Grace to You Resources
Grace to You - Resource

أرجو أن تَفتحوا كِتابَكُم المُقدَّسَ الآنَ مَعي على الرسالةِ إلى أهلِ فيلبِّي والأصحاحِ الثَّاني إذْ نُتابِعُ دِراستَنا لهذهِ الرسالةِ العَظيمة. لقد وَصَلنا إلى الآيتين 12 و 13 مِن هذا الأصحاحِ الثَّاني الرَّائع. وقدِ ابتدأنا تَأمُّلنا في هَاتينِ الآيتينِ في الأسبوعِ الماضي. وسوفَ نُتابِعُ تَأمُّلَنا فيهما في هذا الأسبوع ونُنهِي ذلكَ في الأسبوعِ القادِم. إنَّ الغِنَى الكَامِنَ في هذا النَّصِّ الرَّائعِ يَتطلَّبُ مِنَّا تَركيزًا دَقيقًا. كما تَعلمونَ، إنَّ كُلَّ شَيءٍ نُنْجِزُهُ في الحَياةِ تَقريبًا يَتطلَّبُ طَاقَةً. فقد كُنتَ بِحاجةٍ إلى الطَّاقةِ لكي تَنهَضَ مِنَ السَّريرِ في هذا الصَّباح. وقد كُنتَ بِحاجةٍ إلى الطَّاقةِ لكي تُحَضِّرَ طَعامَ الإفطار. وقد كُنتَ بِحاجةٍ إلى الطَّاقةِ لك تَأتي إلى هُنا أيًّا كانت وسيلةُ النَّقلِ الَّتي استَخدمتَها. فكُلُّ شَيءٍ يَتحرَّكُ بواسِطةِ الطَّاقة. وهذا يَصِحُّ على البُعدِ الرُّوحيِّ أيضًا. ونحنُ نَتأمَّلُ في السُّؤالِ المُختصِّ بهذا النَّصِّ تَحديدًا وَهُوَ: مَا هي الطَّاقةُ الَّتي تُحَرِّكُ القَداسَة؟ مَا هي الطَّاقةُ الَّتي تُحَرِّكُ حَياةَ القَداسَة؟ مَا هي الطَّاقةُ الَّتي تَحُثُّ على البِرّ؟ مَا هي الطَّاقةُ الَّتي تُؤدِّي إلى حَياةٍ مُثمِرَةٍ؟ مَا هي الطَّاقةُ الَّتي تُؤدِّي إلى التَّقَدُّمِ الرُّوحيِّ؟ وقد تَأمَّلنا في ذلكَ السُّؤالِ المُهمِّ جدًّا لأنَّ هذا هو بالضَّبط المَوضوعُ الَّذي يُعالِجُهُ الرَّسولُ بولسُ في هَاتينِ الآيتين.

ولَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّنا قُلنا لَكُم في الأسبوعِ الماضي إنَّ هُناكَ جَوابَيْنِ لذلكَ السُّؤال. فهُناكَ مَن يَقولونَ إنَّ الطَّاقةَ الَّتي تُؤدِّي إلى التَّقَدُّمِ الرُّوحيِّ تَنبُعُ كُلُّها مِنَ الله. والحقيقةُ هي أنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ عُرِفُوا على مَرِّ التَّاريخِ باسمِ "السُّكونِيِّين" (quietists). وَهُم يُؤمِنونَ بأنَّ المَسيحيَّ "سَاكِنٌ" أو لا يَقومُ بأيِّ دَورٍ في عَمليَّةِ النُّموِّ الرُّوحيِّ. فهو لا يَبذُلُ أيَّ جُهدٍ البَتَّة في هذهِ العَمليَّة. وَهُم يَقولونَ إنَّ المِفتاحَ يَكمُنُ في التَّسليمِ، والخُضوعِ، والمَوتِ عنِ الذَّاتِ، وبَذْلِ النَّفسِ، ووَضْعِ حَياتِكَ على المَذبَح. وهذا يَعني أنَّنا لا نَفعلُ أيَّ شَيءٍ؛ بل إنَّ اللهَ هُوَ الَّذي يَفعلُ كُلَّ شَيء. وهُناكَ مَجموعةٌ أخرى مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ عُرِفُوا باسمِ "التَّقَوِيّينَ" (pietists)؛ وَهُم يَتَبَنَّوْنَ وُجهةَ النَّظرِ المُناقِضَةَ لنَظرةِ السُّكونِيِّينَ إذْ إنَّهُم يَقولونَ: "لا! بَلْ إنَّ أيَّ نُمُوٍّ رُوحِيٍّ يَحدُثُ بسببِ المُؤمِنِ. فيجبُ علينا أن نَكونَ أتقياءَ، ويجبُ علينا أن نَكونَ مُكَرَّسينَ، ويجبُ علينا أن نَكونَ مُجتَهِدينَ، ويجبُ علينا أن نَهتَمُّ [بِحَسَبِ قَولِهِم] بالانضباطِ الشَّخصيِّ والرُّوحِيِّ. فالأمرُ يَتطلَّبُ مِنَّا أن نَبذُلَ كُلَّ جُهدٍ مُمكنٍ في سَبيلِ الوُصولِ إلى القَداسَة".

وقد قُلنا في الأسبوعِ الماضي إنَّهُ إن قَرأنا الآيةَ الثانيةَ عَشْرَة فقط، قد نَظُنُّ أنَّ بولسَ كانَ شَخصًا تَقَوِيًّا. وإن قَرأنا الآيةَ الثَّالثةَ عَشْرَةَ فقط، قد نَظُنُّ أنَّهُ كانَ "سُكونِيًّا". لِذا، سوفَ نَقرأُ كِلتا الآيتينِ ونَرى الحَقيقة: "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ". وَهُوَ يَبدو هُنا مِثلَ التَّقَوِيِّين: تَمِّمُوا خَلاصكُم. فالأمرُ يَتوقَّفُ عَليكُم. فهذا هُوَ مَا يَبدو في الظَّاهِرِ أنَّهُ يَقولُهُ. ولكنَّهُ يَقولُ في العَدد 13: "لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّة". وهو يَبدو في العَدد 13 على النَّقيضِ تَمامًا. فيبدو هُنا أنَّ الأمرَ كُلَّهُ يَتوقَّفُ على الله. فهو الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ تَحقيقِ مَا يُريدُهُ مِنكُم.

والآن، بعدَ أن قَرأنا هَاتينِ الآيتينِ وتَأمَّلنا في وُجْهَتَيِّ النَّظرِ المُتناقِضَتين، قَد نَستنتِجُ أنَّ هذهِ مَسألة مُعقَّدة جدًّا ولا يُمكِنُ حَلُّها. ولكنَّ هذا ليسَ صَحيحًا. فبولُسُ يَحُلُّ المَسألةَ بطريقةٍ بَسيطةٍ جِدًّا. فهو يَقولُ في العَددِ الثَّاني عشر إنَّ الأمرَ كُلَّهُ يَتوقَّفُ عليكُم أنتُم، ويَقولُ في العَدد 13 إنَّ الأمرَ كُلَّهُ يَتوقَّفُ على الله. ولكنَّهُ لا يُحاوِلُ أن يُوَفِّقَ بينَ هَذَيْنِ الجَانِبَيْن. وإن أردنا أن نَقولَ ذلكَ ببساطةٍ مُتَناهِيَةٍ فإنَّ الأمرَ يَتطلَّبُ مِنَّا أن نَفعلَ كُلَّ ما يُمكِنُنا فِعلُه، ويَتطلَّبُ مِنَ اللهِ أن يَفعلَ كُلَّ ما يُمكِنُهُ فِعلُه. وببساطَة، فإنَّ الأمرَ يَتطلَّبُ مِنِّي أن أُكَرِّسَ حَياتي اليوميَّة لِخِدمةِ يَسوعَ المسيحِ بكُلِّ قُدرةٍ لَديَّ، وفي الوقتِ نَفسِهِ فإنَّ كُلَّ شَيءٍ تَمَّ تَحقيقُهُ فِيَّ هُوَ عَمَلُ الله. لِذا فإنَّ الجَوابَ هُوَ: إنَّ الأمرَ يَتوقَّفُ تَمامًا عَلينا، ويَتوقَّفُ تَمامًا على الله.

لِذا، لا يَجدُرُ بِنا أن نَتعجَّبَ إنْ وَجدَنا هذا التَّناقُضَ الظَّاهِرِيَّ في مَسألةِ التَّقديس. فنحنُ نَجِدُهُ يَتكرَّرُ كَثيرًا في الكتابِ المقدَّس. فإن رَجَعنا إلى الوَراءِ وَنَظَرْنا على سَبيلِ المِثالِ إلى مَوضوعِ التَّجَسُّدِ، سَنَجِدُ أنفسَنا أمامَ حَقيقةٍ تَقولُ إنَّ يَسوعَ المَسيحَ كانَ ابنَ الإنسانِ، وكانَ إنسانًا كامِلاً، وإنَّ كُلَّ شَيءٍ فَعَلَهُ في حَياتِهِ إنَّما فَعَلَهُ بِصِفَتِهِ إنسانًا. فقد تَكَلَّمَ بِصوتِ إنسان، ومَشَى بِقَدَمَيِّ إنسان، وصَنَعَ آياتٍ بيَديِّ إنسان، وفَكَّرَ بِعَقلِ إنسان، ورَأى بعَينيِّ إنسان، وسَمِعَ بأُذُنَيِّ إنسان، وشَعَرَ بِقَلبِ إنسان. وعلى الرَّغمِ مِن ذلكَ، وفي الوَقتِ نَفسِهِ، كانَ إلَهًا كامِلاً. فقد كانَ إلهًا وإنسانًا. وهذا اتِّحادٌ لا يُمكِنُنا أن نَستوعِبَهُ بينَ الأُلوهيَّة والبَشريَّة مِن دُونِ أيِّ تَنازُلٍ مِن أيٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن. كذلكَ، نحنُ لا نَتَعَجَّبُ حينَ نَرى نَفسَ التَّناقُضِ الظَّاهِريِّ الغَريبِ في مَوضوعِ الوَحي. فَنحنُ نَفهمُ مَثَلاً أنَّ الرِّسالةَ إلى أهلِ فيلبِّي كُتِبَتْ مِنْ قِبَلِ الرَّسولِ بولُس. فهي مُفرَداتُهُ، وهي تُعَبِّرُ عَمَّا في قَلبِهِ، وتُعَبِّرُ عَمَّا في عَقلِهِ، وتُعَبِّرُ عن أفكارِهِ، وتُعَبِّرُ عن استِنتاجاتِهِ، وتُعَبِّرُ عن مَنْطِقِهِ، وتُعَبِّرُ عن شَغَفِهِ، وتُعَبِّرُ عن قَلَقِه. فهي كُلُّها نِتاجُ بولُس. وعلى الرَّغمِ مِن ذلك فإنَّ كُلَّ كَلِمةٍ فيها مُوحَى بِها مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وكيفَ يَكونُ ذلك؟ هذهِ هي الحَقيقة.

ونَحنُ نَرى المَوقفَ نَفسَهُ عندما نُفَكِّرُ في الخَلاص. فالخَلاصُ يَتطلَّبُ تَرْكَ الخَطيَّةِ وقَبولَ الرَّبِّ يَسوعَ المسيح. والخَلاصُ يَتطلَّبُ عَملاً نابعًا مِنَ الإرادةِ البَشريَّةِ حيثُ يَتوبُ الإنسانُ ويُؤمِنُ بشخصِ المسيحِ وعَمَلِه. وعلى الرَّغمِ مِن ذلك، فإنَّ الخَلاصَ كُلَّهُ هُوَ عَملُ اللهِ الَّذي اختارَ ذلكَ الإنسانَ قَبلَ تأسيسِ العَالمِ وعَمِلَ على تَفعيلِ ذلكَ الخَلاصِ مِن خِلالِ نِعمَتِهِ النَّابعةِ مِن سِيادَتِه. ونَجِدُ الشَّيءَ نَفسَهُ في مَوضوعِ مُثابرةِ المُؤمِن. فنحنُ مَضمونونَ إلى الأبد لأنَّنا مَحفوظونَ في المسيحِ بِيَدِ اللهِ لأنَّ اللهَ صَمَّمَ الأمرَ بهذهِ الطريقةِ حَتَّى لا يَستطيعُ أيُّ كَائنٍ أن يَتَّهِمَنا بأيِّ شَيءٍ إذْ إنَّ اللهَ لن يَسمَعَ ذلك. فلا أحدَ يَستطيعُ أن يَشتَكي على مُختاري الله. فاللهُ هُوَ الَّذي يُبَرِّر. والمسيحُ هُوَ الَّذي يُحَامِي عَنَّا. وعلى الرَّغمِ مِن أنَّ ذلكَ الأمرَ هُوَ عَملُ اللهِ الكامِل فيما يَختصُّ بِضَمانِنا، فإنَّهُ يَتوقَّفُ علينا تَمامًا مِن جِهَةِ مُثابرتِنا. والكتابُ المقدَّسُ يَقولُ إنَّنا إن لم نَكُن أُمناءُ إلى المُنتَهى فإنَّنا لن نَرِثَ الحَياةَ الأبديَّة. فالأمرُ يَتطلَّبُ تَعاوُنَنا الكامِلَ وَتَعاوُنَ اللهِ الكامِل. وهكذا فإنَّ التَّناقُضَ الإلهيَّ الظَّاهريَّ يَتكرَّرُ بطرائقَ كثيرة جدًّا ومُختلفَة.

لِذا، عندما نأتي إلى مَسألةِ التَّقديسِ هذهِ، أو مَسألةِ الحَياةِ الرُّوحيَّة، لا يَجوزُ لنا أن نَتَعَجَّبَ إن رأينا أنَّها تَتوقَّفُ بالكامِلِ علينا، وتَتوقَّفُ بالكَامِلِ على الله. ولا يَجوزُ لنا أن نَتَعَجَّبَ أيضًا لأنَّ هذهِ ليستِ المَرَّة الأولى الَّتي نَقرأُ فيها هذا الحَقَّ في الكتابِ المقدَّس. وقد يَكونُ الأصحاحُ الخامِس عشر مِنَ الرِّسالة الأولى إلى أهلِ كورنثوس نُقطةَ بِدايةٍ جَيِّدة. وسوفَ نَنظُر إلى مَقطعَينِ آخَرين بإيجاز. استَمِعوا إلى هذا. ففي رسالة كورنثوس الأوَّلى 15: 10، يَقولُ بولُس: "وَلكِنْ بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا". وهو يَتحدَّثُ رُوحيًّا هُنا. فهو يَتحدَّثُ لا فقط عن خَلاصِهِ، بل أيضًا عن نُمُوِّهِ الرُّوحيِّ. "بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا عَليهِ في هذهِ اللَّحظةِ بِصِفَتي مُؤمِنًا، وبِصِفَتي مُعَلِّمًا للحَقِّ الإلهيِّ، وبِصِفَتي رَسولاً مَدعُوًّا. فَأَنَا مَا أَنَا بِنعمةِ اللهِ. فنِعمَتُهُ الَّتي أَسْبَغَها ويُسبِغُها عَليَّ لم تَكُن عَديمةَ الفائدةِ، بل إنَّ اللهَ هُوَ الَّذي جَعَلَني ما أنا عَليه".

والآن، قد يَبدو هُنا، أوَّلَ وَهلة، أنَّ بولسَ مِن أتباعِ مَذهبِ السُّكونيَّة. ولكنَّهُ يَقولُ بَعدَ ذلكَ ما يَلي: "بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ". بعبارةٍ أخرى، هُناكَ حَقيقةٌ لا مَفَرَّ مِنها هُنا وهي أنَّهُ حَقَّقَ مَا حَقَّقَهُ لأنَّ اللهَ جَعَلَهُ هكذا؛ ولكنَّهُ حَقَّقَ مَا حَقَّقَهُ أيضًا لأنَّهُ بَذَلَ جُهدًا في ذلكَ أكثرَ مِن أيِّ شَخصٍ آخر. لِذا فإنَّهُ يَختِمُ الآيةَ بالعَودةِ إلى النُّقطةِ الَّتي ابتدأَ مِنها إذْ يَقول: "وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي". فأنا ما أنا لأنَّ نِعمةَ اللهِ جَعلتني هكذا؛ ولكن أيضًا لأنِّي تَعبتُ أكثرَ مِنَ الجَميع. بعبارة أخرى، إنَّهُ يَقولُ: لقد بَلغتُ هذا المُستوى مِنَ النُّضجِ الرُّوحيِّ بسببِ اللهِ وبسببِ مَجهودي الشَّخصيِّ.

انظروا مَعي إلى رسالة غَلاطيَّة والأصحاحِ الثَّاني. فنحنُ نَجِدُ هُنا أنَّ بولسَ يُقَدِّمُ مَرَّةً أخرى الشَّهادةَ نَفسَها. فهو يَقولُ ما يَلي في العَدد 20 مِنَ الأصحاحِ الثَّاني من الرِّسالة إلى أهلِ غَلاطيَّة؛ وهي آيةٌ مَألوفة جدًّا لدينا: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ". والآن، إنَّ هذهِ الآيةَ هي واحدةٌ مِنَ الآياتِ المُفَضَّلة لدى السُّكونِيِّينَ أوِ الهُدوئِيِّينَ، أو مُنْشِدي الحَياةِ العَميقة، أو مُنْشِدي الحَياةِ السَّامِيَة. فهو يَقول: لقد صُلبتُ معَ المَسيحِ؛ لِذا فإنِّي مَيِّت. فعندما تُصلَبُ فإنَّكَ تَموت. لِذا، لَستُ أنا الَّذي يَحيا، بل إنَّ المَسيحَ هُوَ الَّذي يَحيا فِيَّ. بعبارةٍ أخرى، يَبدو أنَّ بولسَ واحدٌ مِنَ السُّكونِيِّينَ في هذهِ النُّقطة. فهو يَقولُ في الحَقيقة: لستُ أنا، بلِ المَسيح. فأيًّا كانتِ الحَياةُ الَّتي أَحياها فإنِّي مَيِّتٌ عَنها. والمَسيحُ هُوَ الَّذي يَحياها.

ثُمَّ بعدَ أن قالَ ذلكَ فإنَّهُ يَقول: "فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي". ففي النِّصفِ الأوَّلِ مِنَ الآية قالَ إنَّهُ مَاتَ وإنَّ المَسيحَ هُوَ الَّذي يَحيا فيه. وهو يَقولُ في النِّصفِ الثَّاني مِنَ الآية: ولكنِّي أَحيا. فالمَسيحُ يَحيا فِيَّ. ومَرَّةً أخرى، إذا قَرأتَ النِّصفَ الثَّاني فقط، قَد تَستنتِجُ أنَّهُ كانَ تَقَوِيًّا. فالحياةُ الَّتي أحياها الآن في الجسد إنَّما أحياها بالإيمان. فهو لا يَحيا، ثُمَّ إنَّهُ يَحيا. وهو يَقولُ إنَّهُ لا يَقومُ بأيِّ دَورٍ، ثُمَّ يَقولُ إنَّهُ يَتعبُ جِدًّا. وفي الرِّسالة إلى أهلِ كولوسي، عندما يُعطينا ما يُفَكِّرُ فيهِ بخصوصِ وُجْهَةِ خِدمَتِهِ والهَدفِ الرَّئيسيِّ مِنها في الأصحاحِ الأوَّل، فإنَّهُ يَقولُ في العَدد 28 إنَّ الغايةَ مِنَ الخِدمةِ هي التَّالية: "مُنْذِرِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَمُعَلِّمِينَ كُلَّ إِنْسَانٍ، بِكُلِّ حِكْمَةٍ، لِكَيْ نُحْضِرَ كُلَّ إِنْسَانٍ كَامِلاً فِي الْمَسِيح". ففي رسالة كولوسي 1: 28، نَرى أنَّ هَدَفَ بولسَ مِنَ الخِدمةِ هو أن يُحْضِرَ النَّاسَ إلى الرَّبِّ كَامِلين. ثُمَّ إنَّهُ يَتحدَّثُ في العَدد 29 عنِ الطَّاقةِ فَيقول: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَتْعَبُ أَيْضًا مُجَاهِدًا". وَهُوَ يَستخدِمُ فِعلاً قَويًّا جدًّا يُشيرُ إلى بَذْلِ أقصَى جُهدٍ مُمكِن. ويُمكِنُنا أن نَقرأَ هذهِ الآية هَكذا: "الأَمْرُ الَّذِي لأَجْلِهِ أَبْذُلُ أقصَى جُهدٍ مُمكنٍ، وأُجاهِدُ، وأَتْعَبُ بِحَسَبِ عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ". ونَجِدُ هُنا نَفسَ التَّوازُنِ العَجيبِ المُدهِش. فأنا أفعلُ كُلَّ شَيءٍ مُمكِن، واللهُ يَفعلُ كُلَّ شَيءٍ مُمكِن.

ورُبَّما يُمكنُني أن أُقَدِّمَ لكُم مِثالاً إيضاحِيًّا يُساعِدُكم على فَهمِ ذلك. ارجِعوا بِعُيونِ أذهانِكُم إلى سِفْر الخروج والأصحاحِ الرَّابع عشر؛ أي إلى زَمَنِ مُوسَى. ولا حَاجةَ إلى أن تَفتَحُوا كِتابَكُم المُقدَّسَ عليه، بل يَكفي أن تُفَكِّروا مَعي في ذلكَ قَليلاً. فقد كانَ جَيشُ فِرْعَوْن يُلاحِقُ مُوسَى، وكانَ البَحرُ الأحمَرُ أمامَهُ. وكانَ فِرْعَوْنُ يَرغبُ في إهلاكِ بَني إسرائيلَ. وكانَ البَحرُ الأحمرُ سَيُغرِقُهُم لا مَحالَة إنْ نَزَلوا فيه. ولكنَّ مُوسَى كانَ مُتيقِّنًا جدًّا بالرَّغمِ مِن تلكَ الوَرطة أنَّ الرَّبَّ سيَنصُرُهُ ويَنصُرُ شَعبَ اللهِ حَتَّى إنَّهُ صَرَخَ في سِفْرِ الخُروج 14: 13 قائِلاً للشَّعب: "لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ". "لاَ تَخَافُوا. قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ". ولا شَكَّ في أنَّ ذلكَ الكَلامَ يُعَبِّرُ عن إيمانٍ عَظيمٍ؛ ولكنَّها كانت نَصيحَة سَيِّئَة. آسِف يا مُوسَى؛ فقد فَهِمْتَ نِصفَ الحَقيقة. فهذا الإيمانُ جَيِّد؛ ولكنَّها نَصيحَة سَيِّئة لأنَّ الرَّبَّ تَكَلَّمَ حَالاً مِنَ السَّماءِ وقالَ لَهُ: "مَا لَكَ تَصْرُخُ إِلَيَّ؟ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَرْحَلُوا". وأنا أُحِبُّ ذلك. فهو لا يَقولُ لَهُ: قِفوا وانظُروا خَلاصَ الرَّبِّ، بل ماذا؟ تَقَدَّموا وانظُروا خَلاصَ الرَّبّ. فقد كانَ اللهُ مُزمِعًا أن يُعطيهِم نُصرةً. وكانَ مُزمِعًا أن يَنصُرَهُم بطريقةٍ لا يُمكِنُ لأيِّ شَخصٍ أن يُنكِرَ أنَّهُ هُوَ مَن فَعَلَ ذلك، وبطريقةٍ لا يُمكِنُ أن يَفعلَها بمُساعَدَةٍ مِن أيِّ إنسان؛ ولكنَّهُ لم يَكُن ليفعلَ ذلكَ ما لم يَتقدَّم بَنو إسرائيل إلى الأمام. ويا لَهُ مِن مَثَلٍ إيضاحِيٍّ رائعٍ لأنَّ هذا هو بالضَّبط ما يَقولُهُ بولسُ لنا هُنا مِنَ الجانِبِ الرُّوحيِّ. فالوَصيَّةُ لا تَقول: "قِفوا وانظُروا نُصرةَ اللهِ"، ولا تَقولُ: "استَكينوا، ولا تَفعلوا شَيئًا، ولا تُحَرِّكُوا سَاكِنًا، واترُكوا اللهَ يَعمَل"؛ بل إنَّها تَقولُ: "تَحَرَّكوا وانظُروا نُصرةَ الرَّبِّ".

لِذا، نَستنتِجُ أنَّهُ تُوجَدُ نُقطتانِ فقط في هَاتينِ الآيتين: النُّقطةُ الأولى مَوجودة في العَددِ الثَّاني عَشَر وهي أنَّهُ يجبُ على المُؤمِنِ أن يَعمَلُ خَارجيًّا. والنُّقطةُ الثَّانيةُ مَوجودة في العَدد 13 وهي أنَّ اللهَ يَعملُ دَاخِليًّا.

لِنَرجِع إلى نُقطَتِنا الأولى الَّتي مَهَّدَنا لَها في المَرَّةِ السَّابقة. ففي العَددِ الثَّاني عشر، يَقولُ بُولسُ بصورةٍ رَئيسَّةٍ إنَّهُ ينبغي للمُؤمِنِ أن يَعملَ في الخَارِج. والحقيقةُ هي أنَّ الجُملةَ الرَّئيسيَّةَ في العَددِ الثَّاني عشر، أوِ الفِعلَ الرَّئيسيَّ والفِكرةَ الرئيسيَّة مَوجودةٌ في نِهايةِ العَددِ الثَّاني عَشَر وهي: "تَمِّمُوا خَلاصَكُم". وهذا فعْلٌ يَرِدُ بصيغةِ المُضارعِ المُستمرِّ ويُشيرُ إلى شَيءٍ يَنبغي القِيامُ بهِ باستِمرار بِمَعنى: استَمِرُّوا في تَتميمِ خَلاصِكُم. وهذهِ وَصِيَّة. وأرجو أن تُلاحِظوا أنَّهُ لا يَقولُ: "اعمَلوا على خَلاصِكُم"، ولا يَقولُ: "خَلِّصُوا أنفُسَكُم"، ولا يَقولُ: "اعمَلوا مِن أجلِ تَخليصِ أنفسِكُم". فالخَلاصُ هُوَ عَطِيَّة لنا بالنِّعمة، لا بماذا؟ بالأعمال. فأنتَ لا تَعمَلُ لأجلِ الحُصولِ عليه، ولا تَعملُ عليهِ لتَحسينِه، ولا تَعملُ مِن أجلِ تَخليصِ نَفسِك؛ بل إنَّكَ تُتَمِّمُهُ وَحَسْب. وقد تَحَدَّثنا في المَرَّةِ السَّابقةِ بالتَّفصيلِ عندما دَرَسْنا هذهِ الجُملة وقُلنا إنَّها تَعني أن تُظْهِروا في حَياتِكُم الخَارجيَّةِ الأشياءَ الَّتي زَرَعَها اللهُ في دَاخِلِكُم، أو أن تُظْهِروا للعِيانِ مِن خِلالِ سُلوكِكُم كُلَّ شَيءٍ يَختصُّ بِطَبيعَتِكُم المُفديَّة. فيجبُ عليكم أن تأخذوا الأشياءَ الَّتي صَنَعَها اللهُ فيكُم مِن خلالِ الخَلاصِ وأن تُطَبِّقوها مِن خِلالِ القَداسَة. ولاحِظوا مِن فَضلِكُم أنَّهُ يَقول: "تَمِّمُوا خَلاصَكُم". وهذه، بالمُناسَبَة، صِيغةُ تَوكيدٍ في اللُّغةِ اليونانيَّةِ المُستخدَمَةِ هُنا. تَتِّمُوا بأنفُسِكُم؛ أيْ مِن دُوني، وبِمَعزِلٍ عَنِّي، ومِن دُونِ مُساعَدَةٍ مِنِّي. وفي هذا الأمرِ، مِن دُونِ مُساعَدةٍ مِن أيِّ شَخصٍ آخر. فهُناكَ تَركيزٌ على الجَانِبِ الفَرديِّ في هذهِ الوَصيَّة.

وقد قُلنا أيضًا إنَّ مَفهومَ تَتميمِ خَلاصِكُم يُشيرُ إلى الخَلاصِ بجميعِ أبعادِه. وهذا يَعني أنَّنا نِلنا الخَلاصَ في الماضي، وأنَّنا مُخَلَّصونَ في الحَاضِر، وأنَّنا سَنَخلُصُ في المُستقبَل. فما يَزالُ هُناكَ بُعْدٌ مُستقبليٌّ للخَلاصِ لم يَتحقَّق بَعد؛ وهو الخَلاصُ الكاملُ والنِّهائيُّ الَّذي سنَحصُلُ عليهِ عندَ فِداءِ أجسادِنا في التَّمجيدِ عندما نَلتقي يَسوعَ المسيحَ ونَصيرُ مِثلَهُ. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "تَمِّمُوا خَلاصَكُم" واستَمِرُّوا في القِيامِ بذلكَ إلى أن تَصِلوا إلى الشَّكلِ النِّهائيِّ والأخيرِ مِن خَلاصِكُم. لِذا فقد قُلنا إنَّهُ كانَ يَقصِدُ كِلا الجَانبينِ عندما تَأمَّلنا بِتَدقيقٍ أكبر في الألفاظِ المُستخدمةِ هُنا. "تَمِمُّوا خَلاصَكُم" باستمرار إلى أن تُحَقِّقوا الصُّورةَ النِّهائيَّةَ لخَلاصِكُم. فهو يَدعونا هُنا إلى بَذلِ أقصَى جُهدٍ مُمكِن. فَفِكرةُ التَّتميمِ تَعني التَّكريس الكَامِل. فهو يَدعونا إلى بَذلِ جُهدٍ كَبيرٍ جدًّا.

لِذا فقدِ استَنتَجنا في المَرَّةِ السَّابقةِ أنَّهُ يجبُ علينا نَحنُ المُؤمِنينَ أن نَبذُلَ أقصَى جُهدٍ مُمكنٍ في سَبيلِ التَّقدُّمِ الرُّوحيِّ، وأن نَقْمَعَ أجسادَنا أحيانًا كي نُخضِعَها (كما يَقولُ بولسُ في رسالتهِ الأولى إلى أهلِ كورنثوس 9: 27 عندما يَتحدَّثُ عنِ المُلاكَمَةِ، والجِهادِ، والرَّكضِ والسِّباقِ والاحتِمال). فالأمرُ يَتطلَّبُ بَذْلَ أقصَى جُهدٍ مُمكِن، وهو جُهْدٌ يَتطلَّبُ مِنَّا أن نَستخدِمَ كُلَّ قُدرتِنَا. لِذا فإنَّ بولسَ يَقولُ في الأصحاحِ الثَّاني عشر مِن رسالتِهِ إلى أهلِ رُومية إنَّهُ يجبُ علينا أن نُقَدِّمَ أجسادَنا ذَبيحَةً حَيَّةً، وإنَّهُ يجبُ علينا أن نُجَدِّدَ أذهانَنا لكي نَختبِرَ إرادةَ اللهِ الَّتي هي كامِلَة دائمًا. وهذا يَتطلَّبُ مِنَّا أن نَبذُلَ كُلَّ جُهدٍ مُمكِن. وحقيقةُ أنَّ العهدَ الجديدَ يَزْخُرُ بالوَصَايا الَّتي تَحُضُّ المؤمنَ على ذلك تَعني أنَّ المُؤمِنَ يَتحمَّلُ مَسؤوليَّةَ القِيامِ بذلكَ، وأنَّهُ يَستطيعُ أن يَفعلَ ذلك.

وكما أفعلُ دائمًا، كُنتُ أقرأُ في الأسبوعِ الماضي سِيرةَ حَياةِ رَجُلٍ عَظيمٍ مِن رِجالِ اللهِ وَهُوَ: "سي.تي. ستد" (C.T. Studd). وهي تَتحدَّثُ عن جُزءٍ مِن حَياتِه. فقد كانَ هذا الرَّجُلُ مَوهوبًا جدًّا وغيرَ عَاديٍّ. وقد قَامَ بِتَضحياتٍ عَظيمةٍ بأن ذَهَبَ إلى حَقْلِ خِدمةٍ في مَكانٍ بِدائيٍّ جدًّا. وذاتَ لَيلة، بينما كانَ هُوَ ورَفيقٍ لَهُ يَمكُثانِ في مَكانٍ خَرِبٍ وغيرِ مُريحٍ بالمَرَّة في البَردِ القَارِسِ دُونَ وُجودِ شَيءٍ يَستَدفِئانِ بِهِ، كانَ مِنَ الصَّعبِ عليهما أن يَناما بسببِ سُوءِ الحَالِ هُناك. وقد نَهَضَ رَفيقُهُ في مُنتصفِ اللَّيلِ لِيَجِدَ "سي.تي. ستد" يَرتَعِدُ في بَطَّانِيَّتِهِ الَّتي لَفَّها حَولَهُ وَيَجلِسُ في زاويةِ تلكَ الغُرفةِ الصَّغيرة. وكانَ يَقرأُ كِتابَهُ المُقَدَّسَ في نُورٍ خَافِتٍ جدًّا. وبحسبِ كاتبِ السِّيرة، سَألَهُ رَفيقُهُ عن سَبَبِ أَرَقِهِ في مُنتصفِ تلكَ اللَّيلةِ البارِدَة. فَرَدَّ عَليهِ "ستَد" بالكلماتِ التَّالية: "لقد شَعرتُ أنَّ هُناكَ خَطْبًا مَا في عَلاقَتي بالرَّبِّ. لِذا فإنَّني أقرأُ كُلَّ العهدِ الجديدِ لأرى إنْ كُنْتُ أُطَبِّقُ كُلُّ الوَصايا لِئَلاَّ أكونَ قد كَسَرْتُ أيَّ وَصيَّةٍ مِنها دُونَ قَصْد" [نِهايةُ الاقتباس].

ولا شَكَّ في أنَّ هذا الأسلوبَ هُوَ أسلوبٌ جَادٌّ جدًّا في فَحْصِ حَياتِكُم الرُّوحيَّة. وهو مُختلِفٌ كُلَّ الاختلافِ عنِ الأسلوبِ الَّذي يَقول: "افعَل ما تَشاء، وَدَعِ اللهَ يَفعلُ ما يَشاء". فنحنُ هُنا أمامَ رَجُلٍ يُبالي كَثيرًا بحَياتِهِ الرُّوحيَّةِ حَتَّى إنَّهُ جَلَسَ في زَاويةِ الغُرفةِ في نُورِ شَمعةٍ في لَيلةِ مُظلمةٍ وَباردةٍ، والْتَحَفَ بِبَطَّانِيَّةٍ، وراحَ يَقرأُ كُلَّ العهدِ الجديدِ لِيَرى إنْ كانَ قد كَسَرَ دُونَ قَصْدٍ أيَّة وَصيَّة إلهيَّة لأنَّهُ شَعَرَ أنَّ هُناكَ خَطْبًا مَا في عَلاقَتِهِ بالمَسيحِ الحَيِّ. هذا هُوَ التَّكريسُ الَّذي يَصنَعُ فَرْقًا. وهذا هُوَ ما قَصَدَهُ بولسُ عندما قَال: "بَلْ أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ". أجل، إنَّها نِعمةُ اللهِ؛ وهي أيضًا بَذْلُ أقصَى جُهدٍ مُمكِن. والأمرُ الَّذي جَعَلَ "سي.تي. ستد" يَفوقُ أبناءَ جِيلِهِ مِمَّن يُسَمُّونَ اسمَ المَسيحِ هُوَ ليسَ نِعمةُ اللهِ وَحَسْب، بل إنَّها نِعمةُ اللهِ وذلكَ التَّكريسُ الَّذي يَجعلُ المَرءَ مُستيقِظًا طَوالَ اللَّيلِ ويَقرأُ كُلَّ العهدِ الجديدِ بَحثًا عن وَصِيَّةٍ كَسَرَها كي يُصْلِحَ ذلكَ ويُحَسِّنَ عَلاقَتَهُ بالله. لِذا فإنَّ اللهَ يَدعونا جَميعًا إلى تَطبيقِ كُلِّ ما صَنَعَهُ فينا بأكبرِ قَدرٍ مُمكنٍ مِنَ الاجتِهاد.

والآن، أريدُ أن أكونَ عَمليًّا جدًّا لأنِّي أعتقدُ أنَّ بولسَ عَمليٌّ جدًّا هنا. وأريدُ أن أَذكُرَ لَكُم العَناصرَ الَّتي ستُساعِدُكم في القيامِ بذلك لأنَّهُ يُقَدِّمُ لَنا خَمسةً مِنها في هذهِ الآية. فهناكَ خَمسة أمور يَنبغي لَكُم أن تَفهموها لأنَّها ستُساعِدُكم في تَتميمِ خَلاصِكُم باجتهادٍ حَقيقيٍّ وأمانةٍ حَقيقيَّة: أوَّلاً، يَجِبُ عَليكُم أن تَفهموا قُدوَتَكُم. يَجِبُ عَليكُم أن تَفهموا قُدوَتَكُم. أَلا لاحَظتُم أنَّ الآية الثَّانيةَ عَشْرةَ تَبتدئُ بلَفْظَةٍ يُونانيَّةٍ مُعيَّنةٍ؟ وهِيَ تُتَرْجَمُ: "إذًا". ولكنَّها الأداة اليونانيَّة: "هوستي" (hoste). وهي أداةٌ تُستخدَمُ في اللُّغةِ اليونانيَّةِ لاستِخلاصِ نَتيجةٍ مُعيَّنةٍ مِنَ المَقطعِ السَّابق. لِذا فإنَّهُ يَستخدِمُ اللَّفظةَ ["إذًا"] لاستِخلاصِ كُلِّ ما يُمكنُ استخلاصُهُ مِنَ الأعداد 5-11. "إذًا". وما الَّذي نَجِدُهُ قَبْلَها؟ نَجِدُ يَسوعَ المَسيحَ في العَددِ الخامِس. فهو مَذكورٌ هُنا بِوَصْفِهِ أُنْمُوذَجَ الاتِّضاعِ، وأُنْمُوذَجَ الطَّاعةِ، وأُنْمُوذَجَ الخُضوع. فالمسيحُ يَسوعُ هُوَ الَّذي لم يَحْسَبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. وهو المَسيحُ يَسوعُ [في العَدد 7] الَّذي أَخْلَى نَفسَهُ، آخِذًا صُورةَ عَبْد. وَهُوَ المَسيحُ يَسوعُ [في العَدد 8] الَّذي وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيب. وَهُوَ المَسيحُ يَسوعُ الَّذي رَفَّعَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْم. وقد رأينا أنَّهُ الاسمُ "الرَّبّ" صَاحِبُ السِّيادَة.

وكَما تَرَوْنَ، فإنَّ المَسيحَ يَسوعَ هُوَ الأُنْمُوذَج. وهو يَقول: "إذًا، تَمِّمُوا خَلاصَكُم". وما الَّذي قَصَدَهُ باللَّفظةِ "إذًا"؟ كما أنَّكُم رَأيتُم أُنْمُوذَجًا على الشَّخصِ المُخَلَّص، وفي ضَوْءِ حَقيقةِ أنَّهُ كانَ مُطيعًا، كُونوا مِثلَهُ. وفي ضَوءِ حَقيقةِ أنَّهُ كانَ مُتواضِعًا، كُونوا مِثلَهُ. وفي ضَوءِ حَقيقةِ أنَّهُ اتَّضَعَ وأنَّ اللهَ رَفَّعَهُ، احسِبُوا أنَّ ذلكَ الوَعدَ لَكُم أنتُم أيضًا. لِذا فإنَّ بولسَ يَقولُ: حيثُ إنَّ يَسوعَ المَسيحَ كانَ قُدوةً لَكُم في الطَّاعةِ المُتواضِعَةِ للهِ، وحيثُ إنَّ يَسوعَ المَسيحَ أراكُم مَعنى الخُضوع، وحيثُ إنَّ المَسيحَ أراكُمْ طَريقَ الارتفاع، يجب عليكُم أن تَقتَدوا بِهِ. كُونوا مِثلَهُ.

وأنا لَستُ بحاجةٍ إلى تَذكيرِكُم بهذا. أليسَ كذلك؟ أيْ أنَّ جَوهرَ تَكريسِكُم الرُّوحيِّ يَكْمُنُ في الحَقيقةِ في التَّمَثُّلِ بيسوعَ المسيح. فهذا هُوَ السَّبَبُ الَّذي دَفَعَ بُولسَ إلى القَولِ لمُؤمِني غَلاطيَّة إنَّهُ يَتَمَخَّضُ بِهِم إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيهِم". وهذا هُوَ السَّببُ في أنَّ يُوحَنَّا يَقولُ إنَّهُ إن قُلتُم إنَّكُم ثابِتونَ في المَسيحِ، يجبُ عليكُم أن تَسلُكوا كَما سَلَكَ هُوَ. فهو قُدوَتُكم. إذًا، تَمِّموا خَلاصَكُم بطريقةٍ تَرغبونَ وتَتوقونَ فيها [في أثناءِ قِيامِكُم ذلكَ] إلى التَّمَثُّلِ بالمَسيح.

وهُناكَ شَيءٌ ثَانٍ ينبغي أن تَفهموهُ هُنا. فيجبُ عليكم أن تَفهَموا أنَّكُم مَحبوبون. يجبُ عليكم أن تَفهَموا أنَّكُم مَحبوبون. هل تَعلَمونَ لِماذا؟ لأنَّهُ في أثناءِ السَّعيِ لِتَتميمِ خَلاصِكُم، وبَذْلِ كُلِّ جُهدٍ مُمكِنٍ لَديكُم، سوفَ تُخفِقون. ولا أعتقدُ أنَّ بولُسَ يَقولُ اعتِباطًا في العَددِ الثَّاني عَشَر: "إِذًا يَا أَحِبَّائِي". فقد كانَ يُوجَدُ صَبْرٌ في قَلبِهِ تُجاهَ الآخرينَ يَعكِسُ صَبْرَ الله. وكانَت تُوجَدُ رَحمةٌ ونِعمَةٌ في قَلبِهِ تُجاهَ النَّاسِ الَّذينَ يُحِبُّهم ويَخدِمُهم ويَدعوهُم أولادَهُ بالإيمان. وَهُوَ صَبْرٌ يَعكِسُ الصَّبرَ المَوجودَ في قَلبِ الله. وكانت تُوجَدُ رَحمةٌ في قلبِ بولُس تُشبِهُ رَحمةَ المَسيح. وكانَت تُوجَدُ نِعمةٌ في قَلبِ بولُس تُشبِهُ نِعمةَ المَسيح. وعندما يَقولُ لَهُم: "يَا أَحِبَّائِي"، فإنَّهُ يَقولُ إنَّ هُناكَ مَجالٌ في عَلاقَتي بِكُم... هُناكَ مَجالٌ لإخفاقِكُم.

فقد كانت هُناكَ سَيِّدة تُدعَى "أَفُودِيَة"، وسَيِّدة أخرى تُدعَى " سِنْتِيخِي" تَتشاجَرانِ الواحدةُ معَ الأخرى. وكانَت هُناكَ على ما يَبدو كِبرياءٌ في كَنيسةِ فيلبِّي؛ وإلاَّ لما تَحَدَّثَ عنِ الاتِّضاعِ بهذهِ القُوَّة. فقد كانَ هُناكَ نِزاعٌ وشِقاق. ولكنَّهُم كانُوا على الرَّغمِ مِن ذلكِ كُلِّهِ أحِبَّاءَهُ. وهو لا يَقولُ تلكَ العِبارةَ مَرَّةً فقط، بل إنَّهُ يَقولُ في الأصحاحِ الأوَّلِ والعَددِ الثَّامن: "فَإِنَّ اللهَ شَاهِدٌ لِي كَيْفَ أَشْتَاقُ إِلَى جَمِيعِكُمْ فِي أَحْشَاءِ يَسُوعَ الْمَسِيح". فقد كانت مَحبَّتُهُ لَهُم مَحَبَّةً تَسري مِن قَلبِهِ إلى أحشائِهِ (بِحَسَبِ الكلمةِ اليُونانيَّةِ المُستخدَمةِ هُنا). فقد كانَ يَشعُرُ بتلكَ المَشاعِر. وهو يُؤكِّدُ مَحَبَّتَهُ لَهُم مَرَّةً أخرى في الأصحاحِ الرَّابعِ والعَددِ الأوَّل حَتَّى في أثناءِ تَبكيتِهِ لَهُم؛ ولا سِيَّما عندما كانَ يُخاطِبُ سَيِّدتينِ مُتَخاصِمَتين. فَهُوَ يَقولُ لَهُم: "إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ وَالْمُشْتَاقَ إِلَيْهِمْ". فقد كانَ يُحِبُّهُم حُبًّا جَمًّا. وفي تلكَ المَحبَّةِ وتلكَ العَواطِفِ الجَيَّاشَةِ، كانَ يُوجَدُ مَجالٌ للإخفاق. وهذا يَعكِسُ قَلبَ الله.

ألستَ مَسرورًا بِصِفَتِكَ مُؤمِنًا لأنَّكَ بينما تُتَمِّمُ خَلاصَكَ فإنَّ هُناكَ مَجالاً للإخفاق؟ ألستَ مَسرورًا لأنَّكَ مَحبوبٌ مِنَ الله؟ وأنَّهُ في إطارِ تلكَ المَحبَّةِ فإنَّ هُناكَ غُفرانًا، ورَحمةً، ونِعمةً، واستِعادَةً للشَّرِكَة؟ ألستَ مَسرورًا لأنَّكَ لا تَعبُدُ إلهًا مِثلَ تلكَ الآلهةِ الوثنيَّة؟ ألستَ مَسرورًا لأنَّكَ لا تَعيشُ تَحتَ عُبوديَّةِ الخَوفِ مِن تلكَ الآلهةِ الَّتي لا يُمكِنُكَ أن تُرضيها بأيَّة طَريقة لأنَّهُ لا تُوجَد نِعمَة؟ افهَموا أنَّكُم مَحبوبون. فهذهِ ليست وَصيَّة قَاسية، وهي ليست أَمْرًا عَسكريًّا لا يُراعي المَشاعِر؛ بل إنَّهُ قَلبُ رَاعٍ مُحِبٍّ وشَغوفٍ يَقولُ لرَعيَّتِه: "أنا أَهتمُّ بِكُم. وأنا أَتَفَهَّمُكُم. وهُناكَ مَجالٌ للإخفاق". لِذا فإنَّهُ يَعكِسُ قَلبَ المَسيح. لذلك، فيما تُتَمِّمونَ خَلاصَكُم، افهَموا قُدوَتَكُم، وافهَموا أنَّكُم مَحبوبون.

ثَالثًا: افهَموا أهميَّةَ الطَّاعَة. افهَموا أهميَّةَ الطَّاعة. فهو يَقولُ في العَددِ 12: "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ...". كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ. لِذا فإنَّهُ يُعَرِّفُ نَمَطَ السُّلوكِ في الحَياةِ المَسيحيَّةِ على غِرارِ ما فَعَلَهُ في رسالَتِهِ إلى أهلِ أفسُس 2: 10 إذْ يَقولُ إنَّ اللهَ خَلَقَنا لكي نَسلُكَ في الأعمالِ الصَّالحة. فالحياةُ المَسيحيَّةُ قَائمةٌ في الحقيقةِ على الطَّاعَة. وبالمُناسَبة، إنَّ الكلمة "أَطَعتُم" هُنا هي تَرجمَة للكلمة اليونانيَّة "هوباكُوو" (hupakouo). والسَّببُ في أنِّي ذَكرتُ هذهِ الكلمة اليونانيَّة هو أنَّنا اشتَقَقْنا الكلمة "أكوستيكس" (acoustics) مِنَ الكلمة "آكوو" (akouo)، ومَعناها: أنْ تُطيعوا شَيئًا سَمِعْتُموه. أمَّا حَرفُ الجَرِّ الصَّغير "هوب" (hupo) في البِداية فمَعناهُ: "تَحت". أيْ: "بعدَ أن سَمِعتُم، ضَعوا أنفُسَكُم تَحتَ". لِذا فإنَّها تُشيرُ إلى الخُضوعِ لشيءِ سَمِعتُموه. وهو يَقولُ: أنتُم مَطالَبونَ دائمًا بالقيامِ بذلك. يُمكنكم أن تَرجِعوا إلى الأصحاحِ السَّادس عشر مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل لِتَجِدوا أنَّهُ يَقولُ إنَّ بولسَ جاءَ إلى مَنطقةِ فيلبِّي، وكَرَزَ بالإنجيلِ فَسَمِعتهُ لِيديَّة. ولكنَّها لم تَسمَعهُ وَحَسْب، بل آمَنَت. ونَقرأُ هُنا أنَّ الرَّبَّ فَتَحَ قَلبَها. وقد كَرَزَ بالإنجيلِ لاحقًا، إن كُنتُم تَذكرونَ، في العَددَين 32 و 33، إلى سَجَّانِ فيلبِّي وأهلِ بَيتِهِ جَميعًا فسَمعوا وآمَنُوا أيضًا.

ففي كِلتا الحَالَتينِ اللَّتينِ أَدَّتَا إلى وِلادةِ الكنيسةِ في فيلبِّي، كانت هُناكَ طَاعَة. وقد تَقول: "بأيِّ مَعنى؟" لقد أطاعوا الكَلمةَ الَّتي سَمِعوها. وما هي كلمةُ الإنجيل؟ "آمِن بالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ فَتَخلُص". فكلمةُ الإنجيلِ تأتي وتَقول: أترُك خَطاياكَ واقبَلِ المَسيح. تَوقَّف عنِ اتِّباعِ ذاتِكَ واتبَع الرَّبَّ يَسوع. وهذهْ وَصيَّة. ونحنُ لا نُفَكِّرُ فيها بهذهِ الطَّريقة؛ ولكنَّها وَصيَّة. فالإنجيلُ وَصيَّة. هل تَفهمونَ ذلك؟ فالجُملة "آمِن بالرَّبِّ يَسوعَ المَسيح" هي وَصيَّة. فعندما قالَ الآبُ: "هذا هُوَ ابني الحَبيب، لَهُ اسمَعُوا"، كانَ جَادًّا فيما يَقول. فاللهُ يأمُرُ النَّاسَ أن يُصغُوا إلى المَسيح. والمَسيحُ يَأمُرُ النَّاسَ أن يُؤمِنوا. والرُّسُلُ والكَارِزونَ يأمُرونَ النَّاسَ أن يُؤمِنوا بالمَسيح. لِذا فإنَّ أيَّةَ لَحظةٍ في الخَلاصِ هي لَحظةُ طَاعةٍ لِوَصيَّة.

نحنُ نَتحدَّثُ غَالبًا عن مُشاركةِ إيمانِنا؛ ولكنَّنا نَادِرًا جدًّا مَا نَتحدَّثُ عن أَمْرِ النَّاسِ بأن يُؤمِنوا. فنحنُ نَفعلُ أكثرَ مِن مُشاركةِ شَيءٍ مَا. فنحنُ نُعيدُ ما جاءَ في تلكَ الوَصيَّة: "هَذا هُوَ ابني الحَبيبُ. لَهُ اسمَعُوا". آمِنُوا، وتُوبوا، واتبَعوني. وهذا هُوَ تَمامًا السَّببُ الَّذي جَعَلَ الرَّسولَ بولسَ يَقولُ إنَّ مَهمَّةَ الرَّسولِ تَتَلَخَّصُ في دَعوةِ الأُمَمِ [في رسالة رُومية 1: 5] إلى إطَاعَةِ الإيمان. فالإيمانُ هُوَ إطاعَة لِوصيَّةٍ تَدعونا إلى التَّوبةِ والتَّصديق. لِذا فإنَّهُ يَدعو المَرءَ إلى حَياةِ الطَّاعةِ حَتَّى تَكونَ السِّمَةُ الأبرَزُ في حَياةِ المُؤمِنِ هي إطاعَتُهُ للهِ، أو إطاعَتُهُ للمَسيح. لِذا فإنَّ بولسَ يَقولُ: "لقد أَطَعْتُم دائمًا".

فأحيانًا تَكونُ طَاعَتُكَ مُتَقَطِّعَةً. وهناكَ أوقاتٌ مِنَ عَدَمِ الطَّاعَةِ تَفرحُ فيها لأنَّكَ تَفهمُ أنَّكَ مَحبوبٌ (كَما ذَكَرنا قَبلَ قَليل). على الرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّ حَياتَنا الرُّوحيَّةَ تَتَّسِمُ بالطَّاعَة. في الرِّسالة الثَّانية إلى أهلِ تسالونيكي والأصحاحِ الأوَّل، هل تَذكرونَ العَددَ الثَّامِنَ حيثُ يَتحدَّثُ بولسُ عنِ النَّقمةِ الَّتي تَنتظِرُ الأشخاصَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ اللهَ عندما يَعودُ يَسوعُ مِنَ السَّماءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ فِي نَارِ لَهِيبٍ قَائِلاً: "مُعْطِيًا نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ"، ثُمَّ استَمِعوا إلى الكَلِماتِ التَّالية: "وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيح". فكما تَرَوْنَ، فإنَّ قَبولَ المَسيحِ هُوَ عَملُ طَاعةٍ لِوَصيَّةٍ إلهيَّة. وَبهذا المَعنَى الخَاصِّ والفَريدِ، فإنَّكَ تَبقَى طَوالَ الخَلاصِ مُعتَرِفًا بيسوعَ رَبًّا لأنَّ إيمانَكَ يَعني أنَّكَ تَخضَعُ لوَصيَّتِه. وهذا هُوَ ما يَدُلُّ على حَياةِ الطَّاعَة.

وفي الأصحاحِ الثَّالثِ مِنَ الرسالةِ الثانيةِ إلى أهلِ تسالونيكي والعَدد 14، نَقرأُ ما يَلي: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا...". والرَّسولُ بولُسُ يُخاطِبُ هُنا مُؤمِنينَ. لِذا فإنَّنا نَفهمُ أنَّهُ على الرَّغمِ مِن أنَّنا نَخلُصُ بعملِ الطَّاعَةِ لكي نَعيشَ حَياةَ طَاعَة، مِنَ المُحتَمَلِ أن تأتي أوقاتٌ لا نَكونُ فيها مُطيعين. لِذا فإنَّهُ يَقول: "كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، أريدُ مِنكُم أن تُطيعوا أكثر". وسوفَ نَتأمَّلُ في ذلكَ بعدَ قليل. لِذا، يجبُ علينا أن نَفهمَ أنَّنا دُعينا إلى حَياةِ الطَّاعة. فهذا هُوَ نَمَطُ حَياتِنا مُنذُ لَحظةِ خَلاصِنا.

هَل تَذكُرونَ ما قالَهُ بُطرسُ في رسالة بُطرس الأولى؟ لِئَلاّ نَظُنَّ أنَّ بولسَ هوَ الوَحيدُ الَّذي قَالَ ذلك، فإنَّ بُطرسَ قالَ في رِسالتِهِ الأولى 1: 2 إنَّهُ تَمَّ اختارُنا بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لكي نُطيعَ يَسوعَ المَسيح. فهذا هُوَ جَوهرُ اختبارِنا المَسيحيِّ. فقد دُعِيْنَا إلى الطَّاعَة. لِذا فإنَّنا نَقرأُ في المَأموريَّةِ العُظمَى أنَّهُ يجبُ علينا أن نُتَلْمِذَ آخرينَ مِن خِلالِ الذَّهابِ وَتَعليمِهم أن يَحفَظُوا كُلَّ ماذا؟ مَا أَوصَيتُكُم بِه. فهي حَياةُ طَاعَة. فالخَلاصُ وَصِيَّة. وكُلُّ الطَّاعَةِ الَّتي يَتحدَّثُ عنها الكتابُ المقدَّسُ مُصَاغَة في شَكلِ سِلسلَةٍ مِنَ الوَصايا. والتَّعريفُ الرَّئيسيُّ لِحياتِنا الرُّوحيَّةِ هو أنَّنا تَلَقَّينا أوامِرَ بإطاعَةِ قَائِدِنا. وإن لم نَفهم ذلكَ فإنَّنا لم نَفهَم أهَمَّ عُنصُرٍ في الخَلاص. فالخَلاصُ عَمَلُ طَاعَة.

لِذا، إن أرَدنا أن نُتَمِّمَ خَلاصَنا فإنَّ ذلكَ يَتطلَّبُ مِنَّا أن نَفهمَ قُدوَتَنا [أي: المَسيح]؛ وهذا يَعني أنَّنا نَعلَمُ كيفَ يَنبغي لنا أن نَكون، وأن نَفهمَ أنَّنا مَحبوبون، وأنَّ لَدينا مِساحَة للإخْفاقِ واستردادِ عَلاقَتِنا بهِ مَرَّةً أخرى بالنِّعمَة، وأن نَفهمَ على الرَّغمِ مِن ذلكَ أنَّنا دُعينا إلى الطَّاعَة.

رابعًا، يُساعِدُنا بولسُ هُنا في هذا الأمرِ المُختصِّ بِتَتْميمِ خَلاصِنا مِن خِلالِ إخبارِنا بأنَّهُ يَنبغي لنا أن نَفهمَ مَوارِدَنا الشَّخصيَّةَ ومَسؤوليَّتَنا. فنحنُ مَيَّالونَ جِدًّا بِصِفَتِنا خُطاةً إلى إلقاءِ اللَّومِ على الآخرينَ عندما نَقَعُ في المَتاعِب. أليسَ كذلك؟ أيْ أنَّنا نَميلُ إلى تَبريرِ ذَواتِنا. لِذا فإنَّهُ يُذَكِّرُنا هُنا بأنَّنا مَسؤولونَ لأنَّهُ تُوجَدُ لَدينا مَوارِد شَخصيَّة للحِفاظِ على صِحَّتِنا الرُّوحيَّة. وببَساطَة مُتناهِيَة، فإنَّهُ يَقولُ هذا بوضوحٍ تَامٍّ إذْ نَقرأُ: "إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي ["باروزيا" – "parousia"] فَقَط، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي ["آبوزيا" – "apousia"]". بعبارةٍ أخرى، فإنَّهُ يَقول: "انظُروا! لقد رأيتُ نَموذجَ الطَّاعةَ عندما كُنتُ حَاضِرًا بَينَكُم. وأريدُ أن أرى المَزيدَ مِن تلكَ الطَّاعَةِ الآنَ في غِيابي". والافتراضُ هُنا هُوَ أنَّهُم كانوا بَحاجةٍ إلى القِيامِ بذلكَ بأنفسِهم. لِذا فإنَّهُ يَقولُ في جُزءٍ سَابِقٍ مِن تلكَ الآية، أو بالحَرِيِّ في جُزءٍ لاحِقٍ مِنها: "تَمِّمُوا خَلاصَكُم. أنتُم لَستُم بحاجةٍ إليَّ".

لقد كانوا يُحِبُّونَهُ. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الأوَّلِ والعَدَدَيْن 7 و 8 أنَّ رَابِطَةَ المَحبَّةِ بينَهُم كانت قَويَّةً جدًّا. فقد كانت تَربُطُهُم [كما ذَكَرنا قبلَ بِضعة أشهُر عندما دَرَسنا ذلكَ المَقطَع] عَلاقَةٌ فَريدةٌ جدًّا. فقد كانوا يُحبُّونَ ذلكَ الرَّجُل. فلم يَكُن يُوجَدُ في ذلكَ الوَقت، ورُبَّما لن يُوجَدَ أبدًا في تَاريخِ الكنيسةِ، رَجُلاً مِن رِجالِ اللهِ أعظمَ مِن بولُس. ومِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُ لا يُوجَدُ مُعَلِّمٌ أعظم مِنهُ يُعَلِّمُ كلمةَ اللهِ لأنَّهُ تَلَقَّى الوَحيَ في أمورٍ كثيرةٍ قالَها وَصارَت تُشَكِّلُ جُزءًا كبيرًا مِنَ العهدِ الجديد إذْ إنَّهُ كَتَبَ على الأقلّ ثلاثَ عَشْرَةَ رِسالة. فهذا رَجُلٌ فَريدٌ مِن رِجالِ اللهِ. وقد كانَ يَملِكُ القُدرةَ أكثرَ مِن أيِّ شَخصٍ آخرَ على جَعلِهِم يَتَّكِلونَ عَليه. وقد فَعلَ ذلك. لِذا فقد قالَ أشخاصٌ كَثيرونَ [كما ذَكَرنا في دراسَتِنا لرسالةِ كورنثوسَ الأولى]: "أنا لِبُولُس". فقد كانَ يُمكِنُ أن تَتَّكِلَ كَثيرًا على قُوَّتِه. وكانَ يُمكِنُ أن تَتَّكِلَ عليهِ إلى حَدِّ أنَّهُ إنْ تَحَرَّكَ فإنَّكَ سَتَسقُط.

ولكنَّهُ كانَ في الوقتِ الَّذي كَتَبَ فيهِ هذهِ الرِّسالة مَسجونًا. وهو يَقولُ لَهُم: "لقد أطَعتُم في حُضوري، ويجب عليكم الآنَ أن تُطيعوا أكثرَ في غِيابي لأنَّكُم قد لا تَرَوْنِي بعدَ الآن". فقد رأيتُ طَاعَتَكُم عندما كُنتُ حَاضِرًا بَينَكُم، وأريدُ أن أرى المَزيدَ مِن تلكَ الطَّاعَةِ الآن في غِيابي. والحقيقةُ هي أنَّهُ يجبُ عليكم أن تُطيعوا الآنَ أكثر في غِيابي لأنَّهُ لا بُدَّ أنَّكُم تُقَدَّمتُم وَوَصَلتُم إلى تلكَ النُّقطةِ بسببِ كُلِّ ما عَلَّمتُكُم إيَّاه. والنُّقطةُ الَّتي أريدُ مِنكُم أن تَفهموها هي أنَّهُم كانوا مُطالبينَ بذلكَ ومَسؤولينَ عن ذلكَ لأنَّهُم كانوا يَملِكونَ المَصادِرَ اللاَّزمَةَ لِتَتْميمِ خَلاصِهم.

وأحيانًا، قد تَسمعونَ شَخصًا يَقول: "إنَّ فُلانًا ليسَ مُؤمِنًا قَويًّا جدًّا"؛ ولكن في نِهايةِ المَطاف، انظُروا إلى الكَنيسةِ الَّتي يَذهبُ إليها؛ أو: "إنَّ فُلانًا ليسَ مُؤمِنًا قَويًّا جدًّا"؛ ولكنَّهُ لا يَحصُلُ على تَعليمٍ جَيِّد؛ أو: "هُناكَ خَطايا كثيرة في حَياةِ فُلان"؛ ولكنَّهُ لا يَقرأُ كُتُبًا جَيِّدةً ولم يَتَتَلْمَذ جَيِّدًا. وأريدُ أن أقولَ لكُم إنِّي التقيتُ أشخاصًا في أماكِنَ نَائية في العالَم يَعرفونَ الرَّبَّ يَسوعَ المسيحَ، ويُحبُّونَهُ، ويَسلُكونَ في العُمْقِ والنُّضجِ الرُّوحيِّ على الرَّغمِ مِن أنَّهُم يَعيشونَ بِمُفردِهم في بَحرٍ مِنَ الوَثنيَّةِ لأنَّهُم مُرسَلون. ولكنَّ مَحبَّتَهُم ليسوعَ عَميقة، وَثَابتة، وقَويَّة. وشَهادَتُهم نَقيَّة وَطاهِرة. لماذا؟ لأنَّ رُوحَ اللهِ القُدُّوسُ يَسكُنُ فيهم. ويا لَها مِن بَرَكَةٍ عَظيمةٍ أن تَعيشَ في بِيئةٍ تَحْفِزُ حَياتَكَ الرُّوحيَّة؛ ولكنَّها قد تَصيرُ بِيئةً تَسْنِدُ حَياتَكَ الرُّوحيَّةَ بطريقةٍ مُصْطَنَعَة.

فالنَّاسُ يَطرَحونَ عَليَّ دائمًا السُّؤالَ التَّالي: "مَا الَّذي سيَحدُثُ في رأيِكَ لكنيسةِ غريس (Grace Church) إن تَرَكتَها؟" أعتقدُ أنِّي سأكتُبُ رِسالةً أقولُ فيها للرَّعيَّة: "لقد أَطعتُم في حُضوري؛ والآن بالحَرِيِّ أطيعوا في غِيابي". لأنَّهُ لا يَهُمُّ حَقًّا مَن هُوَ رَاعيكُم. فسوفَ يَأتي وَقتٌ لا أعودُ فيهِ مَوجودًا في هذا المَكان. ولكن لن تَكونَ هُناكَ لَحظةٌ في حَياتِكُم الرُّوحيَّة لستُم مَسؤولينَ فيها عن نُمُوِّكُم لأنَّ لَديكُم المَوارِد اللاَّزِمَة. ويجبُ عليكم أن تَفهموا ذلك. وفي حين أنَّهُ يُمكنكم أن تَحسَبوا أنفسَكُم أغنياء بسببِ وُجودِكُم في بِيئة مُحَفِّزَة، لا يُمكِنُكم أن تُلْقوا اللَّومِ في تَقصيرِكُم على عَدَمِ وُجودِ مِثلِ هذهِ البيئة. فهُناكَ مُؤمِنونَ حَولَ العالَمِ لا يَحلُمونَ حَتَّى في الحُصولِ على نِظامِ الدَّعمِ الرُّوحيِّ هذا؛ وعلى الرَّغمِ مِن ذلكَ فإنَّهُم يُخْجِلونَنا جَميعًا بسببِ تَكريسِهم. فهناكَ خَطٌّ رَفيعٌ جدًّا بينَ أن أكونَ مَصدرَ قُوَّة، وبينَ أن أصيرَ مَصدرَ دَعْمٍ لِضَعفِكُم.

وأنا أَفهمُ ذلكَ، وأفهَمُ كيفَ أنَّهُ مِنَ السَّهلِ أن تَعتمِدوا على القُوَّةِ الرُّوحيَّةِ لشخصٍ آخر. ولكنَّ بولسَ لم يَكُن لِيَسمَحَ لأمرٍ كهذا بالحُدوث. فهو يَقولُ: "أريدُ أن أرى مَزيدًا مِنَ الطَّاعةِ في غِيابي... أكثرَ مِمَّا رأيتُ في حُضوري". فيجب أن تَستَقِلُّوا عن مُعَلِّمِكُم. ويجب عليكم أن تَستَقِلُّوا عن رَاعيكُم، وعن مُعَلِّمِ مَدرسةِ الأحد، وعنِ الشَّخصِ الَّذي يُتَلمِذُكُم عندما يَختصُّ الأمرُ بِعَيشِ حَياتِكُم الرُّوحيَّة.

ارجِعوا إلى الأصحاحِ الأوَّلِ والعَدد 27 حيثُ إنَّهُ يَستعرِضُ هذهِ الفِكرة. فقد قال: "فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِبًا أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيل". إن كُنتُ حَاضِرًا أَم غَائبًا، هذا هُوَ ما أريدُ أن أَسْمَعَهُ. لماذا؟ لأنَّهُ يجبُ عليكُم أن تَفهموا أنَّكُم مَسؤولونَ، وأنَّكُم تَملِكونَ المَصادرَ اللاَّزمةَ لِتَتميمِ خَلاصِكُم.

لِذا، إنْ كُنَّا نَحنُ المُؤمِنينَ سنُتَمِّمُ في الخَارجِ ما صَنَعَهُ اللهُ في الدَّاخل، وإن كُنَّا سنَفعلُ ذلكَ باستِمرار إلى أن يُستَعلَنَ مِلْءُ الخَلاصِ عندما نَرى المَسيحَ، فإنَّ هذا يَعني أنَّهُ يَجبُ علينا أن نَفهمَ قُدوَتَنا [أي: المَسيح]. ويجب علينا أن نَفهمَ أنَّنا مَحبوبونَ لِئَلاَّ نَيأسَ حينَ نُخفِق. ويجبُ علينا أن نَفهمَ أنَّنا دُعينا إلى حَياةِ الطَّاعة. ويجبُ علينا أن نَفهمَ أنَّ هُناكَ مَسؤوليَّةً مُلقاةً على عَاتِقِنا لأنَّنا نَملِكُ المَواردَ اللاَّزِمَةَ لنُموِّنا الرُّوحيِّ.

خامسًا وأخيرًا، هُناكَ شَيءٌ آخر يَقولُ بولُسُ إنَّهُ يُريدُ مِنهُم أن يَفهَموه. فهو يَقولُ ما يَلي: أريدُ مِنكُم أن تَفهَموا عَواقِبَ الخطيَّة. ففي حين أنَّهُ يُوجَد مَجالٌ أمامَكم للإخفاقِ، والحُصولِ على الغُفرانِ والمَحبَّةِ، يجبُ عليكم أيضًا أن تَفهموا عَواقِبَ خَطاياكُم. لِذا فإنَّهُ يَختِمُ الآيةَ بهذهِ الجُملة: "تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَة". والكلمة "خَوْف" هي تَرجمة للكلمة اليونانيَّة "فوبوس" (phobos) الَّتي اشتَتَقَنْا مِنها الكلمة "فوبيا" (phobia). والكلمة "رِعْدَة" هي تَرجمة للكلمة اليونانيَّة "تروموس" (tromos) الَّتي اشتَتَقْنا مِنها الكلمة "تروما" (trauma). تَمِّموا خَلاصَكُم بِخَوفٍ ورِعدَة. وما قَصدُهُ هُنا؟ إنَّهُ يَقولُ إنَّهُ يجب أن تكونَ هُناكَ مَخافَة سَليمَة في قَلبِكُم مِنْ أن تُسيئوا إلى الله. ويجبُ أن تَكونَ هُناكَ رِعْدَة. فالكلمة "تروموس" تَعني: "رِعْدَة". فيجب أن تَكونَ هُناكَ رِعْدَة عندما تُفَكِّرونَ في عَواقِبِ مِثلِ هذهِ الإساءَة. فهذا هُوَ رَدُّ الفِعلِ السَّليم. إنَّهُ رَدُّ الفِعلِ السَّليمِ النَّابعِ مِن ضَعفِنا وعَدَمِ كِفايَتِنا. فهو قَلَقٌ صِحِّيٌّ بسببِ رَغبِتِكُم في فِعْلِ الصَّواب. والخَوفُ هُنا يَعني أنْ نَخْشَى اللهَ مِن مُنطَلَقِ إدراكِنا لِضَعفِنا وقُوَّةِ التَّجرِبَة. فهل تَشعُرونَ بهاذينَ الشَّيئَيْن؟ فَهُما يَنبُعانِ مِنَ الخَوفِ مِن ضَعفِنا والخَوفِ مِن قُوَّةِ التَّجرِبَة. وهو خَوفٌ صِحِّيٌّ يَجعَلُكَ حَذِرًا لِئلاَّ تَتَعَثَّرَ وتَفقِدَ فَرَحَك، وَلِئَلاَّ تُسيءَ إلى الإلهِ الَّذي تُحِبُّهُ أكثرَ مِن أيِّ شَخصٍ أو شَيءٍ آخر، وَلِئَلاَّ تُعَطِّل شِهادَتَكَ أمامَ العالَمِ غيرِ المُؤمِن، وَلِئَلاَّ تُعَطِّل نَفْعَكَ في جَسدِ المسيحِ وخِدمَتِكِ هُناك. فالخَوفُ والرِّعدَةُ هُما رَدُّ الفِعلِ المُناسِب على ضَعفِنا وقُوَّةِ التَّجرِبَة.

فاللهُ يُريدُ مِنَّا ذلك. والحقيقةُ هي أنَّني قَرأتُ على مَسامِعِكُم ما جَاءَ في المَزمور 111، وما جَاءَ في سِفْرِ الأمثالِ مَرَّاتٍ كَثيرة: "بَدْءُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ". ولكنِ استَمِعوا إلى ما جَاءَ في سِفْر إشَعْياء والأصحاح 66. وهذهِ الكلماتُ هِيَ مِنَ الرَّبِّ: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ [في العَددِ الأوَّل]: «السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي؟" مَا الَّذي سَتَصنَعونَهُ مِن أجلي؟ "وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟" مَا الَّذي سَتُقَدِّمونَهُ إليَّ؟ وَمَا الَّذي أحتاجُ إليهِ ويُمكِنُكم أن تُقَدِّموهُ إليَّ؟ مَا الَّذي أُريدُهُ مِنكُم؟ "وَكُلُّ هذِهِ صَنَعَتْهَا يَدِي، فَكَانَتْ كُلُّ هذِهِ، يَقُولُ الرَّبُّ". ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ ما يَلي. ما الَّذي أُريدُهُ مِنكُم؟ سوفَ أُخبرُكم ما الَّذي أريدُهُ مِنكُم. "وَإِلَى هذَا أَنْظُرُ: إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي". هل تُريدونَ أن تَعرِفوا ما الَّذي أبحثُ عنه؟ وهل تُريدونَ أن تَعلَموا ماذا يُمكنُكم أن تُقَدِّموا لي؟ يُمكنُكم أن تَرتَعِدوا مِن كَلامي. وَهُوَ يَقولُ في العَددِ الخامِس: "اِسْمَعُوا كَلاَمَ الرَّبِّ أَيُّهَا الْمُرْتَعِدُونَ مِنْ كَلاَمِهِ". لِذا، يُمكِنُنا أن نُعَرِّفَ المُؤمِنَ بأنَّهُ الشَّخصُ: "المُرتَعِدُ مِن كَلامِ الله". هل تَرتَعِدُ مِن كَلامِ الله؟ هل تَشعُرُ بِخَوفٍ لائِقٍ مِنَ الإساءةِ إليهِ لأنَّكَ لا تُريدُ أن تُسيءَ إلى اللهِ الَّذي تُحِبُّهُ، ولأنَّكَ لا تُريدُ أن تَجلِبَ على نَفسِكَ التَّأديبَ، ولأنَّكَ لا تُريدُ أن تَجرَحَ شَهادَتَكَ أمامَ العَالَمِ الَّذي يُراقِبُكَ، ولأنَّكَ لا تُريدُ أن تُبْطِلَ فَاعليَّةَ خِدمَتِكَ للكنيسة؟ فكما تَرَوْنَ، إنَّ تَتميمَ خَلاصِكُم هُوَ أمرٌ صَعب. فهوَ أمرٌ صَعبٌ بالنِّسبةِ إليَّ. إنَّهُ صَعبٌ. والإخفاقُ مُحتَمَلٌ جدًّا. وواحدٌ مِنَ الأشياءِ الَّتي تُعيقُ ذلكَ الإخفاق هُوَ الخَوفُ اللاَّئِقُ: أن تَخشَى اللهَ وتَتَّقيه. وأنا لا أتحدَّثُ هُنا عنِ الخَوفِ مِن أن تُدانَ، ولا أتحدَّثُ عنِ الخَوفِ مِنَ الدَّينونةِ الأبديَّة، ولا أتحدَّثُ عنِ اليأسِ أوِ القُنوطِ الَّذي لا يَنتهي؛ بل أتحدَّثُ عنِ التَّوقيرِ الَّذي يَحْفِزُكَ.

لقد كَتَبَ "ووردلو" (Wardlaw) عَن سِفْرِ الأمثالِ الفِقْرةَ التَّاليةَ الَّتي أعتقدُ أنَّها تُعَلِّمُنا أمورًا كثيرة. فهو يَقول: "إنَّ هَذا الخَوفَ يَعني عَدَمَ الاتِّكالِ على الذَّات. وهو يَعني رِقَّةَ الضَّمير. وهو يَعني الاحتِرازَ مِنَ التَّجربة. وهو الخَوفُ الَّذي يُعارِضُ فيهِ الوَحْيُ الاستِكبارَ في الإنذارِ القائِل: ’لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ‘. وهو يَعني الاحتِرازَ لِئلاَّ نَسقُط. وهو الاستيعابُ الدَّائمُ لخِداعِ القَلبِ وَمَكْرِ الفَسادِ الدَّاخِليِّ وَقُوَّتِه. وهو الحِرْصُ والحَذَرُ الَّذي يَجعلُ المَرءَ يَخافُ ويَنأى بِنَفسِهِ عنِ القيامِ بأيِّ شَيءٍ مِن شَأنِهِ أن يُهينَ اللهَ والمُخَلِّص أو يُسيءَ إليهِ" [نِهايةُ الاقتباس]. وقد قالَ سُليمانُ في كَلِماتٍ تَدعو إلى العَجَب: "طُوبَى للرَّجُلِ الَّذي يَتَّقي الرَّبَّ". وهذهِ كَلِماتُ مُدهشة. أليست كذلك؟ فأيًّا كانَ نَوعُ الخَوفِ هذا فإنَّهُ يَجعَلُكَ مَغبوطًا. فهو خَوفٌ مُقَدَّسٌ وَلائِق.

ويجبُ علينا نَحنُ الَّذينَ نُسَمِّي اسمَ يَسوعَ المَسيحِ ونَقولُ إنَّنا نَنتمي إلى اللهِ أن نَتَّقي اللهَ. واتِّقاءُ اللهِ يَعني أنِّي لا أريدُ أن أُسيءَ إليهِ. وأنا أعلمُ أنَّهُ قُدُّوسٌ. وكرَدِّ فِعلٍ مُقدَّسٍ تُجاهَ الخَطيَّة، لا أريدُ أن أفعلَ أيَّ شيءٍ قد يُسيءُ إليه، ولا أريدُ أن أفعلَ أيَّ شَيءٍ قد يَجعلُهُ يُؤدِّبُني، ولا أريدُ أن أفعلَ أيَّ شَيءٍ قد يَجعلُني أخسرَ شَهادَتي أمامَ العالَم، ولا أريدُ أن أفعلَ أيَّ شَيءٍ قد يَجعلُني أفقِدُ فَاعليَّتي في الكنيسة. لِذا فإنِّي أعيشُ في خَوفٍ مِنَ الخَطيَّة. ولماذا أخافُ مِنَ الخَطيَّة؟ لأنِّي ضَعيفٌ في جَسَدي، ولأنَّ التَّجرِبَة قَويَّة، ولأنِّي لا أريدُ أن أُسيءَ إلى الله.

ولكي تَشعُرَ بهذا النَّوعِ مِنَ الخَوفِ، يجبُ عليكَ أن تَفعلَ ما هو أكثر مِنَ الإقرارِ بأنَّكَ خَاطِئ. فلكي تشعرَ بهذا النَّوعِ مِنَ الخَوف، يجبُ أن يَكونَ ذِهنُكَ مُقتَنِعًا تَمامًا وكُليًّا بأنَّ الخَطيَّةَ تُسيءُ جدًّا إلى الله. وإن كُنتَ تُحبُّ اللهَ حَقًّا، سيكونُ مِنَ المُستحيلِ ألاَّ تَتوبَ لأنَّهُ يجبُ عليكَ أن تَتوبَ إن كُنتَ قد أخطأتَ إلى اللهِ الَّذي تُحِبُّهُ مَحبَّةً فَائِقَة. فسوفَ تَجِدُ دَافِعًا كَبيرًا جدًّا إلى القِيامِ بذلك. وأعتقدُ أنَّهُ يُمكنُنا أن نَقولَ إنَّ المُؤمِنَ الحَقيقيَّ المُكَرَّس تَكريسًا رُوحيًّا حَقيقيًّا يُبغِضُ لا فقط الخَطيَّةَ الَّتي يَقترِفُها، بل إنَّهُ يُبغِضُ أيضًا نَفسَهُ بسببِ اقترافِهِ تلكَ الخَطيَّة ويَقول: "وَيحي أنا الإنسانُ الشَّقِيُّ!"

فهُناكَ فَرْقٌ بينَ الحُزنِ على الخطيَّةِ لأنَّها تُعَرِّضُكَ للتَّأديبِ، وبينَ أن تَحزَنَ على الخَطيَّةِ لأنَّها تُسيءُ إلى الله. وهُناكَ فَرقٌ بينَ أن تَخافَ وبينَ أن تَتَّضِعَ. واللهُ يَدعونا إلى أن نَخافَ خَوفًا مُقَدَّسًا مِنَ الخَطيَّةِ وأن نَفهَمَ خُطورَتَها.

لِذا، كيفَ نُتِمِّمُ خَلاصَنا؟ انظروا إلى قُدوَتِكُم، وتَذَكَّروا أنَّكُم مَحبوبونَ، وتَذكَّروا أنَّكُم دُعيتُم إلى الطَّاعَة. فهذهِ أمورٌ أساسيَّة. وَتَذَكَّروا أنَّكُم مَسؤولونَ لأنَّ لَديكُم المَواردَ اللاَّزمةَ في داخِلِكُم، وافهَموا عَواقِبَ خَطاياكُم تُجاهَ اللهِ، وتُجاهَ أنفُسِكُم، وتُجاهَ الكَنيسةِ، وتُجاهَ العالَمِ غيرِ المُؤمِن. بعدَ أن عَرفتُم هذا كُلَّهُ، ابذُلوا كُلَّ جُهْدٍ مُمكِن لِتَتميمِ خَلاصِكُم. والآن، اسمَحوا لي أن أقولَ لكُم شَيئًا، يا أحبَّائي. هذا هُوَ كُلُّ شَيءٍ لهذا اليوم. ولكنَّنا أَنْهَيْنا نِصْفَ المَوضوعِ فقط. ويجب عليكم أن تأتوا إلى هُنا في الأسبوعِ القادِم حيثُ سنَتحدَّثُ عن عَملِ اللهِ فيكُم. دَعونا نَحني رُؤوسَنا مَعًا في الصَّلاة:

يا أبانا، نَحنُ ما زِلنا نَشعُرُ في قُلوبِنا بذلكَ المُرسَلِ الَّذي جَلَسَ في الزَّاويةِ وهو يَلُفُّ نَفسَهُ بِبَطَّانِيَّةٍ وراحَ يَقرأُ تَحتَ ضَوْءِ شَمعَةٍ كُلَّ العهدِ الجديدِ في مُنتصفِ لَيلةٍ مُظلمةٍ وبارِدَةٍ بَحثًا عن أيِّ شَيءٍ رُبَّما يَكونُ قد فَعَلَهُ وَكَسَرَ فيهِ وَصايا الله. يا رَبّ، أَعْطِنا هذا النَّوعَ مِنَ الحَماسَة. وسَاعِدنا على أن نَعرِفَ أنَّ السَّببَ الَّذي لأجلِهِ استَخْدَمْتَ بولسَ استِخدامًا عَظيمًا هُوَ ليسَ نِعمةَ اللهِ وَحَسْب، بل لأنَّهُ تَعِبَ أكثرَ مِنَ الآخرينَ جَميعًا. سَاعِدنا يا رَبُّ على أن نَكونَ كُلُّ ما تُريدُ مِنَّا أن نَكون. ونحنُ نَنتظرُ بِشَوقٍ كَبيرٍ مَجيءَ يَومِ الرَّبِّ المُقبِل لكي نَرى الوَسيلةَ الَّتي يُمكِنُ مِن خِلالِها تَحقيقُ ذلكَ فيما تَعمَلُ فينا. ويا أبانا، اعمَل عَمَلَكَ ذاكَ ابتداءً مِن هذهِ اللَّحظةِ في كُلِّ قَلب.

This sermon series includes the following messages:

Please contact the publisher to obtain copies of this resource.

Publisher Information
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969

Welcome!

Enter your email address and we will send you instructions on how to reset your password.

Back to Log In

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize
View Wishlist

Cart

Cart is empty.

Subject to Import Tax

Please be aware that these items are sent out from our office in the UK. Since the UK is now no longer a member of the EU, you may be charged an import tax on this item by the customs authorities in your country of residence, which is beyond our control.

Because we don’t want you to incur expenditure for which you are not prepared, could you please confirm whether you are willing to pay this charge, if necessary?

ECFA Accredited
Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Back to Cart

Checkout as:

Not ? Log out

Log in to speed up the checkout process.

Unleashing God’s Truth, One Verse at a Time
Since 1969
Minimize