
لِنَفتَح كُتُبَنا المُقدَّسةَ الآنَ إذْ إنَّنا وَصَلْنا في دِراسَتِنا لكلمةِ اللهِ إلى الرِّسالةِ إلى أهلِ فيلبِّي والأصحاحِ الرَّابعِ. وهذا هُوَ دَرسُنا الثَّالثُ والأخيرُ عن مَوضوعِ سِرِّ القَناعَة. ونحنُ نَتأمَّلُ في الرِّسالة إلى أهلِ فيلبِّي 4: 10-19. قبلَ بِضعة أسابيع، أخبرتُكُم عن رَجُلٍ صَارَ مُؤخَّرًا صَديقًا لي اسمُهُ "ثاديوس" (Thaddeus). هل تَذكرونَ أنِّي ذَكرتُ "ثاديوس". فقد كانَ في سَفينَتِنا المُتَّجِهَة إلى أَلاسكا (Alaska)، وأُصيبَ بنَوبةٍ قَلبيَّةٍ حَادَّةٍ كادَتْ أنْ تُوْدي بِحياتِهِ. وقد صَرَفْنا اللَّيلَ كُلَّهُ في صَلاةٍ مُستمرَّةٍ ودائمةٍ لأجلِهِ. وقد تَحَنَّنَ الرَّبُّ وأنقَذَهُ. وقد وَصَلَ بِأمانٍ إلى فانكوفر (Vancouver)، ثُمَّ بَقِيَ بِضعةَ أيَّامٍ في المُستشفَى إلى أن تَعافَى في فَانكوفر. بعدَ ذلكَ، عَادَ إلى بَيتِهِ في "كولورادو سبرينغز" (Colorado Springs). وعلى الرَّغمِ مِن أنَّهُ عادَ إلى "كولورادو سبرينغز" وابتدأَ فَترةَ النَّقاهةِ في بَيتِهِ، وَمَا زَالَ ضَعيفًا، فإنَّهُ ابتدأَ يَتَقَوَّى في الرُّوحِ ويَتقوَّى في قَلبِه. وقدِ ابتدأَ يَتَّصِلُ بي بطريقَتِهِ المُفعَمَةِ بالمَحبَّةِ والنِّعمةِ كُلَّ يَومٍ تَقريبًا. فأنا أَذكُرُ أنَّهُ اتَّصَلَ بي كُلَّ يومٍ، ورُبَّما بِضعَ مَرَّاتٍ في اليومِ الواحِد بسببِ انشغالِهِ وَحَسْب بِمَا يَفعلُهُ اللهُ في حَياتي.
فقد كانَ يَتَّصِلُ ويَقول: "كيفَ هِيَ أحوالُكَ يا جون؟" فأرُدُّ قَائِلاً: "كيفَ هي أحوالُكَ أنتَ؟ أنتَ مَنْ أُصِبْتَ بِنَوبةٍ قَلبيَّة، لا أنا!" "لا، لا تَقلق عَليَّ. أنا بخير، وأنْعُمُ بالسَّلامِ والكِفايةِ، وكُلُّ شَيءٍ على ما يُرام. ولكنِّي قَلِقٌ عليك!" "الحقيقةُ هي أنِّي أُصَلِّي مِن أجلِكَ يا ثاديوس". وقد كانَ يَقول: "لا، لا، بل يَنبغي لنا نَحنُ أن نُصَلِّي لأجلِكَ. فأنتَ مَن تَحتاجُ إلى صَلواتِنا. وأريدُ أن أَعلمَ: هَل كُلُّ حَاجَاتِ خِدمَتِكَ مُسَدَّدَة؟ وهل يَستجيبُ اللهُ صَلواتِكَ؟ وكيفَ يُمكنُني أن أُصَلِّي لأجلِك؟" فقد كانت هذهِ هي الطَّريقةُ الَّتي تَجري فيها المُكالَمَة. وإنِ اتَّصَلتُ أنا وقُلتُ لَهُ: "مَرحبًا يا ثاديوس. لقد اتَّصَلتُ وَحَسْب لأرى كيفَ هيَ أحوالُك"، كانَ يُجيبُني: "لا! كيفَ هي أحوالُكَ أنتَ؟" ثُمَّ كانَ يَسألُني مَرَّةً أخرى نَفسَ الأسئلة: "هل كُلُّ شَيءٍ على ما يُرام مَعَكَ؟ هلِ اللهُ يَستجيبُ صَلواتِكَ؟ هل يَسُدُّ اللهُ احتياجاتِكَ؟ كيفَ يُمكنُني أن أُصَلِّي لأجلِكَ؟" فهو رَجُلٌ غير أنانِيٍّ البتَّة.
وذاتَ يَومٍ اتَّصَلَ بي وقال: "جون! لقد بَارَكَ اللهُ قَلبي حَقًّا". ثُمَّ قال: "لقدِ استَمعتُ إلى سِلسلةِ العِظاتِ عن مَوضوعِ العَائِلَةِ المُشبَعَة". فنحنُ لَدينا سِلسلة مُؤلَّفَة مِن ثَماني أشرطةٍ ودَليل دِراسيًّا. وقد قَالَ لي: "لقد أَنهيتُ تلكَ السِّلسلةَ". وقد قال: "يَجِبُ أن تَصِلَ تلكَ العِظاتُ إلى قَادَةِ أمريكا". وقد تَحَدَّثَ كَثيرًا عن ذلكَ على الهَاتِفِ وقال: "كما تَعلمُ، بسببِ عَلاقاتي الكثيرة والنَّاسِ الَّذينَ أعرِفُهم، لَديَّ عَناوينُ كُلِّ قائدٍ في أمريكا". وقد قال: "هذا هُوَ ما أريدُ مِنكَ أن تَفعلَهُ: أريدُ مِنكَ أن تُعِدَّ عَدَدًا كافِيًا مِن هذهِ السِّلسلةِ مِن أجلِ إرسالِها إلى كُلِّ عُضوٍ في مَجلسِ الشُّيوخ، وكُلِّ عُضْوٍ في مَجلسِ النُّوَّابِ، وكُلِّ قَاضٍ في المَحكمةِ العُليا، وكُلِّ حَاكِمِ وِلايَة، وكُلِّ شَخصٍ ذِي مَنصِبٍ في البيتِ الأبيض. سَوفَ نُرسِلُ هذهِ السِّلسلةِ ودَليل الدِّراسةِ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُم". وقد قال: "يجب علينا أن نَعملَ على تَوصيلِ الحَقِّ إليهم بِخُصوصِ خُطَّةِ اللهِ للزَّواجِ والعَائلة". فقلتُ: "مَهلاً يا ثاديوس! هذا عَدَدٌ ضَخْمٌ مِنَ الأشرطةِ ويَتَطَلَّبُ مَبلغًا ضَخمًا مِنَ المَال".
قال: "المالُ ليسَ المُشكلة. يجب علينا أن نَصِلَ إلى هؤلاءِ النَّاس. يجب عليهم أن يَسمعوا الكَلِمَة. وأنتَ تَكرِزُ بالإنجيلِ في هذهِ السِّلسلةِ أيضًا. لِذا فإنَّهُم سيَسمَعونَ الإنجيل. سوفَ نَفعلُ ذلك". وقد قال: "ابحث عن أسرعِ طَريقةٍ للقيامِ بذلك، وافعل ذلكَ وَحَسْب". قلتُ: "قد يَتطلَّبُ ذلكَ مَبلغًا كَبيرًا مِنَ المالِ يا ثاديوس". قال: "لا، لن نَقلقَ على ذلك. أنا سأهتمُّ بهذا الأمر. افعل ذلكَ وحسب، وأنا سأُرسلُ رسالةً. والرِّسالةُ ستَشرَحُ ماذا ستَقولُ حينَ تُرسِلُها. وهي ستَصدُرُ عنكَ. وأنا لَديَّ كُلُّ العَناوين. سوفَ نَصِلُ إلى كُلِّ قائِدٍ في أمريكا. وسَوفَ نَجعَلُهُم جَميعًا يَستَقيمون".
قُلتُ: "هذهِ فِكرةٌ عَظيمة. إنَّها فِكرةٌ رائعة". وقد تَابَعْنا حَديثَنا وكانَ مُتَحَمِّسًا جدًّا لذلك. وفي وَقتٍ لاحِقٍ مِن ذلكَ اليومِ نَفسِه، أُصيبَ بِنوبةٍ قَلبيَّةٍ حَادَّة. وبسببِ تلكَ الأزمةِ القَلبيَّةِ، نَقَلَتْهُ زَوجَتُهُ إلى المُستشفى مَرَّةً أخرى لِيَختبرَ كُلَّ ما اختَبَرَهُ على السَّفينة. وفي وَسْطِ الأزمةِ القَلبيَّةِ، اتَّصَلَتْ زَوجَتُهُ بي وأخبرتني أنَّهُ في حَالةِ خَطِرة جدًّا جدًّا وأنَّهُ قد لا يَنجو مِنها. وقد كانت مَكسورةَ القَلبِ جدًّا. لِذا، في وَسْطِ كُلِّ هذا، قَرَّرَ الأطبَّاءُ أن يُجروا لَهُ عَمليَّةَ قَلبٍ مَفتوح، وأن يَقُصُّوا القَفَصَ الصَّدرِيَّ، وأن يُجروا لَهُ عَمليَّةً في الشِّريانِ التَّاجِيِّ في وَسْطِ هذا كُلِّه. وقد فَعلوا ذلك. وكما تَوقَّعتُ، فقد نَجَا. وقد تَحَنَّنَ اللهُ عليه. وقد خَرَجَ مِن تلكَ العَمليَّة وتَعافَى بِصورةٍ رائعة. وبعدَ بِضعةِ أيَّام، كنتُ أَتَّصِلُ كُلَّ يَومٍ بزوجتِهِ ونتحدَّث. وكانت تُخبرُني عن تَحَسُّنِهِ وعن فَرَحِها باستجابةِ اللهِ لصَلواتِها. وهو لم يَكُن قادِرًا على الكَلامِ إلى يَومِ الخَميسِ مِن هذا الأسبوع. لِذا، فقد أرادَ أن يَتَحدَّثَ إليَّ يومَ الخَميسِ لِيَرى كيفَ يَسيرُ المَشروع.
لِذا، فقد نَزَعَ قِناعَ الأكسجين وقتًا طويلاً لكي يَتكلَّمَ على الهَاتِف. وقد قُلتُ: "كيفَ حَالُكَ يا ثاديوس؟" فقال: "آه يا جون! كيفَ حَالُكَ أنت؟ وكيفَ تَسيرُ الخِدمَة؟" فهو شَخصٌ لا يَحيدُ البَتَّة عَنِ المَسار كما تَرَوْن! لِذا، أَلاَ صَلَّيتُم مِن فَضلِكُم؟ ففي الشَّهرِ القادِم، سوفَ نُرسِلُ نُسخةً مِن هذهِ السِّلسلةِ إلى جَميعِ هؤلاءِ الأشخاص. لِذا، صَلُّوا مِن أجلِ كُلِّ أعضاءِ مَجلسِ الشُّيوخِ والنُّوَّابِ عَسَى أن تَصِلَهُم كلمةُ اللهِ وتُعطي ثَمَرًا. فسوفَ يَكونُ مِنَ المُدهشِ أن نَرى أنَّ كُلَّ قائدٍ في أمريكا يَسمَعُ نَفسَ الرِّسالة. وسوفَ يَكونُ مِنَ المُدهشِ أن يَسمَعوا نَفسَ الرِّسالةِ عن دَورِ المَرأةِ أيضًا؛ لا سِيَّما أنَّ مَجموعةً مِنَهُم هُنَّ مِنَ النِّساء.
ولكنِّي رُحْتُ أُفَكِّرُ فيما كنتُ أَستَرجِعُ مَا جَرى بيني وبينَ ثاديوس في أنَّهُ كانَ يَقولُ لي دائمًا: "جون! أنا مُكْتَفٍ تَمامًا. جون! أنا أتمتَّعُ بسَلامٍ كَامِل. أنا لا أُبالي بهذا كُلِّه، بل أُبالي بِكَ أنتَ". وبينما كنتُ أُعَلِّمُ هذا الدَّرسَ عَنْ سِرِّ القَناعَةِ، كُنتُ أَتواصَلُ يَوميًّا تَقريبًا معَ رَجُلٍ قَنوعٍ كانَ يَشعُرُ بالاكتفاءِ في وَسْطِ أصعبِ الظُّروفِ الَّتي قد يَتخيَّلُها إنسانٌ في هذهِ الحَياة. وفي وَسْطِ هذا كُلِّه، كانَ يَنعُمُ بالسَّلامِ والرِّضا التَّامِّ. فقد تَعَلَّمَ ما تَعَلَّمَهُ بولُس. فقد تَعَلَّمَ أن يَكونَ مُكتفيًا.
وواحدٌ مِن مَظاهِرِ ذلكَ الرِّضا في حَياتِهِ هُوَ الإيْثارُ الكَامِلُ، والانشغالُ بأحوالِ الآخرين. فَهُوَ يَهْتَمُّ بذلكَ أكثرَ مِمَّا يَهتمُّ بأيِّ شَيءٍ آخر. وهذه هي النُّقطةُ الأخيرةُ في مُخَطَّطِنا هُنا فيما نَتأمَّلُ في سِماتِ القَناعَةِ الرُّوحيَّة.
ولَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّنا ابتدأنا في التَّأمُّلِ في العددِ العَاشِرِ، وأنَّنا نَاقشنا حَقيقةَ أنَّ القَناعةَ في الحَياةِ تَبتدئُ عندما تَثِقُ في العِنايةِ الإلهيَّة. بعبارةٍ أخرى، عندما تُؤمِنُ بأنَّ اللهَ يَسْمَحُ بِسِيادَتِهِ بحدوثِ كُلِّ تَفاصيلِ الحَياةِ. فهذا يَقودُ إلى القَناعَة. ثُمَّ إنَّنا لاحَظْنا في العَددِ الحَادي عشرَ أنَّهُ لكي تَكونَ قَنوعًا، يجبُ عليكَ أن تَكتفي بالقَليل. فعندما تُسَدُّ حَاجَاتُكَ الأساسيَّة، يجبُ عليكَ أن تَكونَ قَنوعًا. وقد كانَ بولسُ قَنوعًا. فهذهِ دَلالة على القَناعَة.
والنُّقطةُ الثَّالثةُ الَّتي ذَكَرناها مِنَ العَددِ الثَّاني عَشَر هي: الاستقلالُ عنِ الظُّروف. فالقَناعَةُ تَعني أَلاَّ أَكونَ ضَحِيَّةَ ظُروفي. فيجبُ أن أكونَ مُرتاحًا، وراضِيًا، وفي سَلامٍ، ومُكتفيًا في عَلاقَتي الثَّابتة والأبديَّة مَعَ المَسيحِ الحَيِّ تَسْمُو كَثيرًا جدًّا على الظُّروفِ العَاديَّة. أمَّا المبدأُ الرَّابعُ الَّذي ذَكرناهُ في المَرَّةِ المَاضيةِ فهو أنَّ القَناعَةَ تَتَّسِمُ بأنَّها تَستمدُّ وُجودَها مِن خِلالِ القُوَّةِ الإلهيَّة. بعبارةٍ أخرى، مِن خِلالِ اختبارِ قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ في الإنسانِ البَاطِن. فقد كانَ بولسُ يَمْلِكُ هذا النَّوعَ مِنَ القَناعَة. وقد عَبَّرَ عنهُ في العَدد 13 بأنَّهُ القَناعَةُ الَّتي تَأتي عندما تَحصُلُ على القُوَّةِ في كُلِّ شَيءٍ مِن خِلالِ ذاكَ الَّذي يُقوِّيكَ؛ أيْ مِن خِلالِ رُوحِ الله. لِذا فإنَّ القَناعَةَ هِيَ مِن نَصيبِ الشَّخصِ الَّذي يَثِقُ في العِنايةِ الإلهيَّةِ، وَيَكتَفي بالقليل، وَيَستَقِلُّ عنِ الظُّروفِ، وَيَحصُلُ على القُوَّةِ مِنَ الله.
والآن، خامسًا وأخيرًا: القَناعَةُ هِيَ مِن نَصيبِ الأشخاصِ الَّذينَ يَهْتَمُّونَ بِخَيرِ الآخرين. وهذا عُنصُرٌ مُهِمٌّ جدًّا في القَناعَة. فحيثُ إنَّ بولسَ قالَ: "قد تَعلَّمتُ أن أكونَ مُكتفيًا"، لا شَكَّ في أنَّهُ كانَ رَجُلاً يَهتمُّ بالآخرينَ أكثرَ مِن نَفسِه. وأودُّ أن أُؤكِّدَ لكُم ما يَلي: إنْ عِشْتَ لِنَفسِكَ، لن تَكونَ مُكتفيًا. فالاكتفاءُ يَبتدئُ في التَّحقُّقِ عندما لا تُبالي بالأمورِ المُختصَّةِ بِكَ، بل تُبالي فقط بالأمورِ المُختصَّةِ بالآخرين. فحينئذٍ فقط يُمكنُكَ أن تَكونَ مُكتفيًا في ظُروفِك. ولكنَّنا لا نَفعلُ ذلك. فالأغلبيَّةُ مِنَّا لا يَختبرونَ القَناعَةَ لأنَّنا نُطالِبُ عَالَمَنا بأن يَكونَ على النَّحوِ الَّذي نُريدُ أن يَكونَ تَمامًا. ولكنَّ هذهِ لَعنَة. فَنحنُ نُريدُ أن نُشَكِّلَ كُلَّ شَيءٍ وَفقًا للقالَبِ الَّذي صَنَعناهُ نَحن. فنحنُ نُريدُ أن يَكونَ شَريكُ حَياتِنا (سَواءَ مِن الزَّوجِ أوِ الزَّوجَة) أن يَكونَ على النَّحوِ الَّذي نَتوقَّعُهُ مِنهُ تَمامًا لكي يَكونَ على الصُّورةِ الَّتي رَسَمْناها في مُخيِّلَتِنا وَفِكْرِنا وتَصَوُّرِنا. ونحنُ نُريدُ مِن أبنائِنا أن يُنَفِّذُوا تَمامًا الخُطَّةَ غيرَ المَكتوبةِ الَّتي وَضَعْناها لِحياتِهم كي يُنَفِّذوها. ونحنُ نُريدُ مِن كُلِّ شَيءٍ في عَالَمِنا أن يَكونَ على الصُّورةِ الَّتي تَخَيَّلناها ونُريدُها بِكُلِّ أبعادِها وتَفاصيلِها.
ولكنَّكُم لن تَختبروا القَناعَةَ إلاَّ إذا تَوقَّفتُم عن وَضْعِ خُطَّتِكُم الشَّخصيَّة، وتَوقَّفتُم عنِ التَّفكيرِ في أنفسِكُم، وانشَغلتُم في التَّفكيرِ في خَيْرِ الآخرين. وقد كانت هذهِ هي صَلاةُ بولُس لِمُؤمِني فيلبِّي. فقد قالَ في الأصحاحِ الأوَّلِ والعَددِ التَّاسعِ إنَّهُ صَلَّى لأجلِهم أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ. فقد أرادَ لَهُم أن يَحصُلوا على مَحبَّةٍ فَائضة. وما مَعنى ذلكَ؟ أن يَهتمُّوا بالآخرين. وفي الأصحاحِ الثَّاني، يَتحدَّثُ بولسُ بكلماتٍ أكثر تَحديدًا فيقولُ في العَددِ الثَّالث: "لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا". وهذا هُوَ مَوقفُ المَسيحِ الَّذي لم يَنظُر إلى مَصلحتِهِ الشَّخصيَّةِ وإلاَّ لَبَقِيَ في السَّماءِ؛ بل نَظَرَ إلى مَصلحةِ الأشرارِ والخُطاةِ والبَشرِ السَّاقِطينَ. لِذا فقد تَرَكَ السَّماءَ لكي يَسُدَّ حَاجَتَهُم.
فقد كانَ هذا الأمرُ يَشغَلُ جدًّا بَالَ بولُس. وقد صَلَّى لأجلِ ذلك. وقد حَضَّهُم على القِيامِ بذلك. فقد كانَ يُريدُ مِن مُؤمِني فيلبِّي أن يَفهموا أنَّهُ يَنبغي لَهُم أن يَعيشوا لأجلِ الآخرينَ، لا لأجلِ أنفسِهم. سوفَ أقولُ ذلكَ مَرَّةً أخرى: القَناعَةُ هِيَ مِن نَصيبِ الشَّخصِ الَّذي لا يَتوقَّعُ أن يَكونَ كُلُّ شَيءٍ في الحَياةِ مُوافِقًا لِخُطَّتِهِ الشَّخصيَّةِ، بلِ الَّذي يَهتمُّ بالآخرينَ أكثرَ مِن نَفسِه. والآن، سوفَ يَتَّضِحُ لنا ذلكَ في الأعداد مِن 14 إلى 19. وهذهِ هي نُقطةُ بولسَ الأخيرة. وهذا هُوَ مَا نَراهُ بِوضوحٍ تَامٍّ مِن خِلالِ مَا يَقولُهُ هُنا.
انظُروا إلى العَدد 14. فهو يَبتدئُ بالعِبارة: "غَيْرَ أنَّكُم". وهذهِ نَقلة مُهمَّة جدًّا لبولُس لأنَّ مَا قَالَهُ حَتَّى الآنَ قد يُفهَمُ بطريقةٍ مَغلوطَةٍ مِن قِبَلِ مُؤمِني فيلبِّي. هل تَذكُرونَ الصُّورة؟ فبولُس كانَ سَجينًا إذْ إنَّهُ كانَ يَخضَعُ لإقامَةٍ جَبْريَّةٍ في بَيتٍ في رُوما، وكانَ مُقيَّدًا إلى جُنديٍّ رُومانِيٍّ. وقد كانَ في حَالةٍ صَعبةٍ جدًّا مِنَ النَّاحيةِ الجَسديَّة. ولا شَكَّ في أنَّهُ كانَ يُعاني مِن شُحٍّ في الحَاجاتِ الأساسيَّة. فقد كانَ في حَاجَةٍ مُلِحَّة. ونحنُ لا نَعرفُ ما هي تلكَ الحَاجاتُ الجَسديَّةُ في ذلكَ الوقت، ولكنَّنا نَعرِفُ الحَاجاتِ الأساسيَّةَ في الحَياة. وفي وَسْطِ تلكَ الحَاجَة، جاءَ خَبَرٌ مِن كنيسةِ فيلبِّي بأنَّ لَديهِ حَاجَة؛ وهي حَاجة لم تُسَدّ. لِذا فقد عَبَّرَ مُؤمِنو فيلبِّي عن مَحبَّتِهم لَهُ وأرسلوا رَجُلاً يُدعَى "أَبَفْرُودِتُس" حَمَلَ مَعَهُ بَعضَ حَاجيَّاتٍ لبولُس. فرُبَّما حَمَلَ لَهُ طَعامًا ومَلابسَ وَمَالاً. فقد جاءَ أَبَفْرُودِتُس إلى رُوما مِن فيلبِّي لتوصيلِ هذهِ الحاجاتِ إلى بولُس. وهي عَطِيَّةٌ سَخِيَّة. وهي ذَبيحَة مَقبولَة. ويجب أن تَعلَموا أنَّ مُؤمِني فيلبِّي كانوا فُقراءَ. تَذَكَّروا ذلكَ وَحَسْب. فقد كانوا فُقراء. فقد كانوا كَنيسةً في مَكِدُونِيَّة. وقد عَلَّقَ بُولسُ في رسالتِهِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورنثوس والأصحاحِ الثَّامنِ على فَقْرَ الكَنائسِ في مَكِدُونِيَّة. فقد كانوا أُناسًا فُقَراء. ولم يَكونوا يَمْلِكونَ الكَثير. لِذا فقد جَمَعوا القَليلَ الَّذي لَديهم وأرسَلوهُ بكُلِّ تَضحيةٍ إلى الرَّسولِ بولُس.
لِذا، فقد تَسَلَّمَ تلكَ العَطيَّةَ مِن أَبَفْرُودِتُس قَبلَ بِضعةِ أيَّام. وقد بَقِيَ أَبَفْرُودِتُس هُناكَ وَخَدَمَ بولُس. والآن، سوفَ يَعودُ أَبَفْرُودِتُس حَامِلاً هذهِ الرِّسالة. لِذا، سوفَ يَقرأونَ جُمَلاً كَهذِهِ. فسوفَ يَقرأونَ العَددَ الحَادي عَشر: "لَيْسَ أَنِّي أَقُولُ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجٍ، فَإِنِّي قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ". وَسَوفَ يَقرأونَ العَددَ الثَّاني عَشَر: "أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ". وَسَوفَ يَقرأونَ العَددَ الثَّالث عَشَر الَّذي يَقولُ فيه إنَّهُ يَستطيعُ أنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ شَيءٍ بسببِ قُوَّةِ الرُّوحِ العَامِلَةِ فيه. وَسَوفَ يَستَنتِجونَ [إنْ تَوقَّفوا عندَ تلكَ النُّقطة] قَائِلينَ: إنَّ هذا الشَّخصَ ليسَ بحاجةٍ إلى أيِّ شيءٍ أرسلناهُ إليه. لقد اقْتَرَفْنا غَلطَةً شَنيعةً. فقد قُمْنا بهذهِ التَّضحيةِ الكَبيرةِ لأجلِهِ ولكنَّهُ كَتَبَ لنا وقالَ إنَّهُ لم يَكُن بحاجةٍ إليها، وإنَّهُ لم يَكُن يُريدُها. فاللهُ يَسُدُّ حَاجَتَهُ في الوَقتِ المُناسب. وأنا مُتَّكِل على العِنايةِ الإلهيَّة. وأنا أكتَفي بالقليل جدًّا، وأنا أعيشُ فَوقَ ظُروفي، وأنا أتقوَّى بالقُوَّةِ الإلهيَّة". ولو كانت هذهِ هي نِهايةُ الرِّسالة لَشَعروا بالاستياءِ الشَّديد، ولما كانت تلكَ الكَلِماتُ كَلِماتِ شُكر.
لِذا فإنَّهُ يَقول: "على الرَّغمِ مِن هذا كُلِّه"، أو: "مَعَ ذلك"، أو: "على الرَّغمِ مِن حَقيقةِ أنِّي أشعُرُ بالاكتفاء، وعلى الرَّغمِ مِن حَقيقةِ أنِّي أَتَقوَّى بقوَّةِ المسيحِ، وعلى الرَّغمِ مِن حَقيقةِ أنِّي أتَّكِلُ على العِنايةِ الإلهيَّةِ، وعلى الرَّغمِ مِن حَقيقةِ أنِّي أعيشُ فَوقَ ظُروفي، فقد أَحْسَنْتُمْ صُنْعًا. وقَد فَعلتُم شَيئًا نَبيلاً" ("كالوس" – "kalos"). فقد فَعلتُم شيئًا جَميلاً في مَظهَرِهِ، وشَيئًا حَسَنًا في مَعناه النَّبيل. فقد فَعلتُم الصَّواب. وقد فَعلتُم شيئًا رائعًا. وفَعلتُم شيئًا جَميلاً. مِن خِلالِ ماذا؟ "إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي" ("ثليبسيس" – "thlipsis")؛ أي: في أَلَمِي، وظروفي القاهِرَة، وضيقَتي، وكرْبي. وبالمُناسبة، لم يَكُن ضِيقُهُ شَيئًا مِن مُخيِّلَتِه، بل كانَ يَعيشُ مَوقِفًا عَصيبًا حَقًّا. فقد كانَ ضِيقًا حَقيقيًّا جدًّا. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "لقد فَعلتُم شَيئًا نَبيلاً إذِ اشتَركتُم مَعي، وتَضامنتُم مَعي، وانضَمَمْتُم إليَّ، وجَعلتُموني شَريكًا لَكُم بأن أَجْزَلتُم ليَ العَطاء. لقد فَعلتُم شَيئًا نَبيلاً حَقًّا".
ومِنَ الجَيِّدِ أن نَعرِفُ ذلك. فكيفَ يُمكِنُ أن يَكونَ هذا الشَّيءُ نَبيلاً جدًّا إن لم تَكُن بحاجةٍ إليه؟ فإن لم تَكُن بحاجةٍ إليه، كيفَ يُمكِنُ أن يَكونَ حَسَنًا جدًّا؟ لِنُتابِع ونَرى الإجابة. فهو يَقولُ في العَدد 15: "وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ...". بِعِبارةٍ أخرى: أنا لا أقولُ لكُم شَيئًا لا تَعرِفونَهُ، بل إنَّ ما حَدَثَ ما زَالَ حَيًّا في أذهانِكُم أيُّها الفِيلِبيُّونَ. "...أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ. فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي".
وَهُوَ يَعودُ الآنَ إلى ما حَدَثَ قَبلَ عَشْرِ سَنوات. فقد مَضَتْ عَشْرُ سَنواتٍ على تَسَلُّمِهِ عَطيَّةً مِنهُم بعدَ أن غَادرَ مَدينتَهُم. وهو يَنظُرُ إلى الوراءِ ويَقول: "إنَّ الأمرَ لا يَقتَصِرُ على أنَّكُم فَعلتُم حَسَنًا بمُشاركتي هذهِ العَطِيَّة الأخيرة، بل إنَّكُم تَعلمونَ، أيُّها الفِيلِبيُّونَ، أنَّهُ قبلَ عَشْرِ سَنواتٍ، عندما كَرَزتُ بالإنجيلِ أوَّلَ مَرَّة في فيلبِّي، وابتدأتِ الكنيسةُ، ثُمَّ ذَهبتُ إلى تَسالونيكي، ومِنها إلى بِيريَّة؛ وهي المَناطِقُ الرَّئيسيَّةُ الثَّلاثُ الَّتي كَرَزَ فيها في مَكِدونِيَّة، في كُلِّ تلكَ الفَترةِ كُنتُم الكنيسة الوَحيدة الَّتي سَاعَدتني حَقًّا. ثُمَّ بعدَ أن غَادرتُ مِن مَكِدونِيَّة لأذهبَ إلى أَخَائِيَة؛ وتَحديدًا إلى مَدينتيّ كورِنثوسَ وأثينا، كُنتُم الأشخاصَ الوَحيدينَ الَّذينَ أَرسَلوا إليَّ عَطيَّة. وهو يَقولُ: "أنا لم أَنْسَ سَخاءَكُم مَعي. وأنا لن أَنْسَ يَومًا أنِّي جِئتُ في رِحلتي التَّبشيريَّةِ الثَّانيةِ إلى فيلبِّي [كما هُوَ مُدَوَّنٌ في سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل والأصحاح 16] والرَّبُّ أَسَّسَ كنيسةً. ولن أَنْسَ يَومًا أنَّهُ عندما ذَهبتُ إلى تَسالونيكي [وهي ليست بَعيدة كثيرًا]، أرسلتُم إلَيَّ أكثرَ مِن مَرَّة مَعَ أنَّهُ لم يَكُن قد مَضَى على وُجودي هُناكَ أكثرَ مِن أسبوعَيْن؛ ولكنَّكُم أرسلتُم إليَّ أكثرَ مِن مَرَّةٍ في هَذينِ الأسبوعينِ لِسَدِّ حَاجاتي. ولن أَنْسَ يَومًا أنَّهُ عندما غَادرتُ مَكِدونِيَّة واتَّجهتُ إلى أثينا وكورِنثوس في أَخائِيَة، أنَّكُم كُنتُم بعدَ ذَهابي الكنيسةَ الوَحيدةَ الَّتي أرسَلَتْ إليَّ شَيئًا. وأنتُم تَفعلونَ دائِمًا أمورًا نَبيلةً فيما يَختصُّ بالعَطاء". وهو يُلَمِّحُ في العَددِ العَاشِرِ إلى حَقيقةِ أنَّهُم كانوا على استِعدادٍ للقيامِ بذلكَ أكثر بكثير مِمَّا فَعلوا؛ ولكنَّ الفُرصةَ لم تَسنَح لَهُم في ذلكَ الوقت.
وأُذَكِّرَكُم مَرَّةً أخرى بأنَّهُم كانوا فُقراء. فقد كانوا فُقراء. فنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الثَّامنِ مِن رسالة كورنثوس الثَّانية أنَّهُم أَعطُوا بولسَ بِسَخاءٍ مِن إعوازِهِم الشَّديد. والحقيقةُ هي أنَّهُ عندما جاءَ بولسُ إلى كورِنثوس، لم يَرغب في أخذِ أيِّ مَالٍ مِن مُؤمِني كورنثوس. ولم يَرغَب أن يَدفعُوا البَتَّة أُجْرَةَ الكِرازةِ بالإنجيل. لِذا فإنَّهُ يَقولُ في رِسَالتِهِ الثَّانية إلى أهلِ كورِنثوسَ والأصحاحِ الحَادي عَشَر: "لَقَد سَلَبتُ الكَنائسَ في مَكِدونِيَّة مِن خِلالِ دَعمِهِم لي كي أخدِمَكُم". فقد أخذَ مَعونَةً مِن تلكَ الكَنائسِ الفَقيرة. وقد كانَ يَنظُرُ إلى ذلكَ كما لو أنَّهُ سَرِقَة. فقد كانوا فُقراءَ جدًّا.
لِذا فقد أرسلَ إليهِ مُؤمِنو فيلبِّي الأسخياءُ والمُحِبُّونَ والأعِزَّاءُ واللُّطَفاءُ مَا هُوَ بِحاجةٍ إليهِ، ثُمَّ إنَّهُ عندما غَادَرَ في نِهايةِ المَطافِ وذَهبَ إلى أَخَائِيَة، كانوا الكنيسةَ الوحيدةَ الَّتي أَرسَلَت إليهِ أيَّ شَيء. وهو يَقول: "أنا أعرِفُ أنَّ ما فَعَلتُموهُ هُوَ شَيءٌ نَبيلٌ، وحَسَنٌ، ورائعٌ؛ تَمامًا كما كانَ قبلَ عَشْرِ سَنواتٍ عندما أعطيتُم".
وبالمُناسَبة، أريدُ أن أقولَ شَيئًا عنِ العَدد 15. فهو يَذكُرُ هذهِ المُشاركةَ ويَدعوها: "حِسَابَ العَطَاءِ وَالأَخْذ". وهذا مُدهشٌ جدًّا. فهذهِ كُلُّها مُصطلحاتٌ تِجاريَّة. فالكلمة "حِساب" هي مُصطلحٌ تِجاريٌّ. ومُصطلَحُ "العَطاء والأخذ" أو بالحَرِيِّ مُصْطَلَحَا: "العَطاء" وَ "الأخذ" يُمكِنُ أن يُفهَما على أنَّهُما مُصطلحانِ يُعَبِّرانِ عَنِ التَّعامُلاتِ المَصرِفيَّةِ مِثلَ الدَّفعِ والاستلام. وما يَقولُهُ هُوَ أنَّهُ في كُلِّ حِسابِ العَطاءِ والأخذِ هذا بِرُمَّتِهِ، كُنتُمُ الأشخاص الوَحيدونَ الَّذينَ شَارَكوا مَعي عندما غَادرتُ مَكِدونِيَّة. وقد أرسلتُم إليَّ أيضًا أكثرَ مِن مَرَّةٍ عَطايا في تَسالونيكي. وما أَفهَمُهُ هُنا هُوَ أنَّ بولسَ كانَ وَكيلاً أمينًا جدًّا، وأنَّهُ احتَفَظَ بحساباتِ الأخذِ والعَطاءِ لكي يُحافِظَ على شَفافِيَّتِهِ المَالِيَّةِ أمامَ الكنائسِ الَّتي كانت تَدعَمُهُ. ولَعَلَّكُم تَذكرونَ أنَّهُ في أثناءِ خِدمَتِهِ كَتَبَ مَرَّاتٍ عَديدة عن حَقيقةِ أنَّهُ لم يَشَأ أن يُحَمِّلَ أيَّ شَخصٍ مَسؤوليَّةَ خِدمَتِهِ. لِذا فقد كانَ يَعملُ بِيَدَيْه. وقد قالَ ذلكَ تَحديدًا لمُؤمِني تَسالونيكي. فهو يَقولُ: "عِندَما جِئتُ إليكُم..." فهو يَقولُ في رِسالَتِهِ الأولى إلى أهلِ تسالونيكي 2: 9: "فَإِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَارًا كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ". إذًا، مَن كانَ يَدْعَمُهُ عندما لم يَكُن يأخُذُ أيَّ شَيءٍ البَتَّة؟ أي عندما لم يَكُن يأخُذُ أيَّ شَيءٍ مِن مُؤمِني تَسالونيكي؟ مُؤمِنو فيلبِّي. فقد دَعَموهُ في رِحلتِهِ التَّبشيريَّةِ إلى تَسالونيكي.
وَهُوَ يُذَكِّرُهُم في رِسالَتِهِ الثَّانيةِ إلى أهلِ تَسالونيكي مَرَّةً أخرى قَائلاً في الأصحاحِ الثَّالثِ والعَددِ الثَّامِن: "وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزًا مَجَّانًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَارًا، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ". فهو لم يَكُن بِمُفردِهِ، بل كانَت هُناكَ مَجموعةٌ تُرافِقُهُ. وقد عَمِلوا بِكُلِّ طَاقتِهم لِكَي لا يُثَقِّلوا على أيٍّ مِن تلكَ المَناطِقِ الجَديدةِ مُقابِلَ الكِرازةِ بالإنجيل. وقد كانوا مُضطَرِّينَ إلى الاتِّكالِ على عَمَلِ أيديهِم، وعلى عَطايا أهلِ فيلبِّي الفُقراء.
لِذا فقد كانَ بولسُ مُمْتَنًّا جدًّا جدًّا على اللُّطفِ وَالسَّخاءِ الَّذي أَظْهَرَهُ لَهُ مُؤمِنو فيلبِّي الأعِزَّاء الَّذينَ عَبَّروا عَن مَحبَّتِهم لَهُ. فعندما ذَهبَ إلى كورِنثوس، لم يُضطَرَّ إلى أخذِ أيَّة مَعوناتٍ مِن مُؤمِني كورِنثوس، ولم يَطلُب مِنهُم حَتَّى طَعامًا. فقد تَمَكَّنَ مِنَ الكِرازةِ بالإنجيلِ إليهم والعَملِ والتَّعبِ بِيَديهِ (كما يَقولُ في رِسالتِهِ الأولى إلى أهلِ كورنثوس 4: 12). كَما أنَّهُ تَلَقَّى دَعمًا كَافِيًا مِن مُؤمِني فيلبِّي لإعانَتِه. وهو يُذَكِّرُ مُؤمِني كورنثوس مَرَّةً أخرى في رسالتِهِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورنثوس والأصحاحِ الثَّامنِ بِسَخاءِ هؤلاءِ المُؤمِنينَ الأعِزَّاء.
والآن، انظُروا إلى العَدد 17. وهذهِ هي النُّقطةُ الجَوهريَّة. فلماذا هُوَ فَرِحٌ جدًّا؟ ولماذا يَقولُ إنَّهُ مُبتَهِجٌ في العَدد 10 إذْ نَقرأُ: "ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا لأَنَّكُمُ الآنَ قَدْ أَزْهَرَ أَيْضًا مَرَّةً اعْتِنَاؤُكُمْ بِي الَّذِي كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ". لِماذا كانَ فَرِحًا بعَطيَّتِهم؟ ولماذا يَقولُ: "لقَد فَعلتُم حَسَنًا جدًّا بمُشاركتي" لو لم يَكُن بحاجةٍ إلى تلكَ العَطِيَّة؟ إليكُم السَّبب: "لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ". فالسَّببُ هُوَ ليسَ أنِّي بحاجة إلى العَطِيَّة المَاديَّة في حِسابي، بل إنِّي أريدُ الثَّمَرَ الرُّوحيَّ في حِسابِكُم". فقد كانَ هذا الرَّجُلُ يَعيشُ بهذهِ الطَّريقة. فقد عَاشَ بهذهِ الطَّريقة. فقد عَاشَ مُنهَمِكًا في التَّفكيرِ في خَيْرِ الآخَرين. فهو لم يَكُن يُبالي بِمَصلَحَتِهِ الشَّخصيَّة، ولم يَكُن يُبالي بما إذا كانَ مُرتاحًا، وشَبعانًا، ومُتْخَمًا، وما إلى ذلك. فهو لا يَقولُ: "لقد أَحسنتُم صُنْعًا بتقديمِ كُلِّ ما قَدَّمتُموهُ لي لأنِّي يجبُ أن أحصُلَ على ذلك، ولأنَّ ذلكَ يَجعلُني فَرِحًا، ومُرتاحًا، وسَمينًا، وَجَسورًا". لا، بل إنَّهُ يَقول: "أنا فَرِحٌ جدًّا بسببِ عَطيَّتِكُم لا لأنِّي أَطلُبُ العَطِيَّةَ، بل لأنِّي أريدُ أن أرى ذلكَ يَدخُلُ في حِسابِكُم الرُّوحيّ".
وكما تَرَوْنَ، هذا هُوَ ما كانَ يُصَلِّي لأجلِه. وقد قرأتُ لَكُم ما قَالَهُ لَهُم في الأصحاحِ الأوَّل والعَددِ التَّاسعِ؛ وتَحديدًا: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتَهُم أَكْثَرَ فَأَكْثَر. وقد قالَ لَهُم في الأصحاحِ الثَّاني بأنَّهُ يَنبغي لَهُم أن يَستمرُّوا في عَدَمِ الاهتمامِ بأنفسِهم، بل بالآخرينَ حَاسِبينَ الآخرينَ أفضلَ مِن أنفسِهم. وهو يَقولُ: أريدُ ذلكَ الثَّمَر؛ وهو يَستخدِمُ الكلمة اليونانيَّة "كاربون" (karpon) ومَعناها: أريدُ أن يَدخُلَ ذلكَ الرِّبْحُ في حِسابِكُم. وهذا هُوَ ما قالَ عَنهُ يَسوعُ إنَّهُ كَنزٌ أين؟ في السَّماء. فهذا هُوَ مَعنى أن نَكنِزَ كَنْزًا في السَّماء. فهو يَدخُلُ في حِسابِكُم الرُّوحيّ.
فنحنُ هُنا أمامَ رَجُلٍ كانَ مُكتفيًا لأنَّهُ لم يَكُن يُبالي بالاستهلاكِ، ولم يَكُن يُبالي بما يَحصُلُ عليه، بل كانَ يُبالي جدًّا بالبَركاتِ الرُّوحيَّةِ الَّتي يَحصُلُ عليها الآخرون. هَل تَفرحُ بالبَرَكاتِ الَّتي يَحصُلُ عليها الآخرونَ أكثرَ مِمَّا تَفرحُ بالبَرَكاتِ الَّتي تَحصُلُ عليها أنت؟ وهل تَكتَفي بما لَديكَ طَالَما أنَّ الآخرينَ يَتبارَكون؟ هذا هُوَ قَلبُ بولُس. فهو يُبالي لا بالحُصولِ على المَنافِعِ في حَياتِهِ الشخصيَّة، بل بالعَوائدِ الأبديَّةِ في حَياةِ الأشخاصِ الَّذينَ يُحِبُّهم. فقد كانَ ذلكَ الأمرُ نَابِعًا مِن قَلبِه. وقد كانَ مُتَحَمِّسًا جدًّا لأنَّ ذلكَ سيَنعكِسُ عليهم بالخيرِ الجَزيل. وقد كانَ هَذا مَصدَرَ فَرَحٍ لَهُ.
وقد تقول: وكيفَ ذلك؟ لقد كانوا فُقراءَ. وعلى الرَّغمِ مِن فَقرِهم المُدْقِعِ أَعْطَوْا بِسَخاءٍ وبِتَضحية. وهو لم يَكُن بحاجةٍ حَقيقيَّةٍ إلى عِطِيَّتِهم كما يَقولُ. ولا شَكَّ في أنَّ اللهَ كانَ يَسُدُّ حَاجَاتِهِ بطريقةٍ أخرى. ولكن لماذا كانَتْ عَطِيَّتُهُم تَنعَكِسُ عليهم بالخَير، أو كيفَ كانت تَنفَعُهم؟ اسمَحوا لي أن أُحَدِّثَكُم قليلاً عن مَبدأٍ رُوحيٍّ مَوجود في كُلِّ الكتابِ المقدَّس.
استَمِعوا إلى ما جاءَ في سِفْرِ الأمثال 11: 24 و25: "يُوجَدُ مَنْ يُفَرِّقُ فَيَزْدَادُ أَيْضًا، وَمَنْ يُمْسِكُ أَكْثَرَ مِنَ اللاَّئِقِ وَإِنَّمَا إِلَى الْفَقْر". هذا هُوَ المَبدأ. فإنْ أَعطيتَ فإنَّكَ تَزدادُ. وإنْ كَنَزْتَ أموالَكَ فإنَّما إلى الفَقْر. وَهُوَ يُصَوِّرُ مُزارِعًا. وهل تَعلَمونَ ما الَّذي يَفعلُهُ المُزارِع؟ إنَّ المُزارِعَ يَبذُرُ البِذار. وهل تَعلمونَ ماذا يَفعلُ؟ إنَّهُ يأخُذُ مَالَهُ وَيَذهبُ إلى مَتجَرِ الحُبوبِ ويَشتري حُبوبًا. وهو يُنفِقُ كُلَّ مَالِهِ على البُذور. وهذهِ مُخاطَرة! ثُمَّ إنَّهُ يَأخُذُ تلكَ البُذورَ ويَرميها في الأرض. والشَّخصُ الَّذي يُلقيها ويُوزِّعُها هُوَ الَّذي يَزدادُ أكثر. ثُمَّ إنَّ العَددَ 25 يَقولُ: "النَّفْسُ السَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ". وهذا هُوَ التَّطبيق: "النَّفْسُ السَّخِيَّةُ تُسَمَّنُ. وَالْمُرْوِي هُوَ أَيْضًا يُرْوَى". ويا لَهُ مِن وَعدٍ رائعٍ مِنَ اللهِ لأنَّ اللهَ لا يَكونُ مَديونًا لأحد.
ونَقرأُ في سِفْرِ الأمثال 19: 17: "مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيه". فالرَّبُّ يُكافِئُهُ. وفي إنجيل لوقا 6: 38، وهي آيةٌ مَألوفةٌ لَدينا، يَقولُ يَسوعُ: "أَعْطُوا تُعْطَوْا". يا لَها مِن آيةٍ رائعة! "أَعْطُوا تُعْطَوْا". وفي رسالة كورنثوس الثَّانية 9: 6، كَتَبَ الرَّسولُ بولُس: "مَنْ يَزْرَعُ بِالشُّحِّ فَبِالشُّحِّ أَيْضًا يَحْصُدُ، وَمَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ". بِعبارةٍ أخرى فإنَّ المَبدأَ الكِتابِيَّ هُوَ كما يَلي: مَا تُعطيهِ بِتَضحيةٍ يَصيرُ كَنْزًا في السَّماءِ، واللهُ يُكافِئُكَ على ذلك ويُعطيكَ بالمُقابِل. والحَقيقةُ هي أنَّ ذلكَ المَبدأَ مُعلَنٌ بوضوحٍ تَامٍّ جدًّا في الرسالةِ الثَّانيةِ إلى أهلِ كورنثوس. فنحنُ نَقرأُ أنَّ اللهَ "الَّذِي يُقَدِّمُ بِذَارًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلأَكْلِ، سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَّلاَتِ بِرِّكُمْ. مُسْتَغْنِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ لِكُلِّ سَخَاءٍ يُنْشِئُ بِنَا شُكْرًا للهِ. لأَنَّ افْتِعَالَ هذِهِ الْخِدْمَةِ لَيْسَ يَسُدُّ إِعْوَازَ الْقِدِّيسِينَ فَقَطْ، بَلْ يَزِيدُ بِشُكْرٍ كَثِيرٍ للهِ". وهذا كُلُّهُ يَحدُثُ بسببِ سَخاءِكُم في العَطاء. فأنتُم، يا مُؤمِني مَكِدونِيَّة الأعِزَّاء، أعطيتُم بِسَخاء. وأريدُ أن أقولَ لَكُم حَالاً أنَّ اللهَ سيُكافِئُكُم. لِذا فإنَّ عَطاءَكُم دَخَلَ في حِسابِكُم على شَكلِ عَائِداتٍ رُوحيَّة تَتَمَثَّلُ في بَرَكَةِ اللهِ.
والآن، هذا رَجُلٌ رُوحِيٌّ بِحَقّ. فهو لا يُبالي بالحُصولِ على البَركاتِ الأرضيَّةِ بِقَدرٍ ما يُبالي بِحُصولِهم على البَرَكاتِ الرُّوحيَّة. فكُلُّ ما يُبالي بِهِ هُوَ أن يَستَثمِروا في حِسابِهم الرُّوحيّ. ثُمَّ انظُروا إلى العَدد 18. فهو يَقولُ هُنا: "وَلكِنِّي قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ وَاسْتَفْضَلْتُ. قَدِ امْتَلأْتُ إِذْ قَبِلْتُ مِنْ أَبَفْرُودِتُسَ الأَشْيَاءَ الَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ". تَوقَّفوا عندَ هذهِ النُّقطة. نَجِدُ هُنا ثَلاثةَ أفعالٍ مُتتالِيَة. وهذهِ الأفعالُ تُؤكِّدُ نَفسَ الحَقيقةِ بأسلوبٍ تَدريجيٍّ. وهي كُلُّها أفعالٌ يُمكِنُ أن تُستخدَمَ في المُعامَلاتِ المَصرِفِيَّة. والفِعلُ الأوَّلُ يَرِدُ في الجُملةِ الَّتي يَقولُ فيها: "قَدِ اسْتَوْفَيْتُ كُلَّ شَيْءٍ". وهذهِ كَلِمَةٌ اصطِلاحِيَّةٌ وتِجاريَّةٌ تَعني: أن تَتَسَلَّمَ مَبلَغًا مِنَ المَالِ وتُعطي الشَّخصَ وَصْلاً بذلك. فَهُوَ يَقولُ في الحَقيقة: لقد أَرسلتُم إليَّ أكثرَ مِن حَاجَتي. وقد استَوفَيْتُ ما أَرسلتُموهُ وأُقدِّمُ لَكُم إيصَالاً يُؤكِّدُ ذلك. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ: "لم يَقتصِرِ الأمرُ على أنِّي استَوفيتُ كُلَّ شَيءٍ، بل إنِّي استَفْضَلْتُ". وهو يَستخدِمُ الكلمة "بيريسوؤو" (perisseuo) ومَعناها: يَحصُلُ على أشياء مَاديَّة فَائِضَة عَن حَاجَتِهِ بِمَعنى: لقد حَصَلتُ على كَميَّةٍ تَفيضُ عن حَاجَتي مِنَ كُلِّ شَيءٍ أرسَلتُموهُ إليَّ. ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ [ثالثًا]: "قَدِ امْتَلأْتُ". وهو يَستخدِمُ الفِعلَ "بليروؤو" (pleroo) ومَعناهُ: قَدِ امتَلأتُ تَمامًا. لِذا فإنَّهُ يُعَبِّرُ بأسلوبٍ تَدريجيٍّ عنِ الفِكرةِ باستخدامِ هذهِ الأفعالِ الثَّلاثةِ الَّتي تُعَبِّرُ جَميعُها عَنِ الاكتفاءِ الكامِلِ والتَّامّ. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "أنا بِصَراحَةٍ عَاجِزٌ عَنِ الكَلامِ. أنا عَاجِزٌ عَنِ الكَلامِ بِسَببِ مَا تَسَلَّمتُهُ مِن أَبَفْرُودِتُس مِن أشياءٍ أرسَلتُموها. أنا عَاجِزٌ عَنِ الكَلام. فأنا لديَّ الكَثيرُ، بل أكثر مِمَّا قد أَطلُب".
لِذا فإنَّهُ يُعَبِّرُ عَنِ امتِنانِهِ لَهُم. ولكنَّ اكتِفاءَهُ يَنبُعُ لا فَقَط مِمَّا حَصَلَ عليه، بل أيضًا بسببِ سَخاءِ ومَحبَّةِ مُؤمِني فيلبِّي لأنَّ ذلكَ دَخَلَ في حِسابِهم الرُّوحِيّ. وهذا هُوَ ما يُثْلِجُ صَدرَهُ. وهو يَقولُ في نِهايةِ العَدد 18: "الأَشْيَاءَ الَّتِي مِنْ عِنْدِكُمْ، نَسِيمَ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ، ذَبِيحَةً مَقْبُولَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ". ومَا يَقولُهُ في الحَقيقةِ هُوَ التَّالي: أنتُم لم تُقَدِّمُوا ذلكَ لِي، بل قَدَّمتُم ذلكَ إلى الله. وقد كانَتْ رَائِحَةُ تَقْدِمَتِكُم طَيِّبةً، وكانت ذَبيحةً مَقبولةً مَرْضِيَّةً عِندَ اللهِ.
وهذهِ، بالمُناسَبة، لُغَةٌ تُستخدَمُ في وَصفِ الذَّبائحِ؛ وهي مُستعارَة مِنَ العهدِ القديم. ففي نِظامِ الذَّبائحِ في العهدِ القديمِ، كانَ يَنبغي أن تَنبَعِثَ مِنَ الذَّبيحةِ رائحة طَيِّبة إلى الله. وكانَ يَنبغي أن تَكونَ ذَبيحةً مَقبولةً. فالذَّبيحةُ المَقبولةُ النَّابعةُ مِن قَلبٍ طَاهِرٍ هي الوَحيدةُ المَرضِيَّةُ عِندَ الله. ويُمكنُكم أن تَرَوْا ذلكَ في سِفْرِ التَّكوين 8: 20 و21، وسِفْرِ الخُروج 29: 18، وسِفْرِ اللاَّويِّين 1: 9 و13 و17. ويُمكنكم أن تَرَوْا ذلكَ في سِفْرِ حِزْقيال 20: 41. ويُمكنكم أن تَرَوْا ذلكَ في العَديدِ مِنَ المَواضِعِ في العهدِ القديمِ إذْ إنَّ اللهَ يَقولُ: "أريدُ ذَبيحةً مَقبولةً. أريدُ قَلبًا مَرْضِيًّا أمامي. أريدُ رائحةً طَيِّبةً". وهو يَقول: "أريدُ أن يَكونَ مَا قَدَّمتُموهُ لي عِبادَةً طَاهرةً ومَقبولةً". وَهُنا في العهدِ الجديد، يَقولُ بولسُ إنَّهُ كما أنَّ ذلكَ كانَ مَطلوبًا ومَقبولاً في العهدِ القديمِ، فإنَّهُ مَطلوبٌ ومَقبولٌ في العهدِ الجديدِ؛ ولكنَّها الآنَ ليست ذَبيحةً حَيَوانِيَّة. ولكنَّها ما تَزالُ تَقدمةً ذَاتَ رَائحةٍ طَيِّبة، ومَقبولة ومَرْضِيَّة عندَ الله.
فقد كانَتْ عَمَلاً يَدُلُّ على العِبادَةِ الرُّوحيَّة. فنحنُ نَقرأُ في رسالة رُومية 12: 1: "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ". لِذا فإنَّنا [نَحنُ المَسيحيِّينَ] اليومَ نُقَدِّمُ ذَبائحَ. وبُطرسُ يَقولُ إنَّنا كَهَنوتٌ مُقَدَّسٌ [في رسالةِ بُطرسَ الأولى 2: 5] نُقَدِّمُ ذَبائحَ رُوحيَّةً لله. فعندما نُعطي فإنَّنا نُقَدِّمُ ذَبائحَ رُوحيَّة. ويجب أن تَكونَ هذهِ التَّقدماتُ ذاتَ رَائحةٍ طَيِّبةٍ، وأن تَكونَ مَقبولَةً ومَرْضِيَّةً عِندَ الله. لِذا فقد كانَ بولسُ مُمْتَنًّا جدًّا لأنَّهُ كانَ يَعلَمُ ما هِيَ هذهِ الذَّبيحَة. وقد تَشَجَّعَ وفَرِحَ كَثيرًا، وَعَبَّرَ عن ذلكَ الفَرحِ في العَددِ العَاشِرِ في بِدايَةِ هذا المَقطَع. وهذا الفَرَحُ لم يَكُن نَابعًا مِمَّا حَصَلَ عليهِ. فهو لم يَكُن بِحاجةٍ إلى ذلك. ولكنَّ فَرَحَهُ كانَ نَابِعًا مِن حَقيقةِ أنَّ مُؤمِني فيلبِّي أَعطُوا اللهَ شَيئًا جَلَبَ المَجدَ للهِ وَدَخَلَ في حِسابِهم الرُّوحيّ. فقد كانَ رَجُلاً يَهتمُّ كثيرًا بِمَصلحةِ الآخرين.
ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ مَا يَلي في العَدد 19: "فَيَمْلأُ إِلهِي كُلَّ احْتِيَاجِكُمْ بِحَسَبِ غِنَاهُ فِي الْمَجْدِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". وهذهِ آيةٌ يَعرِفُها أغلبيَّةُ المَسيحيِّينَ. وَغَالِبًا ما يَقتَبِسُها كَثيرونُ مِنَّا. ولكن يجب علينا أن نَفهَمَها في سِياقِها الصَّحيح. فما يَقولُهُ بولسُ هُنا بَسيطٌ جدًّا. فهو يَقول: أنا أعلَمُ أنَّكُم أَعطيتُم بِتَضحيةٍ، وأعلمُ أنَّكُم أَعطيتُموني بطريقةٍ جَعلتكُم تَعتازون. ولكنِّي أريدُ أن أُؤكِّدَ لَكُم أنَّ اللهَ لن يَكونَ مَدِينًا لَكُم. فهذا هُوَ ما سيَضَعُهُ في حِسابِكُم الرُّوحيِّ لأنَّهُ تَنَسَّمَ مِن عَطيَّتِكُم رَائحةً طَيِّبةً، ولأنَّ عَطِيَّتَكُم كانت ذَبيحةً مَقبولةً ومَرْضِيَّةً عندَ اللهِ. لِذا فإنَّ اللهَ سيُعطيكُم كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا. وحَتَّى إنَّ اللهَ سيُحَرِّكُ قُلوبَ أُناسٍ آخرينَ إنْ دَعَتِ الحَاجَةُ إلى ذلكَ كي يُعطوكُم. فهو لن يَكونَ مَدينًا لَكُم، بل إنَّهُ سَيَملأُ كُلَّ احتِيَاجِكُم".
وأعتقدُ أنَّ العِبارةَ "كُلَّ احتِيَاجِكُم" في هذا السِّياقِ تَعني: كُلَّ احتياجاتِكُم المَاديَّة، والاحتياجاتِ الأرضيَّةِ الَّتي ضَحَّى بها مُؤمِنو فيلبِّي إلى حَدٍّ مَا. فسوفَ يُعَوِّضُها اللهُ لَهُم بسَخاءٍ بسببِ تَضحيتِهم. فإن زَرعتَ بالبَرَكاتِ مَعَ اللهِ، وإنْ كَنَزْتَ كَنْزًا في السَّماءِ بِوفرةٍ فإنَّكَ ستَحصُدُ مَاذا؟ بوفرةٍ أيضًا. وإن أعطيتَ فإنَّكَ سَتُعطَى. وإن أعطيتُم ذلكَ الإنسانَ الفَقيرَ [أي: بولُس] فإنَّكُم تُقرِضونَ الربَّ. والرَّبُّ سيُعطيكُم. وهو نَفسُ المَبدأ. فإن أعطيتُم بسَخاءٍ فإنَّ اللهَ سيَزيدُكُم. إنَّهُ نَفسُ المَبدأ. وقد أَعطَى مُؤمِنو مَكِدونِيَّة بِتَضحِيَة. ورُبَّما كانَ مُؤمِنو فيلبِّي (الَّذينَ هُمْ جُزءٌ مِن جَماعَةِ مُؤمِني مَكِدونِيَّة) هُمُ الأشخاصُ الَّذينَ قَالَ بولسُ عنهم إنَّهُم أَعطوا بتضحيةٍ، وإنَّ اللهَ لن يَكونَ مَدينًا لَهُم، بل إنَّهُ سيَملأُ احتياجَهُم.
وفي سِفْرِ الأمثال، هُناكَ آية أخرى تَخْطُرُ ببالي وهي أمثال 3: 9: "أَكْرِمِ الرَّبَّ مِنْ مَالِكَ وَمِنْ كُلِّ بَاكُورَاتِ غَلَّتِكَ، فَتَمْتَلِئَ خَزَائِنُكَ شِبْعًا، وَتَفِيضَ مَعَاصِرُكَ مِسْطَارًا". فإن أردتَ بَرَكَةَ الرَّبِّ على حَياتِكَ الأرضيَّةِ، ضَعْ كَنْزَكَ في يَديه. وقدِ اتَّصَلَ بي رَجُلٌ مِن خَارِجِ الوِلايةِ وقال: "أنا أَعلمُ أنَّ هُناكَ احتياجًا في كُليَّةِ اللاَّهوت. لقد ادَّخَرْنا أنا وزَوجتي مَبلغًا مِنَ المَالِ لِتَقاعُدِنا؛ ولكنَّنا عَقَدْنا العَزْمَ على التَّبَرُّعِ به. فقد ثَقَّلَ اللهُ قَلْبَنا. لِذا فإنَّنا نُريدُ أن نأخُذَ مَالَ التَّقاعُدِ ونَتبَرَّعَ بِهِ إليكُم..." [وَهُوَ مَبلغُ كَبيرٌ جدًّا مِنَ المال]. "...ونحنُ نَثِقٌ أنَّ اللهَ سيُدَبِّر أُمورَنا". لِذا فقد أرسَلَ شِيْكًا بالمَبلغ. فقد وَضَعَا كَنزًا في السَّماءِ. واللهُ سيَملأُ كُلَّ احتياجِهِما.
وإلى أيِّ حَدٍّ سيَملأُ اللهُ احتياجَكُم؟ فقد تَقول: "ماذا لو أعطاني فقط بَرَكاتٍ رُوحيَّةً ولكِنَّهُ تَرَكَني أَموتُ جُوعًا؟" لا، لا! بل إنَّهُ سيَملأُ كُلَّ احتياجِكُم. إلى أيِّ حَدٍّ؟ بِحَسَبِ غِناه. ليسَ مِنْ غِناه. فإن قُلتُ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ: "أعطِني مِن غِناكَ"، قد يُعطيني رُبْعَ دُولار. فهذا جُزءٌ مِن غِناه. ولكِن إن قُلتُ لَهُ: "أعطِني بِحَسَبِ غِناكَ"، قد يُعطيني خَمسةً وعِشرينَ ألفَ دُولار. فالعَطاءُ هُوَ بِحَسَبِ ما لَديكَ، أو يَتوافَقُ مَعَ مَا تَملِكُهُ. فعندما يُعطيكَ اللهُ فإنَّهُ لا يُعطيكَ جُزءًا يَسيرًا مِمَّا لَديهِ، بل يُعطيكَ بِحَسَبِ غِناه. بِحَسَبِ غِناه في المَجد. فالغِنَى الَّذي لَهُ في المَجدِ، أي في مَلكوتِهِ الأبديِّ، هُوَ لَكَ في المَسيحِ يَسوع. يا لَها مِن آيةٍ رائعة!
فإن كُنتَ في المَسيحِ فإنَّ غِنَى اللهِ في المَجدِ في المَسيحِ هُوَ مِن نَصيبِك. وهذهِ حَقيقةٌ عَظيمَة. لِذا، لا يَجوزُ لنا أن نَهتَمَّ بما نأكُلُ ونَشربُ ونَلبَسُ، بل يجبُ علينا أن نَطلُبَ أوَّلاً ماذا؟ مَلكوتَ اللهِ. وَحينئذٍ، سَوفَ يَهتمُّ هُوَ بكُلِّ شَيء. وهذا أمرٌ مَجيد! فاللهُ صَالِحٌ جدًّا. ولا تُوجَد عَطِيَّةٌ مُقَدَّمَةٌ إلى اللهِ يُمكِنُ أن تَجعلَ المُؤمِنَ أَفْقَرَ مِمَّا كانَ عليه. هل سَمِعتُم ذلك؟ فهي قد تَجعلُكَ أغنَى وَحَسْب. فهي لا يُمكِنُ أن تَجعلَكَ أفقَر، بل قد تَجعَلُكَ أَغنى وَحَسْب. وهذا جَانِبٌ مِنَ الجَوانبِ الَّتي يَفحَصُ فيها اللهُ قُوَّةَ إيمانَكَ بكلمَتِهِ.
وكما تَرَوْنَ فإنَّ كُلَّ شَيءٍ هُوَ بالمَسيحِ يَسوع. فإن كُنتَ في المَسيحِ فإنَّكَ ستَختبرُ ذلك. فالعَهدُ الجَديدُ يَقولُ عَنِ المَسيحِ إنَّهُ: "الْمُذَّخَر فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ". والعَهدُ الجَديدُ يَقول: "لأَنَّهُ فِيهِ [أيْ: في المَسيحِ] سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ". وأيضًا: "فَإِنَّهُ فِيهِ [أي: في المَسيحِ] يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا". والكِتابُ المُقدَّسُ يَقولُ إنَّ المَسيحَ "يَملأُ الكُلَّ في الكُلِّ". وقد كَتَبَ بولسُ إلى مُؤمِني كورِنثوسَ فقالَ لَهُم: "أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّكُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتَغْنَيْتُمْ فِيه". وَقد كَتَبَ إلى مُؤمِني أفسُس: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيح". وقد كَتَبَ بُطرسُ قَائِلاً إنَّ "قُدْرَتَهُ الإِلهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا"؛ أي المَسيح. فأنتَ لن تَحتاجَ عندما تُضَحِّي وتُقَدِّمُ عَطِيَّةً يَتَنَسَّمُ مِنها اللهُ رائحةً طَيِّبَةً، وعندما تَكونُ عَطِيَّةً مَقبولةً ومَرْضِيَّةً عندَ اللهِ.
إذًا، مِن أينَ تَنبُعُ القَناعَةُ؟ إنَّها تَنبُعُ مِنَ الاتِّكالِ على العِنايةِ الإلهيَّةِ، وتَنبُعُ مِنَ الاكتفاءِ بالقَليل، وتَنبُعُ مِنَ الاستقلالِ عَنِ الظُّروفِ، وتَنبُعُ مِنَ الاتِّكالِ على قُوَّةِ الرُّوحِ القُدُسِ في الإنسانِ البَاطِن، وتَنبُعُ مِنَ الاهتمامِ بمَصلحةِ الآخرينَ وَبَرَكَتِهِم الرُّوحيَّة؛ لا بِبَركاتِكَ المَاديَّة. ويُمكنكُم أن تُلَخِّصُوا ذلكَ في خَمْسِ كَلِمات: الإيمانُ، والاتِّضاعُ، والخُضوعُ، والاتِّكالُ، والإيثار. فهذهِ هي الأشياءُ الَّتي تَجعلُ الإنسانَ قَنوعًا: الإيمانُ، والاتِّضاعُ، والخُضوعُ، والاتِّكالُ، والإيثار. وقد كانَ بولسُ إنسانًا كَهذا؛ أيْ قَنوعًا. وهذهِ هي عَناصِرُ أو مَبادِئُ القَناعَة.
والآن، اسمَعوني جَيِّدًا في الخِتام. فأنا أريدُ أن أُحَدِّثَكُم بإيجازٍ شَديدٍ عن لاهُوتِ العَطاءِ المَسيحيِّ وَفقًا لهذا النَّصّ. فأنا أَعلمُ أنَّ كَثيرينَ مِنكُم بحاجةٍ إلى أن يَتعلَّموا عن هذا المَوضوعِ لأنَّكُم لم تَتَعَلَّموا عنهُ مِن قَبل. اسمَعوا جَيِّدًا ما يَقولُهُ هذا النَّصُّ عنِ العَطاءِ المَسيحيِّ، أو عَنِ العَطاءِ لِخِدمةِ اللهِ، أو عنِ العَطاءِ للكنيسَة. أوَّلاً، يجب أن يَكونَ العَطاءُ نَابِعًا مِنَ القَلب. فالعَددُ العَاشِرُ يَقولُ إنَّهُم أَعطُوا لأنَّ اعتِناءَهُم بِهِ قد أَزْهَر. فيجبُ أن يَنبُعَ العَطاءُ مِنَ الدَّاخِل. فَهُم لم يُعطُوا لأنَّهُم كانوا مُلْزَمينَ، أي لأنَّهُم كانُوا مُلزَمينَ خَارجيًّا؛ بل لأنَّهم شَعرُوا بِدافِعٍ دَاخِلِيٍّ. "كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا يَنْوِي بِقَلْبِهِ، لَيْسَ عَنْ حُزْنٍ أَوِ اضْطِرَارٍ..." [كَما يَقولُ بولسُ لأهلِ كورِنثوس]. "...لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ". فيجبُ عليكَ أن تُعطي مِن قَلبِك. وقد فَرِحَ بولسُ لأنَّ مؤمِني فيلبِّي أَعْطَوْا هكذا. فقد أعْطَوْا ليسَ عنِ اضطرارٍ، بل لأنَّهُم أَحَبُّوا.
ثانيًا، يجب أن تُعْطُوا بِحَسَبِ الفُرَصِ الَّتي يُفْسِحُها اللهُ لَكُم. فهو يَقولُ في العَددِ العَاشِرِ أيضًا إنَّهُم أَعطُوا لأنَّهُ أُتيحَت لَهُمُ الفُرصةُ للقيامِ بذلك. وهذهِ هي، يا أحبَّائي، النُّقطةُ الجَوهريَّةُ هُنا. فعندما يُتيحُ اللهُ لكَ أن تُعطي، وعندما تَسْنَحُ الفُرصةُ لكَ للعَطاءِ، يجبُ عليكَ أن تُعطي. والحقيقةُ هي أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُوصيكُم بأن تُعطُوا بِحَسَبِ الغِنَى الَّذي يُعطيكُم اللهُ إيَّاه. فعندما يَتوَفَّرُ لديكَ المَالُ وتُتاحُ لكَ الفُرصة، يجبُ عليكَ أن تُعطي.
النُّقطةُ الثَّالثة: يجب أن تُعطُوا لِخُدَّامِ اللهِ. يجب أن تُعطُوا لِخُدَّامِ اللهِ. فهو يَقولُ في العَدد 14: "غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَنًا إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي". فيجب أن تُعطُوا لِخُدَّامِ اللهِ. فَمِن شأنِ ذلكَ أن يَجعَلُكَ شَريكًا، وأن يَجعلَكَ مُساهِمًا. فهو يَقولُ لَهُم: "غَيْرَ أَنَّكُمْ فَعَلْتُمْ حَسَنًا إِذِ اشْتَرَكْتُمْ فِي ضِيقَتِي". أنتُم شُرَكاءَ مَعي. وهذا هُوَ العَطاءُ. فهو مُشاركةٌ مَعَ الأشخاصِ الَّذينَ يَكرِزونَ، ويُعَلِّمونَ، ويَخدِمونَ الرَّبَّ. فعندما تُعطي لكنيسةِ "النعمة" (Grace Church) فإنَّ أغلبيَّةَ المَالِ الَّذي نَتَسَلَّمُهُ يُنفَقُ مُباشَرةً في حَياةِ الأشخاصِ الَّذينَ يَخدِمونَ اللهَ والَّذين يَبذُلونَ أنفسَهُم في خِدمةِ المَسيح.
والنُّقطةُ التَّاليةُ الَّتي نَتَعَلَّمُها هي أنَّ العَطاءَ يَنبغي أن يَكونَ مُستمرًّا. فيجبُ أن يَكونَ مُستمرًّا. فَهُوَ يَقولُ: "لقد أَرسلتُم إليَّ أكثرَ مِن مَرَّة. وعندما لم يُعْطِ الآخرونَ فإنَّكُم أعطيتُم. وها أنتُمُ الآنَ تُعطونَ مَرَّةً أخرى. ولو أُتيحَت لَكُمُ الفُرصةُ في أثناءِ ذلكَ لَكُنتُم أعطيتُم المَرَّةَ تِلوَ المَرَّة". وما نَراهُ هُنا هُوَ أنَّهُم كانوا يُعطُونَ باستمرار. فقد أعطُوا أكثرَ مِن مَرَّة. والحقيقةُ هي أنَّنا نَقرأُ في رسالة كورنثوس الأولى أنَّهُ يجبُ علينا أن نُعطي في أوَّلِ يَومٍ في الأسبوع: "فِي كُلِّ أَوَّلِ أُسْبُوعٍ، لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عِنْدَهُ، خَازِنًا مَا تَيَسَّرَ". فيجبُ عليكم أن تُمارِسُوا أمانَتَكُم المَاليَّة في كُلِّ أسبوع. ويجب عليكم أن تُعطُوا كُلَّ أسبوع. ويجب عليكم أن تُعطوا الأشخاصَ الَّذينَ يَخِدمونَ اللهَ. ويجب عليكم أن تُعطُوا كُلَّما أَتاحَ اللهُ لَكُم فُرصةً لذلك. ويجب عليكم أن تُعطُوا مِن قُلوبِكُم. ويجب عليكُم أن تُعطوا باستمرار.
ثُمَّ لاحِظوا العَدد 17. يجب عليكم أن تَتذكَّروا أيضًا أنَّ عَطاءَكُم نَافِعٌ رُوحِيًّا. فالعَدد 17 يَقول إنَّهُ سيَكونُ ثَمَرًا أو فَائدةً تُوضَعُ في حِسابِكُم الرُّوحيّ. فسوفَ تُكافأونَ عليهِ، في اعتقادي، في هذهِ الحَياةِ إذْ إنَّ اللهَ سيُعطيكُم بالمُقابِل. وسوفَ تُكافَأونَ عليهِ أيضًا في الحَياةِ الآخِرَةِ بامتيازٍ عَظيمٍ يَتَمَثَّلُ في حَمْدِهِ وتَسبيحِه. فسوفَ يَكونُ مُفيدًا رُوحيًّا. لِذا، يجبُ عليكَ أن تُقَرِّرَ ماذا ستَفعلُ بأموالِكَ. ويجبُ عليكَ أن تُقَرِّرَ ما إذا كُنتَ تُريدُهُ أن يَكونَ نَافِعًا مَادِّيًّا أَمْ نَافِعًا رُوحيًّا. ويجبُ عليكَ أن تُقَرِّرَ ما إذا كُنتَ تُريدُ أن يَكونَ نَافِعًا زَمنيًّا أَمْ نَافِعًا أبديَّا. فالخِيارُ لَكَ.
أمَّا المَبدأُ الَّذي يَلي ذلكَ في هذا النَّصِّ بِخُصوصِ العَطاءِ فَهُوَ أنَّ العَطاءَ يَنبغي أن يَكونَ سَخِيًّا. فيجبُ أن يَكونَ سَخِيًّا. فَمِنَ الوَاضحِ أنَّهُم عندما كانوا يُعْطونَ فإنَّ عَطاءَهُم كانَ سَخِيًّا. فنحنُ نَقرأُ في العَدد 18 أنَّهُ استَوفَى كُلَّ شَيءٍ، واستَفْضَلَ، وامتَلأَ. فعندما كانُوا يُعطونَ، كانُوا يُعطُونَ بِسَخاء. وكما قالَ بولسُ لِمُؤمِني مَكِدونِيَّة، فإنَّهُم كانُوا يُعْطونَ بِسَخاء. فيجبُ عليكَ أن تُعطي بسَخاء. والتَّقليدُ المُتَّبَعُ في الكَنيسةِ هُوَ أنَّهُ يجبُ عليكَ أن تَبتدئَ بتَقديمِ عَشْرة بالمِئَة مِن دَخْلِكَ للرَّبِّ. وأنا أرى أنَّ هذهِ هي نُقطةُ البِداية فقط. والأغلبيَّةُ مِنَّا في هذا المُجتمعِ يَستطيعونَ أن يُعطُوا أكثر بكثير مِن ذلك، ويَنبغي أن يُعطوا أكثرَ بكثير مِن ذلك لعَملِ الرَّبّ. ولكن لا يُوجَد مَبلغٌ مُحَدَّد. فقد كانَ شَعبُ اللهِ في العَهدِ القَديم يُقَدِّمونَ عُشْرَيْن (أو عِشرينَ بالمِئَة) كُلَّ سَنة، ثُمَّ عُشرًا آخرَ كُلَّ ثَلاثِ سَنواتٍ. وبهذا يَكونُ المُتَوَسِّطُ هُوَ 23% كُلَّ سَنة، بالإضافةِ إلى ضَريبةِ الهَيكلِ، ومَا يَنبغي أن يَترُكوهُ في زَوايا الحَقلِ، والأشياءِ الَّتي تَسقُطُ مِنهُم في أثناءِ الحَصادِ والَّتي يَنبغي أن يَتركوها لكي يَلتَقِطَها الفُقراء. فقد كانوا يُعطونَ أكثرَ مِن 25% تَقريبًا لِتمويلِ حُكومَتِهم المَحليَّة الدِّينيَّة. فَضلاً عن ذلك، كانَ ينبغي لَهُم أن يُعطوا طَوعًا مِن قُلوبِهم وبِسَخاءٍ مِن أبكارِ غَلاَّتِهم بالقَدرِ الَّذي يَشاؤون. وَيَبدو أنَّ العَشْرة بالمِئة هي نُقطةُ بِداية جَيِّدة. ولكن يجب علينا أن نُعطي أكثر مِن ذلك إنْ أتاحَ اللهُ لَنا ذلكَ وكانَ ذلكَ مُمكِنًا حَقًّا.
أمَّا المَبدأُ الَّذي يَلي ذلكَ فَهُوَ التَّالي: العَطاءُ هُوَ عَمَلٌ مُقَدَّسٌ يَنبُعُ مِنَ العِبادةِ الرُّوحيَّة. فَهُوَ عَمَلٌ مُقَدَّسٌ يَنبُعُ مِنَ العِبادةِ الرُّوحيَّة. فقد يَذهبُ أُناسٌ إلى الكنيسةِ ويَقولون: "أنا لا أُرَنِّمُ لأنِّي لا أُحِبُّ الشَّخصَ الَّذي يُلَوِّحُ بيديه". حَقًّا؟ هَل تَقولُ إنَّهُ بِسَبَبِ أنَّكَ لا تُحِبُّ الطَّريقةَ الَّتي يُلَوِّحُ فيها بيديهِ فإنَّكَ لن تَعبُدَ اللهَ؟ ولكنَّكَ مُطالَبٌ بعبادةِ اللهِ. فكأنَّكَ تَقول: "أنا لن أُقَدِّمَ أيَّ مَبلغٍ مِنَ المَالِ إلى الكنيسةِ لأنِّي لا أُحِبُّ الطَّريقةَ الَّتي يَخدِمُ فيها الرَّاعي". إنَّ مَسؤوليَّتَكَ تُجاهَ اللهِ تُحَتِّمُ عليكَ أن تُعطي عَطِيَّةً يَتَنَسَّمُ اللهُ مِنها رائِحَةً طَيِّبةً، وعَطِيَّةً تَكونُ مَقبولةً ومَرضيَّةً عندَ اللهِ. فعندما تُعطي فإنَّ ذلكَ يُحسَبُ في حِسابِك. ومَسؤوليَّتي ومَسؤوليَّةُ الشُّيوخِ في أيَّة كَنيسة هي أن يَكونوا وُكلاءَ أُمناءَ على ذلك. وسوفَ يُحاسِبُنا اللهُ على أمانَتِنا في الوَكالةِ، وسيُحاسِبُكَ على عَطائِك. ولكنَّكَ مَسؤولٌ قُدَّامَ اللهِ في أن تُعطي عَطِيَّةً مَقبولةً عِندَهُ. ويجبُ أن يَكونَ عَطاؤُكَ ذَبيحةً. والكلمة "ذَبيحَة" مَذكورة في العَدد 18. وقد قالَ دَاوُد: "لن أُقَدِّمَ للرَّبِّ تَقْدِمَةً لا تُكَلِّفُني أيَّ شَيء". ويجبُ عليكَ أن تَنظُرَ إلى الأمرِ بهذهِ الطَّريقة. فكأنَّكَ تَضَعُها على المَذبَحِ قُدَّامَ الله.
وأخيرًا، أيًّا كانَت تَقْدِمَتُكَ فإنَّ اللهَ سَيَرُدُّها لَكَ. أيًّا كانت تَقْدِمَتُكَ... استَمِعوا إلى ما سأقول: فإنَّها لن تَستَنزِفَ مَوارِدَكَ. فهي كَنْزٌ في السَّماء. واللهُ يَملأُ كُلَّ مَاذا؟ احتياجِكُم. وَهُوَ سيَملأُهُ بِحَسَبِ غِناهُ في المَجدِ في مَلكوتِهِ الَّذي هُوَ مِنْ نَصيبِكَ في المَسيحِ يَسوع.
لِذا، يجبُ علينا أن نَكونَ أُمناءَ في العَطاء. ويجبُ علينا أن نَتَمَثَّلَ بمُؤمِني فيلبِّي. ويجبُ علينا أن نَتَمَثَّلَ ببولُس الَّذي كانَ يُبالي بمَصلحةِ الآخرينَ أكثرَ مِمَّا يُبالي بنفسِه. وقد كانَ هُوَ نَفسُهُ رَجُلاً كَثيرَ العَطاءِ، ورَجُلاً قَنوعًا أيضًا. دَعونا نَحني رُؤوسَنا حَتَّى نُصَلِّي:
يا أبانا، نَشكُرُكَ على تَعليمِنا عَنِ القَناعَة، وعن أنَّها تَقتضي مِنَّا أن نَتَّكِلَ على عِنايَتِكَ الإلهيَّة، وأن نَكتفي بالقَليل، وأن نَستَقِلَّ عنِ الظُّروف، وأن نَتقوَّى بالقُوَّةِ الإلهيَّةِ، وأن نَهتمَّ بالآخرينَ أكثرَ مِمَّا نَهتمَّ بأنفسِنا. وهذا الاهتمامُ بالآخرينَ يَظهَرُ مِن خِلالِ اهتِمامِنا بالعَطاءِ يا رَبّ. فنحنُ نَعلمُ أنَّنا لن نَكونَ يَومًا قَنوعينَ إن كانَ كُلُّ هَمِّنا هُوَ أن نَجمَعَ ونأخُذَ ونَكنِز. فالقَناعَةُ مُرتبطة بالإيثار. يا رَبّ، ساعِدنا على أن نَتَخَلَّى عن مُحاوَلةِ جَعلِ كُلِّ شَيءٍ في عَالَمِنا وكُلِّ شَخصٍ في عَالَمِنا يَفعلُ ما يُرضينا. وساعِدنا على أن نَعيشَ ونَفعلَ ما يُبارِكُهم. كذلكَ، نَشكُرُكَ على تَعليمِنا مَرَّةً أخرى دُروسًا في القَناعَة. نحنُ نَعتَرِفُ بعدمِ قَناعَتِنا في أوقاتٍ كثيرة، ونَسألُكَ أن تَغفِرَ لَنا عَدَمَ قَناعَتِنا تلك. ويا رَبّ، لا تَسمَح لَنا أن نُغادِرَ هذا المَكانَ وأن نَضَعَ ما سَمِعناهُ في رُكْنٍ مُهْمَلٍ في أذهانِنا حيثُ يَصيرُ ضَبابِيًّا ومَنْسِيًّا، بل أن نَحتَفِظَ بِهِ في جُزءٍ حَيٍّ مِن أذهانِنا كي نَتذكَّرَ دَائمًا مِن خِلالِ رُوحِكَ أنَّهُ يَنبغي لنا أن نَكونَ قَنوعينَ، وأن نَتذكَّرَ الوَسيلةَ لِبُلوغِ ذلك. اعمَل عَمَلَكَ فينا يا رَبّ لأنَّنا لا نَستطيعُ أن نَفعلَ ذلكَ بأنفسِنا؛ بل فَقَط بقُوَّتِكَ. باسمِ المَسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.