
لِنَفتَح كُتُبَنا المُقدَّسةَ [فِيما نَدرُسُ كلمةَ اللهِ في هَذا المَساءِ] على الأصحاحِ الثَّالثِ مِن رِسالةِ يَعقوب... على الأصحاحِ الثَّالثِ مِن رِسالةِ يَعقوب. وفيما تَفعلونَ ذلك، أريدُ أن أُشارِكَ مَعَكُم شَيئًا شَخصيًّا صَغيرًا حَدَثَ في حَياتي قبلَ سَنواتٍ فيما كُنتُ أخْدِمُ هُنا بِصِفَتي رَاعِيًا في كَنيسةِ "النعمة" (Grace Church). فَقد ذَهبتُ إلى طَبيبِ الأسنانِ لإجراءِ الفَحصِ الدَّورِيِّ الَّذي أُجريهِ مَرَّةً كُلَّ خَمْسِ سِنين. وَكَانَ يَفحَصُ فَمي ويَفعلُ مَا يَفعلُهُ أطِبَّاءُ الأسنانِ بِكُلِّ تلكَ الأدواتِ الَّتي يَستخدِمونَها. وعندما انتَهى قَال: "لَديكَ مُشكلة". وَقد قَال: "هُناكَ وَرَمٌ كَبيرٌ على لِسانِك". وَهَذا ليسَ كَلامًا يُحِبُّ أيُّ وَاعِظٍ أن يَسمَعَهُ! ثُمَّ قَال: "لا أدري إن كانَ وَرَمًا حَميدًا أَم خَبيثًا، ولكِن يجب عليكَ أن تُراجِعَ جَرَّاحًا لإزالَتِه". وَقَد سَألتُهُ عن حَجْمِ ذلكَ الوَرَمِ فَقال: "إنَّهُ أكبرُ مِن إبهامِك. وَهُوَ في آخِرِ اللِّسانِ في مَكانٍ لا يُمكِنُكَ أن تَراه".
وَأذكُرُ أنِّي قُلتُ لطَبيبِ الأسنانِ آنذاك: "اسمَع! إنْ كُنتَ تَنْتَقِدُ لِسَاني فإنَّكَ تَنتقِدُني! فَأنا أعيشُ بِلِسَاني". وَقَد فَكَّرتُ في ذلكَ مَرَّاتٍ كَثيرة مُنذُ ذلكَ الحِين. وقد أَجْرُوا لي عَمليَّةً بعدَ بِضعةِ أيَّام وَوَجَدُوا أنَّهُ وَرَمٌ حَميد. وَحَسَبَ عِلْمي، لَمْ يَرجِع ذلكَ الوَرَم؛ مَعَ أنِّي أَعترِفُ بأنِّي لم أذهب إلى طَبيبِ الأسنانِ مُنذُ مُدَّة. ولكنِّي فَكَّرتُ في ذلكَ مَرَّاتٍ كَثيرة؛ أيْ في تلكَ العِبارة: "إنِ تَحَدَّثْتَ عَن لِساني، أوِ انتَقَدْتَ لِساني فإنَّكَ تَنتقِدُني أنا". وَهَذا صَحيحٌ بطريقةٍ أخرى تَختَلِفُ عَن تِلكَ الَّتي قَصَدْتُها. فَلِسَانُكَ هُوَ في الحَقيقةِ أنتَ. إنَّهُ أنتَ حَقًّا. فَاللِّسَانُ يَشِي بِكَ وَيُخبِرُ الآخَرينَ عَن حَالِ قَلبِك. وَقَد قَالَ يَسوعُ: "مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ". فَاللِّسانُ يَكشِفُ حَقيقةَ القَلب.
والآن، في هَذا الأصحاحِ الثَّالثِ، يَتحدَّثُ يَعقوبُ عَنِ اللِّسانِ بِوَصْفِهِ امتِحانًا آخَرَ للإيمانِ العَامِل لأنَّ الإيمانَ الحَقيقيَّ يَظهَرُ مِن خِلالِ الكَلام. والإيمانُ الزَّائِفُ يَظهَرُ مِن خِلالِ الكَلامِ أيضًا. فَلا يُوجَدُ شَيءٌ يَكشِفُ حَالَ القلبِ أكثرَ مِنَ اللِّسان. لِذا فقد كانَ يَعقوبُ مُهتمًّا جدًّا باللِّسانِ حَتَّى إنَّهُ يَذكُرُهُ في كُلِّ أصحاح. فَهُوَ يَذكُرُهُ مَرَّتَيْنِ في الأصحاحِ الأوَّل والعَدَدَيْن 19 و26. وَهُوَ يَذكُرُهُ في الأصحاحِ الثَّاني والعَددِ الثَّاني عَشَر. وَهُوَ يَذكُرُهُ في الأصحاحِ الرَّابعِ والعَددِ الحادي عَشَر. وَهُوَ يَذكُرُهُ في الأصحاحِ الخَامِسِ والعَددِ الثَّاني عَشر. وَهُوَ يُخَصِّصُ جُزءًا كَبيرًا مِنَ الأصحاحِ الثَّالِثِ للتَّحدُّثِ تَحديدًا عَن مَوضوعِ اللِّسان. والآن، لَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّ الرُّوحَ القُدُسَ استَخدَمَ يَعقوبَ لِكَي يُرينا أنَّ المُؤمِنينَ الحَقيقيِّينَ الَّذينَ وُلِدُوا مِن كلمةِ اللهِ (كَما قَالَ في الأصحاحِ الأوَّل والعَدد 18) يُظهِرونَ تلكَ الحَياةَ الجَديدةَ مِن خِلالِ الطَّريقةِ الَّتي يَعيشونَ بِها.
فَسوفَ يَظهَرُ ذلكَ مِن خِلالِ احتِمالِهم للتَّجارِب (كَما رأينا في الأصحاحِ الأوَّل). وَسوفَ يَظهَرُ ذلكَ مِن خِلالِ اتِضاعِهم في التَّجارِبِ (كَما رَأينا أيضًا في الأصحاحِ الأوَّل). وَسوفَ يَظهَرُ ذلكَ مِن خِلالِ طَاعَتِهم للكِتابِ المُقدَّسِ (كَما رأينا أيضًا في الأصحاحِ الأوَّل)، ومِن خِلالِ اهتِمامِهِم المُحِبِّ بالمُحتاجينَ مِن دُونِ مُحاباةٍ (وَهُوَ أمرٌ رَأيناهُ في الأصحاحِ الثَّاني). وَسوفَ يَظهَرُ ذلكَ مِن خِلالِ حَياتِهِم الَّتي تَتَّسِمُ بالأعمالِ الصَّالحةِ (كَما رأينا في الأصحاحِ الثَّاني والأعداد مِن 14 إلى 26). وَهُوَ يَقولُ الآنَ إنَّ الحَياةَ الجَديدةَ، أوِ التَّغييرَ، أوِ الخَلاصَ يَظهَرُ مِن خِلالِ الطَّريقةِ الَّتي يَتكلَّمُ بها النَّاس. فَلِسَانُهم أو كَلامُهم يُظْهِرُ حَالَ قَلبِهم. لِذا فإنَّ يَعقوبَ يُطالِبُنا هُنا بأن نُدركَ أنَّ الإيمانَ الحَيَّ يَظْهَرُ مِن خِلالِ ضَبْطِ اللِّسان.
والآن، في الآياتِ الممتَدَّةِ مِن بِدايةِ الأصحاحَ الثَّالثِ إلى نِهايةِ العَدد 12، تُستخدَمُ الكلمتان "فَم" وَ "لِسان" مِرارًا للإشارةِ إلى الكَلام. ورُبَّما يَنبغي لنا أن نَقولَ في البِدايةِ إنَّ يَعقوبَ يَتحدَّثُ عَنِ الفَمِ، ويَتحدَّثُ عَنِ اللِّسان. وَهُوَ يُشَخِّصُهُما بِطريقةٍ مَا. وَقد سَألَ أَحَدُ الأشخاصِ قَائِلاً: "لِماذا لا يَتَحدَّثُ يَعقوبُ عَنِ القَلب؟ لِمَ لا يَقولُ إنَّ القَلبَ هُوَ المُعضِلَة؟ لِماذا يَقولُ إنَّ المُشكلةَ تَكمُنُ في اللِّسان؟ فَاللِّسانُ يَتجاوَبُ مَعَ القَلبِ وَحَسْب! والفَمُ يَتجاوَبُ مَعَ القَلبِ وَحَسْب!" ولكِنْ بِحَسَبِ الفِكرِ العِبريِّ، لم يَكُن هُناكَ فَصْلٌ وَاضِحٌ تَمامًا بينَ الإنسانِ والعُضوِ المُذنِب. فقد كانَ الإنسانُ العِبريُّ يُرَكِّزُ في الحَقيقةِ على العَضوِ المُذنِبِ وليسَ على حَالةِ القَلب.
فَمَثَلاً، نَقرأُ عَنِ "الأرجُلِ السَّريعَةِ إلى سَفْكِ الدَّمِ" كما لو أنَّ الأرجُلَ هِيَ المُذنِبَةُ بالقَتل. ونَقرأُ عَنِ "العُيونِ المَمْلُوَّةِ فِسْقًا" كَما لو أنَّ العُيونَ هِيَ المُذنِبَةٌ؛ في حينِ أنَّنا نَعلَمُ، بِكُلِّ تَأكيدٍ، أنَّ المُذنِبَ هُوَ الإنسانُ البَاطِن. ولكِنَّ الفِكرَ العِبريَّ الَّذي يَرغَبُ في استِخدامِ الألفاظِ المَحسوسَةِ والعَمليَّةِ يَدفَعُهم في أغلبِ الأحيانِ إلى الإشارةِ إلى العُضوِ الجَسديِّ نَفسِهِ كما لو أنَّهُ هُوَ العُضوُ المُذنِب. لِذا، عندما يَتحدَّثُ يَعقوبُ عنِ الفَمِ واللِّسانِ فإنَّهُ لا يَلومُ في الحَقيقةِ الفَمَ واللِّسانَ كَما لو أنَّهُما يَعْملانِ باستِقلالٍ تَامٍّ عَنِ المَشاعِرِ الأخرى، بَلْ أنَّهُما ببساطَةٍ العُضو الَّذي يُعَبِّرُ مِن خِلالِهِ القَلبُ عَن ذَاتِه. لِذا فإنَّ يَعقوبَ يُشَخِّصُ اللِّسانَ كَما لو كَانَ رَمْزًا حَيًّا لِحَالةِ القَلب.
وَكانَ مُعَلِّمُو اليَهودِ (كَما هُوَ وَاضِحٌ مِن خِلالِ المَزمورِ الرَّابِعِ والسِّتِّين والعَددِ الثَّالثِ) يَقولونَ إنَّ اللِّسانَ سَهْمٌ. والسَّببُ في أنَّهُم كانُوا يَقولونَ إنَّ اللِّسانَ سَهْمٌ (وليسَ سَيفًا) هُوَ أنَّ السَّهمَ يَقتُلُ مِن مَسافةٍ بَعيدة، وَأنَّ قُدرةَ اللِّسانِ على القَتلِ تَكْمُنُ في أنَّهُ يَستطيعُ أن يَقتُلَ مِن دُونِ حَتَّى أن يَكونَ قَريبًا مِنَ الضَّحِيَّة. لِذا فإنَّ اللِّسانَ سَهْمٌ قَاتِل. وَلا يُوجَدُ رَبْطٌ وَاضِحٌ بينَ الإيمانِ والأعمالِ أكثرَ مِن كَلامِكُم وَكَلامي. يا لَها مِن فِكرةٍ رَائعة! والحَقيقةُ هِيَ أنَّ أحدَ الأشخاصِ قَال: "كُلُّ واحِدٍ مِنَّا يَحمِلُ مَعَهُ سِلاحًا مَخفِيًّا. وكُلُّ مَا يَنبغي لنا أن نَفعلَهُ هُوَ أن نَفتَحَ فَمَنا فَنُشْهِرُ ذلكَ السِّلاح". هَل تَعلَمونَ أنَّكُم تَقولونَ مَا بَيْن 18000 و25000 كلمة في اليَوم؟ وهُناكَ مَن يَقولُ إنَّ الرِّجالَ يَقولونَ 25000 كلمة في اليوم، وَإنَّ النِّساءَ يَقُلْنَ 30000 كلمة في اليوم.
وَلا أدري مَنِ الَّذي عَدَّ تلكَ الكلمات؛ ولكِنَّ الصُّعوبَةَ تَكمُنُ في أنَّهُ عندما يَعودُ الرَّجُلُ إلى البيتِ يَكونُ قَد استَنفَدَ كَلِمَاتِهِ الخمسة والعشرينَ ألفًا؛ في حينِ أنَّ المَرأةَ لم تَبتَدِئ بَعد في استِخدامِ كَلِمَاتِها الثَّلاثينَ ألفًا! فَهِيَ تَنتَظِرُ عَودَتَهُ بِلَهفَة! ولكِنَّنا نَقولُ عَدَدًا كَبيرًا جدًّا مِنَ الكلماتِ في اليَوم. وقد قَالَ أحدُ الأشخاصِ إنَّ مَا نَقولهُ في اليَومِ الواحِد يُمكِنُ أن يُطبَعَ في كِتابٍ يَحوي أربعةً وخَمسينَ صَفحة. وفي سَنةٍ واحِدَة، مِنَ المُرَجَّحِ أنَّنا نَستطيعُ أن نُؤلِّفَ سِتَّةً وسِتِّينَ كِتابًا يَحوي كُلُّ كِتابٍ مِنها 800 صَفحة. وَقد يَصْدُمُكَ هَذا الكَلام. قَد يَصْدُمُكَ إن كُنتَ شخصًا طَبيعيًّا تَقضي خُمْسَ حَياتِكَ في التَّكلُّم. وَهَذا أمرٌ مُدهِش. وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ فَترةَ الطُّفولة. فَأنا أَذكُرُ أنَّهُ عِندَما كُنتُ أذهبُ إلى الطَّبيبِ، أيْ عِندَما كانَ أبي وأُمِّي يَأخُذاني إلى الطَّبيبِ، كانَ أوَّلُ شَيءٍ يَقولُهُ الطَّبيبُ هُوَ: "دَعني أَرَى لِسانَك".
ويَعقوبُ يَقولُ الشَّيءَ نَفسَهُ: "دَعني أَرَى لِسانَك". والمُمَرِّضَةُ تَضَعُ مِيزانَ الحَرارةِ تَحتَ لِسانَكَ وتُخبِرُكَ كَمْ دَرَجَةُ حَرارةِ جِسمِك. ويَعقوبُ يَقولُ إنَّ لِسانَكَ نَفسَهُ يَقيسُ دَرَجَةَ حَرارَتِكَ الرُّوحيَّة. فَلا يُوجَدُ شَيءٌ يَكشِفُ فَسادَنا التَّامَّ أكثرَ مِن فَمِنا. وَهذا يُذَكِّرُنا بِمَا قَالَهُ النَّاسُ لِبُطرسَ في سَاحَةِ البيتِ: "فَإِنَّ لُغَتَكَ تُظْهِرُكَ". وَقَدْ قَصَدُوا بذلكَ شَيئًا مُختلفًا؛ ولكِنَّ هَذا صَحيح. وحيثُ إنَّ اللهَ وَلَدَ أولادَهُ بكلمتِه، لا بُدَّ أنَّهُ يَفتَرِضُ أنَّهُم سيُعرَفونَ مِن خِلالِ كَلامِهم، وَأنَّهُ ستَكونُ هُناكَ صِلَةٌ بينَ كَلامِهِ (الَّذي وَلَدَهُمْ) وَكَلامِهم (النَّاجِمِ عَن تلكَ الوِلادَة).
وَمِنَ المُدهِشِ في نَظري أيضًا أنَّنا نَجِدُ في سِفْرِ التَّكوين 3: 12 أنَّ أوَّلَ خَطِيَّةٍ فِعليَّةٍ تَمَّ اقتِرافُها بعدَ السُّقوطِ كانت خَطِيَّةَ لِسان. وَكَأنَّ أوَّلَ تَعبيرٍ عَنِ الخَطِيَّةِ بعدَ السُّقوطِ جَاءَ مِنَ الفَم لأنَّهُ يُخطِئُ بِسُهولة. فَقَد قَالَ آدَم: "الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي..."، ثُمَّ إنَّهُ طَعَنَ في أَمانَةِ اللهِ وَلامَهُ على خَطِيَّتِه. وعندما وَصَفَ الرَّسولُ بولُس سُقوطَ الإنسانِ، وَأرادَ أن يُبَيِّنَ كُلَّ السِّماتِ القَبيحَةِ لفَسادِ الإنسانِ، وَأرادَ أن يَصِفَ بُؤسَ الإنسانِ بسببِ حَالَتِهِ السَّاقِطَةِ فإنَهُ يُرَكِّزُ على اللِّسان. وفي رِسالةِ رُومية والأصحاحِ الثَّالِث، نَقرأُ الكلماتِ التَّاليةَ المَألوفَة جدًّا في العَدد 13 ويقولُ مَا يَلي في وَصْفِ الخَاطِئ: "حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً". فالنُّقطةُ الجَوهريَّةُ في سُقوطِنا وَفَسادِنا هُوَ الفَم.
وعندما أرادَ إشَعْياءُ أنْ يَعتَرِفَ للهِ بِخَطيئَتِهِ عندما رَأى قَداسَةَ اللهِ، وَعِندَما أرادَ أن يُعَبِّرَ عَن نَفسِهِ فإنَّهُ يَقولُ: "[أَنَا] إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْن". فَلا يُوجَد شَيءٌ يُشيرُ إلى خَطِيَّةِ الإنسانِ أكثر مِن فَمِه. فَالفَمُ البَذيءُ يُشيرُ في المَقامِ الأوَّل إلى الفَساد. لِذا فإنَّ الفَمَ هُوَ المُؤشِّرُ على حَالةِ الإنسان. وَهكذا فإنَّ الكلماتِ المُلائمةَ تُشيرُ إلى الحَياةِ البَارَّة. وَهَذا هُوَ مَا يَقولُهُ يَعقوب. لِذا فإنَّهُ يَدعونا في الأصحاحِ الثَّالثِ إلى فَحْصِ كَلامِنا حَتَّى نَرى إنْ كَانَ يَنْسَجِمُ مَعَ مَا نَدَّعِي أنَّهُ حَقيقةُ إيمانِنا. وَهَذا يَعني أنَّ ضَبْطَ لِسانِنا مُهِمٌّ. ويَعقوبُ يُقَدِّمُ لَنا خَمسةَ أسبابٍ قَوِيَّة... خَمسةَ أسبابٍ قَوِيَّة لِضَبْطِ اللِّسان. وسوفَ نَتأمَّلُ في السَّبَبَيْنِ الأوَّلِ والثَّاني في هَذا المَساء.
السَّببُ الأوَّل: يَدعُونَا يَعقوبُ إلى ضَبْطِ اللِّسانِ لأنَّ قُدرَتَهُ على الإدانَة هَائِلَة جدًّا؛ أي بسببِ قُدرتِهِ على الإدانَة. فنحنُ نَقرأُ في العَددَيْنِ الأوَّلِ والثَّاني: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ! لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا". سَوفَ نَتوقَّفُ عندَ هذهِ النُّقطة. يَتحدَّثُ يَعقوبُ عَنِ الدَّينونَةِ أوِ العِقاب. والسِّياقُ كُلُّهُ لِما يَقولُهُ في البِداية، مَعَ أنَّهُ لا يَذكُرُ اللِّسانَ هُنا، هُوَ مَوضوعُ الكَلامِ هَذا. والمَعنى الضِّمنيُّ لِما يَقولُهُ هُوَ: "يَجِبُ عليكُم أنْ تَحرِصُوا جَيِّدًا على عَدَمِ إقْحامِ أنفسِكُم في خِدمةٍ تَعليميَّةٍ لأنَّ المُعَلِّمَ يَعتَمِدُ كثيرًا على لِسانِهِ. وَهُناكَ احتِمالٌ كَبيرٌ في أن تُسيئُوا استِخدامَ ذلكَ فَتَجلِبوا على أنفسِكُم دَينونَةً مُحتَمَلَة".
هذهِ هي النُّقطةُ الَّتي يُوَضِّحُها. وَهُوَ يَبتَدِئُ بالمُعَلِّمينَ، أيْ مِن أعلى السُّلَّمِ، لا سِيَّما أنَّ الكَلامَ يَدُلُّ على الإيمانِ الحَقيقيِّ. فَإذا رَجعتُم إلى الأصحاحِ الأوَّلِ والعَدد 26 فإنَّهُ يَقولُ: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِيكُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، وَهُوَ لَيْسَ يُلْجِمُ لِسَانَهُ، بَلْ يَخْدَعُ قَلْبَهُ، فَدِيَانَةُ هذَا بَاطِلَةٌ". فالإيمانُ الَّذي لا يُغَيِّرُ اللِّسانَ هُوَ ليسَ إيمانًا مُخَلِّصًا البَتَّة. إذًا، حيثُ إنَّ الكَلامَ يَدُلُّ على الإيمانِ الحَقيقيِّ، يَنبغي أن يَكونَ مِقياسًا جَيِّدًا لأولئكَ الَّذينَ يَتحدَّثونَ عَنِ الإيمانِ ويُعَلِّمونَ عنِ الإيمان. وَبالمُناسَبَة، هذا يُشيرُ أيضًا إلى حَقيقةِ أنَّ الإيمانَ المَيِّتَ، والإيمانَ الزَّائفَ، والرِّياءَ، والخِداعَ خَطَرٌ على جَميعِ النَّاسِ بِمَن فيهم أولئكَ الَّذينَ يُعَلِّمونَ في الكنيسة. فيَنبغي حَتَّى على الأشخاصِ الَّذينَ يُعَلِّمونَ أن يَفحَصُوا كَلامَهُم ليَرَوا إن كانَ إيمانُهم حَقيقيًّا.
وبَعدَ أن قَدَّمَ يَعقوبُ المَوضوعَ على مُستوى المُعَلِّمينَ في البِداية فإنَّهُ يَنتقلُ لمُناقشةِ المَوضوعِ نِقاشًا عَامًّا يَشمَلُ الجَميعَ وَكَلامَ الجَميع. والآن، لِنَرجِع ونُلقي نَظرةً فَاحِصَةً على العَددِ الأوَّل: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي". والحَقيقةُ هِيَ أنَّ العِبارةَ "يا إخوَتي" تَأتي في نِهايَةِ هَذا الجُزءِ في النَّصِّ اليُونانِيِّ حَيثُ إنَّهُ يَبتدِئُ بهذهِ الجُملةِ القَويَّةِ جدًّا: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِين". وَهَذا لا يَعني أنَّهُ يُنكِرُ حَقيقةَ أنَّ اللهَ يُريدُ مِنَّا أن نُعَلِّمَ كَلِمَتَهُ لأنَّ اللهَ يُريدُ مِنَّا أن نَفعلَ ذلك. فالرَّبُّ يُريدُ مِنَّا أن نُفَسِّرَ حَقَّهُ. فَإنْ رَجَعنا إلى سِفْرِ العَدَد 11: 26-29، نَجِدُ قِصَّةً. وَمُوسَى هُوَ الَّذي يَتكلَّمُ وَيَقولُ في العَدد 29: "يَا لَيْتَ كُلَّ شَعْبِ الرَّبِّ كَانُوا أَنْبِيَاءَ إِذَا جَعَلَ الرَّبُّ رُوحَهُ عَلَيْهِمْ".
في ذلكَ المَوقِفِ الَّذي حَدَثَ مَعَ "أَلْدَاد" وَ "مِيْداد"، يَقولُ مُوسَى: "أنا لا أَسْتَخِفُّ بِدَورِ النَّبِيِّ، بَل أَدعُو اللهَ أن يَفعلَ الجَميعُ ذلك". ومِن جِهَة، نَحنُ نَتَمَنَّى أن يَكونَ الجَميعُ وُعَّاظًا وَمُعَلِّمين. ولا شَكَّ أنَّنا نَقرأُ في إنجيلِ مَتَّى والأصحاح 28 أنَّنا جَميعًا دُعينا إلى أن نَذهبَ إلى العَالَمِ وَنُتَلْمِذَ النَّاسَ ونُعَلِّمَهُم أن يَحفَظُوا كُلَّ مَا أوصَى بِهِ المَسيح. وَهَذا الكَلامُ لا يَنفي ذلك. وَهُناكَ أشخاصٌ مُلْزَمونَ بأنْ يَكرِزُوا. وبولسُ يَقولُ في رِسالتِهِ الأولى إلى أهلِ كُورِنثوسَ والأصحاحِ التَّاسعِ: "وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لاَ أُبَشِّرُ". وَهُوَ يَقولُ في رِسالَتِهِ الأولى إلى تِيموثاوس والأصحاحِ الثَّالث: "إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ..." [الَّتي تَنطَوي بِصورةٍ رَئيسيَّةٍ على التَّعليم] "...فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحًا". إذًا، هَذا لا يُلغي ذاكَ وَلا يُناقِضُهُ.
ولكِنَّهُ يَعني أنَّهُ لا يَجوزُ لَنا أن نُسارِعَ إلى خِدمَةِ التَّعليمِ دُونَ أن نُدرِكَ خُطورَةَ ذلك. وَلا شَكَّ في أنَّهُ في الكَنيسةِ الَّتي كَتَبَ يَعقوب إليها، كانَ هُناكَ تَقصيرٌ في تَقديرِ خُطورةِ التَّعليم. فَقد كانَ النَّاسُ يَطْمَحُونَ وَيَسْعَوْنَ إلى خِدمةِ التَّعليمِ دُونَ أن يُفَكِّرُوا مَلِيًّا أو حَتَّى دُونَ أيِّ تَفكيرٍ بِتَبِعاتِ ذلك. لِذا فإنَّهُ يَقولُ: "يا إخوَتي". وَهَذا يَعني أنَّهُ يَتحدَّثُ إلى الأشخاصِ الَّذينَ يُسَمُّونَ اسمَ المَسيحِ في الكَنيسة. "أريدُ أن أُحَذِّرَكُم مِنَ التَّهَوُّرِ في مُمارَسَةِ خِدمةِ التَّعليم". لماذا؟ بِسَببِ الاحتمالِ الكَبيرِ في أن تُخطِئوا بِلِسانِكُم. فعِندما تُخطِئونَ بِلسانِكُم أمامَ عَدَدٍ قَليلٍ مِنَ النَّاسِ فإنَّها مُصيبَة. أمَّا عندما تُخطِئونَ بِلسانِكُم عَلى المَلأِ فإنَّ المُصيبَةَ أكبَر. واحتِمالُ الدَّينونَةِ أكبرُ بكثير بالنِّسبة إلى الشَّخصِ الَّذي يُخطِئُ بِلِسَانِهِ على المَلأ.
وَالآن، مَا الَّذي يَقصِدُهُ بقولِهِ "لا تَكُونُوا مُعَلِّمين"؟ مَا نَوعُ المُعَلِّمِ الَّذي يَتحدَّثُ عَنهُ؟ لَقد فَكَّرتُ في ذلك وَتَسَاءَلتُ عَنِ المَعنى المُحَدَّدِ الَّذي كَانَ يُفَكِّرُ فيه. فالكلمة المُستخدمَة هِيَ "ديداسكيلوي" (didaskalos)، وَهِيَ كلمةٌ يُمكِنُ أن تُتَرجَمَ: "سَيِّد" في الأناجيل. لِذا، يُمكِنُنا أن نَستنتِجَ أنَّهُ يَتحدَّثُ هُنا عَن مُعَلِّمٍ رَسْمِيٍّ بِمَعنى أنَّهُ يَقول: "لا تُسارِعُوا إلى أن تَكونوا مُعَلِّمينَ"، أو: "لا تُسارِعُوا إلى أن تَكونوا وُعَّاظًا"، أو: لا تُسارِعُوا إلى قَبولِ أيَّةِ خِدمَةٍ رَسميَّةٍ تَتطلَّبُ مِنكُم أن تَكونوا وُعَّاظًا أو مُعَلِّمينَ لكلمةِ الله". وبينَ اليَهود... وَلَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّ يَعقوبَ يَكتُبُ إلى أشخاصٍ لَديهِم تُراثٌ يَهوديٌّ أو مِن خَلفيَّةٍ يَهوديَّة. وَبينَ اليَهودِ، كانَ هُناكَ مُعَلِّمونَ رَسْمِيُّون.
فَقد كَانَ هُناكَ مُعَلِّمونَ رَسمِيُّون عَلى غِرارِ نِيقوديموس الَّذي كانَ مُعَلِّمًا رَسميًّا في إسرائيل. وكانَ هُناكَ أشخاصٌ يَعمَلونَ في ذلكَ المَنصِبِ ويُحِبُّونَ لَقَبَهُم، ويُحِبُّونَ المَكانَةَ، ويُحِبُّونَ التَّقديرَ، ويُحِبُّونَ السُّلطَةَ، ويُحِبُّونَ الوَجَاهَة. والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُ أيْنَما ذَهَبَ المُعَلِّمُ اليَهودِيُّ كَانَ يُعامَلُ باحتِرامٍ شَديد. وَالحَقيقةُ هِيَ أنَّ اليَهودَ كَانُوا يَعتقدونَ أنَّ وَاجِبَ الإنسانِ تُجاهَ مُعَلِّمِهِ يَفوقُ وَاجِبَهُ تُجاهَ أَبَوَيْهِ لأنَّ أبَوَيْهِ رَبَّيَاهُ وَحَسْب في الأمورِ المُختَصَّةِ بِهذا العَالمِ؛ في حينِ أنَّ مُعَلِّمَهُ رَبَّاهُ في الأمورِ بالمُختَصَّةِ بالدَّهْرِ الآتي. والحَقيقةُ هِيَ أنَّهُم كانوا يَقولونَ إنَّهُ إنْ وَقَعَ أبَوَا إنسانٍ ومُعَلِّمُهُ بِيَدِ عَدُوٍّ، يَنبَغي أن يُفْتَدَى المُعَلِّمُ أوَّلاً. وَإنِ احتاجَ المُعَلِّمُ والأبوانِ شَيئًا، يَنبغي تَقديمُ العَونِ للمُعَلِّمِ أوَّلاً.
وَمَعَ أنَّهُ لم يَكُن يُسمَحُ لمُعَلِّمِ اليَهودِ أن يَتَقاضَى مَالاً مُقابِلَ التَّعليمِ، وَأنَّهُ كَانَ يَنبغي لَهُ أن يُنْفِقَ على حَاجَاتِهِ الشَّخصيَّةِ مِن خِلالِ العَمَلِ في حِرْفَةٍ مَا، كَانَتِ الفَضيلةُ والتَّقوى تُحَتِّمُ عليكَ أن تَستَضيفَهُ في بَيتِكَ وَأنْ تَهْتَمَّ بِهِ بِكُلِّ عِنايَة. لِذا، كَانَ مِنَ السَّهلِ جدًّا على المُعَلِّمِ أن يَصيرَ شَخصًا كَذاكَ الَّذي وَصَفَهُ يَسوعُ بأنَّهُ مُتَسَلِّطٌ رُوحِيٌّ، أو يَتَظاهَرُ بالتَّقوى، أو أن يَكونَ رَاغِبًا في الوُصولِ إلى أعلى مَكانٍ في أيِّ مَنصِبٍ، أو أن يَكونَ شَخصًا يَفْتَخِرُ بأيِّ شَيءٍ وَضيعٍ يَقومُ بِهِ أمامَ النَّاس. وَكانَ هَذا المَوقِفُ هُوَ المَوقفُ الَّذي دَانَهُ يَسوعُ بشِدَّة في إنجيل مَتَّى 23: 4-7.
فَمِثلُ هَذا الافتِخارِ الشَّخصيِّ الَّذي يَنبُعُ مِن دَوافِعَ غير نَقِيَّة كانَ غَريبًا عَن أيِّ تَابِعٍ حَقيقيٍّ ليسوعَ المَسيح. ولكِن مِنَ المُؤكَّدِ أنَّهُ كَانَ يُوجَدُ أُناسٌ في الكَنيسةِ الَّتي يَكتُبُ يَعقوبُ إليها يَسْعَوْنَ إلى مَنْصِبِ المُعَلِّمِ لأنَّهُم كَانُوا مَفْتُونينَ بالهَالَةِ المُصاحِبَةِ لِذلكَ المَنصِب. ويُمكنُني أن أُضيفَ أنَّهُ كَانَ يُوجَدُ في الكَنيسةِ الأولى أشخاصٌ يُدْعَوْنَ رَسْمِيًّا "مُعَلِّمين". فَقد كانَ يُوجَدُ رُسُلٌ، وَأنبياءٌ، ورُعاةٌ، ومُبَشِّرونَ، وأيضًا مُعَلِّمون. وهذهِ الكلمةُ تَرِدُ بوضوحٍ تَامٍّ في رِسالةِ كورِنثوسَ الأولى 12: 28. ويُمكِنُكم أن تُقَرِّرُوا مَا إذا كانَ النَّصُّ يَقولُ "رُعَاةً مُعَلِّمِينَ" (في رِسالة أفسُس 4: 11) أو: "رُعاةً وَمُعَلِّمين"؛ ولكِن كانَ يُوجَدُ رُعاةٌ، ومُبَشِّرونَ، ومُعَلِّمونَ، وَرُسُلٌ، وَأنبياء. وَقد كَانوا يُعْرَفونَ رَسمِيًّا بأنَّهُم مُعَلِّمونَ في الكَنيسة.
ولكِن عَدا عَن ذلكَ، كانَت هُناكَ فُرَصٌ غَير رَسميَّة للتَّعليمِ أيضًا. فَمَثَلاً، كانَ مِنَ المُمكِنِ في أيِّ مَجْمَعٍ يَهودِيٍّ أنْ يَقِفُ مُعَلِّمونَ غَيرُ رَسمِيِّينَ وَأن يَتكلَّمُوا. وَعلى سَبيلِ المِثالِ، كَانَ يُمكِنُ لأيِّ شَخصٍ يَحظَى بالاحترامِ والتَّقديرِ، ولَديهِ المُؤهِّلاتُ المَطلوبةُ، وهُناكَ سَبَبٌ لِسَماعِهِ، أن يَقِفَ ويُعَلِّمَ في المَجمَع حَتَّى لو لم يَكُن قَد تَدَرَّبَ رَسمِيًّا على ذلك، أو حَتَّى لو لم يَكُن قد تَلَقَّى تَعليمًا رَسمِيًّا في ذلكَ المَجمَعِ أو مِن قِبَلِ أيِّ مُعَلِّمٍ مُعْتَرَفٍ بِهِ مِن قِبَلِ ذلكَ المَجمَع. وَمِنَ الأمثلةِ الكلاسيكيَّةِ على ذلكَ هُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ الَّذي قَامَ في مَجْمَعِ النَّاصرةِ، وَوَقَفَ لِيَقرأَ مِنَ الأسفارِ المُقَدَّسَةِ، ثُمَّ جَلَسَ لِيَتكلَّم. فَقد كانَ ضَيفًا مُتَكَلِّمًا [إنْ جَازَ القَول]. وفي الأصحاحِ الثَّالث عَشَر مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل، نَقرأُ أنَّهُ تَمَّ إرسالُ بولُس وبَرنابا مِنَ الكَنيسةِ في أنطاكِيَة. ونَقرأُ في العَدَدَيْنِ الخَامِسِ والخَامِس عَشَر أنَّهُما وَجَدا نَفسيهِما في مَوقِفٍ أُتيحَت لَهُما فيهِ فُرصةُ النُّهوضِ في المَجمعِ والتَّعليم.
إذًا، كانَ هُناكَ مُعَلِّمونَ رَسمِيُّونَ، وَكانَت هُناكَ فُرَصٌ غَيرُ رَسمِيَّةٍ للتَّعليمِ أيضًا. وأعتقدُ أنَّ هَذا الأمرَ كَانَ يَحدُثُ في الكَنيسةِ البَاكِرَة. فإذا رَجعتُم إلى رِسالةِ كورنثوسَ الأولى والأصحاح 14 سَتَجِدونَ في العَدد 26 أنَّ بولسَ يُناقِشُ حَقيقةَ أنَّهُ كَانَ يُوجَدُ في تلكَ الكنيسةِ في كورِنثوس أشخاصٌ كَثيرونَ يَتكلَّمون. وَهُوَ يَقول: "مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ. فَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبُنْيَان". ثُمَّ إنَّهُ يُنَظِّمُ ذلكَ مِن خِلالِ تَوضيحِ الطَّريقةِ الصَّحيحةِ للقِيامِ بذلك، والطَّريقةِ المَغلوطَةِ للقِيامِ بذلك. ولكِن في الكَنيسةِ البَاكِرَة، مِنَ الواضِحِ أنَّهُ كانَ يُوجَدُ عُرْفٌ مُعَيَّنٌ يَسْمَحُ لأشخاصٍ مُعَيَّنينَ بأن يَقِفوا ويُقَدِّمُوا تَعليمًا، أو عَقيدةً، أو إعلانًا، أو أيَّ شَيءٍ مِن هَذا القَبيل.
إذًا، كَانَ يُوجَدُ في المَجمَعِ مُعَلِّمونَ رَسميُّونَ وغَيرُ رَسمِيِّينَ، وَكانَ يُوجَدُ في الكَنيسةِ مُعَلِّمونَ رَسميُّونَ وغَيرُ رَسمِيِّينَ أيضًا. وَهَذا ليسَ غَريبًا عَنَّا. فَنَحنُ نَفعلُ ذلكَ حَتَّى الآن. وفي كَنيسَتِنا، على سَبيلِ المِثال، يُوجَدُ رُعاةٌ مُعَلِّمونَ بِصِفَةٍ رَسميَّةٍ، ومُبَشِّرونَ، ومُعَلِّمونَ مُفْرَزونَ تَحديدًا لوظيفةِ التَّعليم. كَما أنَّ أشخاصًا كَثيرينَ مِنكُم يُعَلِّمون. فرُبَّما تُعَلِّمونَ في دَرسِ كِتابٍ في البُيوت، أو تُعَلِّمونَ في صَفٍّ للأطفال، أو تَقِفونَ وَتُعَلِّمونَ عَقيدةً، أو تَقولونَ كَلِمَةً مِن عِندِ الرَّبِّ، أو تَشرَحونَ شَيئًا مِنَ الكِتابِ المُقَدَّسِ في اجتِماعٍ مَسيحيٍّ أو في اجتِماعٍ مِن هَذا القَبيل. لِذا، لا أَظُنُّ أنَّنا نُريدُ أن نَضَعَ قُيودًا على مَا يَقولُهُ يَعقوب. لِنَرجِع إلى الآيةِ ونَرى مَا يَقول:
إنَّهُ يَقولُ بِصورةٍ رَئيسيَّةً مَبدأً بَسيطًا: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِين". ولا أعتقدُ أنَّهُ يُمكِنُنا أن نُحَمِلَ النَّصَّ أكثرَ مِمَّا يَقولُهُ هُنا. احذَرُوا عندما تَقْبَلونَ خِدمَةَ التَّعليمِ على أيِّ مُستَوى؛ أيْ سَواءَ كَانَ ذلكَ على المُستوى الرَّسمِيِّ أو غَيرِ الرَّسمِيِّ بسببِ القُدرةِ الهَائلةِ لِلِسَانِكَ على جَلْبِ الدَّينونَة. فَنحنُ نَقرأُ في الأصحاحِ الأوَّل والعَدد 19: "إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّم". وَهُوَ يَقولُ ذلكَ في سِياقِ التَّحدُّثِ بكلمةِ اللهِ إذْ يَجِب أن نَكونَ مُسْرِعينَ في سَماعِ كلمةِ اللهِ، ومُبْطِئينَ في التَّكَلُّمِ بها. وعلى الرَّغمِ مِن ذلك، هُناكَ كَثيرونَ يُريدونَ أن يَفْتَخِروا، ويُريدونَ أن يَحصُلوا على السُّلطَةِ والكَرامَةِ؛ ولكِنَّهُم لا يُفَكِّرونَ البَتَّة في المَسؤوليَّةِ والمُساءَلَةِ الَّتي يَنطَوي عليها ذلكَ العَمَل.
وعندَما عَلَّمَ بولسُ تيموثاوسَ أَشارَ إلى ذلكَ في الأصحاحِ الأوَّلِ مِن رِسالَتِهِ الأولى إلى تيموثاوس. فَهُوَ يَقولُ: "الأُمُورُ الَّتِي إِذْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْهَا، انْحَرَفُوا إِلَى كَلاَمٍ بَاطِل". ثُمَّ في العَددِ السَّابِع: "يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي النَّامُوسِ، وَهُمْ لاَ يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ، وَلاَ مَا يُقَرِّرُونَهُ". وَقد كَانَ ذلكَ يَحدُثُ في كَنيسةِ أفسُس. وَلا شَكَّ في أنَّ ذلكَ كَانَ يَحدُثُ في وَسَطِ القِدِّيسينَ المُجْتَمِعينَ الَّذينَ يَكتُبُ إليهم يَعقوبُ قَائِلاً إنَّ هُناكَ أشخاصًا مِنهُم يَطمَحونَ في أن يَكونوا مُعَلِّمينَ دُونَ أن تَكونَ لَديهِم أدنَى فِكرة عَنِ العَواقِبِ المُحتَمَلَةِ للتَّعليمِ الزَّائِف. وَهَذهِ حَقيقةٌ مُرعِبَة. وَيَنبغي تَحذيرُ أيِّ شَخصٍ يَطْمَحُ في أن يَكونَ مُعَلِّمًا. فَيَعقوبُ لا يَكْبَحُ أيَّ شَخصٍ مَوهوبٍ حَقًّا. وَهُوَ لا يَكبَحُ أيَّ شَخصٍ مُؤهَّلٍ حَقًّا. وَهُوَ لا يَكْبَحُ أيَّ شَخصٍ تَلَقَّى دَعوةً حَقيقيَّة. وَهُوَ لا يَكبَحُ الأشخاصَ المُخْلِصينَ الَّذينَ يَملِكونَ المَعرفةَ اللاَّزِمَة.
ولكِنَّهُ يَقول: "احرِصُوا كُلَّ الحِرْصِ على مَعرفةِ خُطورةِ التَّعليمِ قَبلَ أن تَفْتَحُوا أفواهَكُم". وَهُوَ لا يُوَجِّهُ الكَلامَ إلى المُعَلِّمينَ الزَّائِفينَ فقط، بَل أيضًا إلى الأشخاصِ الجُهَّالِ، وَغيرِ المُؤهَّلينَ، وغيرِ المُستعِدِّينَ، وإلى المُعَلِّمينَ الَّذينَ تَلَقَّوْا تَعليمًا زَائِفًا". فَقد قالَ مُوسَى لِهارون: "هذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ" [في سِفْرِ اللاَّويِّين 10: 3]. وأريدُ أن أقولَ لَكُم إنَّ هذهِ الجُملةَ لَصَقَتْ في ذِهني مُنذُ وَقتٍ طَويل. "هذَا مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ". وهُناكَ شَيءٌ جَعَلْتُهُ طِلْبَةً دَائِمةً في قَلبي كُلَّما صَلَّيْتُ إلى الرَّبِّ قبلَ أن أَعِظَ وَهِي: "يا رَبُّ، أرجوكَ أن تَجعَلَني أقولَ مَا تُريدُ مِنِّي أن أقول". ولا يَجوزُ لأيِّ مُعَلِّمٍ أن يَقولَ شَيئًا آخر – البَتَّة. فَهِيَ مَسؤوليَّةٌ كَبيرةٌ لا يَجوزُ أن نَنظُرَ إليها باستِهانَةٍ أوِ استِخفاف.
وَمَسؤوليَّةُ المُعَلِّمُ تُذكَرُ مَرَّتَيْن في سِفْرِ حِزْقيال: مَرَّةً في الأصحاحِ الثَّالِثِ والعَدَدَيْن 17 و18، ومَرَّةً أخرى في الأصحاحِ الثَّالثِ والثَّلاثين والأعداد 7 و8 و9 حيثُ يُحَذَّرُ المُعَلِّمُ تَحذيرًا قَوِيًّا بأنَّهُ يُشبِهُ المُراقِبَ الَّذي يَقِفُ على السُّورِ لِتَحذيرِ الشَّعب، وَبأنَّهُ يَجدُرُ بِهِ أن يَكونَ حَذِرًا وَأن يُراقِبَ بأمانَة؛ وَإلاَّ فإنَّ دِمَاءَهُم سَتُطلَبُ مِن يَدَيْه. بِعبارةٍ أخرى، هُناكَ مَسؤوليَّةٌ كَبيرة. وبولسُ يَتَنَهَّدُ تَنهيدةَ رَاحَةٍ وَهُوَ يَقولُ في الأصحاحِ العِشرين مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُل: "[أَنَا] بَرِيءٌ مِنْ دَمِ الْجَمِيعِ، لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ اللهِ". فَقد قُمْتُ بِواجِبي. ونَقرأُ في الرسالةِ إلى العِبرانِيِّين 13: 17 أنَّنا سَنُعطي حِسابًا للهِ عَن كَيفيَّةِ قِيادَتِنا وَتَوجيهِنا وَتَعليمِنا لشَعبِ الله. فالأمرُ خَطيرٌ حَقًّا.
وَحَتَّى إنَّنا لَسنا بِحاجةٍ إلى النَّظرِ إلى مَقاطِعَ مِثلَ رِسالة بُطرس الثَّانية والأصحاحِ الثَّاني، أو رِسالة يَهوذا حيثُ يُعْلِنُ اللهُ دَينونةً رَهيبةً على المُعَلِّمينَ الكَذَبة. ولكِنْ يَجِب حتَّى على الشَّخصِ الَّذي يُعَلِّمُ الحَقَّ أن يَفهَمَ شَيئًا عنِ المَسؤوليَّةِ الهَائلةِ الَّتي تَقَعُ على عَاتِقِهِ بِسَببِ قِيامِهِ بذلك. لِذا، هَل نَتَعَجَّبُ حينَ نَسمَعُ أنَّهُ عِندَما وَقَفَ "جون نوكس" (John Knox) أوَّلَ مَرَّةً على المِنبَر بَكَى ولم يَتمكَّن مِنَ السَّيطرةِ على نَفسِهِ حَتَّى إنَّهُم اضْطُرُّوا إلى مُساعَدَتِهِ على النُّزول لأنَّهُ كانَ مُثَقَّلاً جدًّا بالمَهَمَّةِ الَّتي سَيَقومُ بها؟ مِن هُنا يَأتي التَّحذيرُ بِعَدمِ الإسراعِ في قَبولِ خِدمةِ التَّعليم. وَقد شَاركتُ مَعَ مَجموعَةٍ مِنَ الخُدَّامِ في كَنيسَتِنا في هَذا الأسبوعِ اقتِباسًا مِن وَاعِظٍ يُدعَى "بروس ثيلمان" (Bruce Thielemann) قَال: "لا يُوجَد شَرَفٌ خَاصٌّ في الوَعظ، بَل يُوجَد فقط أَلَمٌ خَاصّ. فَالمِنْبَرُ يَدعُو الأشخاصَ المَمسوحِينَ إليهِ كَما يَدعو البَحرُ بَحَّارَتَهُ. وَكَما هِيَ حَالُ البَحرِ فإنَّهُ يَهيجُ وَيَرتَفِعُ وَلا يَستريح. لِذا فإنَّ الوَعظَ، أيِ الوَعظَ الحَقيقيَّ، يَعني أن تَموتَ عُريانًا شَيئًا فَشيئًا، وَأن تَعلَمَ في كُلِّ مَرَّةٍ تَعِظُ فيها أنَّهُ يَنبغي لكَ أن تَفعلَ ذلكَ مَرَّةً أخرى" [نِهايةُ الاقتباس].
"لا تَزيدُوا أعدادَ الوُعَّاظ" [كَما يَقولُ أَحَدُ المُتَرْجِمين]. لماذا؟ لأنَّ اللِّسانَ يَمْلِكُ قُدرةً فَائقةً على الإدانَة. فنحنُ نَقرأُ في العَددِ الأوَّل: "عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ". وضَميرُ المُتَكَلِّمِ بِصيغَةِ الجَمْعِ يُشيرُ إلى الاقتِران. فَيَعقوبُ يَقْرِنُ نَفسَهُ بالمُعَلِّمين. فَهُوَ لا يُريدُ أن يُحَذِّرَ الآخرينَ مِن دُونِ أن يُحَذِّرَ نَفسَهُ. فَهُوَ تَحذيرٌ قَوِيٌّ يَختصُّ بِمسؤوليَّةِ أيِّ شَخصٍ يُعَلِّم. فَنحنُ نَتَحَمَّلُ مَسؤوليَّةً عَظيمةً أمامَ اللهِ عندما نُعَلِّمُ بأيِّ مُستوى. لِذا فإنَّنا نَقرأُ في الرِّسالةِ الثَّانيةِ إلى تيموثاوس 2: 2: "اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ للهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَة". فَهُناكَ خِزْيٌ مُرتبطٌ بتَعليمِ الضَّلال. وَهُناكَ أيضًا دَينونةٌ مُرتبطةٌ بتَعليمِ الضَّلال.
لِذا فإنَّنا نَقرأُ في الرِّسالةِ الأولى إلى تيموثاوس والأصحاحِ الرَّابع أنَّ الرَّسولَ بولسَ يَقولُ لتيموثاوس: "مُتَرَبِّيًا بِكَلاَمِ الإِيمَانِ وَالتَّعْلِيمِ الْحَسَنِ الَّذِي تَتَبَّعْتَهُ. وَأَمَّا الْخُرَافَاتُ الدَّنِسَةُ الْعَجَائِزِيَّةُ فَارْفُضْهَا". ثُمَّ إنَّهُ يَقولُ لَهُ في النَّصِّ نَفسِهِ: اعْكُفْ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْوَعْظِ وَالتَّعْلِيم". ثُمَّ: "اهْتَمَّ بِهذَا". ثُمَّ: "لاَحِظْ نَفْسَكَ وَالتَّعْلِيم". فَالمَسألةُ مُهِمَّةٌ جدًّا جدًّا. والكلمة "دَينونة" هِيَ "كريما" (krima). وَهِيَ لَفظةٌ مُحايدَة؛ ولكِنَّها تُستخدَمُ عُمومًا في العهدِ الجديدِ للتَّعبيرِ عَنِ الدَّينونةِ السَّلبيَّة. والفِعلُ المُستقبَلِيُّ هُنا يُشيرُ على الأرجَحِ إلى الدَّينونَةِ الَّتي سَتَحدُثُ في المُستقبلِ عندما سنَقِفُ أمامَ الرَّبّ. وبالنِّسبةِ إلى المُعَلِّمِ الزَّائِفِ غَيرِ المُخَلَّص، سيَحدُثُ ذلكَ في المَجيءِ الثَّاني، في تلكَ الدَّينونَةِ الرَّهيبةِ وذلكَ الوقتِ الَّذي تَحَدَّثَ عَنهُ يَهوذا عندما قَالَ: "هُوَذَا قَدْ جَاءَ الرَّبُّ فِي رَبَوَاتِ قِدِّيسِيهِ لِيَصْنَعَ دَيْنُونَةً عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُعَاقِبَ جَمِيعَ فُجَّارِهِمْ عَلَى جَمِيعِ أَعْمَالِ فُجُورِهِمِ الَّتِي فَجَرُوا بِهَا، وَعَلَى جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الصَّعْبَةِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا عَلَيْهِ خُطَاةٌ فُجَّارٌ". وَهُوَ يَتحدَّثُ هُنا عَنْ نِطاقِ التَّعليمِ الزَّائِف. لِذا فإنَّ الدَّينونةَ المُستقبليَّةَ لِغيرِ المُؤمِنِ ستَكونُ عِندَ المَجيءِ الثَّاني للمَسيح. والدَّينونَةُ المُستقبَليَّةُ لِغَيرِ المُؤمِنِ ستَكونُ بِلا أَدنَى شَكٍّ أمامَ عَرشِ المَسيحِ عندما نَقِفُ وَجهًا لِوَجهٍ أمامَهُ لكي يَأخُذَ كُلٌّ مِنَّا الشَّيءَ الَّذي يَستَحِقُّهُ. ونَقرأُ في الأصحاحِ الرَّابعِ مِنَ الرِّسالةِ الأولى إلى أهلِ كورِنثوس إنَّ الرَّبَّ: "سَيُنِيرُ خَفَايَا الظَّلاَمِ وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ".
ثُمَّ إنَّ بُولسَ يَقول: "انظُروا، سوفَ أنتظرُ إلى أن يَحينَ ذلكَ الوقت لِتَقييمِ خِدمَتي. فَرَأيُكُم ليسَ مُهِمًّا، وَرَأيي ليسَ مُهِمًّا؛ بَل إنَّ رَأيَ اللهِ هُوَ المُهِمُّ. وَأنا أَخدِمُ في ضَوْءِ مَا هُوَ آتٍ". وأُريدُ أن أقولَ لَكُم إنَّني سُئِلْتُ في مُناسَباتٍ عَديدةٍ: لِمَنْ أُحَضِّرُ عِظاتي. وَقَد سَألنَي أَحَدُ المُراسِلينَ الصَّحَفِيِّين: "إنْ كَانتِ الصُّحُفُ اليَومِيَّةُ تُكْتُبَ بِلُغَةٍ مَفهومَةٍ لمُستوى طَلَبَةِ الصَّفِّ الثَّامِن، إلى مَنْ تُحَضِّرُ عِظاتِك؟" فَأجَبْتُ قَائِلاً: "قَد لا تَفهَمُ مَا سَأقولُهُ، ولكِنِّي أُحَضِّرُ عِظاتي لله. فَمَا يَعْنيني فقط هُوَ أن أُرضِي اللهَ، وَأنْ أُمَجِّدَ اسمَهُ، وَأنْ تُعامَلَ كَلِمَتُهُ بإنصافٍ وَصِدْق". وإن شَعَرْتُ بأنِّي قَصَّرْتُ في ذلكَ فإنَّ حَياتي تَصيرُ جَحيمًا لا يُطاقُ بالنِّسبةِ إليَّ.
لِذا فإنَّ تَعليمَ كلمةِ اللهِ أمرٌ خَطيرٌ جدًّا لأيِّ شَخصٍ بسببِ قُدرةِ اللِّسانِ على قَولِ الضَّلالِ، أوِ قَولِ الخطأ، أوِ التَّكَلُّمِ بأمورٍ غيرِ لائِقَةٍ، أو إساءةِ تَمثيلِ المَسيحِ أوِ الرُّوحِ القُدُس. وَهَذا هُوَ السَّببُ في تَرَدُّدِ الرَّسولِ بولُس. وَقد ظَلَّ مُتَرَدِّدًا إلى أنْ شَعَرَ بأنَّهُ مَحْصُورٌ بالقيامِ بذلك. ولَعَلَّكُم تَذكُرونَ أنَّهُ اهْتَدى اهتِداءً عَجيبًا وَهُوَ في طَريقِهِ إلى دِمَشق؛ ولكِنَّهُ استَغرَقَ وَقتًا طَويلاً جدًّا قَبلَ أن يَبتَدِئَ في صِياغَةِ الأمورِ المُختصَّةِ بالله. وَقَدْ أَخَذَهُ اللهُ إلى الصَّحراءِ العَربيَّةِ وَدَرَّبَهُ مُدَّةَ سَنَتَيْن ثُمَّ أعادَةُ بعدَ أن صَارَ مُستعدًّا لإعلانِ الكلمة. فهذهِ مَسؤوليَّةٌ كَبيرة.
وَقد تَقول: "ولكِن رُبَّما يَستطيعُ بَعضٌ مِنَّا أن يَتجنَّبَ هذهِ المَسؤوليَّة". انظروا إلى العَددِ الثَّاني: "لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا". والمَعنى الضِّمنِيُّ لِكَلامِ يَعقوب هُنا هُوَ أنَّ الفَمَ عَثَرَة كَبيرة بِكُلِّ تَأكيد. فَكُلُّ إنسانٍ يُخطِئُ بِطُرُقٍ لا حَصْرَ لَها. وهذهِ الطَّريقةُ تَحديدًا [أيِ: الفَم] هيَ السَّبَبُ في إصدارِ هَذا التَّحذيرِ بخصوصِ الإسراعِ في قَبولِ خِدمةِ التَّعليم. فَهُوَ يَقولُ: "لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا". وَهذهِ كلمةٌ تُشيرُ إلى فَسادِ كُلِّ شَخص. فنحنُ نَقرأُ في سِفْر الأمثال 20: 9: "مَنْ يَقُولُ: «إِنِّي زَكَّيْتُ قَلْبِي، تَطَهَّرْتُ مِنْ خَطِيَّتِي»؟" الجَوابُ هُوَ: لا أَحَد. ونَقرأُ في سِفْرِ أخبارِ الأيَّامِ الثَّاني 6: 36: "لَيْسَ إِنْسَانٌ لاَ يُخْطِئُ". وَلا يُمكِنُكم، يا أحبَّائي، أن تَقولوا ذلكَ بكلماتٍ أوضَح مِن هَذِه. "لَيْسَ إِنْسَانٌ لاَ يُخْطِئُ". "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ".
إذًا، نَحنُ جَميعُنا نُخطِئ. وَنَحنُ نُخطِئُ بطَرائِق عَديدة. والكلمةُ المُستخدَمَةُ هُنا [وَهِيَ: "نَعْثُر"] هِيَ كَلِمَةٌ مُرادِفَةٌ للكلمة "نُخطِئ". وَهِيَ تُشيرُ إلى العَثَرَةِ الأخلاقِيَّةِ، أو إلى عَدَمِ القِيامِ بِالصَّواب. وَالإساءةُ إلى اللهِ هِيَ الفِكرةُ هُنا. فَنحنُ جَميعًا نَفعلُ ذلك. وَهِيَ تَرِدُ بصيغةِ المُضارِع. فَنحنُ جَميعُنا نَفعلُ ذلكَ عَادَةً. ونَحنُ جَميعُنا نَفعلُ ذلكَ بطَرائقَ عَديدة. فَنَحنُ جَميعُنا نَعْثُرُ دَائِمًا بطريقةٍ أو بأخرى في القِيامِ بِما هُوَ صَواب. واللِّسانُ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الأشياءِ الرَّئيسيَّةِ جدًّا جدًّا الَّتي نُعْثُرُ فيها. لِذا فإنَّهُ يَستطيعُ أن يَدينَنا. والآن، في حينِ أنَّ هَذا الكَلامَ هُوَ، بِطريقةٍ أو بأخرى، اعترافٌ مِن جِهَةِ يَعقوب، فإنَّهُ يَميلُ إلى كَونِهِ إقرارًا بالحَقِّ أكثرَ مِمَّا هُوَ اعتِرافٌ شَخصيٌّ. فَما يَقولُهُ هُوَ: "لا تُسَارِعُوا في صَرْفِ حَياتِكُم في استِخدامِ فَمِكُم إنْ كُنتُم تُدرِكونَ خُطورَتَهُ الشَّديدة. فَلأنَّكُم خُطاةٌ، يَجِبُ عليكُم أن تَقبَلوا خِدمةَ التَّعليمِ بِتَرَدُّدٍ وليسَ باستِعجال".
والكِتابُ المُقَدَّسُ يُشيرُ إلى خُطورةِ الفَمِ الشَّديدة. وَقد كَتَبْتُ لائِحَةً بالأشياءِ الَّتي وَجَدْتُها في الكتابِ المقدَّس. فالكِتابُ المُقَدَّسُ يُشيرُ بِطريقةٍ مُبَاشِرَةٍ أو غير مُباشِرَةٍ إلى اللِّسانِ الشِّرِّيرِ، واللِّسانِ الغَشَّاش، واللِّسانِ الكَاذِبِ، واللِّسانِ المُعْوَجِّ، واللِّسانِ البَذيءِ، واللِّسانِ الفَاسِدِ، واللِّسانِ المُرِّ، واللِّسانِ الغَاضِبِ، واللِّسانِ المَاكِرِ، واللِّسانِ المَلِقِ، واللِّسانِ المُفْتَري، واللِّسانِ النَمَّامِ، واللِّسانِ المُغْتابِ، واللِّسانِ المُجَدِّفِ، واللِّسانِ الأحمَق، واللِّسانِ المُتَكَبِّر، واللِّسانِ المُدَمْدِم، واللِّسانِ المُتَذَمِّر واللِّسانِ اللاَّعِن، واللِّسان المُشاكِس، واللِّسان الحِسِّيّ، واللِّسان الدَّنيء، واللِّسان الوَاشِي، واللِّسان المُرَوِّج للإشاعات، واللِّسان المُبالِغ، وَهَلُّمَّ جَرَّا. هَل تَرى نَفسَكَ في أيِّ مَوضِعٍ هُناك؟ لا عَجَبَ أنَّ اللهَ وَضَعَ لِسانَكَ في قَفَصٍ خَلفَ أسنانِك مُحاطًا بِسُوْر فَمِك!
واسمَحوا لي أن أقولَ إنَّ أغلبيَّةَ المَشاكِل مُرتبطة باللِّسان – أغلَبَها. وَقد قالَ أحدُ الأشخاص: "تَذَكَّر أنَّ لِسانَكَ مَوجودٌ في مَكانٍ رَطْبٍ وَأنَّهُ قَد يَنزَلِقُ بِسهولة". فأسهلُ طَريقةٍ لاقترافِ الخَطيَّةِ هِيَ أنْ تُخطِئَ بِلِسانِك. وَلا يُوجَدُ شَيءٌ يُمَثِّلُ خَطيئةَ الإنسانِ أكثرَ مِن فَمِه. وَلا تُوجَد طَريقةٌ أسهلُ لاقترافِ الخَطِيَّةِ مِن أن تُخطِئَ بِلسانِك لأنَّكَ تَستطيعُ أن تَقولَ أيَّ شَيءٍ تُريدُ أن تَقولَهُ. فَلا تُوجَد قُيود. فَلا يُمكِنُكَ أن تَعمَلَ أيَّ عَمَلٍ شِرِّيرٍ تُريدُ أن تَعمَلَهُ لأنَّ الظُّروفَ قَد لا تَكونُ مُواتِيَةً لِقيامِكَ بذلك. ولكِنَّكَ تَستطيعُ أن تَقولَ أيَّ شَيءٍ بِلا استِثناء. ولكِنَّ لِسانَكَ يَمْلِكُ قُدرةً هَائلةً على إدانَتِك. وإن أردنا أن نَنظُرَ إلى هَذهِ النُّقطةِ مِن وُجْهَةِ نَظَرِ رَبِّنا، افتَحُوا على إنجيل مَتَّى والأصحاحِ الثَّاني عَشَر... إنجيل مَتَّى 12: 34 تَحديدًا:
وَهُنا، كانَ يَسوعُ يَخوضُ نِقاشًا مُحْتَدِمًا جِدًّا مَعَ الفَرِّيسيِّينَ الَّذينَ اتَّهَمُوهُ بأنَّهُ يَعملُ أعمالَهُ بقُوَّةِ جَهَنَّمَ لا السَّماء. وَقد رَدَّ يَسوعُ عَليهم في العَدد 34 وَقال: "يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي! كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟" وَهذهِ حَقيقةٌ بَديهيَّةٌ وَحَسْب. وَسوفَ يَذكُرُ يَعقوبُ هَذا المَبدأَ في وَقتٍ لاحِق. "كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ؟ فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْب يَتَكَلَّمُ الْفَمُ". أيْ: أنا أتوقَّعُ مِنكُم أن تَتكلَّمُوا بالطَّريقةِ الَّتي تَتكلَّمونَ بها لأنَّ قَلبَكُم هَكذا. "اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنَ الْكَنْزِ الصَّالِحِ فِي الْقَلْب يُخْرِجُ الصَّالِحَاتِ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنَ الْكَنْزِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشُّرُورَ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ [لاحِظُوا مَا يَقولُهُ هُنا]: إِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ بَطَّالَةٍ يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ سَوْفَ يُعْطُونَ عَنْهَا حِسَابًا يَوْمَ الدِّينِ. لأَنَّكَ بِكَلاَمِكَ تَتَبَرَّرُ وَبِكَلاَمِكَ تُدَانُ»". يا لَها مِن كَلِمات!
اسمَعُوا مَا يَلي: هَل تُدركُ أنَّ مَصيرَكَ في الدَّينونةِ الأخيرةِ قَد يَتقرَّرُ وَفقًا لِكَلامِك؟ وَقد تَقول: "كُنتُ أَظُنُّ أنَّني أَتبرَّرُ بالإيمانِ بيسوعَ المسيح!" هَذا صَحيح، ولكِنَّ التَّبريرَ الَّذي تَحصُلُ عليهِ بيسوعَ المسيحِ سيَظهَرُ مِن خِلالِ كَلماتِك. لِذا، قَد تُدانُ حَرفِيًّا بِحَسَبِ كَلامِكَ لأنَّ كَلامَكَ يَشِي بِكَ وَيُظهِرُ حَالَةَ قَلبِك. لِذا، في النِّهاية، يُمكِنُ القولُ إنَّكَ سَتُدانُ بِكلامِكَ حَيْثُ إنَّكَ إمَّا سَتَذهبُ إلى مَلكوتِ اللهِ وَإمَّا سَتُطرَدُ مِنَ المَلَكوت. مِن خِلالِ كَلامِك. وَقد تَقول: "وَهَلِ الرَّبُّ يَحتَفِظُ بِسِجِلٍّ لكُلِّ كَلِمَةٍ يَقولُها كُلُّ إنسان". هَذا أمرٌ سَهلٌ بالنِّسبةِ إليه. وَحَتَّى إنَّهُ ليسَ مُضطَرًّا إلى كِتابَتِها.
هَل تَعلَمونَ أنَّ العِلمَ لَديهِ شَيءٌ مُدهِشٌ يَقولُهُ؟ فَقد قَرأتُ قَبلَ سَنَواتٍ مَضَتْ عَن رَجُلٍ فَتَحَ جِهازَ التِّليفزيون في بَيتِهِ في لُندن بإنجلترا وَرأى بَرنامَجًا مُدَّتُهُ نِصفُ سَاعَة يُبَثُّ مِن تِكساس. وَقد كانَ لَديهِ فُضولٌ شَديدٌ بخصوصِ البَرنامَجِ فاتَّصَلَ بالمَحَطَّةِ للسُّؤالِ عَنه؛ ولكِنَّهُ صُدِمَ حينَ عَلِمَ أنَّ هَذا البَرنامَجَ هُوَ بَرنامَجٌ مَحَلِّيٌّ تَمَّ بَثُّهُ قَبلَ ثَلاثِ سَنوات. والتَّفسيرُ العِلْمِيُّ الوَحيدُ المَعقولُ الَّذي قَدَّموهُ لكيفيَّةِ التِقاطِهِ لذلكَ البَرنامَجِ على جِهازِ التِّليفزيونِ الخَاصِّ بِهِ هُوَ أنَّ البَرامِجَ الَّتي تُبَثُّ عَبْرَ الأثيرِ تَبقى مَوجودةً هُناك. وبِطريقةٍ مَا، وَجَدَ ذلكَ البَرنامَجُ طَريقَهُ إلى جِهازِ الاستِقبالِ لَديه. والعُلماءُ يَقولونَ إنَّ المَوجاتِ الصَّوتِيَّةَ الصَّادِرَةَ عَن أيِّ صَوتٍ تَبقى مَوجودةً إلى الأبد في الفَضاء.
وَإن كانت لَدينا الأجهزةُ اللاَّزِمَةُ، وَلا شَكَّ في أنَّها أجهزةٌ مُتطوِّرةٌ وَمُعَقَّدةٌ، وَإنْ كانت لدينا القُدرةُ على استِرجاعِ تلكَ الأمواجِ، يُمكِنُنا أن نُعيدَ كُلَّ كلمة قَالَها كُلُّ شَخصٍ. وَهذا أمرٌ مُرعِب! ولكِنَّ اللهَ لَديهِ هذا الجِهاز! لِذا، مِنَ المَعقولِ أن نَقولَ إنَّ كلماتِ البَشَرِ ستَكونُ أساسَ إدانَتِهم لأنَّها تَستطيعُ بِكُلِّ تَأكيدٍ أن تَحْكُمَ حُكْمًا دَقيقًا على نُفوسِهم. فَقلبُ الإنسانِ هُوَ المُستودَع. وَكلماتُهُ تُشيرُ إلى مَا أَوْدَعَهُ في ذلكَ المُستودَع. فنحنُ نَقرأُ في سِفْرِ الأمثال 15: 28: "فَمُ الأَشْرَارِ يُنْبعُ شُرُورًا". لِذا، عندما تُكَرِّسُ حَياتَكَ للمَسيح، وَتَتَغيَّرُ حَياتُكَ، وَتَحصُلُ على قَلبٍ جَديد، يَنبغي أن تَتَفَوَّهَ بِكَلماتٍ جَديدة. ولا شَكَّ في أنَّكَ سَتَحصُلُ على تلكَ المَوهبةِ العَظيمة.
فأنا أُوْمِنُ بأنَّ اللهَ يُعطينا قَلبًا جَديدًا، وَأنَّهُ يُعطينا مَعَهُ أيضًا لِسانًا جَديدًا. ولكِنَّ ذلكَ اللِّسانَ الجَديدَ هُوَ أيضًا ضَحِيَّة لطَبيعَتِنا السَّاقطةِ القَديمة. أليسَ كذلك؟ لِذا فإنَّ يَعقوبَ يَقول: "اضبُط لِسانَكَ لأنَّهُ يَمْلِكُ القُدرةَ على إدانَتِكَ". ثَانِيًا، إنَّهُ يَمْلِكُ القُدرةَ على السَّيطرة. فَالأمرُ لا يَقتَصِرُ على أنَّهُ يَمْلِكُ القُدرةَ على الإدانَة، بل إنَّهُ يَمْلِكُ القُدرةَ على السَّيطرة. وَهذا أمرٌ مُدهِشٌ جدًّا. وَأرجو أن نَتمكَّنَ مِن فَهْمِ هذهِ الفِكرةِ الرُّوحيَّةِ المُهِمَّة. فَكُلُّ شَخصٍ يُخطِئُ بِلسانِه. ويَعقوبُ يَقولُ في العَددِ الثَّاني: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ [أو لا يُخطِئُ في الكَلام] فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ". فالأشخاصُ الوَحيدونَ الَّذينَ لا يُخطِئونَ بأفواهِهِم هُمُ الكَامِلون. والآن، هُناكَ جَدَلٌ مُمتِعٌ بِخُصوصِ مَا يَعنيهِ يَعقوبُ هُنا.
فَهَل يَعني "كَامِل" ("تيليوس" – "teleios))؛ أيْ هَل يَعني "كَامِل" بِمَعنى الكَمالِ المُطلَقِ كاللهِ أوِ المَسيح؟ رُبَّما يَعني ذلك. فَرُبَّما يَعني أنَّهُ إنْ كانَ الإنسانُ لا يَعثُرُ البَتَّة في كَلامِهِ، أو لا يُسيءُ في كَلامِهِ، فإنَّهُ يَكونُ إنسانًا كَامِلاً تَمامًا". وَهَذا صَحيح. وَإن كانَ يَعني ذلك فإنَّهُ يَقولُ في الحَقيقة: "لا يُوجَدُ شَخصٌ كَامِلٌ فيكُم. لِذا، عَليكُم أن تَنْسَوْا فِكرةَ أنَّكُم قَد لا تَعثُرونَ في كَلامِكُم لأنَّ الأشخاصَ الكَامِلينَ هُمُ الوَحيدونَ الَّذينَ لا يَعثُرون. وَلا يُوجَدُ إنسانٌ كَامِل". مِن جِهَةٍ أخرى، رُبَّما يَستخدِمُ يَعقوبُ الكلمة "تيليوس" (teleios) للتَّعبيرِ عَنِ النُّضْج. لِذا فإنَّ مَا يَقولُهُ بالمعنى العَامِّ هُوَ: إنْ لم يَكُنِ الإنسانِ يَستَمِرُّ في التَّعَثُّرِ بِفَمِهِ أو كَلامِهِ فإنَّهُ إنسانٌ نَاضِجٌ؛ أيْ أنَّهُ نَاضِجٌ رُوحِيًّا. وَهُوَ يُشبِهُ المَسيحَ؛ مَعَ أنَّهُ ليسَ مِثلَ المَسيحِ تَمامًا.
وَلا أعتقد أنَّنا نَعرِفُ تَمامًا المَعنى الَّذي قَصَدَهُ يَعقوبُ، ولكِن لِنَقبَل كِلا التَّفسيرَيْنِ وَنَفتَرِض أنَّ يَعقوبَ يَقولُ إنَّكَ إن لم تَعثُر بِفَمِكَ فإنَّكَ كَامِلٌ. وَلا يُمكِنُ لأيِّ إنسانٍ أن يَكونَ كَامِلاً. ولكِنْ إنْ ضَبَطْتَ لِسانَكَ فإنَّكَ تُظهِرُ نُضجًا رُوحِيًّا. وأنا أَميلُ إلى هَذا الرَّأي. فيَعقوبُ يَقولُ إنَّ الأشخاصَ النَّاضِجينَ رُوحِيًّا هُمُ الوَحيدونَ الَّذينَ يَستطيعونَ أن يَضبِطُوا لِسانَهُم. والشَّخصُ الوَحيدُ الَّذي عَاشَ يَومًا وَضَبَطَ لِسانَهُ تَمامًا هُوَ يَسوعُ المَسيح. وفي إنجيل يوحنَّا 7: 46، هَل تَذكرونَ مَاذا قَالُوا؟ "لَمْ يَتَكَلَّمْ قَطُّ إِنْسَانٌ هكَذَا مِثْلَ هذَا الإِنْسَان!". فَقد كانَ كَامِلاً في كَلامِهِ... كَامِلاً تَمامًا دُونَ أن يُخطِئ. اسمَعوا مَا يَلي: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ". فَلم تَكُن هُناكَ خَطِيَّة في حَياتِهِ، ولم تَكُن هُناكَ خَطِيَّة في فَمِه.
لِذا، يُمكِنُنا أن نَقولَ إنَّهُ إنْ كُنَّا نَتَمَثَّلُ في قَداسَتِنا إلى حَدٍّ مَا بِقداسَةِ المَسيحِ، وَإنْ كُنَّا نَحرِصُ على أن نَكونَ عَلى صُورَتِهِ إلى حَدٍّ مَا، يَنبغي لَنا أيضًا أنْ نَتَمَثَّلَ بِهِ في كَلامِنا. وانظُروا إلى مَا يَقولُهُ يَعقوبُ في العَددِ الثَّاني: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَعْثُرُ فِي الْكَلاَمِ فَذَاكَ رَجُلٌ كَامِلٌ، قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا". "قَادِرٌ أَنْ يُلْجِمَ كُلَّ الْجَسَدِ أَيْضًا". والآن، افهَمُوا مَا يَلي: إنَّ هذهِ الفِكرةَ هِيَ فِكرةٌ رُوحِيَّةٌ عَمليَّةٌ رَائعةٌ جدًّا. ولا أَظُنُّ أنِّي فَهِمتُ هذهِ الفِكرةَ فَهمًا حَقيقيًّا مِن قَبل. فإنْ تَمَكَّنَ الإنسانُ مِن ضَبْطِ لِسانِهِ فإنَّهُ سيَتمكَّنُ مِن ضَبْطِ مُيولِهِ الشِّرِّيرةِ في كُلِّ جَسَدِه. وَهَذا يُشيرُ إلى شَخصيَّتِه. والآن، كيفَ وَصَلْتَ إلى هذهِ النَّتيجةِ يا يَعقوب؟ اسمَعوني:
حيثُ إنَّ اللِّسانَ يُعَبِّرُ تَمامًا عَنْ حَالِ القَلبِ، وَحيثُ إنَّهُ يَستطيعُ أن يُخطِئَ أكثرَ مِن أيِّ عُضوٍ آخرَ في الجَسَد، فإنَّ الظُّروفَ قَد تَمْنَعُكَ مِنَ اقترافِ الخَطِيَّةِ بِشَتَّى الطُّرُقِ بجسدِكَ، ولكِنَّكَ تَستطيعُ دَائِمًا أنْ تُخطِئَ بِلِسانِك. وحيثُ إنَّ اللِّسانَ يَستطيعُ أن يُخطِئَ بسُهولةٍ مُطلَقَةٍ، وحيثُ إنَّهُ مِقياسٌ جَيِّدٌ لِحَالَتِنا السَّاقِطَةِ، إنِ استَطعتَ أن تَضبُطَ لِسانَكَ [الَّذي هُوَ أكبرُ خَاطِئٍ في جَسَدِكَ]، فَإنَّكَ مِنْ خِلالِ فَضيلَةِ ضَبْطِ الخَاطِئِ الأكبرِ تَستطيعُ أن تَضْبِطَ الخَاطِئَ الأصغَر. هَل تَفهَمونَ ذلك؟ فالشَّخصُ الَّذي يَستطيعُ أن يَضبِطَ لِسانَهُ يَستطيعُ أيضًا أن يَضْبِطَ جَسَدَهُ وَكُلَّ شَهَواتِهِ. فَحَيثُ إنَّ اللِّسانَ يَتجاوَبُ حَالاً، وبسُرعة أكبر، وبسهولة أكبر مَعَ الخطيَّة، عِندَما يُضْبَطُ فإنَّ الأعضاءَ الأقَلَّ تَجاوُبًا مَعَ الخَطِيَّةِ ستُضْبَطُ أيضًا لأنَّ وَسيلةَ النِّعمةِ الإلهيَّةِ الَّتي تَسري على العُضوِ الأكثرِ خُطورة سَتَسري أيضًا على الأعضاءِ الأقَلّ خُطورةً. يا لَها مِن فِكرةٍ رائعة!
وَهَل تَعلَمونَ مَا مَعنى ذلكَ بالنِّسبةِ إليَّ؟ إنَّ المَقصودَ بذلكَ هُوَ أنَّهُ إنْ أردتُ أن أُرَكِّزَ حَياتي المَسيحيَّةَ على شَيءٍ وَاحِدٍ، وَإن أردتُ أن أَضبِطَ نَفسي، وَإن أردتُ أن أَجعلَ كُلَّ حَياتي الرُّوحيَّةَ تَحتَ السَّيطرةِ، يَنبغي لي أن أضْبِطَ مَاذا؟ لِسَاني. والآن، نَحنُ نُدركُ أنَّنا لا نَستطيعُ أن نَحصُلَ على فَمٍ مُقَدَّسٍ تَمامًا، ولكِنْ بِقَدرِ مَا يَضبِطُ الإنسانُ لِسانَهُ فإنَّهُ يَضبِطُ جَسَدَه. لماذا؟ لأنَّ القُوَى الَّتي تَضْبِطُ لِسانَكَ سَتَضبِطُ بَقِيَّةَ أعضائِكَ. ولكِنْ سيَكونُ مِنَ الأسهل والأفضَل أن نُرَكِّزَ على اللِّسان. أليست هذهِ نَصيحَة عَمليَّة؟ فَيُمكِنُنا أن نُرَكِّزَ فقط على ذلك. رَكِّز وَحَسْب على فَمِكَ. وَإنْ تَمَكَّنَ الرُّوحُ القُدُسُ مِنْ ضَبْطِ ذلكَ العُضوِ الأخطرِ وَالأقوى، سيَتمكَّنُ مِن ضَبْطِ بَقيَّةِ الأعضاء.
يَحكي "وارين ويرسبي" (Warren Weirsbe) قِصَّةً عَن صَديقٍ لَهُ يَرعَى إحدى الكَنائِسِ جَاءَ إليهِ وَقالَ إنَّهُ تُوجَدُ سَيِّدَةٌ في كَنيسَتِهِ تُحِبُّ النَّميمَةً جدًّا. فَهِيَ تَصرِفُ اليَومَ كُلَّهُ على الهَاتِف، وتُذيعُ الأخبارَ على مَسامِعِ جَميعِ الأشخاصِ الَّذينَ يُبدونَ استِعدادًا لِسَماعِها. وَقَد جَاءت إلى هَذا الرَّاعي الَّذي هُوَ صَديقُ "وارين ويرسبي" ذاتَ يَومٍ وَقالت لَهُ: "حَضرةَ الرَّاعي، لَقْد بَكَّتَني الرَّبُّ على نَميمَتي. فَلِساني يُوقِعُني ويُوقِعُ الآخرينَ في المَتاعِب!" ويَقولُ ويرسبي: "عَرَفَ صَديقي الرَّاعي أنَّ تلكَ السِّيِّدة ليست صَادِقَةً لأنَّها فَعَلت ذلكَ الشَّيءَ مَرَّاتٍ كَثيرةً مِن قَبل. لِذا فقد سَألَها: ’وَما الَّذي تَعْتَزِمينَ القِيامَ بِهِ؟‘ قَالت بِوَرَعٍ شَديد: ’أريدُ أن أَضَعَ لِساني على المَذبَح‘" فَقالَ لَها صَديقي بِهُدوء: ’لا يُوجَدُ مَذبَحٌ كَبيرٌ يَتِّسِعُ لِلِسانِك!‘"
لا أريدُ أن أُجادِلَ ذلكَ الرَّاعي، ولكِن أعتقدُ أنَّهُ يُوجَدُ مَذبَحٌ كَبيرٌ يَتَّسِعُ لِلِسانِها. وأعتقدُ أنَّهُ يَجِبُ علينا أن نُرَكِّزَ على فَمِنا. وَهذا هُوَ مَا يَقولُهُ يَعقوب. وَيا لَهُ مِن أمرٍ بَسيطٍ جدًّا: رَكِّز فقط على مَا تَقولُه، وَعلى كُلِّ مَا تَعنيهِ النِّعمة. فالتَّكريسُ الرُّوحِيُّ الكَفيلُ بِضَبْطِ لِسانِكَ سَيَضْبِطُ بَقِيَّةَ أعضائِك. وَقَد عَبَّرَ المُرَنِّمُ عن ذلكَ بالطَّريقةِ التَّاليةِ في المَزمور 39: 1: "قُلْتُ: «أَتَحَفَّظُ لِسَبِيلِي مِنَ الْخَطَإِ بِلِسَانِي. أَحْفَظُ لِفَمِي كِمَامَةً...»". وَهذهِ نُقطةُ بِدايةٍ جَيِّدة يا أحبَّائي. إنَّها نُقطةُ بِداية جَيِّدة. ولكي يُساعِدكُم يَعقوبُ على فَهمِ ذلكَ فإنَّهُ يَذكُرُ مَثَلَيْنِ إيضاحِيَّيْنِ إذْ نَقرأُ في العَددِ الثَّالث: "هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ".
وَهَذا هُوَ المَثَلُ الإيضاحِيُّ الأوَّل. وَهَذا مَثَلٌ إيضاحِيٌّ رَائعٌ جدًّا. فَهُوَ يُرينا أنَّهُ إنْ ضَبَطْتَ اللِّسانَ فإنَّكَ تَضبُطُ كُلَّ شَيءٍ. وَهُوَ يَستخدِمُ الخَيْلَ. فكيفَ تَضبُطُ حِصانًا؟ أنتَ تَضبُطُ الحِصانَ مِن خِلالِ ضَبْطِ لِسانَهُ. فأنتَ تَضَعُ قِطعَةً حَديديَّةٌ في فَمِ الحِصان. وَهِيَ تُلامِسُ لِسانَهُ. ثُمَّ إنَّكَ تَضَعُ سَيْرًا مِنْ جِلْدٍ في طَرَفِيِّ اللِّجامِ وَتَشُدُّهُ حَولَ رَأسِهِ فيَصيرُ لَديكَ لِجَامٌ. وعِندَما تَشُدُّ اللِّجامَ فإنَّكَ تَشُدُّ تِلكَ القِطعةَ الحَديديَّةَ فَوقَ لِسانِ الحِصان. لِذا فإنَّهُ مَثَلٌ إيضاحِيٌّ جَيِّدٌ جدًّا. فَمِن خِلالِ التَّحَكُّمِ بِلِسانِ الحِصانِ فإنَّكَ تَتَحَكَّمُ في حَرَكاتِه. والحِصانُ، بالمُناسَبَة... اسمَحوا لي أن أقولَ لَكُم شَيئًا: إنَّ الحِصانَ عَديمُ النَّفْعِ مِن دُونِ ذلكَ اللِّجام. هَل تَعرِفونَ أيَّ حِصانٍ تَقَدَّمَ طَوْعًا لِحِراثَةِ حَقْلٍ مَا؟ أيْ أنَّهُ جَاءَ يَومًا مِن تِلقاءِ نَفسِهِ وَقال: "أَوَدُّ أن أَحرُثَ حَقلَكَ يا سَيِّدي". أو هَل سَمِعتُم يَومًا عَن حِصانٍ تَطَوَّعَ لِجَرِّ عَرَبَة؟ وَهَل سَمِعتُم يَومًا عَن حِصانٍ تَطَوَّعَ لِحَمْلِ إنسان؟
فَيَجِبُ عَليكَ أن تُرَوِّضَ الحِصانَ أوَّلاً. أليسَ كذلك؟ يَجِبُ عليكَ أن تُرَوِّضَهُ بأنْ تَضَعَ لِجامًا في فَمِهِ وَتُسَيطِر على كُلِّ جَسَدِهِ مِن خِلالِ السَّيطرةِ على لِسانِهِ. فَحِينئذٍ فقط يُمكِنُكَ أن تُوَجِّهَ كُلَّ الجَسَد. وَهَذا هُوَ مَا يَقولُهُ يَعقوب. فَإنْ ضَبَطْتَ لِسانَكَ فإنَّكَ تَضبُطُ كُلَّ جَسَدِك. فَكُلُّ شَيءٍ سَيَسيرُ على مَا يُرام. يَا لَهُ مِن مَثَلٍ إيضاحِيٍّ رَائع! والحَقيقةُ هِيَ أنَّ هَذا المَثَلَ كَانَ رَائِعًا جدًّا حَتَّى إنَّهُ رُبَّما كَانَ مَثَلاً يَستخدِمُهُ الكُتَّابُ والحُكَماءُ دَائِمًا في ذلكَ الزَّمانِ والمَكان. وَرُبَّما استَعَارَ يَعقوبُ ذلكَ المَثَلَ هُنا. ولكِنَّ النُّقطةَ وَاضِحَة. فَمِن خِلالِ ضَبْطِ اللِّسانِ فإنَّ الحَياةَ بأسرِها تُوَجَّهُ في الاتِّجاهِ الصَّحيح. وَمِن دُونِ ضَبْطِ اللِّسانِ فإنَّ الحِصانَ يَكونُ عَديمَ النَّفع. وَهَل تُريدونَ أن تَعلَموا شَيئًا؟ إنَّ الحِصانَ غَيرَ المُرَوَّض، والَّذي لا يُوجَدُ في فَمِهِ لِجامٌ، هُوَ حِصانٌ لا يَصلُحُ البَتَّة لأيِّ شَيءٍ، بَل يَتَسَكَّعُ هُنا وَهُناكَ وَحَسْب.
ويَضْرِبُ يَعقوبُ مَثَلاً إيضاحِيًّا آخرَ في العَددِ الرَّابعِ إذْ يَقول: "هُوَذَا السُّفُنُ أَيْضًا، وَهِيَ عَظِيمَةٌ بِهذَا الْمِقْدَارِ، وَتَسُوقُهَا رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ، تُدِيرُهَا دَفَّةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا إِلَى حَيْثُمَا شَاءَ...الْمُدِير"، أو "حَيْثُما شَاءَ قَصْدُ المُدير". وَهَذا مَثَلٌ إيضاحِيٌّ رَائعٌ آخر. فالسَّفينةُ ضَخْمَةٌ. وَقد تَقولُ: "ولكِنَّهُم لم يَكونوا يَمْلِكونَ سُفُنًا ضَخمةً آنذاك!" بَلى! فالسَّفينةُ المَذكورةُ في الأصحاحِ السَّابِع والعِشرين مِن سِفْرِ أعمالِ الرُّسُلِ، إنْ كُنتُ أَذكُرُ جَيِّدًا، كَانت تَحْمِلُ مِئتينِ وسِتَّة وسَبعينَ رَاكِبًا عَلى مَتْنِها. وَهَذا يَعني أنَّها سَفينةٌ ضَخمةٌ هَاجَتْ عَلَيْهَا رِيحٌ زَوْبَعِيَّةٌ يُقَالُ لَهَا "أُورُوكْلِيدُونُ"؛ وَهِيَ رِيْحٌ شَمالِيَّةٌ شَرقِيَّةٌ قَويَّة. فَتلكَ السَّفينةُ الضَّخمةُ أَبْحَرَتْ في البَحرِ المُتوسِّطِ وَفَقَدَ قُبْطانُها السَّيطرةَ عليها بِكُلِّ تَأكيدٍ في الأصحاحِ السَّابِعِ والعِشرين؛ ولكِنَّها في الأحوالِ الطَّبيعيَّةِ تَكونُ تَحتَ السَّيطرةِ بِواسِطَةٍ دَفَّةٍ صَغيرة. فَتِلكَ الدَّفَّةُ الصَّغيرةُ تَتَحَكَّمُ بتلكَ السَّفينةِ الضَّخمَة.
وَقَدْ سَافَرْتُ في هذا الصَّيفِ على مَتْنِ سَفينةٍ ضَخمةٍ تَزِنُ نَحوَ سَبعينَ ألفَ طُنٍّ. إنَّها مَدينة! فَهِيَ حَقًّا مَدينةٌ كَامِلَةٌ عَائِمَةٌ تَحْمِلُ آلافَ البَشَر. وَهِيَ تُبْحِرُ بواسِطَةِ هَذهِ الدَّفَّةِ الصَّغيرة. وَقد ذَهبتُ إلى مَقصورَةِ القُبطانِ وَرأيتُ دَفَّةَ السَّفينةِ حيثُ كَانَ يُوجَدُ شَخصٌ يُمْسِكُ بتلكَ الدَّفَّةِ الصَّغيرةِ بِيَدِهِ ويُحَرِّكُ تِلكَ المَدينةَ في كُلِّ مَكانٍ وَأيِّ مَكانٍ يُريد، ويَقتَرِبُ بِها مِنْ رَصيفِ المِيناءِ دُونَ حَتَّى أنْ تَرْتَطِمَ بِهِ! فَهُوَ تَحَكُّمٌ هَائِل! وَهَذا هُوَ مَا يَقولُهُ يَعقوب. فإن تَمَكَّنْتَ وَحَسْب مِنْ ضَبْطِ هَذا اللِّسانِ الصَّغيرِ، يُمكِنُكَ أن تُحَرِّكَ كُلَّ شَيءٍ آخر. والفِكرةُ هِيَ كَما يَلي، استَمِعُوا إليها: القُوَّةُ المُستخدَمَةُ في المَكانِ الصَّحيحِ تَكفي للتَّحَكُّمِ بِكُلِّ السَّفينة. والقُوَّةُ المُستخدَمَةُ في المَكانِ الصَّحيحِ، الَّذي هُوَ الفَمُ، يَكفي للتَّحَكُّمِ بكُلِّ الإنسان.
وَهذهِ هِيَ النُّقطةُ الثَّانية. فيَعقوبُ يَقولُ: يَجِبُ عليكَ أن تُسيطِرَ على لِسَانِكَ بِسَبَبِ قُدرَتِهِ على السَّيطرةِ عليك... بِسَبَبِ قُدرَتِهِ على السَّيطرةِ عليك. تَفَوَّهْ فَقَط بالكلامِ المُمتَلِئ نِعمَةً. وَهَل يُمكِنُني أن أَكونَ عَمَلِيًّا جدًّا مَعَكُم؟ تَكَلَّمُوا فقط كَلامًا مُمتلئًا نِعمةً. تَكَلَّمُوا فقط كَلامًا لَطيفًا. تَكَلَّمُوا فقط كَلامًا مُحِبًّا، وكَلامًا صَادِقًا، وكَلامًا يُراعِي مَشاعِرَ الآخرين، وكَلامًا مُقَدَّسًا، وكَلامًا مُفْعَمًا بالحَساسِيَّة، وكَلامًا يَبنِي. تَكَلُّموا كلماتٍ لَطيفة، وكَلماتٍ مُعَزِّية، وكَلِماتٍ مُفعَمَة بالبَرَكة، وكلماتٍ مُفعَمَة بالتَّواضُع، وكلماتٍ مُفعَمَة بالحِكمَة، وكلماتٍ مُفْعَمَة بالشُّكر. تَكَلُّموا كلماتٍ خَالية مِنَ الأنانِيَّة، وكلماتٍ مُفعَمَة بالسَّلام. فإن فَعلتُم ذلكَ ستَضبُطونَ بَقِيَّةَ الأجزاءِ في حَياتِكُم لأنَّ الطَّريقةَ الوَحيدةَ الَّتي تَستطيعونَ مِن خِلالِها أن تَفعلوا ذلكَ كُلَّهُ هِيَ أنْ تَكونوا تَحتَ سَيطرةِ رُوحِ الله. ولكِنَّ النُّقطةَ الرَّئيسيَّةَ الَّتي يَنبغي أن تُرَكِّزُوا عليها هِيَ أن تَضبُطُوا لِسانَكُم.
وَهَذا يُبَسِّطُ الأمرَ كُلَّهُ. فَلِسانُكَ يُشبِهُ مِفْتاحَ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ. وَقد كَتَبَ أَحَدُ الشُّرَّاحِ قَائِلاً: "إن كانَ لِسانُنَا تَحتَ السَّيطرةِ تَمامًا حَتَّى إنَّهُ يَرفُضُ التَّفَوُّهَ بكلماتِ الإشفاقِ على الذَّات، والتَّعبيرِ عَن صُوَرِ الشَّهوةِ، وَأفكارِ الغَضَبِ والامتِعاضِ، فَإنَّ تلكَ الأشياءَ تُستَأصَلُ قَبلَ أن تَرى النُّور. فَمِفْتاحُ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ جَرَّدَها مِن أيَّةِ قُوَّةٍ في ذلكَ الجَانِبِ مِن حَياتِنا. لِذا فإنَّ ضَبْطَ اللِّسانِ هُوَ أكثر مِن مُجَرَّدِ دَليلٍ على النُّضْجِ الرُّوحيِّ لأنَّهُ أيضًا الوَسيلةُ لِتَحقيقِ ذلك". فَهُوَ مِفْـتاحُ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ. يَا لَها مِن فِكرةٍ رَائعة! فَهُناكَ مِفتاحُ تَحَكُّمٍ رَئيسيٍّ خَلفَ مَنزِلي في لَوحَةِ المَفاتيحِ الَّتي تَحوي الكَثيرَ مِنَ المَفاتيحِ الصَّغيرةِ في لَوحَةِ القَواطِعِ الكَهُربائِيَّة. هُناكَ مِفتاحٌ في الأسفل هُوَ مِفتاحُ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ.
ويُمكِنُكُم أن تُطفِئوا أيَّ شَيءٍ تُريدونَهُ. فيُمكِنُكُم أن تَتَحَكَّمُوا في الكَهرُباءِ في كُلِّ جُزءٍ في المَنزِلِ بواسِطَةٍ تلكَ المَفاتيحِ الصَّغيرة، أو يُمكنُكم أن تقْطَعُوا الكَهرُباءَ عَن كُلِّ المَنزِلِ مِن خِلالِ مِفتاحِ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ. وَحينئذٍ، لا حَاجَةَ إلى العَبَثِ بتلكَ المَفاتيحِ الصَّغيرةِ الأخرى. وَهَذا هُوَ مَا يَقولُهُ هَذا الكَاتِب. فَلِسانُكَ هُوَ مِفتاحُ التَّحَكُّمِ الرَّئيسيّ. فإنْ أَحْكَمْتَ السَّيطرةَ على ذلكَ الشَّيء، لَن يَعمَلَ أيُّ شَيءٍ آخر. فَكُلُّ الأشياءِ الأخرى تَصيرُ عَديمَةَ الأهميَّة. وَهُوَ يُلَخِّصُ كُلَّ ذلكَ في العَددِ الخَامِسِ إذْ يَقول: "هكَذَا اللِّسَانُ أَيْضًا، هُوَ عُضْوٌ صَغِيرٌ وَيَفْتَخِرُ مُتَعَظِّمًا". تَوَقَّفُوا هُنا. مَا الَّذي يَقصِدُهُ؟ إنَّهُ يَفْتَخِرُ وَيَتباهَى بأمورٍ كَثيرة. هَل تَعلَمونَ لِماذا؟ لأنَّهُ يَستطيعُ أن يَفعلُ أشياءً عَظيمة. فَهُوَ مُقْتَدِرٌ. وَهُوَ يَفْتَخِرُ بِقُدرَتِهِ على التَّحَكُّم. وَهُوَ يَستطيعُ حَقًّا القِيامَ بذلك.
فَهُوَ أداةٌ قَويَّة. وَهُوَ يَستطيعُ أن يُطيحَ بالنَّاسِ، ويَستطيعُ أن يَهْدِمَ كَنائس، ويَستطيعُ أن يَهْدِمَ العَلاقاتِ، ويَستطيعُ أن يَفْسَخَ زِيْجاتٍ، ويَستطيعُ أن يَهْدِمَ عَائلَةً، ويَستطيعُ أن يُمَزِّقَ أُمَّةً، وَيَستطيعُ أن يَدفَعَ إنسانًا إلى اقتِرافِ جَريمةِ قَتل، ويَستطيعُ أن يُنْشِبَ حَرْبًا. مِن جِهةٍ أخرى، يَستطيعُ اللِّسانُ أن يَبني، ويَستطيعُ أن يُوَلِّدَ مَحبَّةً، وَحَماسَةً، وَتَشجيعًا، وَتَعزيةً، وسَلامًا، وفَرَحًا. فَاللِّسانُ شَيءٌ قَوِيٌّ وفَعَّال. وَإنْ تَمَكَّنَّا مِن ضَبْطِهِ والسَّيطرةِ عليهِ، يُمكِنُهُ أن يُسيطِرَ على بَقِيَّةِ الأشياءِ فينا. لِذا فإنَّ يَعقوبَ يَقول: "انظُروا إلى كَلامِكُم. هَل هُوَ كَلامُ إيمانٍ حَيٍّ؟ وَأَخْضِعُوا أنفُسَكُم لِسَيطرةِ لِسانِكُم بسببِ قُدرَتِهِ على إدانَتِكُم وَقُدرَتِهِ على التَّحَكُّمِ بِكُم". يا لَها مِن كَلِماتٍ عَمليَّةٍ لَنا! دَعونا نَحني رُؤوسَنا مَعًا حَتَّى نُصَلِّي":
وَقَبلَ أن نُصَلِّي، هُناكَ أشياءٌ كَثيرةٌ أخرى تُقال. وَأنا أَشعُرُ حَقًّا أنَّ الرَّبَّ سيُعَلِّمُنا المَزيدَ حينَ نَدرُسُ الجُزءَ التَّالي مِن هذا النَّصِّ في يَومِ الرَّبِّ المُقبِل. ولكِن دَعونا نَتَعَاهَد مَعًا. وَهَذا أمرٌ أَشْعُرُ بِهِ في قَلبي طَوالَ الأسبوع؛ ولكنِّي لم أُفْصِح عَنهُ. وَقد قَاومتُ الإعلانَ عَلَنًا عَمَّا أَعْتَزِمُ القِيامَ بِهِ، ولكنِّي طَلَبتُ مِنَ الرَّبِّ أن يُساعِدَني يَومِيًّا على أن أبتَدِئَ كُلَّ يَومٍ بالصَّلاةِ إليهِ مِن قَلبي أن يَعْمَلَ بِروحِهِ على ضَبْطِ لِساني... أنْ يَعْمَلَ بِروحِهِ على ضَبْطِ لِساني. فَفي نِهايةِ المَطافِ، نَحنُ نَقرأُ في الرِّسالةِ إلى أهلِ كُولوسي والأصحاحِ الثَّالثِ إنَّني إنْ لَبَسْتُ الإنسانَ الجَديدَ، يَنبغي لي أن أَطْرَحَ عَنِّي كُلَّ غَضَبٍ، وَسَخَطٍ، وَخُبْثٍ، وَتَجْدِيفٍ، وَكَلاَمٍ قَبِيحٍ مِنْ فَمي، وَألاَّ أَكْذِبَ على أيِّ شَخصٍ، وَأنْ أَخْلَعَ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرة.
فَإنْ كُنتُ خَليقةً جَديدةً في المَسيح، لا يُوجَدُ مَكانٌ لهذهِ الأشياء. وكيفَ يُمكِنُني أن أَضْبِطَ كُلَّ تِلكَ الجَوانِبِ مِن حَياتي؟ يَقولُ يَعقوبُ: "اضبُط لِسانَك". لِذا، لِنَتعاهَد في قُلوبِنا كُلَّ يَومٍ على أن نَبتَدِئَ كُلَّ يَومٍ بِبَذْلِ جُهْدٍ وَاعٍ طَوالَ اليَومِ على أن أجْعَلَ فَمي أداةً للنِّعمَةِ والبَرَكَةِ والحَقِّ لِجَميعِ مَن يَسمَعُني أَتَكَلَّم. فَعندَما أُكَرِّسُ نَفسي لِضَبْطِ لِساني بِقُوَّةِ رُوحِ اللهِ فإنَّ كُلَّ شَيءٍ آخر سيَكونُ تَحتَ السَّيطرة. دَعونا نُصَلِّي في صَمْتٍ، وليَدْعُ كُلُّ واحِدٍ مِنَّا رُوحَ اللهِ إلى العَملِ بتلكَ الطَّريقةِ في حَياتِنا. يَا أبَانا، نَسألُكُ أن تُعطينا النِّعمةَ بِروحِكَ على أن نَضبِطَ لِسانَنا.
وَحَتَّى بالنِّسبةِ إلينا نَحنُ المَفديِّينَ الَّذينَ نَمْلِكُ إيمانًا حَيًّا، والَّذين تَغَيَّرْنا حَقًّا، وحَصَلنا على قَلبٍ جَديدٍ... عَلى قَلبٍ يَفْتَكِرُ بأشياءٍ صَالِحَةٍ، فإنَّنا نَجِدُ أنَّهُ مَا تَزالُ هُناكَ أشياءٌ كَثيرةٌ عَتيقةٌ في جَسَدِنا. لِذا فإنَّنا نَسألُكَ يا رَبُّ أن تُساعِدَنا على أن نَخْضَعَ للرُّوحِ مِنْ جِهَةِ لِسانِنا حَتَى يَكونَ كَلامُنا مُفْعَمًا دَائِمًا بالنِّعمةِ، وَمُمَلَّحًا بِمِلْحٍ، وَيَبني الآخرين. سَامِحْنا وَاغفِر لَنا يا رَبُّ لأنَّنا نُسيءُ الكَلامَ كَثيرًا جدًّا. وَقَدِسْ أفواهَنا وَكُلَّ أجسادِنا لِأجلِ مَجْدِكَ أنتَ. باسمِ المَسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.