
أرجو أن تَفتحوا كِتابَكُم المُقدَّسَ مَعي الآنَ على رِسَالَةِ فيلبِّي والأصحاحِ الرَّابع؛ أيْ على هذهِ الرِّسالةِ الرَّائعةِ الَّتي كَتَبها الرَّسولُ بولُسُ إلى المؤمنينَ في مَدينةِ فيلبِّي. لقد صَرَفْنا بِضعةَ أشهُر في دراسةِ الحَقائقِ العَظيمةِ المَوجودةِ في هذه الرِّسالة. وقد وَصلنا الآنَ إلى الأصحاحِ الأخيرِ مِن هذهِ الرِّسالةِ القصيرةِ مِن جِهَةِ حَجْمِها، والطَّويلةِ جدًّا مِن جِهةِ الحَقِّ الَّذي تَحويه. ونحنُ نَتأمَّلُ في الأصحاحِ الرَّابعِ والأعداد مِن 1 إلى 9. وقد عَنْوَنَّا هذا الجُزءَ المُحدَّدَ مِنَ الكتابِ المقدَّسِ: "الثَّبات الرُّوحيّ" – الثَّبات الرُّوحيّ. فقدِ اسْتَعَرْنا تلكَ العِبارةَ القصيرةَ في العَددِ الأوَّلِ والَّتي تَقولُ: " اثْبُتُوا...فِي الرَّبِّ" لِتَكونَ الفِكرةَ الرَّئيسيَّةَ في هذا المَقطعِ الرَّائِع.
والآن، يُمكنُني أن أقولَ بِصورةٍ عَامَّةٍ إنَّنا في مُجتمعِنا نُقَدِّرُ الشَّخصَ الَّذي يَقِفُ بثَباتٍ، أو يِقِفُ مَوقِفَ حَقٍّ، أو يَقِفَ مَوقِفَ دِفاعٍ عَمَّا يُؤمِنُ به. فنحنُ نُعْجَبُ بالأشخاصِ عَاقِدي العَزْمِ، أوِ الأشخاصِ الثَّابتينَ جدًّا في مُواجَهَةِ الضَّغط، والَّذينَ لا يَتزعزَعون، ولا يُساوِمون، والَّذين يَتَّصِفونَ بالشَّجاعَةِ والإقدام. فنحنُ نُعجَبُ بالأشخاصِ الَّذينَ لا يُمكِنُ شِراؤُهُم، ولا يُمكِنُ رَشْوَتُهم، ولا يُمكِنُ تَخويفُهم، ولا يُمكِنُ تَليينُهم، ولا يُمكِنُ إلحاقُ الهَزيمةِ بِهم. فبصورةٍ عَامَّةٍ، أعتقدُ أنَّنا نُعجَبُ بذلكَ النَّوعِ مِنَ الأشخاص.
وإنْ نَظرنا إلى الأمرِ نَظرةً أَدبيَّةً، رُبَّما لَخَّصَ "روديارد كيبلنغ" (Rudyard Kipling) ذلكَ بطريقةٍ أفضلَ مِن أيِّ شخصٍ آخرَ عندما كَتَبَ الكَلماتِ المَألوفةَ التَّالية: "إنِ استَطعتَ أن تَحتفظَ برأسِكَ في الوقتِ الَّذي يَفقِدُ فيهِ كُلُّ مَنْ هُمْ حَولَكَ رُؤوسَهُم وَيَلومونَكَ على ذلك؛ وإنِ استَطعتَ أن تَثِقَ بنفسِكَ في الوقتِ الَّذي يَشُكُّ فيهِ جَميعُ البَشَرِ فيكَ وَيُسَوِّغُونَ فيهِ شَكَّهُم أيضًا؛ وإنِ استَطعتَ أن تَنتظرَ دُونَ أن تَتعبَ مِنَ الانتظارِ، وأن تَحتَمِلَ أن يُكذَبَ عليكَ دُونَ أن تَنزَلِقَ في الأكاذيب، أو أن تُبغَضَ دُونَ أن تَستسلِمَ للكَراهِيَةِ ودُونَ أن تَبدو صَالِحًا أكثرَ مِمَّا يَنبغي أو أن تَتكلَّمَ بِحِكمةٍ زائدةٍ عَنِ الحَدِّ؛ وإنِ استَطعتَ أن تَحلُمَ دُونَ أن تَجعلَ أحلامَكَ تُهيمِنُ عليكَ؛ وإنِ استَطعتَ أن تُفَكِّرَ دُونَ أن تَجعلَ أفكارَكَ هَدَفًا لَكَ؛ وإنِ استَطعتَ أن تُقابِلَ الانتصارَ والهَزيمةَ وتُعامِلَهُما بالطَّريقةِ نَفسِها؛ وإنِ استَطعتَ أن تَحتمِلَ سَماعَ الحَقِّ الَّذي قُلتَهُ يُحَرَّفُ مِن قِبَلِ الأشرارِ لِنَصْبِ فَخٍّ للحَمْقَى، أو أن تُراقِبَ الأشياءَ الَّتي بَذَلْتَ حَياتِكَ لأجلها تُكسَرُ وتُهدَمُ وأن تُعيدَ بِناءَها بأدواتٍ قَديمةٍ؛ وإنِ استَطعتَ أن تُكَلِّمَ الجُموعَ وتُحافِظَ على فَضيلتِكَ أو أن تَمشي معَ المُلوكِ دُونَ أن تَفقِدَ لَمْسَتَكَ الرَّقيقةَ؛ وإن لم يَكُن بمقدورِ خُصومِكَ أو أصدقائِكَ المُحِبِّينَ أن يُؤذوكَ؛ وإن كانَ جَميعُ النَّاسِ يَحْسِبونَ أنفُسَهُم مَعَكَ ولكِن ليسَ كَثيرًا؛ وإن كانَ بِمَقدوركَ أن تَستَغِلَّ الدَّقيقةَ الكَاملةَ بِثَوانيها السِّتِّين في الرَّكضِ الجَادِّ؛ ستَكونُ لَكَ الأرضُ وكُلُّ ما فيها. والأَهَمُّ مِن ذلكَ هُوَ أنَّكَ ستَكونُ رَجُلاً يا بُنَيّ".
نحنُ نُقَدِّرُ الشَّخصَ الَّذي لا يُساوِم، والصَّارِم، والحَازِم، والقويّ، والجَريء، والشُّجاع. ونحنُ نُسَمِّي ذلكَ "استِقامَة". وهُناكَ شَيءٌ يُثيرُ إعجابَنا الشَّديد بشأنِ تِلكَ الصِّفَةِ البَشريَّة وذلكَ الثَّباتِ البُطوليّ. فنحنُ نُقَدِّرُهُ. ونحنُ نَنظرُ إلى هذا النَّوعِ مِنَ الأشخاصِ بِوَصْفِهِم قُدوةً لنا، ونَماذجَ لنا، وقَادَةً لنا. وإن كانتِ الشَّجاعَةُ في الدِّفاعِ عَنِ المَبادئِ، والنَّزاهةُ، والمِصداقيَّةُ، وعَدمُ المُساومةِ، والإصرارُ، والتَّمَسُّكُ بالحَقِّ، والمَواقفُ الرَّاسخةُ تُثيرُ إعجابَ النَّاسِ في مُجتمعِنا، كم بالحَرِيِّ يَنبغي أن تَكونَ هذهِ الصِّفاتُ مُهِمَّةً للمُؤمِنين؟ فَفي نِهايةِ المَطافِ، إنَّ الكلمة "مَسيحيّ" تَقْرِنُنا بالمَسيح. وقد كانَ المَسيحُ أكثرَ شَخصٍ رَفَضَ المُساومةَ، وأَظهَرَ شَجاعَةً، وَوَقَفَ بِثَباتٍ على مَرِّ التَّاريخ. فهو لم يَكُن يُساوِمُ، ولم يَكُن يَحيدُ عَنِ الحَقِّ، ولم يَكُن باستطاعةِ أحدٍ أن يَشتريهِ أو أن يَرْشِيْه. فهو نَموذجُ النَّزاهَةِ الشُّجاعَة.
وينبغي للأشخاصِ الَّذينَ يُسَمُّونَ اسمَ المسيحِ أن يَعرفوا شَيئًا عن ذلكَ النَّوعِ مِنَ الثَّباتِ، وذلكَ النَّوعِ مِنَ الصَّلابةِ، والصُّمودِ، وذلكَ النَّوعِ مِنَ الرُّسوخ. وهذا هُوَ تَمامًا مَا يُؤكِّدُهُ العهدُ الجديدُ لأنَّ هُناكَ حَضًّا مُتَكَرِّرًا في العهدِ الجديدِ للمُؤمِنينَ بأن يَثْبُتُوا المَرَّةَ تِلوَ المَرَّةِ تِلوَ المَرَّة بِطَرائِقَ عَديدة وباستخدامِ مُفرداتٍ مُختلفة. فقد دُعينا إلى الابتعادِ عَنِ الزَّعزعَة، ودُعينا إلى الابتعادِ عَنِ الشَّكِّ، وعَدَمِ الاستقرارِ، وإلى ألاَّ نَكونَ كأمواجِ البَحرِ الهَائجة حِيْنًا والهَادِئة حِيْنًا آخر. وقد دُعينا إلى أن نَكونَ راسِخينَ وأن نَكونَ أقوياء. فنحنُ نَقرأُ في مَواضِعَ عَديدة أنَّهُ يجبُ علينا أن نَتَحَلَّى بالشَّجاعَةِ، وأن نَكونَ أشخاصًا رَاسِخينَ، وأن نَتجنَّبَ عَدَمَ الثَّبات. وقد دُعينا إلى أن نَكونَ جَريئينَ وألاَّ نُساوِمَ في حَياتِنا لأجلِ يَسوعَ المَسيح.
وأعتقدُ أنَّهُ يُمكنُنا أن نَفتَحَ على العَديدِ مِنَ المَقاطِعِ الكِتابيَّةِ لرؤيةِ ذلك؛ ولكنِ اسمَحوا لي وَحَسْب أنْ أَلفِتَ أنظارَكُم إلى نَصٍّ واحدٍ فقط خَارِجَ نِطاقِ نَصِّنا. فالرِّسالةُ إلى أهلِ كُولوسي هي الرِّسالةُ التَّالية. والأصحاحُ الثَّاني والعَددُ الخَامِسُ يُلَخِّصُ ذلكَ جَيِّدًا. فبولسُ يَكتُبُ إلى القِدِّيسينَ في كُولوسي ويَقولُ في العَددِ الخَامِس: "فَإِنِّي وَإِنْ كُنْتُ غَائِبًا فِي الْجَسَدِ لكِنِّي مَعَكُمْ فِي الرُّوح". وما يَعنيهِ هُوَ: أنا أُفَكِّرُ فيكُم طَوالَ الوقت. أنتُم دائمًا في قَلبي، وأنتُم دائمًا في فِكري. وما هُوَ شَوقُ قَلبي؟ "فَرِحًا، وَنَاظِرًا تَرْتِيبَكُمْ وَمَتَانَةَ إِيمَانِكُمْ فِي الْمَسِيح". إنَّ شَوقَ قَلبي الحَقيقيَّ مِن نَحوِكُم هُوَ أن أَفرَحَ برؤيةِ انضِباطِكُم الَّذي يَقودُ إلى الإيمانِ الثَّابتِ، والإيمانِ الرَّاسِخِ، والإيمانِ القَويِّ.
وأعتقدُ أنَّ أيَّ شَخصٍ مِنكُم يَعرِفُ المَسيحَ مَعرفةً شَخصيَّةً يُقِرُّ بحقيقةِ أنَّنا نَتَمَنَّى أن يَكونَ إيمانُنا أقوى مِمَّا هُوَ عليه. فَلاَ أحدَ مِنَّا يُعجَبُ بتَعَثُّرِهِ وقَلْقَلَتِهِ أو زَعْزَعَتِهِ أو تَذَبْذُبِهِ في حَياتِهِ الرُّوحيَّة. وعلى الرَّغمِ مِن ذلكَ، هذا هُوَ في الحَقيقة مَا يَختبِرُهُ الكَثيرونَ مِنَّا. فنحنُ جَميعًا نَرغبُ في أن نَكونَ رَاسِخينَ، وَنَرغبُ جَميعًا في أن نَكونَ أقوياء. فَلاَ أعتقدُ أنَّ أيًّا مِنَّا يُريدُ أن يَكونَ ضَحيَّةً للضِّيقات. ولا أعتقدُ أنَّ أيًّا مِنَّا يُريدُ أن يُصْرَعَ بسببِ المَتاعِبِ والتَّجاربِ والمَشاكِلِ الحَياتِيَّة. ولا أعتقدُ أنَّ أيًّا مِنَّا يُريدُ أن يُهْزَمَ في أيَّة تَجرِبَة، ولا في أيِّ هُجومٍ مِنَ العالَم، ولا في أن يُؤدِّي أيُّ هُجومٍ مِنَ الجَسَدِ أو إبليسَ إلى تَعَثُّرِنا وسُقوطِنا في الخَطيَّة. بل أعتقدُ أنَّنا نُريدُ أن نَكونَ على غِرارِ الرَّسولِ بولُسَ الَّذي كانَ يَرى أنَّ هُناكَ خَطيَّةً في حَياتِهِ؛ ولكنَّهُ أَبغَضَها وقال: "عندما أفعلُ ذلكَ لا أرغَبُ في فِعلِه". وأعتقدُ أنَّنا جَميعًا نُريدُ أن نَكونَ رَاسِخينَ وأقوياء. ويجب علينا أن نُدركَ أيضًا أنَّ ذلكَ لن يَكونَ سَهلاً لأنَّنا نَخُوضُ حَرْبًا. فقد نِلْنا الخَلاصَ ودَخَلْنا في صِراع. فنحنُ جُنودٌ. وقد دُعينا إلى الاشتراكِ في مَعركة. لِذا فإنَّ اللَّفظةَ المُستخدمةَ في العَددِ الأوَّل في الآيةِ الَّتي تَقول: "اثْبُتُوا...فِي الرَّبِّ" هي لَفظةٌ عَسكريَّةٌ لأنَّنا نَضْطَلِعُ بِواجبٍ عَسكريٍّ في مُحاربةِ العَدُوِّ.
لِذا، يُمكنُنا جَميعًا أن نَقولَ: "أجل، أنا أُقَدِّرُ الحَضَّ على الثَّباتِ، والصُّمودِ، والجُرأةِ، والشَّجاعَةِ، والرُّسوخِ؛ ولكن كيفَ يُمكنُني أن أفعلَ ذلك؟ كيفَ يُمكنُني أن أُحَقِّقَ ذلكَ النَّوعَ مِنَ الثَّبات؟" الحَقيقةُ هي أنَّكم إذا نَظرتُم إلى المُؤمِنينَ مِن حَولِكُم، قد تَفترِضونَ أنَّ بَعضًا مِنهُم أكثرُ ثَباتًا مِنَ الآخرين. وهذا افتراضٌ صَحيح. فهُناكَ مُؤمِنونَ ثابِتونَ جدًّا، وهُناكَ مُؤمِنونَ يَفتقِرونَ جِدًّا إلى الثَّبات. وبينَ هذهِ الفِئةِ وتلكَ، هُناكَ كُلُّ دَرجاتِ الثَّبات. ورُبَّما تَشعُرُ في قَلبِكَ بأنَّكَ غيرُ ثَابِتٍ بسببِ العَوامِلِ الوِراثيَّة. ولكنِّي أريدُ أن أُؤكِّدَ لكُم أنَّ العَوامِلَ الوِراثِيَّةَ لا صِلَةَ لها بالمَوارِدِ الرُّوحيَّة. فَعَدَمُ ثَباتِكَ هُوَ ليسَ شَيئًا وِراثِيًّا، بل هُوَ شَيءٌ رُوحِيٌّ.
ولا يُوجَدُ أيُّ سِرٍّ بِشأنِ حَقيقةِ أنَّ هُناكَ أُناسًا غيرُ ثَابِتينَ في الأمورِ الرُّوحيَّةِ وأنَّ هُناكَ أشخاصًا ثَابِتينَ جدًّا، أو بشأنِ حَقيقةِ أنَّ هُناكَ أشخاصًا غيرُ نَاضِجينَ رُوحيًّا وأنَّ هُناكَ أشخاصًا نَاضِجينَ جدًّا رُوحيًّا، أو بشأنِ حَقيقةِ أنَّ هُناكَ أُناسًا يَنهارونَ تحتَ وَطْأةِ الاختباراتِ، ويَنهارونَ تَحتَ وَطْأةِ التَّجربةِ، وأنَّ هُناكَ أُناسًا يَحتَمِلونَ الاختباراتِ ويَحتَمِلونَ التَّجربةَ ويَنتصرونَ عليها، أو بشأنِ حَقيقةِ أنَّ هُناكَ أُناسًا يُهْزَمونَ دائمًا وأنَّ هُناكَ أُناسًا يَنتصرونَ دائمًا في المَسيح. فلا يُوجَد أيُّ سِرٍّ في ذلك، بل إنَّها مُشكلةٌ يُمكِنُ أن تُحَلَّ بِواسطةِ تَعزيزِ الثَّباتِ الرُّوحيِّ مِن خِلالِ تَطبيقِ مَبادئَ مُحَدَّدة. ويجب أن يَكونَ هذا الأمرُ مُشَجِّعًا جدًّا لَكُم. فقد تَكونُ ضَعيفًا في الإيمانِ وتَفتَقِرُ إلى الثَّبات. وقد تَكونُ حَديثَ الإيمانِ ويُوجَدُ عَدَمُ ثَباتٍ مُعَيَّن في حَياتِكَ لأنَّ الفُرصَةَ لم تَسْنَحْ لكَ بعد لأن تَصيرَ قَويًّا. ولكنَّ العَمليَّةَ مُبَيَّنةٌ بوضوحٍ في كلمةِ الله.
وكما قَرأتُ للتَّوّ على مَسامِعِكُم مِن رسالةِ كولوسي 2: 5، فإنَّ الأمرَ يَتوقَّفُ على الانضباطِ السَّليم. فالحياةُ المُنضبطَةُ تَصيرُ حَياةً ثَابِتَة. لِذا، يجبُ عليكم أن تَفهَمُوا هذهِ المَبادئَ كي تَصيروا ثَابِتينَ روحيًّا، وكي تَتَجَنَّبوا التَّعَثُّرَ بأيِّ شَيءٍ قَد تُصادِفونَهُ في طَريقِكُم سَواءٌ كانَ اضطهادًا مِنَ الأشخاصِ المُعادينَ أوْ تَجربةً مِنَ الشَّيطانِ والجَسدِ، أو كانَ تَجاربَ وضيقاتٍ في هذا العَالَمِ السَّاقِط. فهُناكَ مَبادئ تُتيحُ لَكُم أن تَصيروا أقوياء. وسوفَ نَتَحَدَّثُ في الأسابيعِ القَادِمَةِ عن هذهِ المَبادئ المَذكورة في الأعداد مِن 1 إلى 9.
والآن، أَلاَ لاحَظتُم في العَددِ الأوَّل، عندما مَهَّدَ بولسُ للمَبدأِ الأوَّلِ للثَّباتِ، أنَّهُ استَخدَمَ الكلمة "هَكذا"؟ وهي تَعني: "بهذهِ الكَيفيَّةِ [أو: بِهذهِ الطَّريقةِ] اثبُتوا في الرَّبّ". ثُمَّ إنَّهُ يُبَيِّنُ كيفيَّةَ القِيامِ بذلك. فَهُوَ يَقولُ لمُؤمِني فيلبِّي: "إن أردتُم أن تَكونوا مَسيحيِّينَ ثَابِتينَ في الرَّبِّ، وأقوياء، وراسِخينَ، ومَتينين، إليكُم كيفيَّةَ القِيامِ بذلك". ثُمَّ إنَّهُ يَبتدئُ في العَددِ الثَّاني بتقديمِ مَجموعةٍ مِنَ المَبادئِ لَهُم. فهذهِ هي الأشياءُ الَّتي تُؤدِّي إلى الثَّباتِ الرُّوحيّ. وسوفَ نَستَفيدُ أيَّما فَائِدَة في أثناءِ تَأمُّلِنا في هذهِ الآياتِ في هذا الأسبوعِ والأسبوعِ القادِمِ بِكُلِّ تأكيد، ورُبَّما في الأسبوعِ الَّذي يَليهِ أيضًا.
لِنَنظُر إلى المبدأِ الأوَّل. فقد تَأمَّلنا مِن قَبْل مَا جاءَ في العَددِ الأوَّل. لِذا، سَننتقِل إلى تلكَ المَبادِئ. لِنَنظُر إلى المَبدأِ الأوَّل. فإليكُم كيفيَّةَ تَحقيقِ الثَّباتِ الرُّوحيّ. المبدأُ الأوَّلُ: مِن خِلالِ الحِفاظِ على الوِئامِ أوِ السَّلامِ في شَرَكةِ المحبَّة. عن طَريقِ الحِفاظِ على الوِئامِ أوِ السَّلامِ في شَرِكَةِ المَحبَّة.
والآن، أريدُ أن أَشرحَ ذلكَ قليلاً. اسمَحوا لي أن أفعلَ ذلك. فأنا على يَقينٍ بأنَّ هذا السَّعيَ إلى الثَّباتِ الرُّوحيِّ (وأنا أَعلمُ أنَّ بولسَ كانَ مُقتنعًا بذلكَ أيضًا) يَتوقَّفُ إلى حَدٍّ مَا على العَلاقاتِ بَينَنا. ويُمكنُني أن أقولَ لَكُم مِن خِلالِ حَياتي الشَّخصيَّةِ إنَّهُ مِنَ الوَاضِحِ بالنِّسبةِ لي إنَّني أصيرُ مُتَزعزِعًا أكثرَ عندما أَنفَصِلُ عنِ المُؤمِنينَ الآخرينَ، وإنَّ الشَّركةَ معَ المُؤمِنينَ؛ أي تلكَ الشَّرِكَةَ الوَطيدةَ والحَميمةَ، والانسجامَ المُحِبَّ في جَسَدِ المَسيحِ هُوَ عُنصُرٌ مُهِمٌّ جدًّا في ثَباتي الشَّخصيّ. وأنا أُوْمِنُ بأنَّكم تَختبرونَ ذلكَ أيضًا بِصِفَتِكُم مُؤمِنين. فَهذا هُوَ الشَّيءُ الَّذي يَجعَلُ الكنيسةَ كَنيسَة. فالأمرُ يَتطلَّبُ مَجموعةً مِنَ الأشخاصِ الَّذينَ يَسنِدونَ بَعضُهُم بَعضًا، ويَتطلَّبُ مُساءَلَةً مُشترَكَة، ورِعايةً مُشترَكَة، ومَحبَّةً ووِفاقًا وسَلامًا. وَهُوَ يَتطلَّبُ أن تَكونَ حَياتُنا جَميعًا مَنْسوجَةً معًا حَتَّى نَستطيعَ أن يَسنِدَ الواحِدُ الآخرَ، وأن يَدعَمَ الواحِدُ الآخرَ، وأن يُقيمَ الواحِدُ الآخَرَ، وأن يَحمِلَ الواحِدُ الآخَرَ، وأن يَرُدَّ الوَاحِدُ الآخرَ عندما يَسقُط (كما يَقولُ بولسُ لِمُؤمِني غلاطيَّة). وبعدَ أن ترُدَّهُم، أن تُساعِدَ في بُنيانِهم. فنحنَ مُطالَبونَ بهذا كُلِّه.
وهذا هُوَ تَمامًا ما يَدورُ في ذِهنِ الرَّسولِ بولُس في العَدَدَيْنِ الثَّاني والثَّالثِ عندما يَتَعَمَّقُ في مَوضوعِهِ ويَدخُلُ في التَّفاصيل. فهو يَكتُبُ: "أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْرًا وَاحِدًا فِي الرَّبِّ. نَعَم أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضًا، يا سيزيغوس" (suzugos)". فهذهِ هي الكلمةُ اليونانيَّةُ المُستخدمَةُ هُنا، وهي تُتَرجَمُ: "رَفيقي المُخلِص" في التَّرجمة الأمريكيَّة الجَديدة. "نَعَمْ أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضًا، يَا سيزيغوس، سَاعِدْ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ، مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضًا وَبَاقِي الْعَامِلِينَ مَعِي، الَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ".
والآن، إنَّ ما يَفعلُهُ بولُسُ هُنا هُوَ أمرٌ مُدهِشٌ جدًّا جدًّا في نَظري. فهو يَصِفُ مُشكلةَ الخِلافِ في كنيسةِ فيلبِّي بكلماتٍ مُؤكَّدة. فهو لا يَتحدَّثُ بأسلوبٍ مُبهَمٍ، بل يُسَمِّي المَرأتينِ المُتخاصِمَتَيْنِ باسْمَيْهِما. ثُمَّ إنَّهُ يُسَمِّي الشَّخصَ الَّذي يَنبغي أن يُساعِدَ في حَلِّ المُشكلة. فهو واضِحٌ جدًّا. وما يَسعَى إليهِ هُنا هُوَ الوَحدةُ في الكنيسة، والوِئامُ في الكنيسة. وكما تَرَوْنَ، هُناكَ خِلافاتٌ كثيرة مُحتَمَلَة على مُستوياتٍ عَديدة في حَياةِ الكَنيسةِ يُمكِنُ أن تُزَعزِعَ الاستقرار. واسمَحوا لي أن أُقَدِّمَ لكُم فِكرةً بسيطةً جدًّا عن ذلك. عندما تَكونُ الكنيسةُ غير مُستقرَّة بِصورةٍ عَامَّةٍ، أو عندما يَكونُ هُناكَ خِصامٌ في الكنيسةِ على مُستوىً عَالٍ، سوفَ يُؤدِّي ذلكَ إلى عَدمِ الاستقرارِ في كُلِّ الكنيسة. وسوفَ يَقَعُ النَّاسُ ضَحِيَّةَ عدمِ الاستقرارِ ذَاك. مِن جِهةٍ أخرى، عندما تَكونُ هُناكَ وَحدةٌ ووِفاقٌ وسَلامٌ ووِئامٌ كَكُلّ، سوفَ تَتمتَّعُ الرَّعيَّةُ بالاستقرارِ الَّذي يَنعَكِسُ عليهم جميعًا.
وبولسُ يَعلَمُ ذلكَ، ويَعرِفُ أنَّ وُجودَ خِصَامٍ كَبيرٍ بينَ امرأتينِ في الكنيسةِ يُمكنُ أن يُهَدِّدَ الاستقرارَ الرُّوحيَّ للمؤمنينَ في كُلِّ تلكَ الرعيَّةِ لأنَّهُم سيَقعونَ في كُلِّ أنواعِ الخَطايا كَرُوحِ الانشقاقِ، والنَّقدِ، والمَواقفِ السَّلبيَّةِ، والمَرارةِ، والانتقامِ، والعَداوةِ، وعَدمُ الغُفرانِ، والكِبرياء. فقد كانَ بولسُ يَعلَمُ ذلك. وكانَ يَعلَمُ أيضًا أنَّهُ عندما يَتصالَحُ النَّاسُ، ويَنسجمونَ معًا، ويُحبُّونَ بَعضُهُم بعضًا، ويَحْفَظونَ وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرباطِ السَّلامِ [كَما يُسَمِّيهِ بولُس]، أنَّهُ عندما يَحدُثُ ذلكَ فإنَّهُ سيكونُ هُناكَ استقرارٌ في كُلِّ الكنيسة. فكأنَّ قُوَّةَ الكَنيسةِ كُلِّها تَصيرُ قُوَّةَ الفَردِ فيها.
فعندما تَعلَمُ أنَّكَ مَحبوبٌ، وعندما تَعلمُ أنَّ النَّاسَ يُحِبُّوكَ حَقًّا، وعندما تَتَعَهَّدُ بِحُبِّ الآخرينَ في جَسدِ المسيح، وعندما تَعلمُ أنَّ الأشخاصَ المُحِبِّينَ في الكنيسةِ يَهتمُّونَ بكَ ويُصَلُّونَ لأجلِكَ، وتَتَعاوَنُ معَهُم، ويَتَعاوَنونَ مَعَكَ، وتَعلمُ أنَّ المَحبَّةَ عَامِلَةٌ، وأنَّكَ مَسؤولٌ أَمامَهُم؛ ولكنَّكَ أيضًا تَحصُلُ على المُساعَدةِ والتَّشجيعِ والرِّعاية، فإنَّ ذلكَ يُوَفِّرُ الثَّباتَ. فهناكَ أشخاصٌ كَثيرونَ في الكنيسةِ، كما تَعلمونَ، لا يَشعرونَ بذلك. وَهُم يَتَخَبَّطونَ ويَنجرفونَ ويَتَقَلقَلونَ ويَسقُطونَ لأنَّ البيئةَ الَّتي يُوجَدونَ فيها ليست دَاعِمَةً لَهُم ولا تَسنِدُهم. لِذا، يجب علينا أن نَسنِدَ الضُّعفاء. ويجب علينا أن نُقيمَ السَّاقِطينَ، وأن نُعينَ المَكسورينَ الَّذينَ سَقطوا في الخطيَّة. ويجب علينا أن نُظهِرَ المَحبَّةَ في الخِدمةِ لأنَّ ذلكَ يُؤدِّي إلى استقرارِ الكنيسة. وهذا هُوَ ما يَدعو إليهِ بولسُ هُنا.
والآن، اسمَحوا لي أن أقولَ لَكُم المُلاحظةَ التَّالية، وسوفَ أُعيدُ هذهِ المُلاحظةَ أكثرَ مِن مَرَّة في أثناءِ دِراستِنا: الثَّباتُ الرُّوحيُّ مُرتبطٌ بموقِفِكَ. حسنًا؟ فَهُوَ ليسَ مُرتبطًا بالظُّروف، بل مُرتبطٌ بطريقةِ تَفكيرِك. فَهُوَ مُرتبِطٌ ارتباطًا مُباشِرًا بطريقةِ تَفكيرِكَ وبِرَدَّةِ فِعلِكَ على مَا يَجري في مُحيطِك. فإن تَعَلَّمتَ أن تَكونَ رُدودُ أفعالِكَ صَحيحَة، ستَكونُ ثابِتًا رُوحِيًّا. وإن لم تَتعلَّم ذلك، لن تَكونَ ثَابِتًا رُوحِيًّا. فطريقَتُكَ في التَّفكير هي النُّقطةُ الجَوهريَّة. لِذا، سوفَ يُعَلِّمُنا بولسُ هُنا كيفَ نُفَكِّر. والحقيقةُ هي أنَّهُ عندما يَصِلُ أخيرًا إلى العَددِ الثَّامِنِ فإنَّهُ يَقول: "فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا". فطريقةُ تَفكيرِكَ هي الَّتي تَجلِبُ الثَّباتَ الرُّوحيَّ. وبِصورةٍ رَئيسيَّةٍ... إليكُم سِرًّا صَغيرًا سأكشِفُهُ لَكُم في الأسابيعِ القليلةِ القادِمَة... بِصورةٍ رَئيسيَّةٍ، إنَّ الأمرَ لا يَتوقَّفُ على كَيفيَّةِ تَفكيرِكَ في نَفسِك، ولا على كَيفيَّةِ تَفكيرِكَ في مَشاكِلِكَ، بل إنَّ كَيفيَّةَ تَفكيرِكَ في اللهِ هي الَّتي تُؤثِّرُ في ثَباتِكَ الرُّوحيّ. فكُلُّ شَيءٍ يَتَمَحوَرُ حَولَ لاهُوتِك. لِذا فإنَّ طَريقةَ تَفكيرِكَ في اللهِ ستُسيطِرُ على حَياتِكَ الرُّوحيَّةِ بِكُلِّ أبعادِها. وسوفَ نَرى ذلكَ يَتَكَشَّفُ لَنا.
ولكِن لِنَبتدِئ بهذهِ النُّقطةِ المُختصَّةِ بالحِفاظِ على الوِئامِ أوِ السَّلامِ في شَرِكَةِ المَحبَّة. وهو يَستخدِمُ في العَددِ الثَّاني الكلمة "أَطلُبُ"؛ وهي تَرجمة للكلمة اليونانيَّة: "باراكاليئو" (parakaleo). وهي الكلمةُ الَّتي اشْتُقَّتْ مِنها الكلمة "باراقليط"؛ وهي الكلمة الَّتي تُشيرُ إلى الرُّوحِ القُدُسِ في إنجيلِ يُوحَنَّا؛ أيْ ذاكَ الَّذي يَأتي ويَطلُبُ أو يُناشِدُ أو يُشَجِّعُ أو يُساعِد. لِذا فإنَّ بولسَ في مَوقفِ طَلَبٍ أو مُناشَدَةٍ أو تَشجيعٍ، وَهُوَ يَقول: "أُناشِدُ هَاتينِ المَرأتَيْنِ [أَفُودِيَةَ وَسِنْتِيخِي] أن تَعيشا في وِئامٍ في الرَّبّ". وهذا مُدهشٌ جدًّا... مُدهشٌ جدًّا.
فبولسُ هُوَ هذا اللاَّهوتِيُّ العَظيمُ الَّذي يَملِكُ عَقلاً لاهُوتِيًّا جَبَّارًا وقُدرةً مَنطقيَّةً هَائلةً. وَهُوَ يَغوصُ إلى أعماقِ الحَقِّ الإلهيِّ العَظيمِ. وَحَتَّى في رِسالةِ فيلبِّي الَّتي قد نَظُنُّ أنَّها أَقَلُّ عُمْقًا مِنَ الرَّسائلِ الأخرى كَرِسالةِ غَلاطيَّة أو رُومية أو كورنثوس؛ ولكنَّها في الحقيقةِ عَميقةٌ جدًّا جدًّا حتَّى إنَّنا نَتساءَلُ كيفَ استطاعَ بعدَ أن غَاصَ عَميقًا في الحَقِّ العَظيمِ أن يَرفَعَ رأسَهُ فَوقَ السَّطحِ ويَقول: "أَلاَ أَخبرتُم هَاتينِ المَرأتَيْنِ أن تَتَصَالَحا!" فقد يُخَيَّلُ للبَعضِ أنَّ ما يَفعلُهُ هُنا يَميلُ إلى الابتِذال.
وَمَا أعنيه هُوَ أنَّهُ يُعالِجُ مَواضيعَ عَديدة بَالِغَة الأهميَّة. فإن كُنتُم مَعَنا عندَ دِراستِنا للأصحاحِ الثَّالث، لا بُدَّ أنَّكُم تَعرِفونَ المواضيعَ الَّتي يُعالِجُها هُنا. ففي الأصحاحِ الثَّالثِ، كانَ مُنهَمِكًا جدًّا في التَّحَدُّثِ عن حَقيقةِ أنَّ مُؤمِني فيلبِّي كانوا يَتعرَّضونَ للهُجومِ مِنَ المُعَلِّمينَ الكَذبة الَّذينَ يُنادونَ بإنجيلٍ زَائِفٍ وَعَقيدةٍ زائِفَة. وقد كانوا يَتعرَّضونَ لِهُجومِ الأشخاصِ الَّذينَ كانوا يَعيشونَ حَياةً خَاطئةً ويقولونَ إنَّهُم مَسيحيُّونَ في حينِ أنَّهُم لا يَعيشونَ حَياةَ التَّقوى. فقد كانت هُناكَ مَشاكِلُ عَويصَة. وفي الأصحاحِ الثَّالثِ، يُحَذِّرُهم بولسُ مِن نَامُوسِيَّةِ المُهَوِّدين. وهو يَدعو هَؤلاءِ: "الكِلابَ وَفَعَلَةَ الشَّرِّ والقَطْعَ" لأنَّهُم يَتَلاعَبونَ بالكَلِماتِ ويَتظاهَرونُ بِحُبِّهم للخِتان. وَهُوَ يَقولُ: "إنَّ هَؤلاءِ يَقولونَ إنَّ النِّعمةَ والإيمانَ لا يَكفيان للخَلاص، وإنَّهُ يجبُ علينا أن نُضيفَ الأعمالَ. وَهُم أعداءُ صَليبِ المَسيح. لا تُصَدِّقوا أَكاذيبَهُم... أَكاذيبَهُم الَّتي تَقودُ إلى الهَلاك".
ثُمَّ إنَّهُ يَنتقلُ إلى التَّحدُّثِ عن مَوضوعِ النُّخبةِ الفِكريَّةِ الَّذينَ يَتَظاهَرونَ بأنَّهُم وَصَلوا رُوحِيًّا إلى الكَمالِ ويَقول: "أنا لم أَبلُغِ الكَمالَ بعد، بل ما زِلتُ أَسعى إلى تَحقيقِ ذلكَ الهَدف. لا تُصَدِّقوا أكاذيبَهُم بأنَّهُم بَلَغُوا الكَمالَ الرُّوحيَّ مِن خِلالِ انتِمائِهم إلى فَريقِ النُّخبةِ في المَذهَبِ الغُنوصِيّ". ثُمَّ إنَّهُ يُهاجِمُ الزَّنادِقَةَ أوِ الإباحِيِّينَ الَّذينَ إلَهُهُم بَطنُهُم، والَّذي يَتَحَكَّمُ جَسَدُهُم بشَهواتِهم، والَّذينَ يُنفِقونَ مَا يُريدونَ على شَهواتِهم. وَهُوَ يَدعو هَؤلاءِ أعداءَ صَليبِ المَسيح.
فقد كانَ يُعالِجُ مَشاكِلَ عَويصَةً جدًّا؛ وهي كُلُّها مَوجودةً في كَنيسةِ فيلبِّي. وقد تَقولُ إنَّهُ بِوجودِ كُلِّ تلكَ التَّهديداتِ الخَطِرَةِ والمُهلِكَةِ الَّتي تُهَدِّدُ مَقاصِدَ اللهِ، والَّتي تُعَوِّجُ وَتُحَرِّفُ عَقيدَةَ الخَلاصِ، لِماذا يَصعَدُ فَجأةً إلى السَّطحِ بعدَ كُلِّ ذلكَ العُمْقِ ويقول: "أَصْلِحُوا هَاتينِ المَرأتَيْنِ"؟ سوفَ أُخبرُكم لماذا. لأنَّهُ يَفهمُ كيفَ أنَّ الخِلافاتِ تُشَكِّلُ خَطَرًا بَالِغًا مُماثِلاً على حَياةِ الكنيسة. فسوفَ تَسلِبُ الكَنيسةَ قُوَّتَها وتَهدِمُ شَهَادَتَها.
فَهُوَ يُذَكِّرُنا بالمَخاطِرِ المَوجودةِ في هذهِ اللُّعبةِ الَّتي نُشارِكُ فيها. فالمَقاصِدُ العِدائيَّةُ العَنيفةُ لأعداءِ المَسيحِ تَقودُهم إلى البحثِ عن أيَّة طَريقة يُشَوِّهونَ بها سُمعَةَ الكنيسة. والخِلافاتُ والنِّزاعاتُ في الكنيسةِ هي واحدة مِن تلكَ الطَّرائقِ الَّتي يَستخدِمونَها في أغلبِ الأحيان – في أغلبِ الأحيان. وهذا قد يُؤدِّي إلى هَدْمِ شَهادةِ مُؤمِني فيلبِّي. فقد كانُوا تَحتَ المُراقَبةِ إذْ إنَّ كُلَّ شخصٍ كانَ يُراقِبُهم في تلكَ الثَّقافةِ الوَثنيَّة. والخِلافاتُ والنِّزاعاتُ والانشقاقاتُ على مُستوى الكنيسةِ يُمكِنُ أن تَهدِمَ شَهادَتَهُم. وَمِنَ الوَاضحِ أنَّهُم كانوا حَقًّا على حَافَةِ ذلك.
ارجِعوا إلى الأصحاحِ الأوَّلِ والعَدد 27. هَل تَذكرونَهُ؟ فَهُوَ يَقول: "فَقَطْ عِيشُوا كَمَا يَحِقُّ لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ". بِعبارةٍ أخرى، عِيشوا حَياةً تُوافِقُ رِسالَتَكُم. "حَتَّى إِذَا جِئْتُ وَرَأَيْتُكُمْ، أَوْ كُنْتُ غَائِبًا أَسْمَعُ أُمُورَكُمْ أَنَّكُمْ تَثْبُتُونَ [اسمَعوا ما يَقول:] فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيل". فَهُوَ يُطالِبُهم بالوَحدةِ هُنا. وَهُوَ يُدركُ أنَّهُ يُوجَدُ خُصومٌ لَهُم في العَدد 28. فَهُوَ يُدركُ ذلك. ولكنَّهُ يَقول: "يجب عليكُم أن تَثبُتوا. ويجب عليكُم أن تَعيشوا مَا تُؤمِنونَ به. ويجب عليكم أن تَعيشوا حَياةً تَليقُ بِدَعوتِكُم". وَهُوَ يَقولُ في الأصحاحِ الثَّاني والعَددِ الثَّاني: "إن أردتُم أن تَجعَلوا فَرَحي كَامِلاً [والمَعنى الضِّمنِيُّ هُنا هُوَ أنَّهُ لم يَكُن كَامِلاً] يَجِبُ عليكُم أن تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا". فَمِنَ الواضِحِ أنَّهُ كانَت هُناكَ خِلافات.
ويُشيرُ العَددُ الرَّابع عشر مِنَ الأصحاحِ الثَّاني إلى أنَّهُ كانَت هُناكَ دَمْدَمَةٌ ومُجادَلة بشأنِ أُمورٍ مُعيَّنة. ويجب عليهم أن يَتوقَّفوا عن ذلك. ورُبَّما يُرَكِّزُ هُنا قليلاً وبصورةٍ مُباشِرةٍ على المُشكلة. فقد كانت هُناكَ امرأتانِ مِنَ الواضحِ أنَّهُما تُحْدِثانِ انشقاقًا وانقسامًا في الكنيسة. وهو يَقول: "أريدُ أن أُناشِدَ هَاتينِ المَرأتَيْنِ على أن تَعيشَا في وِئامٍ في الرَّبّ". والآن، مِنَ الواضحِ أنَّنا لا نَعرفُ الكَثيرَ عن هَاتينِ المَرأتَيْن. ولكنِ اسمَحوا لي أن أُخبرَكُم ما يُمكِنُنا أن نَستخلِصَهُ مِن هذهِ الآيةِ المُنفَرِدَةِ والخَلفيَّة: أوَّلاً، لم تَكُن المُشكلةُ بينَ المَرأتَيْنِ مُشكلةً تَختصُّ بالعَقيدة. فهي لم تَكُن مُشكلةً بشأنِ عَقيدةٍ مَا؛ وإلاَّ لَحَلَّها بالوقوفِ مَعَ هذهِ أو تِلكَ. أليسَ كذلك؟ فلو كانت إحداهُما تُعَلِّمُ الحَقَّ والأُخرى تُعَلِّمُ الضَّلالَ لَوَقَفَ مَعَ الَّتي تُعَلِّمُ الحَقَّ. ولكنَّ المُشكلةَ بينَ المَرأتينِ لم تَكُن تَختصُّ بالحَقِّ. وهذهِ هي الحَالُ عَادَةً في الخِلافاتِ الَّتي تَحدُثُ في الكَنيسة. فهي تَختصُّ عادةً بالآراءِ أكثر مِنَ العَقيدة.
والشَّيءُ الثَّاني الَّذي نَعرِفُهُ عن ذلكَ هُوَ أنَّ هَاتينِ المَرأتينِ كانتا عُضْوَتَيْنِ في الكنيسة. لِذا، كانت هُناكَ عُضوَتانِ في الكنيسة. ومِنَ الواضِحِ أنَّهُم كانَتا عُضْوَتَيْنِ بَارِزَتَيْن. وَهُوَ يُشيرُ إليهِما باسمَيْهِما هُنا. فقد كانتا عُضَوَتَيْنِ بارِزَتَيْنِ في الكنيسةِ بينَهُما خِلافٌ شَخصيٌّ لا يَختصُّ بالعَقيدة. والآن، لو كانَ الأمرُ يَختصُّ بالعَقيدة لَكانَ الخِلافُ مَنطِقِيًّا. فيجبُ على الكَنيسةِ أن تُواجِهَ الهَراطِقَةَ وتَطرُدَهُم. فَالشَّخصُ الَّذي يُعَلِّمُ الضَّلالَ يَنبغي أن يُكْشَفَ ويُطرَد. وأيُّ شَخصٍ يُعَلِّمُ إنجيلاً زَائِفًا هُوَ شَخصٌ مَلعونٌ كما جاءَ في الأصحاحِ الأوَّل مِن رسالةِ غلاطيَّة. ولكنَّنا لا نَتحدَّثُ عَن خِلافٍ بشأنِ العَقيدةِ هُنا، بل نَتحدَّثُ عن امرأتَيْنِ لم تَتَّفِقا معًا، بل انحازت كُلٌّ مِنهُما إلى جَانبٍ، وأَحْدَثَتا نِزاعًا، وجَعَلَتا الرَّعيَّةَ تَنحازُ إلى هذا الجَانِبِ أو ذاك الواحِدةُ ضِدَّ الأخرى. وقد كانَتا امرأتَيْنِ بَارِزَتَيْنِ. وَمِنَ الواضحِ أنَّهُما كانَتا امرأتَيْنِ مَحبوبَتَيْنِ وَلَهُما تأثير.
والآن، مَنْ هُما يا تُرَى؟ الحَقيقةُ هي أنَّنا لا نَعرِفُ الجَوابَ؛ ولكنَّنا نَستطيعُ أن نُخَمِّنَ ما يَلي: يَقولُ بولُسُ في العَددِ الثَّالثِ أنَّهُما كانتا تَخْدِمانِ مَعَهُ في السَّابقِ وتُجاهِدانِ مَعَهُ في الإنجيل. وَرُبَّما تَكونُ هَاتانِ المَرأتانِ في عِدادِ النِّساءِ اللاَّتي كُنَّ يَجْتَمِعْنَ عندَ النَّهرِ في فيلبِّي عندما وَصَل بولُسُ إلى هُناكَ أوَّلَ مَرَّة وأَسَّسَ الكنيسة. هَل تَذكُرونَ أنَّهُ عندما جاءَ إلى فيلبِّي، لم يَكُن هُناكَ مَجْمَعٌ لليَهودِ هُناك؟ فقد كانَ يَذهبُ دائمًا إلى المَجمعِ ويَعِظُ أوَّلاً إلى اليَهودِ ويَربَحُهم إلى المَسيحِ، ثُمَّ يَضُمُّ هَؤلاءِ الَّذينَ اهْتَدَوْا إلى المَسيحِ مِنَ اليهودِ إلى صَفِّهِ ويَذهبُ للكِرازةِ للأُمَمِ في المَدينة. ولكِن عندما جاءَ إلى مَدينةِ فيلبِّي، لم يَكُن هُناكَ مَجمَعٌ لليَهود. والسَّببُ في ذلكَ هُوَ أنَّهُ كانَ يَنبغي أن يُوْجَدَ مَا لا يَقِلُّ عن أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً في المَدينةِ لِتَأسيسِ مَجمَعٍ فيها. ولم يَكُن هُناكَ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً يَعيشونَ في تلكَ المَدينة. لِذا، لم يَكُن هُناكَ مَجمَعٌ لليَهود. وَعليهِ، كانت هُناكَ نَساءٌ يَهودِيَّاتٌ تَقِيَّاتٌ يَجتَمِعْنَ معًا لعِبادَةِ الإلَهِ يَهوَه عندَ النَّهر. فَلم يَكُن يُوجَدُ مَجمَعٌ رَسميٌّ.
لِذا فقد ذَهبَ بولسُ إلى هُناكَ وَأَسَّسَ كَنيسةً في تلكَ المَدينة مِن خِلالِ الكِرازةِ إلى تلكَ النِّسْوَة. ومِنَ المُرَجَّحِ جدًّا أنَّ تلكَ المَجموعةَ مِنَ النِّساءِ كانت تَضُمُّ هَاتينِ المَرأتينِ: "أَفُودِيَة" وَ "سِنْتِيخِي"؛ مَعَ أنَّنا لا نَعرِفُ ذلكَ يَقينًا. ولكنَّنا نَعلَمُ أنَّهُما كانَتا تُحْدِثانِ انشِقاقًا في الكنيسة؛ وهو شِقاقٌ جَعَلَ الكَنيسةَ لا تَجتَهِدُ مَعًا بنفسٍ واحِدَةٍ لأجلِ إيمانِ الإنجيل. وَهُوَ شِقاقٌ جَعَلَهُم لا يَحفَظونَ مَحبَّتَهُم بَعضُهُم لبعضٍ. لِذا فقد تَعَيَّنَ تَذكيرُهم بحقيقةِ أنَّهُم مُتَفاخِرونَ عِوَضًا عن أن يَكونُوا مُتَواضِعينَ، وأنَّهُم كانُوا يَخدِمونَ أنفُسَهُم عِوَضًا عن أن يَخدِموا الآخرينَ كَما فَعَلَ في الأصحاحِ الثَّاني. وَهُوَ يُعَرِّفُ هُنا قَادَتَهُم. وَهُوَ قَلِقٌ جِدًّا بسببِ ما يَحدُث.
لِذا فإنَّهُ يَقولُ لَهُم ببساطَةٍ: "سَاعِدوهُما على العَيشِ في وِئام". سَاعِدوهُما على العَيشِ في وِئامٍ، عَالِمينَ أنَّ المَسألةَ بِرُمَّتِها هي مَسألةُ نَقْصِ وِئام، ونَقصِ مَحبَّة؛ وهي مُشكلةٌ تَنجُمُ دائمًا عنِ الكِبرياءِ وعَدَمِ التَّواضُع. فقد كانت كُلٌّ مِنهُما تُريدُ أن تَفعلَ مَا تُريدُهُ هِيَ عِوَضًا عَنِ الاهتمامِ بالآخرين.
والآن، أرجو أن تُلاحِظوا أنَّهُ يَقول: "أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْرًا وَاحِدًا فِي الرَّبِّ". فهذا هُوَ النِّطاق. فإن كانتا تَتَمَتَّعانِ بِعَلاقَةٍ سَليمةٍ بالرَّبِّ فإنَّ ذلكَ سَيَحُلُّ المُشكلة. هل تَفهَمونَ ذلك؟ فإن وُجِدَ شَخصانِ يَتَمَتَّعانِ بِعَلاقةٍ سَليمةٍ بالرَّبِّ، لا شَكَّ في أنَّهُما سَيَتَمَتَّعانِ بعَلاقةٍ سَليمةٍ بينَهُما. أليسَ كذلك؟ فإن كُنتُ أَسلُكُ في الرُّوحِ، وأتمتَّعُ بِعَلاقةٍ سَليمةٍ بالرَّبِّ، وكُنتُم تَسلُكونَ في الرُّوحِ وتَتمتَّعونَ بِعلاقةٍ سَليمةٍ بالرَّبِّ، سوفَ نَتمتَّعُ بِعلاقَةٍ رائعةٍ بَعضُنا مَعَ بَعضٍ مِن دُونِ مَشاكِل. لِذا فإنَّهُ يَقول: "ساعِدوهُما على العَيشِ في وِئامٍ أو على العَيشِ في سَلامٍ في الرَّبّ".
وَهُوَ يَخْطُو خُطوةً أخرى في العَددِ الثَّالث. وهذا مُدهِشٌ جدًّا. فهو قَلِقٌ جدًّا بسببِ ما يَحدُثُ حَتَّى إنَّهُ لا يَكتفي بالقول: "أنا أَطلُبُ مِنهُما أن تَحُلاَّ خِلافاتِهما". والآن، هل يُمكنكُم أن تَتخيَّلوا أنَّهُ في يَومِ الأحَدِ الَّذي قَرَأوا فيهِ هذهِ الرسالةَ، كانت تَلكَ المَرأتانِ هُناك؟ وأنَّ القَادةَ لم يُخبروهُما بِما جاءَ في الرِّسالة. وأنَّهُم كانوا يَقرأونَ ويَقرأونَ في حينِ أنَّ هَاتينِ المَرأتَيْنِ تَجلِسانِ هُناكَ وتَقولان: "أجل، آمين... آمين". ثُمَّ إنَّ القَارِئَ يَصِلُ إلى الأصحاح الأخيرِ ويَقرأُ الآيةَ الَّتي تَقول: "أَطْلُبُ إِلَى أَفُودِيَةَ وَأَطْلُبُ إِلَى سِنْتِيخِي أَنْ تَفْتَكِرَا فِكْرًا وَاحِدًا فِي الرَّبِّ". يا لَها مِن ضَربةٍ مُباشِرَة! ثُمَّ إنَّ الرِّسالةَ تَقول: "نَعَمْ أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضًا، يَا رَفيقي الْمُخْلِصَ..." (بِحَسَبِ مَا جاءَ في التَّرجمةِ الأمريكيَّةِ الجَديدة) "سَاعِد هَاتينِ المَرأتَيْن". لِذا، في هذهِ الرِّسالة، وفي أثناءِ قِراءَتِها على مَسامِعِ الرَّعيَّةِ، فإنَّهُ يَطلُبُ مِن هذا الشَّخصِ أن يُساعِدَ هَاتينِ المَرأتَيْنِ على الوِئام. وهذا جُزءٌ مِنَ الخِدمةِ المُشتركَةِ في الكنيسةِ أوْ بينَ المُؤمِنين.
والآن، لاحِظوا العِبارة: "يا رَفيقي المُخلِص". فهي تُشبِهُ حَديثًا يَدورُ بينَ شَخصَيْنِ شُيوعِيَّيْن؛ ولكِنَّها ليست كَذلك، بل إنَّها الكلمة اليونانيَّة "سيزيغوس" (suzugos). وهي تُتَرجَمُ بِمَعنى شَريكٍ أو شَخصٍ يَحمِلُ حِمْلاً مُشترَكًا كَما هِيَ الحَالُ في النِّيْرِ إذْ إنَّ ثَورانِ يَشترِكانِ في حَمْلٍ نِيْرٍ واحِدٍ ويَجُرَّانِ نَفسَ الحِمْل. لِذا فإنَّ الشَّريكَ هُوَ شَخصٌ يَحمِلُ نَفسَ الحِمْل. أيْ: "يا شَريكي في هذا الجُهد، أو شَريكي في هذا المَسْعَى، أو شَريكي في هذهِ المَهَمَّة، أو شَريكي في هذهِ العَمليَّة. لِذا إن تَرْجَمتُموها هَكذا؛ أي لِنَقُل إنَّنا أَخذنا الكلمةَ "سيزيغوس" وتَرْجَمْناها بِمَعنى "شَريك"، فإنَّهُ يُضيفُ قَائِلاً: "شَريكي المُخلِص" أو "شَريكي الحَقيقيّ".
وهُناكَ احتِمالاتٌ عَديدة. وَواحِدٌ مِنها هُوَ أنَّهُ يُشيرُ إلى شَخصٍ لا نَعرِفُهُ؛ أي إلى شَخصٍ كانَ مَعروفًا بأنَّهُ شَريكُ بولُس. ونحنُ لا نَعلَمُ مَن يَكون؛ ولكنَّهُ شَخصٌ لا يُذكَرُ اسمُهُ. ولكِنَّ هذا التَّفسيرَ يَبدو غَريبًا بَعضَ الشَّيءِ بالنِّسبةِ إلَيَّ لا سِيَّما أنَّهُ ذَكَرَ للتَّوّ اسمَيِّ المَرأتَيْنِ مُباشَرةً، وَأنَّهُ يَذْكُرُ اسمَ أَكْلِيمَنْدُس مُباشرةً بعدَ قَليل. فلماذا لا يَذكُرُ اسمَ هذا الشَّخص؟ وحيثُ إنَّهُ كانَ تَحتَ وَحْيِ الرُّوحِ القُدُسِ ويَستطيعُ أن يَتذكَّرَ كُلَّ شَيءٍ، لا يُعقَلُ أنَّهُ نَسِيَ اسمَ ذلكَ الشَّخص. لِذا، لِماذا لا يَذكُرُ اسمَهُ هُنا؟ وَعليهِ، لا يَبدو مِنَ المَعقولِ بالنِّسبةِ إليَّ أنَّهُ لا يَذكُرُ اسمَ هذا الشَّخصِ في حين أنَّهُ يَعلَمُ مَن هُوَ وَمَن يَكون.
أمَّا الرَّأيُ الثَّاني فيقولُ إنَّهُ يَستخدِمُ هذهِ الكلمةَ المُفرَدَةَ بالمَعنى الجَماعِيِّ مُشيرًا إلى الكَنيسة. "نَعَم أيَّتُها الكَنيسةُ، أنتِ شَريكَتي المُخلِصَة، لِذا، أَطلُبُ مِنكِ...". صَحيحُ أنَّ الكلمةَ المُستخدمةَ هُنا تأتي بِصيغةِ المُفرَد، ولكنَّها تُشيرُ إلى الجَماعَةِ وتُشيرُ إلى الكنيسةِ بِأسرِها بِمَعنى: أطلُبُ مِنكُم جَميعًا أن تُساعِدوا هَاتينِ المَرأتَيْن. وهذا مُحتَمَل.
ولكنِّي أعتقدُ أنَّ هُناكَ تَفسيرًا أفضل. لِنَقل إنَّنا لم نُتَرجِم الكلمةَ، بل تَركناها على حَالِها في اللُّغةِ اليونانيَّة. في هذهِ الحَالَة، سَنَقرأُ الآيةَ هَكذا: "نَعَم أَسْأَلُكَ أَنْتَ أَيْضًا، يَا سيزيغوس الْمُخْلِصَ، سَاعِدْ هَاتَيْنِ المَرأتَيْن". وأنا أُفَضِّلُ أن نَترُكَ هذهِ الكلمة دُونَ تَرجمة لأنَّهُ مِنَ المُرَجَّحِ أنَّهُ يَتحدَّثُ إلى شَخصٍ اسمُهُ "سيزيغوس". وقد تَقول: "وَمَن يَكونُ سيزيغوس"؟ لا نَدري! ولكن مِنَ المُرَجِّحِ أنَّهُ واحِدٌ مِن نُظَّارِ الكَنيسةِ أو شُيوخِها المَذكورينَ في العَددِ الأوَّلِ مِنَ الأصحاحِ الأوَّل. وَلَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّ بولسَ كانَ يَكتُبُ إلى أهلِ فيلبِّي بِمَن في ذلكَ النُّظَّارَ والشَّمامِسَة. ولا بُدَّ أنَّ سيزيغوس كانَ واحِدًا مِنَ الشُّيوخِ في الكَنيسة، أو واحِدًا مِنَ الرُّعاةِ، وأنَّهُ لم يَقُم بِواجِبِهِ كَما يَنبغي، ولم يُعالِج هذهِ المُشكلة. لِذا فإنَّ بولسَ، الَّذي استَمَدَّ سُلطانَهُ الرَّسولِيَّ مِنَ اللهِ، يَقول: "أريدُ مِنكَ، يا سيزيغوس، أن تُعالِجَ هذهِ المَسألةَ وأن تُساعِدَ هَاتينِ المَرأتَيْن".
والآن، قَد يَقولُ قَائِلٌ: "حسنًا! ولكِن إن سَلَّمْنا بأنَّ الكلمة سيزيغوس هي اسمُ عَلَم، لِماذا يَستخدِمُ الكلمة "مُخْلِص" أو وَفِيّ؟ لماذا يَقولُ: "يا سيزيغوس المُخْلِص" أو "يا سيزيغوس الوَفِيّ"؟ فيبدو أنَّ ذلكَ التَّحليلَ غيرَ مَنطِقِيٍّ". بَلى، إنَّهُ كذلك... إنَّهُ كذلكَ إنْ فَهِمتَ الأمرَ بالطَّريقةِ التَّالية: أنَّ سيزيغوس كانَ يُدعى سيزيغوس، وأنَّ اسمَهُ كانَ يَعني "شَريك". فعندما يَدعوهُ "شَريكي المُخْلِص" فإنَّهُ يَقولُ في الحَقيقة: "اسمَع، أنتَ سيزيغوس بِكُلِّ مَعنى الكلمة لأنَّكَ شَريكي". فقد كانتَ تلكَ الطَّريقةُ مُستخدَمة للتَّعبيرِ عن أنَّ ذلكَ الرَّجُلَ كانَ اسْمًا على مُسَمَّى.
اسمَحوا لي أن أسألَكُم سُؤالاً: ما مَعنى الاسم "بَرنابا"؟ هل يَتذكَّر أحدٌ مِنكُم؟ ابنُ ماذا؟ التَّشجيع. وقد كانَ بَرنابا اسْمًا على مُسَمَّى. أليسَ كذلك؟ فقد كانَ اسمُهُ بَرنابا، وكانَ ابنَ التَّشجيعِ بِحَقّ. وهل تَذكُرونَ شَخصًا يُدعَى أُنِسِيمُس؟ فقد كَتَبَ بولسُ إلى فِليمون، الَّذي كَانَ سَيِّدًا لذلكَ العَبد، وأخبرَهُ عن ذلكَ العَبدِ أُنِسِيمُس. هل تَذكرونَ ماذا يَعني الاسم "أُنِسِيمُس"؟ إنَّهُ يَعني: "نَافِع"؟ وعندما كَتَبَ بولسُ إلى فِليمون، قالَ لَهُ: "الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ". فَهُوَ أُنِسِيمُس النَّافِع. إنَّهُ أُنِسِيمُوس بِحَقّ كَما أنَّ بَرنابا كانَ بَرنابا بِحَقّ، وكَما أنَّ سيزيغوس كانَ سيزيغوس بِحَقّ. فقد كانَ شَريكًا بِحَقّ. لِذا فإنَّهُ مَدْحٌ رائعٌ لهذا الشَّيخِ في الكَنيسةِ والَّذي يُدعَى سيزيغوس، وَكانَ اسْمًا على مُسَمَّى. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "اسمَع يا سيزيغوس، أطلُبُ مِنكَ أن تُساعِدَ هَاتينِ المَرأتَيْن".
والآن، يا أحبَّائي، هذا جُزءٌ مِنَ الثَّباتِ الرُّوحيِّ في الكنيسةِ؛ أي أن نُساعِدَ الواحِدُ الآخرَ. أليسَ كذلك؟ فهو يَقولُ لأهلِ فيلبِّي: "اثبُتوا". وكيفَ تَفعلونَ ذلك؟ اذهبوا وَساعِدوا بَعضُكم بَعضًا. فيجب عليكم أن تَحُلُّوا المَشاكِلَ، وأن تَكونوا صَانِعي سَلام، وأن تَعيشوا في وِئامٍ طَوالَ الوقتِ. أن تَعيشوا في وِئام – في وِئام. فَالوِئامُ في شَرِكَةِ المَحبَّةِ يُوَلِّدُ بيِئةً مِنَ الاستقرارِ والدَّعمِ المُتبادَل. أمَّا إن لم تَفعلوا ذلك، وإن كُنتُم مِن ذلكَ النَّوعِ الَّذي يَترُكُ النِّزاعاتِ دُونَ حَلٍّ فإنَّكُم تُوَلِّدونَ عَدَمَ استقرارٍ في الكنيسة.
وَقد كانت هَاتانِ المَرأتانِ مُهِمَّتَيْن. ويجبُ على سيزيغوس أن يَكونَ صَانِعَ سَلامٍ بينَهُما. فقد كانَتا مُهِمَّتَيْن. انظُروا إلى مَا يَقولُهُ عَنهُما: "هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيل". ما مَعنى ذلك؟ قد يَعني ذلكَ، كَما قُلتُ، أنَّهُما كانَتا جُزءًا مِنَ مَجموعةِ فيلبِّي الأصليَّةِ الَّتي مَرَّتْ بوقتٍ عَصيب. وما أعنيه هُوَ أنَّ الأمرَ كانَ يَتَطَلَّبُ جِهادًا لِتَأسيسِ تلكَ الكنيسةِ في فيلبِّي. أليسَ كذلك؟ فأينَ انتَهى الأمرُ ببولُس في فيلبِّي؟ وأينَ أَلْقَوْهُ بسببِ كِرازَتِهِ بالإنجيل؟ في السِّجن. وليسَ في السِّجنِ فقط، بل إنَّهُم ضَبَطُوا رِجْلَيْهِ في المِقْطَرَة. وما الَّذي حَدَثَ ذاتَ لَيلةٍ بينما كانت رِجلاهُ في المِقْطَرَة؟ لقد كانَ يُرَنِّمُ هُناك. فَهَل تَذكرونَ أنَّ بولسَ وسِيلا كانا يُرَنِّمان ويَصرِفانِ وَقتًا رائعًا في تَسبيحِ الله؟ وفي مُنتصفِ اللَّيلِ حَدَثَتْ زَلزلةٌ وانْفَكَّتْ قُيودُ الجَميع. وبسببِ تلكَ الحَادِثةٍ، نَالَ السَّجَّانُ وعَائِلَتُهُ بِأسرِها الخَلاصَ، ونَالَ كَثيرونَ الخَلاصَ، وَوُلِدَتِ الكنيسة. وَمِنَ المُرَجَّحِ أنَّ هَاتينِ السَّيِّدَتَيْنِ كانَتا هُناكَ في الحَقيقةِ، وأنَّهُما كانَتا جُزءًا مِن ذلكَ الجِهادِ العَظيمِ المُبْكِرِ في فيلبِّي لتأسيسِ الكَنيسةِ هُناك. ولم يَكُن ذلكَ بالأمرِ الهَيِّن، بل كانَ هُناكَ ثَمَنٌ بَاهِظٌ لا بُدَّ أن يُدفَعَ في حَياةِ الأشخاصِ الَّذينَ كانوا أُمناءَ في تأسيسِ تلكَ الكنيسة. لِذا فقد كانت هَاتانِ السِّيِّدتانِ مُمَيَّزَتَيْن.
وهذا يُشيرُ إلى حَقيقةِ أنَّ أفضلَ الأشخاصِ الفَاضِلينَ والأُمناءَ قد يَصيرونَ أحيانًا أَداةً بِيَدِ العَدُوِّ في زَرْعِ الخِلافات. لِذا، يجبُ علينا أن نَحذَرَ مِن ذلك. فالعَدُوُّ قد يُغوي ويُضعِفُ أيَّ شَخصٍ مِنَّا يَظُنُّ أنَّهُ يُدافِعُ عَن قَضيَّةٍ نَبيلةٍ لِيَصيرَ أداةً بِيَدِهِ لِزَرْعِ الفِتْنَةِ في صُفوفِ المُؤمِنينَ إنْ لم نَحذَر. وَهُوَ يَقولُ (وأنا أُحِبُّ ذلكَ): "سَاعِدْ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي". وبالمُناسَبَة، إنَّ الفِعلَ "جَاهَدَتا" هُوَ تَرجمة للفِعلِ اليونانِيِّ: "سُونآثليئو" (sunathleo)؛ وهو الفِعلُ الَّذي اشتُقَّ مِنهُ مُصطَلَحُ "أَلعابِ القُوى" بِمَعنى الجِهاد أو الصِّراع. والبَادِئَة "سُون" (sun) تُستخدَمُ للتَّوكيدِ وتُعطي الفِعلَ مَعنىً أقوى. فقد كانوا يُجاهِدونَ جدًّا في الكِرازةِ بالإنجيل.
ولكنَّهُ يَقول: "أريدُ أن تَعلمَ أنَّهُما لم تَكونا بِمُفردِهما، بل إنَّهُما جَاهَدَتا مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضًا". وقد كانَ أَكْلِيمَنْدُس قائِدًا آخرَ في كَنيسةِ فيلبِّي؛ ولكنَّنا لا نَعرِفُ أيَّ شَيءٍ آخرَ عنه. وَلكَي لا يَنسَى أحدًا فإنَّهُ يَقول: "وَبَاقِي الْعَامِلِينَ مَعِي، الَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ الْحَيَاة". فَهُوَ يُشبِهُ عَريفَ الحَفْلِ الَّذي لا يُريدُ أن يَنسَى أيَّ شخصٍ فيقول: "وَأريدُ أن أَشكُرَ جَميعَ الأشخاصِ الآخرينَ الَّذينَ سَاعَدوا أيضًا". وَمَعَ أنَّ أسماءَ هَؤلاءِ ليست مَذكورة في رسالة فيلبِّي، فإنَّهُ يَقولُ إنَّها مَذكورة في سِفْرِ الحَياة. وهذا أفضل جدًّا. أليسَ كذلك؟ ولَعَلَّكُم تَذكرونَ ما جاءَ في الرِّسالةِ إلى العِبرانِيِّينَ والأصحاحِ السَّادسِ إذْ إنَّ اللهَ يَقولُ إنَّهُ لا يَنسَى عَمَلَكُم. فَهُوَ لن يَذهبَ هَباءً. فَهوَ يَعرِفُ أسماءَهُم جَميعًا.
لِذا فإنَّهُ يَقول: "هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ، مَعَ أَكْلِيمَنْدُسَ أَيْضًا [والمَعنى الضِّمنِيُّ هُنا هُوَ: "أَكليمَندُسَ الَّذي تَعرِفُونَهُ وتُحِبُّونَهُ] وَبَاقِي الْعَامِلِينَ مَعِي، الَّذِينَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي سِفْرِ الْحَيَاة". بعبارةٍ أخرى، لقد كانُوا جَميعًا في نَفسِ الفَريق. فقد كانوا جَميعًا مُؤمِنينَ، وكانوا خُدَّامًا أُمناء، وعَامِلينَ. وَهُم ليسوا الوَحيدينَ، ولكنَّ أسماءَ هَؤلاءِ جَميعًا مَكتوبةٌ في سِفرِ الحَياة. فهذا هُوَ المَعنى الضِّمنيُّ هُنا. فأسماؤُهُم مَكتوبةٌ في سِفرِ الحَياة. وبالمُناسَبَة، إنَّ سِفْرَ الحَياةِ هُوَ السِّجِلُّ الَّذي يَحتَفِظُ اللهُ فيهِ بأسماءِ المَفدِيِّين. وَهُوَ مَذكورٌ في سِفْرِ دانيال 12: 1، وَسِفْرِ مَلاخي 3: 16-17. وإذا انتَقَلنا إلى العهدِ الجديدِ تَجِدونَ شَواهِدَ كَثيرة عن سِفْرِ الحَياة. وَهُوَ السِّفْرُ الَّذي كَتَبَ اللهُ فيهِ مُنذُ الأَزَلِ السَّحيقِ أسماءَ جَميعِ مُختاريه.
لِذا، يُمكنكُم أن تَشعُروا بِغِنى الشَّرِكَةِ هُنا. أليسَ كذلك؟ فهذهِ هي كُلُّ تلكَ الأسماءِ المَكتوبةِ في سِفْرِ الحَياة. فَنحنُ نَقرأُ اسمَ أكليمَندُس، وسيزيغوس، وكنيسة فيلبِّي، وهاتينِ المَرأتينِ العَزيزَتَيْنِ. وبولُسُ يَقول: "نَحنُ نَعملُ معًا، ونُجاهِدُ معًا، ونَسعى بِكُلِّ قُوَّتِنا وَطَاقَتِنا لأن نَكونَ أَداةً نَافعةً بِيَدِ اللهِ لِبناءِ الكَنيسة. والآن، فجأةً، نَشَبِ خِصامٌ بينَ هَاتَيْنِ المَرأتَيْنِ؛ وَهُوَ خِصامٌ يُهَدِّدُ استقرارَ الكَنيسةِ بأسرِها. "اثبُتوا في رُوحٍ وَاحِدٍ". فهذا هُوَ ما يَقولُهُ؛ تَمامًا كما فَعَلَ في الأصحاحِ الأوَّل والعَدد 27. فَهُوَ يُحِبُّهم جَميعًا. واللهُ يُحِبُّهم جَميعًا. ويجبُ عليهم أن يُحِبُّوا بَعضُهم بَعضًا.
فَيجبُ أن يَكونَ هُناكَ وِئامٌ بَينَهُم. ولا بُدَّ أن تَكونَ هُناكَ وَحْدَةٌ دَافئةٌ وحَقيقيَّةٌ وَمُحِبَّةٌ. وهذا يُوَفِّرُ بيئةً مُستقرَّة. وعندما يَأتي شَخصٌ ويُلَوِّثُ تلكَ البيئةَ فإنَّ الكنيسةَ تَصيرُ غيرَ مُستقرَّةٍ البَتَّة. فعندما يَكونُ هُناكَ خِصامٌ في الكنيسةِ، يَفقِدُ النَّاسُ ثَباتَهُم، ويَبتدِئونَ في التَّعَثُّرِ والسُّقوطِ والوقوعِ في كُلِّ مَكانٍ، وتَصيرُ المَواقِفُ سَيِّئةً، وتَظهَرُ رُوحٌ سَلبيَّةٌ، وتَصيرُ هُناكَ مَرارة، ويَزدادُ عَدمُ الغُفرانِ، وتَظهَرُ رُوحُ العَداوَة. فقد يَظهَرُ ضَعْفٌ هَائلٌ على الصَّعيدِ الشَّخصيِّ والفَردِيِّ عندما يَكونُ هُناكَ خِلافٌ جَماعِيّ.
لِذا، لكي أَكونَ ثَابِتًا روحيًّا، يجبُ عليَّ أن أسعَى إلى السَّلامِ أو أن أكونَ صَانِعَ سَلام. فقد قالَ يَسوعُ: "طُوبَى لِصَانِعي السَّلام". فيجبُ عليَّ أن أَسعى إلى الحِفاظِ على الوِئامِ المُحِبِّ في الكنيسة. ويجبُ عليَّ أن أكونَ "سيزيغوس". فأنا أريدُ أن أكونَ شَخصًا يُساعِدُ النَّاسَ على حَلِّ خِلافاتِهم لأنَّ هذه هي الطَّريقة الوَحيدة لإيجادِ بيئةٍ رُوحيَّةٍ مُستقرَّة. واسمَحوا لي أن أَذكُرَ لَكُم كلمةً واحِدَةً تُلَخِّصُ ذلك: "المَحَبَّة". كُنْ مُحِبًّا. فيجبُ علينا أن نَكونَ مُحِبِّينَ، وأن نَبني رابِطَةَ المَحبَّةِ الَّتي تَمنَحُ استقرارًا في الكنيسة. فإن أردتُم أن تَكونوا ثَابِتينَ رُوحِيًّا، حَافِظوا على المَحبَّةِ في كُلِّ العَلاقات. اتَّبِعُوا السَّلامَ والوِئامَ والوَحدَة.
والآن، سوفَ أَذكُرُ لكُم نُقطةً ثانيةً؛ وهي نُقطةٌ بَسيطةٌ جدًّا نَجِدُها في العَددِ الرَّابع. وهي المَبدأُ الثَّاني الَّذي يُقَدِّمُهُ بولسُ للثَّباتِ الرُّوحيّ: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ". وفي حَالِ أنَّكُم لم تَكونوا تُصغون: "وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا". فَهُوَ يُريدُ حَقًّا أن يُؤكِّدَ ذلك. "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا". فالمبدأُ الثَّاني للثَّباتِ الرُّوحيّ هُوَ الحِفاظُ على رُوحِ الفَرَح. فهذهِ قُوَّةٌ هَائلةٌ في تَوازُنِكَ الرُّوحيّ. لماذا؟ لأنَّنا نَميلُ إلى أن نَقَعَ ضَحِيَّةَ ظُروفِنا. فنحنُ نَصعَدُ وَنَهبِط، ثُمَّ نَصعَدُ ونَهبِط، ونَتَذَبذَبُ، ونَتَقَلقَلُ وَفقًا لكيفيَّةِ سَيْرِ الأمورِ الخَارجيَّة. أليسَ كذلك؟ فإن كُنتُ نَاجِحًا في عَملي، وإن كانت عَلاقاتي كَما يَنبغي، وإن كانَ هُناكَ سَلامٌ في حَياتي وكانَ كُلُّ شَيءٍ يَسيرُ كما أُحِبُّ أن يَسير، وإن كانَ كُلُّ شَيءٍ على مَا يُرام خَارجيًّا، سَأكونُ فَرِحًا. أمَّا إذا سَاءَتِ الأمورُ فإنِّي أفقِدُ فَرَحي. وكما تَرَوْنَ، هذا مُختَلِفٌ تَمامًا عَمَّا تَقولُهُ هذهِ الآية.
فقبلَ كُلِّ شَيء، نَحنُ أمامَ وَصِيَّةٍ تَقول: "افرَحوا في الرَّبّ". وقد يَقولُ قَائِلٌ: "كيفَ تَأمُرُ شَخصًا بأن يَفرَح؟ كيفَ تَذهبُ إلى شَخصٍ وتَقولُ لَهُ: ’افرَح‘؟ ثُمَّ تَقولُ لَهُ: ’اسمَع! هل سَمِعتَ مَا قُلتُهُ لَكَ؟ افرَح‘. لا يُمكِنُكَ أن تَفعلَ ذلك. كيفَ تَأمُرُهُ بذلك؟" سوفَ أُجيبُكَ عن سُؤالِك. انظُر إلى ما تَقولُهُ الآية. فهي لا تَقولُ: "افرَحوا"، بل تَقول: "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ". فَلا يُمكنُني أن أفرَحَ في ظُروفي طَوالَ الوقت. ولا يُمكنُني أن أفرحَ في ظُروفي في أغلبِ الأوقات. ولا يُمكنُني أن أفرحَ في كَيفيَّةِ سَيْرِ الأمورِ في هذا العَالَم. فأنا لا أُحِبُّ الطَّريقةَ الَّتي تَسيرُ بها الأمورُ في هذا العَالَم. ولا يُمكنُني أن أفرحَ بإنجازاتي الرُّوحيَّةِ العَظيمة لأنَّهُ لا تُوجَدُ لَديَّ إنجازاتٌ عَظيمةٌ إلاَّ بِنعمةِ اللهِ. وكُلُّ ما يُمكنُني أن أراهُ في حَياتي هُوَ إخفاقاتي. لِذا، لا يُمكنُني أن أفرحَ بذلك. فإن كُنتُ سأفرحُ في شَيءٍ مَا، لن يَكونَ هذا الفَرَحُ نَابِعًا مِنِّي.
وقد تَقول: "أَلاَ تَفرَحُ في النَّاس؟" الحَقيقةُ هي أنَّني شَعرتُ بِخَيبةِ أملٍ بسببِ كَثيرينَ مِنهُم. وأنا لا أريدُ أن أَقْرِنَ فَرَحي بِهم بِغَضِّ النَّظرِ عَن مِقدارِ حُبِّي لَهُم. فأنا لا أريدُ أن أَقْرِنَ فَرحي بِهِم لأنَّهُ سيَكونُ فَرَحًا يأتي حِيْنًا ويَختفي حِيْنًا. "أَلاَ تَفرَحُ بالنَّجاح؟" لا. فَهُوَ يَأتي ويَختفي أيضًا. لِذا فإنِّي سَأفرَحُ بالرَّبِّ لأنَّهُ لا يَأتي ويَختفي، بل يَبقى. فهو لا يَتزعزَعُ البَتَّة. وهو لا يَتغيَّرُ البَتَّة. هذهِ هي الحَقيقة. لِذا، كَما تَرَوْنَ، إن كُنتُ أُوْمِنُ بِهِ، وكانَ إيماني قَوِيًّا، وكُنتُ أَعرِفُ مَن هُوَ، فإنِّي لن أَكتَرِثَ بِظروفي. وهذا هُوَ ما قُلتُهُ في البِداية. هل تَذكرونَ ذلك؟ فقد قُلتُ إنَّ الثَّباتَ الرُّوحيَّ يَرتبِطُ ارتباطًا وَثيقًا بكيفيَّةِ تَفكيرِكَ بالله. فهو كذلكَ حَقًّا. فإن أَرَيْتَني شَخصًا ثَابِتًا في وَسَطِ أيِّ ظَرفٍ، سَأُريكَ شَخصًا يَفْهَمُ اللهُ فَهْمًا صَحيحًا يُتيحُ لَهُ أن يَفرَحَ في كُلِّ الظُّروف. فهو يَعلَمُ أنَّ اللهَ أقوى مِن كُلِّ تلكَ الظُّروف.
لِذا فإنِّي مُقتَنِعٌ جدًّا بأنَّ هؤلاءِ الأشخاصَ الَّذينَ لَديهم مَشاكِل تِلْوَ المَشاكِل تِلْوَ المَشاكِل، ويَقلَقونَ دائمًا على هذا الأمرِ وذاكَ الأمرِ، ويُلاقُونَ صُعوبةً جَمَّةً في حَلِّ مَشاكِلِهم الصَّغيرة في هذهِ الحَياةِ، ويَلهَثونَ بَحثًا عن حُلولٍ سَريعةٍ في مَكانٍ مَا (كَأنْ يَبْحَثوا عن حَلٍّ في كِتابٍ، أو نَدوةٍ، أو شَريطٍ، أو مُشيرٍ، أو مُعالِجٍ نَفسِيٍّ، أو في أيِّ شَيءٍ آخر بِهَدَفِ الحُصولِ على حَلِّ سَريعٍ) سَيَكونونَ أفضل حَالاً إنْ وَضَعَهُم شَخصٌ مَا في غُرفةٍ مُقْفَلَةٍ في مَكانٍ مَا، وقَدَّمَ لَهُمُ الطَّعامَ مِن أسفَلِ البابِ، وتَرَكَهُم هُناكَ إلى أن يَحْفَظُوا سِفْرَ المَزاميرِ عن ظَهْرِ قَلب. وفي نِهايةِ تلكَ المُدَّة، يُمكنُهم أن يَخرُجوا ويَعلَموا الكَثيرَ عَنِ اللهِ حَتَّى لا يَعودوا يَكتَرِثونَ كثيرًا بما يَجري مِن حَولِهم. ولكنَّنا نَبحثُ عادَةً عَن كُلِّ تلكَ الحُلولِ الأخرى. أَتَرَوْن؟
وهذا شَيءٌ وَاضِحٌ بالنِّسبةِ إلَيَّ. فلماذا في رأيِكُم أعطى اللهُ المَزاميرَ لِبَني إسرائيل؟ ولماذا في رأيِكُم كُتِبَتِ المَزاميرُ بالأسلوبِ الشِّعريِّ العِبريِّ وَمَوازينِه؟ لكي يَسْهُلَ عَليهُم حِفْظُها. ولماذا كانت تُرَنَّمُ؟ لكي يَسْهُلَ عَليهُم تَذَكُّرُها. لماذا؟ لكي يُرَتِّلُوا لَحْنًا يُنيرُ طَريقَهُم؟ لا، بل لكي يُرَتِّلوا تَرتيلةً تُعَمِّقُ العَقيدةَ عِندَهُم لِكَي يَعرِفوا اللهَ. وعندما يَعرفونَ مَن هُوَ اللهُ سوفَ يَصيرُ كُلُّ شَيءٍ آخرَ في نَظَرِهم عَديمَ الأهميَّة. لِذا، افرَحُوا في الرَّبّ. فإن لم تَعرِفوا الكثيرَ عَنِ الرَّبِّ، مِنَ الصَّعبِ أن تَفرَحُوا. أمَّا إن كُنتُم تَعرِفونَ الكَثيرَ عَنِ الرَّبِّ، لن يَكونَ مِنَ الصَّعبِ جدًّا عليكُم أن تَفرَحُوا.
وكما تَعلَمونَ، لقد كانتِ الكنيسةُ البَاكِرَةُ تَفرحُ على الرَّغمِ مِن آلامِها إذْ نَقرأُ أنَّهم ذَهَبُوا فَرِحِينَ جدًّا (في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُلِ 5: 41) "لأَنَّهُمْ حُسِبُوا مُسْتَأْهِلِينَ أَنْ يُهَانُوا مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ". يا لَهُ مِنَ امتيازٍ عَظيم! يا لَهُ مِنَ امتيازٍ عَظيم! ويجبُ أن يَكونَ هذا الفَرَحُ المُستَمِرُّ والدَّائِمُ سِمَةً تُمَيِّزُنا. "اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا [في الرَّبِّ]". ومَعرِفَتُنا بِهِ هي الَّتي تَجعلُنا نَفرَح. فنحنُ نَقرأُ في رِسالة رُومية 14: 17 أنَّ المَلَكوتَ "هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُس"... "وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُس".
ومَا الَّذي يَنبغي أن تَفرَحوا بِشأنِهِ؟ اسمَحوا لي أن أَقترِحَ عَليكُم بِضعَةَ أُمورٍ عندَ التَّفكيرِ في الرَّبّ. أوَّلاً، يُمكنكم أن تَفرحوا بِهِ هُوَ شَخصيًّا. أليسَ كذلك؟ أي بأنَّهُ صَاحِبُ السُّلطانِ المُطلَقِ على كُلِّ شَيء. ففي نَظري، هذه هي النُّقطةُ الأكثرُ أهميَّةً. فَلا يُمكنُ لأيِّ شَخصٍ أن يَسْلِبَني فَرَحي عندما أُدركُ أنَّ اللهَ مُهيمِنٌ على كُلِّ شَيء. فَهُوَ مُهيمِنٌ على كُلِّ الظُّروف. فأعظمُ حَقٍّ أعرِفُهُ عَنِ اللهِ بِصِفَتي مُؤمِنًا مَسيحيًّا هُوَ أنَّهُ صَاحِبُ السُّلطانِ المُطلَق. فهو يُهيمِنُ على كُلِّ شَيء. ولا يُمكِنُ لأيِّ شَيءٍ أن يَحدُثَ خَارِجَ سَيطرتِه. فهو يُهيمِنُ على كُلِّ شَيء – على كُلِّ شَيءٍ دُونَ استِثناء. ويا لَها مِن تَعزيةٍ رَائِعَةٍ لَنا!
كذلكَ، إنَّهُ مُهيمِنٌ على كُلِّ شَيءٍ [رَكِّزا على ما سأقول] لِخَيري. هل سَمِعتُم ذلك؟ فقد قَرأنا المَزمور 139، ورأينا كيفَ أنَّ اللهَ يَعرِفُ جُلوسَكَ، ويَعرِفُ قِيامَكَ، ويَعرِفُ الكلماتِ الَّتي تَنطِقُ بها قَبلَ أن تَنطِقَ بها، ويَعرِفُ الطَّريقَ الَّذي سَتَسلُكُهُ، ويُمسِكُ بكُلِّ جُزءٍ مِنَ حَياتِكَ في هَيمنةٍ مُطلَقَةٍ وكَامِلة. فَيا لَها مِن حَقيقةٍ رَائعة! وعندما تُدركُ أنَّ اللهُ مُحِبٌّ، وأنَّ اللهَ حَكيمٌ، وأنَّ اللهَ يَفهَمُ تَمامًا كُلَّ شَيءٍ وكُلَّ مَا يَجري في الحَياةِ فإنَّ ذلكَ سيَجعَلُكَ تَنتَهِجُ نَهْجًا مُختلفًا تَمامًا عندما تَفهمُ تلكَ الحَقيقة. فَهُناكَ فَرقٌ بينَ أن تَعرِفَ ذلكَ، أو أن تَقرأَ عن ذلك، وبينَ أن تُؤمِنَ بذلكَ بِكُلِّ أَركانِ كِيانِكَ. وهذا هُوَ ما يَجعلُكَ تَثبُتُ في بِيئةِ الفَرَح.
فَكِّروا في الأمرِ بالطَّريقةِ التَّالية: لِماذا أَفرَحُ فَرَحًا لا يُنطَقُ بِهِ ومَجيد؟ أوَّلاً، لأنَّ كُلَّ مَا يَحدُثُ في حَياتي هُوَ تَحتَ هَيمنةِ الله. ثانيًا، لأنَّ اللهَ خَلَّصَني، وَجَعَلني ابنًا لَهُ، وَوَعَدَني بأن يُعطيني مِيراثًا في يَسوعَ المَسيح. فأنا ابنٌ لَهُ، وأنا أَتوقُ إليه. وأنا أَفرَحُ لأنَّ يَسوعَ المَسيحَ سَيأتي في يَومٍ مَا ويَأخُذُني لأكونَ مَعَهُ. وَهُوَ الآنَ هُناكَ يُعِدُّ مَكانًا لي حَتَّى حيثُ يَكونُ هُوَ أكونُ أنا. فأنا أَفرَحُ بذلك. كذلك، أنا أَفرحُ لأنَّ إلهي قَادِرٌ أن يَملأَ كُلَّ ماذا؟ احتياجي بِحَسَبِ غِناهُ في المَسيحِ يَسوع. كذلك، أنا أَفرحُ لأنَّ اللهَ يَستخدِمُني لِخِدمَةِ ذاكَ الَّذي أُحِبُّهُ أكثرَ مِن أيِّ شَخصٍ أو شَيءٍ آخر. فَيا لَهُ مِنَ امتيازٍ رَائِع!
كذلك، أنا أَفرحُ لأنَّ اللهَ يَستخدِمُ حَياتي كي يَسمعَ الآخرونَ الإنجيلَ ويَخلُصوا. ولأنَّ اللهَ يَستخدِمُ حَياتي لكي يَتَشَجَّعَ المُؤمِنونَ الآخرونَ بأن يُحِبُّوا اللهَ أكثرَ فأكثر، وأن يَخدِموهُ بأمانَةٍ أكبر. وأنا أَفرحُ لأنِّي أستطيعُ أن أَقِفَ في حَضرةِ اللهِ في أيِّ وَقت. هل تَعلمونَ أنَّهُ في أيِّ وَقتٍ أَشاء، يُمكنُني أن أتحدَّثَ إلى اللهِ، وأنَّهُ يَسمَعُني؟ فأنا لا أحصُلُ على هذا الامتيازِ حَتَّى في بَيتي؛ ولكنِّي أحصُلُ عليهِ مِنَ إلَهِ الكَون! فَإلَهُ الكَونِ يَستَمِعُ إلى كُلِّ شَيءٍ أَقولُهُ؛ حَتَّى لو كَانَ حَديثًا طَويلاً.
وهل تَعلمونَ لماذا أَفرَحُ؟ لأنَّ المَوتَ رِبْحٌ. لأنَّ المَوتَ رِبْحٌ. لِذا فإنِّي أَفرحُ. وكُلَّما زَادَ فَهمي للهِ، وَزادَ إيماني بِهِ وبِخُطَّتِهِ الرَّائعةِ، زَادَ عُمْقُ فَرَحي. وكُلَّما زَادَ فَرَحي عُمْقًا، زَادَتْ حَصَانَتُهُ. فَلا يُمكِنُ لأيِّ شَخصٍ أنْ يَسلِبَني فَرَحي بِسُهولة. فَمِنَ الخَارجِ، لا يُمكِنُ لأيِّ شَيءٍ أن يَمَسَّهُ – فَلا يُمكِنُ للظُّروفِ أو أيِّ شَيءٍ آخر أن يَسلِبَني فَرَحي لأنَّهُ نَابِعٌ مِن أعماقِ ثِقَتي باللهِ وبِوعودِهِ الأبديَّةِ لي. هذا هُوَ الثَّباتُ الرُّوحيُّ. لِذا، لِماذا أُساوِم؟ فاللهُ هُوَ المُهيمِن. ولماذا أَتَزَعْزَعُ في إيماني؟ فاللهُ هُوَ المُهيمِن. ولِماذا أَشُكُّ؟ فكيفَ يُعقَلُ أن أَشُكَّ في إلَهٍ مُعلَنٍ بِكُلِّ هذا الوُضوحِ في الكتابِ المقدَّس؟
ويُمكنُني أن أقولَ لَكُم، يا أصدقائي الأعِزَّاء، إنَّ الثَّباتَ الرُّوحيَّ مُرتبطٌ ارتباطًا مُباشِرًا بِهَذينِ الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنَ ذَكرناهُما. فالثَّباتُ الرُّوحيُّ هُوَ مِنْ نَصيبِ الشَّخصِ الَّذي تَزْخُرُ حَياتُهُ بِمَحَبَّةِ المَسيحِ الَّتي انسَكَبَتْ في قَلبِهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَهُ. والثَّباتُ الرُّوحيُّ هُوَ مِن نَصيبِ الشَّخصِ الَّذي يَتَعَمَّقُ جدًّا في فَهْمِ شَخصِ اللهِ، والَّذي صَارَ فَهْمُهُ إيمانًا حَقيقيًّا، والَّذي يُؤمِنُ بأنَّ اللهَ هُوَ مَن يَقولُ عَن ذَاتِهِ إنَّهُ هُوَ فَيَجِدُ في تلكَ الأشياءِ ثَباتَهُ. هَذانِ هُما المَبدآنِ الأوَّلُ والثَّاني. وهُناكَ المَزيدُ في المَرَّةِ القَادِمَة. دَعونا نُصَلِّي:
يا أبانا، نَحنُ نَسمَعُ صَدَى كَلِماتِ الرَّسولِ بولُس الَّذي قَال: "كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ"، ونُريدُ أن نَكونَ كذلك. فنحنُ نُريدُ أن نَكونَ رَاسِخينَ، غيرَ مُتَزعزِعينَ، وغيرَ مُتَقَلقِلينَ بسببِ المِحَنِ والصُّعوباتِ والمَشاكِلِ والضِّيقاتِ الَّتي تَحدُثُ بسببِ هَذا الجسدِ السَّاقِطِ وصُعوباتِ هذهِ الحَياة. ونحنُ لا نُريدُ أن نَنهارَ تَحتَ وَطأةِ الاضطهادِ أوِ العَداوَةِ أوِ الرَّفضِ أوِ التَّرهيب. ونحنُ لا نُريدُ أن نَسقُطَ في الخَطيَّة؛ بل نُريدُ أن نَكونَ أقوياء، ونُريدُ أن نَكونَ أشخاصًا رَاسِخينَ لا يُمكِنُ شِراؤُهُم أو رَشْوَتُهم أو تَليينُ عَزيمَتِهم أو إلحاقُ الهَزيمةِ بِهم. ونُريدُ أن يَرانا العَالَمَ وَيَرى قُوَّةَ المَسيحِ فينا. ونُريدُ أن نَكونَ مِثلَ دَانيال الَّذي لم يَكُن يَعرِفُ كيفَ يُساوِم لأنَّهُ كانَ يَعرِفُ الكَثيرَ جدًّا عن إلَهِهِ ولا يُمكِنُ أن يَتَزَعزَع. أعطِنا مَعرفةً أعظمَ بِكَ، واختبارًا أعظمَ لتلكَ المَحبَّةِ وذلكَ الفَرحِ اللَّذينِ تَمْنَحْهُما لأبنائِكَ الأُمناء. باسمِ المَسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.