودَنا إلى الفهم الحقيقيِّ لحالتِنا. فبالنِّسبة إلى الأشخاص الَّذينَ يَجلسون باسترخاءٍ ظَنًّا منهم أنَّهم الأغنياء والشَّباعَى والفَرِحينَ وأصحاب الشَّعبيَّة الواسعة، يا لَيتَهُم يُدركون بقوَّة أنَّهم في الحقيقة فارغونَ، وجائعونَ، وحَزانَى، ومَطرودون. يا رَبّ، لَيتَكَ تَعمل عمل الخلاص في القلوب. وهذا يَبتدئ بفهمِنا لفَقرنا الرُّوحيِّ، وجوعِنا الروحيِّ، وحُزنِنا الروحيِّ حين نأتي إليك لِنَقبَل غِنى الملكوت، وطَعامَ البِرِّ المُشبِع تمامًا، وفَرحَ مَعرفتِك. يا أبانا، اعمل ما يَلزَم أن تَعملَه في كلِّ قلبٍ لأجلِ مَجدِك. وساعِدنا على أن نُعَدِّلَ ونُغَيِّرَ تمامًا تفكيرَنا جميعًا حَتَّى نَفهمَ كَم أنَّ حَقَّكَ يَختلف تمامًا عن جَهالة العالَم. نُصَلِّي باسم المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.