
شُكرًا لَكُم على حُضورِكُم في هذا المساء. سوفَ أَرتَدي قُبَّعةَ الأستاذ والمؤرِّخ في هذا المساء. فأنا مُعتادٌ على أنْ أَنهضَ وأقول: "افتَحوا كِتابَكُم المُقدَّس"، ولكِنَّ هذا لن يُجْدِ نَفعًا لأنَّ الكَهنوتَ الكاثوليكيَّ ليسَ قائمًا بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ على الكتابِ المقدَّس. لِذا، لا يُمكِنُنا أنْ نَنطَلِقَ مِنْ هُناك. وأنا أَوَدُّ أن أُحَدِّثَكُم عن فَضيحةِ اللَّاهوتِ لأنَّهُ مِنَ الواضحِ أنَّنا جميعًا على دِرايةٍ كبيرة بالمأساةِ الهائلة الَّتي تَحدُثُ أمامَنا مِنْ جِهَةِ الفَسادِ الأخلاقيِّ المُتَفَشِّي في وَسْطِ الكَهَنَة الكاثوليك. وما أَوَدُّ أنْ أَفعلَهُ هو أنْ أَستعرِضَ الأمرَ تَاريخيًّا لإعطاءِ صُورة أوضَح عَمَّا يَجري في الكَهنوت. ولكي أَفعلَ ذلك، يجب أن أتحدَّثَ قليلاً عن فَضيحةِ الكَهنوتِ نَفسِها. لِذا، سوفَ يَكونُ هُناكَ تَلاعُبٌ بالكلماتِ نَوعًا مَا، وسوفَ أَستخدِمُ قليلاً أُسلوبَ التَّورِيَة [إنْ جَازَ القَوْل] عندما أتحدَّثُ عن فَضيحةِ الكَهَنوت. وأنا لا أتحدَّثُ وَحَسْب عنِ الفضيحةِ الَّتي تَجري حاليًّا، بل أتحدَّثُ عنِ فضيحةِ الكَهنوتِ ذاتِهِ بأسرِها كَبُنْيَة هَرَمِيَّة تقومُ عليها الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة.
واسمحوا لي أن أُعطيكُم خَلفيَّة صغيرة. فهناكَ الكَثيرُ لِيُقال عنِ لاهوتِ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. ويُمكنُنا أنْ نَكشِفَ عُيوبَهُ الَّتي هي كثيرة. ويُمكننا أنْ نَتحدَّثَ عن مَصدرِ الإعلانِ لديها، أو عنْ ما يُزعَمُ بأنَّهُ حَقٌّ إلهيٌّ مُستَمَدٌّ مِن خارجِ الكتابِ المقدَّس. أو يُمكننا أن نَتحدَّثَ عن فَسادِ القُدَّاسِ. ويمكننا أن نتحدَّثَ عن فِكرةِ أنَّ مَريمَ هي شَريكةُ يَسوعَ في الفِداء (وهي، بِكُلِّ تأكيدٍ، فِكرة تَجديفيَّة). ويمكننا أن نتحدَّثَ عن فكرةِ أنَّ اللهَ قَاسٍ، وأنَّهُ إنْ أرادَ شَخصٌ أنْ يَحصُلَ على النِّعمة مِنَ اللهِ، فإنَّ يسوعَ هو الوحيدُ الَّذي يَستطيعُ الحُصولَ عليها مِنه؛ ولكِنْ لا يُمكِنُكَ أنْ تتوقَّعَ أنْ تَلتجئَ إلى يَسوعَ نَفسِهِ لأنَّهُ قاسٍ أيضًا. لِذا، يجب عليكَ أنْ تَلتجئَ إلى مَريم لأنَّهُ لا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ أنْ يَرفُضَ طَلَبًا لأُمِّهِ. لِذا فإنَّها سَتَطلُبُ مِنْهُ، وهو سيَطلُبُ مِنَ الآبِ. وسوفَ تَحصُلُ لكَ مَريم على ما تُريد. أو يُمكِنُكَ أنْ تَلتجئَ إلى أحدِ القِدِّيسين. فهناكَ أُمورٌ كثيرة يمكننا أن نَتحدَّث عنها (مِثلَ عَقيدةِ المَطْهَر، وَعَقيدةِ خُلُوِّ مَريم مِنَ الخطيَّة).
فهناكَ الكثيرُ مِنَ الأمورِ المُختصَّةِ باللَّاهوتِ الكاثوليكيِّ يُمكننا أن نَتحدَّثَ عنها؛ ولا سِيَّما عن عَقيدَتِهِم المَغلوطة المُختصَّة بالتَّبرير لأنَّها تَحرِمُ النَّاسَ مِنْ مَلكوتِ الله. ولكِنْ ما أُريدُ أن أتحدَّثَ عنهُ هو فَضيحةُ الكَهنوتِ إذْ أُريدُ أن أُطلِعَكُم بصورة رئيسيَّة على ما هو الكَهنوتُ في الأصل. ونحنُ على دَرايَةٍ جَيِّدةٍ بالكَهنوتِ الكاثوليكيّ. فقد نَشَأنا على رُؤيتِهِم في مُجتَمَعِنا (هُمْ والرَّاهِبات). ونحنُ نَراهُم على شاشاتِ التِّلفزيون طَوالَ الوقت. ونحنُ نَقرأُ عنهم في الصُّحُف. وقبلَ انتشارِ أيَّة فَضائح، كُنَّا نُدرِكُ جَيِّدًا جِدًّا وُجودَهُم. والكثيرونَ مِنكُم، في أيَّامِ شَبابِهم، تَأثَّروا أوْ أُعجِبُوا بِصُورةِ الكاهِنِ الَّذي يَرتدي ثَوبَهُ الأسود ويَقومُ بتلكَ الطُّقوسِ الدِّينيَّةِ في الكنيسةِ الكاثوليكيَّة الَّتي كُنتُم تذهبونَ إليها في طُفولَتِكُم. لِذا فإنَّنا جَميعًا نَعلمُ أنَّ هُناكَ هَالَة مُقَدَّسَة تُحيطُ بهؤلاءِ الأشخاص، وأنَّهُم إلى حَدٍّ ما ليسوا أَرضِيِّينَ، بل أَسمى مِن ذلك. ويجب علينا أنْ نَضَعَ هذا الأمرَ في نِصابِهِ الصَّحيح.
لِذا، اسمَحوا لي أنْ أبتدئَ بالحديثِ عنِ الأساسِ الإلهيِّ للتَّسَلسُلِ الهَرَمِيِّ. فهُناكَ (في العقيدة الكاثوليكيَّة) قَناعَة بأنَّ مَصدَرَ التَّسلسُلِ الهَرَمِيِّ في الكنيسة الكاثوليكيَّة هو المَسيح. وهذا يَعني أنَّ يسوعَ المسيحَ نَفسَهُ هو الَّذي مَنَحَ الكنيسة الكاثوليكيَّة بُنيَتَها الهَرَمِيَّة. وبصورة أساسيَّة، فإنَّ هذا يُفْضي إلى مَناصِب دينيَّة تَتَفَرَّعُ مِنها ثلاثُ فِئاتٍ مِنَ السُّلطة. فالكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ الرُّومانيَّةُ تَتحدَّثُ عنِ السُّلْطَة التَّعليميَّة، وَتتحدَّثُ عنِ السُّلْطةِ الرَّعويَّة، وتَتحدَّثُ عنِ السُّلْطةِ الكَهنوتيَّة. والسُّلطة التَّعليميَّة هي ما تُفْهَمُ مِنَ اسمِها. أيْ أنَّهُم يَتكلَّمونَ بِسُلطانٍ باسمِ الكنيسة، وأنَّ الكنيسةَ هي المُفَسِّرُ الوحيدُ الصَّحيحُ للكتابِ المُقدَّس. فَهُمْ لا يَتكلَّمونَ باسمِ الكتابِ المقدَّسِ، بل باسمِ الكنيسة. فهذه هي سُلطَتُهُم التَّعليميَّة.
وَهُمْ يَمتلكونَ أيضًا سُلطة رَعويَّة. والطَّريقةُ الَّتي يُعَرِّفونَ فيها ذلكَ غَريبة حقًّا. فبحسبِ العقيدة الكاثوليكيَّة فإنَّ هذه السُّلطة تُعَرَّفُ بأنَّها "تَشريعيَّة"، وَ "قَضائيَّة"، وَ "جَزائيَّة". فَفِكرَتُهُم عنِ الخِدمةِ الرَّعويَّةِ هي ليست تقديم التَّعزية والرِّعاية والتَّعاطُف، بل هي تَشريعيَّة، وقضائيَّة، وجَزائيَّة. فَهُمْ يَضَعونَ قَوانينَ يُلزِمونَ بها النَّاسَ. وَهُمْ يُقَرِّرونَ ما إذا كانَ النَّاسُ قدِ انتَهَكوا هذهِ القوانين أَمْ لا. وَهُمْ يُقَرِّرونَ العُقوبة. وعلى مَرِّ السِّنين، تَراوَحَتْ تلكَ العُقوبةُ بينَ الحِرْمانِ الكَنَسِيِّ والإعدام.
ثالثًا، إنَّهُم يَمتلكونَ سُلطة كَهنوتيَّة. وما يَعنيهِ ذلك [ببساطة] هو السُّلطة لإسباغِ النِّعمة مِنْ خِلالِ الأسرارِ المُقَدَّسة. فَهُمْ يَقولونَ في عَقيدَتِهم إنَّ هذه السُّلْطاتِ الثَّلاثِ تُوازي عَمَلَ المسيحِ الثُّلاثيّ بِوَصفِهِ نَبِيًّا وكاهنًا ومَلِكًا. وقد اتَّضَحَ مَعنى عَقائِدِهم تمامًا بِفَضْلِ الإصلاح. فالإصلاحُ هو الَّذي جَعَلَهُم يُطْلِقونَ اللَّعْنَات. ونحنُ جَميعًا نَعرِفُ قِصَّةَ الإصلاحِ إلى حَدٍّ ما عندما جاءَ "مارتن لوثر" (Martin Luther) وَ "زوينغلي" (Zwingly) وَ "كالفن" (Calvin) وَ "ميلانختون" (Melanchthon) وَهاجَموا النِّظام. وقد اضْطُرَّ النِّظامُ إلى الرَّدِّ. وإحدى الطُّرُقِ التي استخدموها في الرَّدِّ هي أنَّهُم رَسَّخوا أقدامَهُم في الأرضِ، ولم يُغَيِّروا شيئًا، وأصَرُّوا على أنَّ ما آمَنُوا بِهِ دائمًا هو الحَقّ. ثُمَّ إنَّهُم لَعَنوا كُلِّ شخصٍ آخر لا يُؤمِنُ بذلك.
ولكِنْ بسببِ ما حَدَث، اضطُرُّوا إلى تَوضيحِ عَقيدَتِهِم الَّتي لم تَتغيَّر. وواحدٌ مِنَ الأشياءِ الَّتي عَارَضَ فيها المُصْلِحونَ الكنيسةَ الكاثوليكيَّةَ الرُّومانيَّةَ هو الكَهَنوت. فقد رَفَضَ المُصْلِحونَ تمامًا فِكرةَ وُجودِ كَهنوتٍ خَاصٍّ، وَرَفَضوا أيضًا التَّسلسُلَ الهَرَمِيَّ الكاثوليكيَّ الَّذي يَقومُ بصورة رئيسيَّة على تَرَأُّسِ البابا للكنيسة، ثُمَّ يَليهِ الأساقفة الَّذينَ يَختارونَ مِنهُم كَرادِلَة (Cardinals)، ثُمَّ يأتي الكَهَنَة، ويأتي بَعدهُم الشَّمامِسَة. فقد رَفَضَ المُصلِحونَ ذلكَ وَنادُوا بِالكَهنوتِ العَامِّ لِجَميعِ المُؤمِنين. وقد قالَ "مَجْمَعُ ترنت" (The Council of Trent) إنَّ أيَّ شخصٍ يَرفُضُ الكهنوتَ الخاصَّ لِيَكُنْ مَلعونًا. فقد أصدَروا لَعنةً بهذا الخُصوص. فقد أرادوا أنْ يَحتفظوا بِالتَّسَلسُلِ الهَرَمِيِّ لديهم لأنَّ ذلكَ كانَ أمرًا لازِمًا بالنِّسبةِ إليهم كي يَحتَفِظُوا بالسُّلطة. وَهُمْ يَقولونَ إنَّ المسيحَ [بالطَّبع] هو الرَّأسُ الأعلى المُطلَق للكنيسة، ولكِنَّهُ يُمارِسُ سُلطَتَهُ الحقيقيَّة مِنْ خِلالِ رَجُلٍ واحدٍ هُوَ "البَابَا" الَّذي يَقومُ بِمُمارسةِ تلكَ السُّلطة مِنْ خِلالِ أساقفة. ثُمَّ إنَّ الكَهَنَة يُنَفِّذونَ المَهامَّ الَّتي يُقَرِّرُها ذلكَ التَّسَلسُلُ الهَرَمِيُّ.
فالبَابا هو الرَّأسُ في التَّسلسُلِ الهَرميِّ الكاثوليكيّ. والبابا [بِحَسَبِ قَولِهم] هو الخَليفَة المُباشِر للرَّسول بُطرُس. فالمَسيحُ عَيَّنَ الرَّسولَ بُطرس ليكونَ الرَّأسَ المَنظورَ للكنيسة، ثُمَّ شَاءَ أنْ تَتَعاقَبَ الخِلافَةُ مِنْ خِلالِ بُطرُس إلى نَسْلٍ مِنَ الرُّسُل [إنْ جازَ القَول] يَمتلكونَ نَفسَ السُّلطة. وقد قالَ مَجْمَعُ ترنت إنَّهُ إنْ كانَ أحدٌ يَقولُ إنَّ الرَّسولَ بُطرسَ المُبارَك لم يَتَعَيَّن مِنْ قِبَلِ المَسيحِ رَبِّنا، رَئيسَ كُلِّ الرُّسُلِ، والرَّأسَ المَنظورَ للكنيسةِ، وَمَنْ هُوَ جَديرٌ بالكَرامةِ والسُّلطة الحقيقيَّة، فَليَكُن مَلعونًا.
لِذا فإنَّكَ تَصيرُ مَلعونًا إنْ أَسَأتَ إلى الكَهنوتِ، وتَصيرُ مَلعونًا إنْ أسأتَ إلى بَابَويَّة بُطرُس. وبحسبِ نَاموسِ المسيحِ في عَقيدتِهم ... وقد اسْتَقَيْتُ أغلبيَّةَ هذه المعلومات مِن كِتابٍ أَلَّفَهُ ’لودويغ أوت‘ [Ludwig Ott] بعُنوان ’العقيدة الكاثوليكيَّة‘ [Catholic Dogma]" ... وهو واحدٌ مِن كُتُبِهِم المُعتَمَدَة في اللَّاهوتِ النِّظاميِّ قَرَأتُهُ خِلالَ السِّنين. ولكِنْ بحسب ناموسِ المسيح، يجب أنْ يكونَ لبُطرُس خُلَفاء على رُتبَتِهِ على كُلِّ الكنيسة على مَرِّ السِّنين. ويقولُ مَجمَعُ ترنت إنَّهُ إنْ أَنكَرَ أحدٌ ذلك، لِيَكُن مَلعونًا. وإنْ قالَ أحدٌ إنَّ الحَبْرَ الرُّومانيَّ ليسَ خَليفَةَ بُطرُس المُبارَك في مَكانَتِه، لِيَكُن مَلعونًا. لِذا فقد أَعلنَ مَجْمَعُ ترنت مِئَةَ لَعنة أو أكثر على أيِّ شَخصٍ يُشَكِّكُ في أيِّ شيءٍ يَختصُّ بالكنيسةِ الكاثوليكيَّة. وقد رَكَّزوا بصورة خاصَّة على أيِّ شخصٍ يُشَكِّكُ في التَّسلسُلِ الهَرميِّ لأنَّكَ إنْ شَكَّكْتَ في التَّسلسُلِ الهَرميِّ، قد تَهدِمُ النِّظام.
فالبابا، بحسبِ العقيدةِ الكاثوليكيَّة، يَمتلكُ كَامِلَ ومُطلَقَ السُّلطة القضائيَّة على الكنيسة بأسرِها، لا فقط في نِطاقِ الأخلاقِ (وأنا أقرأُ ما جاءَ في ذلكَ الكِتاب) والإيمانِ، بل أيضًا في نِطاقِ التَّأديبِ والإدارة. ومَجمَعُ ترنت يَقولُ إنَّهُ إنْ قالَ أحدٌ إنَّ البابا لا يَملِكُ هذه السُّلطة، لِيَكُن مَلعونًا. فالبابا (سوفَ أَقرأُ ذلكَ مَرَّةً أخرى) يَمتلكُ كَامِلَ ومُطلَقَ السُّلطة القضائيَّة على الكنيسة بأسرِها. وَحَتَّى إنَّهُم يَنظرونَ إلى البروتستنت كإخوة مَحرومينَ مِنَ الحُقوقِ ينبغي لهم أنْ يَنضبطوا ويَخضعوا للبابا. فالسُّلطةُ المُطلقةُ هي في يَدِ البابا (بحسبِ العقيدة الكاثوليكيَّة). فلا توجد سُلطة أعظم مِن سُلطَتِه، ولا تُوجد سُلطة تُساويها. فسُلطَتُهُ تَفوقُ سُلطةَ أيِّ أُسقُفٍ أوْ حَبْرٍ مُنفَرِد، وَتَفوقُ أيضًا كُلَّ الأساقِفَةٍ مُجتَمِعين. فَجَميعُهم لا يُساوونَ البابا. وَلا أحدَ مِنهُم يُساوي البابا. والبابا يَستطيعُ أنْ يَحكُمَ مُنفَرِدًا في أيِّ شأنٍ يَقَعُ تَحتَ السُّلطة القضائيَّة للكنيسة. والكنيسةُ تَرفُضُ كُلَّ المُحاولاتِ الَّتي تَقومُ بها الدَّولة للهيمنة على البابا والكنيسة. لِذا فقد أَوجَدوا دَولَتَهُم الخاصَّة (وهي الفاتيكان) لكي يَكونَ البابا المَلِكَ على إمبراطوريَّتِه.
وكما جاءَ في العقيدةِ الكاثوليكيَّة، لا يُمكنُ لأحدٍ أنْ يَسودَ على البابا. وهذا يُعطيكُم فِكرة واضحة عنِ الدَّورِ الَّذي يَقومُ به. فهو مَسؤولٌ وَحدهُ عنِ القَضاءِ في كُلِّ الشُّؤونِ المُختصَّةِ بحياةِ الكنيسة. والعقيدةُ تَقولُ إنَّ البابا مَعصومٌ مِنَ الخطأ عندما يَتكلَّمُ "إكس كاثيدرا" (ex cathedra). هل سَمِعتُم يومًا بذلكَ المُصطَلَح؟ إنَّهُ يَعني ببساطة: "وَهُوَ جَالِسٌ على الكُرسِيِّ البَابَويّ". والمقصودُ بذلكَ هو: "عندما يَتحدَّثُ..." وليسَ بالضَّرورةِ عندما يَتحدَّثَ في مُناسبةٍ رَسميَّة، بلِ المعنى المقصودُ هو: "...عندما يَتحدَّثُ مُنَفِّذًا مَهامَّهُ بوصفِهِ رَاعي وأُسقُف كُلَّ المسيحيِّين". فَهُوَ يُقَرِّر العقيدة المُختصَّة بالإيمانِ والأخلاقيَّاتِ الَّتي ينبغي للكنيسةِ الجامِعَةِ أنْ تَعْتَنِقَها، ويَمتلكُ تلكَ العِصمَة الإلهيَّة. لِذا فإنَّ التَّعريفاتِ الَّتي يَضَعُها بَابا رُوما ثابتة ولا يَجوزُ تَغييرُها. فهو لا يَقترِفُ أيَّ خطأٍ. لِذا، لا يَجوزُ تَغييرُ أيِّ كَلامٍ يَنطِقُ بِه. وَ "مَصْدَرُ عِصْمَتِهِ..." [كما تَقولُ العقيدة] "...هو المَعونةُ الخارقةُ للطَّبيعة الَّتي يُقَدِّمُها الرُّوحُ القُدُسُ الَّذي يَحمي المُعَلِّمَ الأعظَم للكنيسة مِنَ الخطأ. واللهُ في السَّماءِ سيؤكِّدُ قَرارَ البابا. فهو مَعصومٌ مِنَ الخطأ".
لِذا فإنَّ لديكُم هذا القائدَ الَّذي يَملِكُ سُلطانًا مُطلَقًا على الكنيسةِ بأسرِها؛ ليسَ مِن وُجهةِ نَظَرِهم فقط (أيْ ليسَ فقط على الكاثوليكِ الأُمَناء)، بل على أيِّ شخصٍ يَدَّعي أنَّهُ مَسيحيّ وَضَلَّ الطَّريق. فهو يَملِكُ سُلطَةً مُطلقةً أنْ يَقضي في كُلِّ شُؤونِ الإيمانِ (أيِ العَقيدة)، والأخلاقيَّاتِ (أيِ السُّلوك)، وكُلِّ شُؤونِ التَّأديب، وكُلِّ الأحكامِ في حياةِ الكنيسة. وعندما يُصدِرُ أيَّ قَرارٍ كهذا في أيِّ وقتٍ، فإنَّهُ مَعصومٌ. واللهُ نَفسُهُ في السَّماءِ يُؤكِّدُ قَرارَ البابا لأنَّهُ مَعصومٌ مِنَ الخطأ. لِذا، أيًّا كانَ ما يَقولُه، فإنَّهُ يَبقى دائمًا الحَقَّ الإلهيَّ ولا يُمكن أنْ يَتغيَّر أو يَتبدَّل. ويَأتي تحتَ البابا أساقِفَة. وَهُمْ يَملِكونَ الحَقَّ الإلهيَّ، ولكِنَّ سُلطتَهُم تُدعى سُلطة إداريَّة عاديَّة على أَبرَشِيَّاتِهم. فهي سُلطة عاديَّة وليست سُلطة خارقة للطَّبيعة (كتلكَ الَّتي يَملِكُها البابا المعصوم مِنَ الخطأ). فَهُم يَملِكونَ سُلطة عاديَّة (كما تَقولُ عَقيدَتُهم) لإدارةِ أَبرَشِيَّاتِهم. والبابواتُ والأساقفةُ هُمُ الوحيدونَ الَّذينَ يَحصُلونَ على سُلطَتِهِم بِمُقتضى الحَقِّ الإلهيِّ. أمَّا البقيَّة جَميعًا فَيَحصُلونَ على السُّلطة مِنْ خِلالِ مَنْحِ الكنيسةِ لها.
لِذا، فإنَّ البابا والأساقفة يُشبهونَ الرُّسُلَ لأنَّهُم يُعَيَّنونَ شَخصيًّا مِنْ قِبَلِ المسيح. أمَّا الكَهَنَة والشَّمامسة فَيُعَيَّنونَ مِنْ قِبَلِ الكنيسة. وَيُنظَر إلى الأساقفةِ بأنَّهُم خُلفاء الرُّسُل إذْ إنَّهُم يَتَسَلَّمونَ سُلطَتَهُم ليسَ مِنَ المسيحِ مُباشرةً، بل مِنْ وَسيطٍ وَفَّرَهُ المسيحُ لهم في شَخْصِ البابا الَّذي كانَ ذاتَ يومٍ واحدًا مِنهُم. فالبابا، إذًا، يَعملُ نِيابةً عنِ المسيحِ، وَهُوَ مَعصومٌ في كُلِّ الشُّؤونِ المُختصَّة بالكنيسة، بما في ذلكَ تَعيينُ الأساقفةِ ومَنْحُهُم السُّلطة. ويَنبغي على رِجالِ الإكليروس (كَما يُدْعَوْنَ)، أيِ الكَهَنة، أنْ يُطيعوا ذلكَ التَّسَلسُلَ الهَرَمِيَّ. والأساقفةُ لا يُقَرِّرونَ العقيدةَ في نهايةِ المَطاف، بل إنَّ البابا والمَجلِسَ الأعلى الَّذي يُعَيِّنُهُ البابا هو الَّذي يُقَرِّرُ العقيدة.
إذًا، فقد وَصَلنا إلى الكَهَنَة. فالأُسقُفِيَّاتُ تَتَجَزَّأُ إلى أَبْرَشِيَّات. وأعتقد أنَّكُم تَعلَمونَ ذلك. وفي الأَبْرَشِيَّاتِ، هُناكَ كَهَنة. وَهُمْ مَسؤولونَ عن إقامَةِ سَبعَةِ أسرارٍ مُقَدَّسة. وهذا هو ما يَفعلونَهُ بصورة رئيسيَّة. فَبِموجَبِ العقيدة الكاثوليكيَّة، هُناكَ سَبعةُ أسرارٍ مُقَدَّسة ... سَبعة فقط: أوَّلاً: "المَعموديَّة". ثانيًا: "التَّثبيت" (وهو شيءٌ يَحدُثُ في سِنِّ الثَّانية عَشرة تقريبًا إذْ يَتِمُّ تَعميدُكَ في ملكوتِ اللهِ. وحينئذٍ فإنَّ مَعموديَّتَكَ الَّتي تُعَبِّرُ عن نِعمةِ اللهِ وقوَّتِه تَتَثَبَّت). ثالثًا: "الإفخارِسْتِيَّا "(أوِ المَائِدَة، أوِ القُربانِ المُقَدَّس). رابعًا: "التَّوبة" (وهي العمليَّة الَّتي تُكَفِّر فيها عن خطاياكَ مِن خلالِ دَفْعِ ثَمَنٍ مُعَيَّن أوِ القِيامِ بِعَمَلٍ مُعَيَّن). خَامسًا: "مَسْحَةُ المَرضَى" (وهي ما تَفعَلُهُ للأشخاصِ الَّذينَ يُحْتَضَرونَ إذْ تَرَوْنَ الكَهَنَة يُسارِعونَ إلى القيامِ بذلك). سادسًا: "سِرُّ الكَهَنوت" (وَسِرُّ الكَهنوتِ، وَهُوَ واحِدٌ مِنَ الأسرارِ السَّبعة، هو ذلكَ السِّرُّ الَّذي يُفْرَزُ فيهِ الكَهَنَةُ والأساقفة). سابعًا وأخيرًا: "سِرُّ الزِّيجَة أوِ الزَّواج". لِذا فإنَّ مَسؤوليَّاتِ الكَهَنَة تَتَلَخَّصُ في مُمارسةِ هذهِ الأسرارِ السَّبعة. وأريدُ أنْ أُرَكِّزَ على سِرِّ الكَهنوت لأنَّنا نَعرِفُ هُنا المَزيدَ عنِ الكَهنوت. فالكهنة يُقَدَّسونَ مِنْ خِلالِ هذا السِّرّ. فَهُوَ سِرٌّ مُقَدَّس؛ أيْ طَقْسٌ مُقَدَّس. فَما يُسَمَّى "ساكرامنتم أوردينيس" (Sacramentum Ordinis)، أيْ: "طَقْس الرِّسَامَة" هو الطَّقسُ الرَّسميُّ الَّذي تَتِمُّ فيهِ رِسامَةُ الكَهَنة في أَماكِنِ الخِدمةِ الخاصَّة بهم. ويأتي بَعدهم الشَّمامسة الَّذينَ تَتِمُّ أيضًا رِسامَتُهم. ولكنَّنا سَنَتحدَّثُ فقط عنِ الكَهَنة.
فالرِّسامَةُ تَمْنَحُ (وهذه نُقطة عَجيبة) تَمنَحُ نِعمةً تَقديسيَّةً للكاهِن. ويجب عليكم أنْ تَفهموا هذه النُّقطة لأنَّها مُهمَّة جِدًّا. فهناكَ بابا مَعصوم مِنَ الخطأ. وهناكَ أساقفة مَعصومونَ تَقريبًا مِنَ الخطأ. ثُمَّ يأتي بعدهم (في التَّسلسُلِ الهَرَمِيِّ) الكَهَنة. والكهنة في طَقسِ الرِّسامَة المُقَدَّس يُمْنَحونَ حَرفيًّا وَروحيًّا نِعمَةً تَقديسيَّة. وسوفَ أقتَبِسُ ما جاءَ في عَقيدَتِهم: "مِن خلالِ طَقسِ الرِّسامَة، يَحصُلُ الكاهِنُ على نِعمة جديدة وخاصَّة، ومَعونة مُحَدَّدة يَستطيعُ مِنْ خلالِها أنْ يُؤدِّي بصورة لائقة وشجاعة لا تَنضُب مَهامَّ المَنصِبِ الَّذي تَسَلَّمَهُ وأنْ يُتَمِّمَ واجِباتِه".
فَهُم يُؤمِنونَ بأنَّ الطَّقسَ المُقَدَّسَ يَمنَحُ نِعمةً. ونحنُ نُمارِسُ المَعموديَّةَ، ولكِنَّنا لا نُؤمِنُ بأنَّها تَمنَحُ أيَّ نِعمة. فنحنُ نُؤمِنُ بأنَّها ذِكرى. وهي تأكيدٌ أمامَ النَّاسِ. وهي شَهادة عَلنيَّة. ونحنُ نَشترِكُ في مائدةِ الرَّبِّ، ولكنَّنا لا نُؤمِنُ بأنَّها تَمنَحُ أيَّ نِعمة، أوْ أيَّ نِعمة مُبَرِّرة أوْ أيَّ نِعمة مُقَدِّسَة. فنحنُ نَصنَعُها كَذِكرى نَتَذَكَّرُ مِن خلالِها موتَ المسيح. ولكِنْ بالنِّسبةِ إليهم، فإنَّ الطَّقسَ المُقَدَّسَ يَمنَحُ نِعمةً. وَطَقسُ الرِّسامة يُسْبِغُ نِعمةً مُعَيَّنةً على الكاهِن. وما هي تلكَ النِّعمة؟ تَقولُ العقيدةُ إنَّ طَقسَ الرِّسامةِ يُضْفي شَخصيَّةً على المُتَلَقِّي ... شَخصيَّةً جديدة. وأنا أقتَبِسُ ما جاءَ في عقيدَتِهم: "إنَّ الشَّخصيَّة الَّتي تُمْنَحُ في الرِّسامَة تُمَكِّنُ صَاحِبَها مِنَ الاضْطِلاعِ بِدَورٍ فاعِلٍ في كَهنوتِ المسيح. وهي تُلزِمُهُ بأنْ يُقَدِّمَ كُنوزَ المَسيحِ المُخَلِّصَةَ..." [وَإليكُم العِبارة الرَّئيسيَّة]: "...وأنْ يَعيشَ حَياةً طَاهرةً أخلاقيًّا حَالَ رِسامَتِه". وهذا شيءٌ لا يُمكِن أنْ يَتكرَّر، ولا يُمكِن أنْ يُنْقَضَ أوْ يُبْطَل. فهو شيءٌ يَحدُثُ مَرَّةً وإلى الأبد. لِذا فإنَّهم لا يَعلمونَ ماذا يَفعلونَ بالكهنةِ الَّذينَ يُسيئونَ إلى النَّاس. فَضلاً عن ذلك، فإنَّ الطَّقسَ نَفسَهُ يُسْبِغُ عليهِم نِعمةً مُقَدِّسَةً تُمَكِّنُهم مِن أنْ يَعيشوا حَياةً طاهرةً أخلاقيًّا. وهُناكَ عِبارة في العقيدة صَدَمَتني، وهي تقول: "سِرُّ الرِّسامة يُعطي سُلطةً روحيَّةً دائمةً لِمُتَلَقِّيه". لِذا فإنَّ النِّظامَ يُعَلِّمُ أنَّ هذا الشَّخصَ قد تَلَقَّى نِعمةً، وسُلطةً رُوحيَّةً دائمةً، وأنَّهُ دَخَلَ حَرفيًّا في كَهنوتِ يسوعَ المسيح، وأنَّهُ مُلْزَمٌ بأنْ يُقَدِّمَ كُنوزَ المَسيحِ المُخَلِّصَة (أيْ أنْ يُقَدِّمَ كُنوزَ المَسيحِ إلى النَّاسِ)، وأنَّهُ يُمنَحُ قُوَّةً تُمَكِّنُهُ مِنْ أنْ يَعيشَ حَياةً طاهرةً أخلاقيًّا.
إذًا، فإنَّ هذا الكَاهِنَ قد حَصَلَ على هَالَةٍ مُقَدَّسَة تَقريبًا. وعندما يَختصُّ الأمرُ بواجباتِه، اسمحوا لي أنْ أقرأَ لكم شيئًا. فقد كَتَبَ "جون أوبراين" (John O’Brien) كِتابًا مَشهورًا بعُنوان: "إيمانُ المَلايين" (The Faith of Millions). وفي ذلكَ الكِتاب، كَتَبَ ما يَلي. وأعتقد أنَّ هذهِ الكلماتِ غريبة جِدًّا: "عندما يُعلِنُ الكاهِنُ كلماتِ التَّكريس الرَّائعة في القُدَّاس، فإنَّهُ يَدخُلُ السَّماءَ". وَلَعَلَّكُم رأيتُم تلكَ الصُّورة. "وهو يُنْزِلُ المَسيحَ عن عَرشِهِ ويَضَعُهُ على مَذبَحِنا لكي يُقَدَّمَ مَرَّةً أخرى كذبيحة عن خطايا الإنسان. أنَّها [استمعوا إلى هذا] قُوَّة أعظَم مِن قُوَّةِ القِدِّيسينَ والملائكة، وأعظمُ مِنْ قُوَّةِ السَّرافيم والكَروبيم". ونحنُ نَتَحدَّثُ عنِ الكَاهِنِ الآن. فنحنُ نَتحدَّثُ عن شخصٍ يُعَدُّ حَقًّا خَارِقًا للطَّبيعة. ولا بُدَّ أنْ يكونَ كذلك إنْ كانَ يَملِكُ قُوَّةً أعظمَ مِنَ الملائكة، وأعظمَ مِنَ السَّرافيم والكَروبيم. ولماذا يَقولونَ ذلك؟ لا فقط بسبب هذهِ النِّعمةِ وهذهِ القُدرةِ الَّتي تُعطى لَهُ لكي يَعيشَ حياةً أخلاقيَّة، وهذا الانخراطِ في كَهنوتِ المسيح، بل لأنَّ الكاهِنَ يَستطيعُ أنْ يَدخُلَ السَّماءَ وأنْ يُنْزِلَ المَسيحَ عن عَرشِهِ، وأنْ يَضَعَهُ على مَذبَحِنا لكي يُقَدَّمَ مَرَّةً أخرى كذبيحة عن خطايا الإنسان. فَهُوَ يُنْزِلُ المَسيحَ حَرفيًّا مِنْ أجلِ ذَبيحَةِ القُدَّاس.
وَهُوَ يَمضي في الحَديثِ عنِ الكاهِنِ فيقول: "إنَّها في الحقيقة قُوَّة أعظم مِن قُوَّةِ العَذراء مَريم. فمعَ أنَّ العَذراءَ المُبارَكَةَ كانت الوسيطَ البَشَريَّ الَّذي تَجَسَّدَ المسيحُ مِن خلالِهِ مَرَّة واحدة فقط، فإنَّ الكاهِنَ يُنزِلُ المسيحَ مِنَ السَّماءِ ويَجعَلُهُ حاضِرًا على مَذبَحِنا بوصفِهِ الذَّبيحة الأبديَّة عن خطايا البشر، لا مَرَّةً فقط، بل ألفَ مَرَّة". فالكاهِنُ يَتكلَّمُ فإذْ بالمَسيحِ (اللهِ السَّرمديِّ القادرِ على كُلِّ شيء) يَحني رأسَهُ في اتِّضاعٍ وطَاعَةٍ لأمرِ الكاهِن. فهو يَملِكُ القُدرةَ على دُخولِ السَّماءِ، وَجَلْبِ المسيحِ إلى أسفَل، وتَقديمِهِ ذَبيحةً مَرَّةً أُخرى على مَذبحِ الكنيسة!
وَهُوَ يَكتُبُ في الفَقْرَةِ الَّتي تَلي ذلك: "يا لِلمَكانَةِ الرَّفيعةِ الَّتي يَتمتَّعُ بها الكاهِنُ المسيحيُّ الَّذي أُعطِيَ امتيازَ أنْ يَعمَلَ سَفيرًا ونائبًا عنِ المَسيحِ على الأرض! فهو يُتابِعُ الخِدمةَ الجوهريَّةَ للمسيح. وهو يُعَلِّمُ المُؤمِنينَ بِسُلطانِ المسيح. وَهُوَ يَغفِرُ للخاطئِ التَّائبِ بِسُلطانِ المسيح. وهو يُقَدِّمُ مَرَّةً أخرى نَفسَ ذَبيحةِ السُّجودِ والتَّكفيرِ الَّتي قَدَّمَها المسيحُ على الجُلجُثة. لا عَجَبَ إذًا أنَّ اللَّقَبَ الَّذي فُتِنَ بِهِ الكُتَّابُ الرُّوحيُّونَ بصورة خاصَّة مِن جهةِ الكَاهِنِ هو لَقَب "المَسيح البَديل (Alter Christus) لأنَّ الكَاهِنَ هُوَ مَسيحٌ آخَر". هل هذا الكلامُ يُذَكِّرُكُم بآية؟ "إنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بمسيحٍ آخر..." [فنحنُ لَدينا مَجْمَعَ ترنت الخاصّ بِنا] "...فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا!" وَهُمْ يَنظرونَ إلى هَؤلاءِ الكَهَنَة كما لو كانوا مَسيحًا بَديلاً. فهذا القُدَّاسُ الغَريب، وهذه المُحاولة الغَريبة لوضعِ السُّلطة بأيدي أُناسٍ هي محاولة بَعيدة كُلَّ البُعدِ عنِ الكتابَ المقدَّس. بل إنَّها شِرِّيرة، وتَحريفٌ للمسؤوليَّة الرُّوحيَّة والخِدمة الرَّعويَّة.
وبالنِّسبة إلى الآذانِ البروتستنتيَّة، فإنَّ هذه الأقوال هي أقوال مُزعِجَة حقًّا. فهي كذلكَ بالنِّسبةِ إليَّ. فما الَّذي يَتحدَّثُ عنهُ عندما يَقولُ إنَّ المسيحَ يُقَدَّمُ بوصفِهِ ذَبيحةً على مَذبَحٍ رُومانيٍّ، أو على مَذبَحِنا؟" وما الَّذي يَعنيه بأنَّ المسيحَ (اللهَ القَديرَ) يَحني رأسَهُ في اتِّضاعٍ وَطَاعَةٍ لأمرِ الكاهِن، وأنَّهُ يَنزِلُ مِنَ السَّماءِ كي يُقَدَّمَ المَرَّة تِلوَ المَرَّة، بل ألفَ مَرَّة، بوصفِهِ ذَبيحة؟ أَلا يَتَمادى هذا الكاتِبُ كَثيرًا؟ الحقيقةُ هي أنَّ مَجمع ترنت في جَلسَتِهِ الثَّالثة عشرة المُنعَقِدَة في شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر سنة 1551 أَصدَرَ مَرسومًا بخصوصِ سِرِّ الإفخارستيَّا (أوِ القُربانِ المُقَدَّس). وفي نهايةِ المَرسوم، هُناكَ لائحة بالقوانينِ الَّتي تُعلِنُ اللَّعناتِ على أولئكَ الَّذينَ يَرفُضونَ تَعليمَ المَجمَع. وحيثُ إنَّ هذه القوانين تُقَدِّمُ غالبًا تَعريفات مُوجَزة ومُقتَضَبة لِتَعاليمِ الكنيسة الرُّومانيَّة (كما قُلتُ سابقًا)، فإنَّني أريدُ أن أَذكُرَ لكم بعضًا منها، ولا سِيَّما تلكَ المُختصَّة بعقيدة الاستِحالَة الجوهريَّة. فعندما يأتي المسيحُ إلى أسفل، أنتُم تَعلمونَ كيفَ يأتي إلى أسفل. أليسَ كذلك؟ فَهُم يأخذونَ الخُبزَ والخَمرَ، ثُمَّ إنَّ الكاهِنَ يُحَوِّلُ ذلكَ حَرفيًّا إلى جسدِ يَسوعَ وَدَمِه. هذا هو المسيح. لِذا فإنَّ مَجمعَ ترنت يقول:
القانونُ الأوَّل: "إذا قالَ أحدٌ إنَّهُ في سِرِّ الإفخارستيَّا المُقَدَّس لا يوجد في الحقيقة والواقع جَوهريًّا جَسَدُ سَيِّدِنا يَسوعَ المسيحِ ودَمُه، وفي الوقتِ نَفسِهِ لاهوتُهُ، أيِ المسيحُ كُلُّهُ، بل قال إنَّها لا تُوجَد إلَّا رَمزيًّا وصُوَرِيًّا أو بالقُوَّة: فليَكُنْ مَحرومًا". فقد أَعلنوا اللَّعنة على أيِّ شخصٍ يَقول إنَّ يسوعَ المسيحَ لا يُوجد في الحقيقة والواقع في ما جَلَبَهُ الكاهِنُ إلى أسفَل.
القانونُ الثَّاني: "إذا قالَ أحدٌ إنَّ جَوهرَ الخُبزِ والخَمر، في سِرِّ الإفخارستيَّا المُقَدَّس، يَبقيان معَ جَسَدِ سَيِّدِنا يَسوعَ المسيحِ ودَمِه، وأَنكَرَ هذا التَّحَوُّلَ العجيبَ والفريدَ لِكُلِّ جَوهرِ الخُبزِ إلى جَسدِه، ولِكُلِّ جَوهَرِ الخَمْرِ إلى دَمِه، فيما يَلْبَثُ شَكْلاَ الخُبزِ والخَمر، هذا التَّحَوُّلُ الذي تَدعوهُ الكنيسةُ [الكاثوليكيَّةُ] على وَجْهٍ مُوافِقٍ جِدًّا، تَحُوُّلاً جَوهريًّا: فليَكُن مَحرومًا".
القانونُ الثَّالث: "إذا قالَ أحدٌ إنَّ المسيحَ المُقُدَّمَ في الإفخارستيَّا يُؤكَلُ رُوحيًّا فقط لا سِرِّيًّا ولا حقيقيًّا أيضًا: فَليكُن مَحرومًا".
إنَّها قوانين فاسِدَة وَحَسْب. وبعدَ إحدى عَشْرَةَ سنة (في سنة 1562)، عُقِدَتْ الجَلسةُ الثَّانية والعِشرون لِمَجمَعِ ترنت. وفي هذه المَرَّة، كانَ المَرسومُ الصَّادِرُ هو بِعُنوان: "قَوانين في شَأنِ ذَبيحةِ القُدَّاسِ المُقَدَّسَة". وقد جاءَ في المَرسومِ ما يَلي: "بِما أنَّ في هذه الذبيحة الإلهية التي تَتِمُّ في القُدَّاس، المسيحُ نَفسُهُ مَوجودٌ ومَذبوحٌ بطريقةٍ غير دَمويَّة، هُوَ الَّذي قَدَّم ذاتَهُ دُفعةً واحدةً بطريقةٍ دَمَويَّة على مَذبحِ الصَّليب، فالمَجمَعُ المُقَدَّسُ يُعَلِّمُ أنَّ هذه الذبيحةَ هي ذبيحةٌ تَكفيرية في الحقيقة، وأنّنا إذا اقترَبْنا مِنَ اللهِ بقلبٍ صادقٍ وإيمانٍ مُستقيم، وخَشيةٍ واحترام، ونَدامةٍ وتَوبة، نَنالُ بها رَحمةً، ونَجِدُ نِعمةً عَونًا في حِينِهِ. [وهذا يعني أنَّ هُناكَ خَلاصًا في القُدَّاس]. وإذْ يَهدأُ غَضَبُ الربِّ بتقدمةِ هذه الذبيحة، يَمنحُ النِّعمةَ ومَوهبةَ التَّوبة، ويَغفِرُ الجرائمَ والخطايا، حَتَّى الجَسيمة مِنها". [لِذا، إذا اشتركتَ في القُدَّاس بموقِفٍ سَليمٍ، فإنَّكَ تَنالُ الغُفران]. "فالضَّحِيَّةُ واحدة، والَّذي يُقَدَّمُ الآن بِوَسَاطةِ الكهنة هُوَ هُوَ الَّذي قَدَّمَ نَفسَهُ على الصَّليب". فلا يوجد اختلاف بينَ ما يَفعَلُهُ الكاهِنُ وما فَعَلَهُ يسوعُ على الصَّليب. "وما الاختلافُ إلَّا في طريقةِ التَّقْدِمَة". وهذا اقتباسٌ مُباشِرٌ مِنَ الفَصلِ الثَّاني مِنَ المَرسومِ الَّذي يَحمِلُ العُنوان: "قَوانين في شَأنِ ذَبيحةِ القُدَّاسِ المُقَدَّسَة".
"ثِمارُ هذه التَّقدِمَة الدَّمويَّة تُنالُ بِغزارةٍ بِوَساطَةِ هذه التَّقدِمَة غير الدَّمويَّة، وما مِن أَذىً البَتَّة لِتِلكَ مِن هَذِهِ. وَلِهذا تُقَدَّمُ شَرْعًا، وَفْقَ تَقليدِ الرُّسُل، ليسَ لأجلِ خَطايا المؤمنينَ الأحياءَ، وعُقوباتِهم، وتَكفيرِهم، وسَائِرِ مُقتَضَياتِهم وحسب، ولكن لِلَّذينَ رَقَدوا في المسيحِ أيضًا ولم يَتَطَهَّروا تَطَهُّرًا كامِلاً". لِذا فإنَّ القُدَّاسَ يُخَلِّصُ الأشخاصَ الأحياءَ والأشخاصَ الَّذين مَاتوا ولم يَتطهَّروا بعد. أتُريدونَ أنْ تُجادِلوا في ذلك؟ استَمِعوا إلى ما قالَهُ مَجْمَعُ ترنت:
القانون الأوَّل: "إذا قالَ أحدٌ إنَّ القُدَّاسَ لا تُقَدَّمُ فيه للهِ ذَبيحة حَقيقيَّة وأصليَّة، أو إنْ قُدِّمَتْ فَلا تعني سِوى أنَّ المسيحَ قد أُعطِيَ لنا غِذاءً: فليَكُن مَحرومًا".
القانونُ الثَّاني: "إذا قالَ أحدٌ إنَّ المسيحَ، بِقولِهِ ’اصْنَعوا هذا لِذِكْري‘ لَمْ يُرسِل الرُّسُلَ بِوَصْفِهِم كَهَنَة، وَلَمْ يَأمُرهم أو يَأمُر الكَهَنة الآخرينَ بأن يُقَدِّمُوا جَسَدَهُ ودَمَهُ: فليَكُن مَحرومًا". فإنْ قُلتَ إنَّ المسيحَ لم يُقم الكَهَنة لِتقديمِ القُدَّاس، فإنَّكَ تَصيرُ مَلعونًا.
القانونُ الثَّالث: "إذا قال أحدٌ إنَّ ذَبيحةَ القُدَّاسِ ليست سِوى ذبيحة حَمْدٍ وشُكْرٍ، أو مُجَرَّدَ ذِكرى للذَّبيحة الَّتي تَمَّت على الصَّليب، لا ذبيحةَ تكفير..." [فإنْ قُلتَ إنَّهُ لا يُوجَد تَكفير في القُدَّاس]، "...أو إنَّها لا تُفيدُ إلَّا مَنْ يَتَقَبَّل المسيح، ولا ينبغي تقديمُها لأجلِ الأحياءِ والأموات، ولا مِن أجلِ الخطايا، والعقوباتِ، والتَّكفيرِ، والضَّروراتِ الأخرى: فليَكُن مَحرومًا". وهذا يعني أنَّكَ إنْ قُلتَ إنَّ القُدَّاسَ لا يُكَفِّرُ عن خطايا الأحياءِ، وإنْ قُلتَ إنَّهُ لا يُكَفِّرُ عن خطايا الأمواتِ، فإنَّكَ مَلعونٌ.
القانونُ الرَّابع: إذا قالَ أحدٌ إنَّهُ بِذبيحةِ القُدَّاسِ يُجَدَّفُ على ذبيحةِ المسيحِ المُقَدَّسَة..." [إنْ قُلتَ إنَّ القُدَّاسَ تَجديفٌ؛ وَهُوَ ما نَقولُه] "...فليَكُن مَحرومًا".
القانونُ الخامس: "إذا قالَ أحَدٌ إنَّهُ مِنَ المُنْكَرِ أنْ يُقامَ القُدَّاسُ إكرامًا لِلقِدِّيسينَ وَلِطَلَبِ شَفاعَتِهم عند اللهِ، كما تَذهب إليه الكنيسة: فليَكُن مَحرومًا".
وإنْ قَرأتُم هذه القوانين، يُمكِنُكم أنْ تَعرِفوا مِنْ خِلالِ إجاباتِهم كُلَّ ما كانَ المُصْلِحونَ يَقولونَهُ.
القانونُ السَّادس: "إذا قال أحدٌ إنَّ في قَانونِ القُدَّاسِ أخطاءً...فَليَكُن مَحرومًا". إنَّ هذا القانونَ يُغَطِّي كُلَّ شيء. أليسَ كذلك؟ فهو قَانونٌ يُغَطِّي كُلَّ ما لم تَذكُرْهُ القوانينُ الأخرى.
لِذا، إنْ أردتُ أنْ أُلَخِّصَ تَعاليمَ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة بخصوصِ القُدَّاسِ مِنْ خِلالِ ما جَاءَ في مَجمَعِ ترنت الذي يُنَوِّهُ بالدَّورِ الرَّفيعِ للكاهِنِ، فإنَّ الخُلاصَةَ ستكونُ على النَّحوِ التَّالي:
أوَّلاً: يَسوعُ المَسيحُ يَحِلُّ حَقًّا، وَبِكُلِّ مَعنى الكلمة، وجوهريًّا في طَقسِ الإفخارستيَّا.
ثانيًا: الاستحالةُ الجَوهريَّة تَقتضي تَحويلاً كاملاً للخُبزِ إلى جسدِ المسيح، وتَحويلاً كاملاً للخَمْرِ إلى دَمِ المسيح.
ثالثًا: حيثُ إنَّهُم يقولونَ إنَّ المسيحَ يَحِلُّ حَقًّا في الإفخارستيَّا، فإنَّ العناصِرَ نَفسَها بعدَ تَقديسِها تَستوجِبُ العبادة. وَهُمْ يَعبُدونَها.
رابعًا: ذبيحةُ القُدَّاسِ تُسَمَّى تَكفيريَّة إذْ إنَّها تُقَدِّمُ غُفرانًا للخطيَّة.
خامسًا: مِنْ خِلالِ تَأسيسِ القُدَّاسِ في عَشاءِ الرَّبِّ، قَدَّمَ المَسيحُ جَسَدَهُ ودَمَهُ إلى الآبِ مِنْ خِلالِ عُنْصُرَيِّ الخُبْزِ والخَمر. وبقيامِهِ بذلكَ فقد عَيَّنَ الرُّسُلَ كَهَنَةً للعهدِ الجديدِ فَصاروا يُمارِسونَ عَمَلَهُم الكَهَنوتيَّ مِن ذلكَ الوقتِ فصاعِدًا.
سادسًا: ذَبيحةُ القُدَّاسِ تُقَدَّمُ مِن أجلِ الخطايا، والعقوباتِ، والتَّكفيرِ، والضَّروراتِ الأخرى؛ لا فقط عن خطايا الأحياءِ، بل عن خطايا الأمواتِ أيضًا.
وأخيرًا: أيُّ شخصٍ يُنكِرُ حَقيقةَ هذه الادِّعاءاتِ يَكونُ مَلعونًا.
وقد يَقولُ قائلٌ أيضًا: "هذا مَجمَعُ ترنت. فهو مَجمَعٌ عُقِدَ في القرنِ السَّادِس عشر. فهل ما يَزالُ هذا هو تَعليمُ الكنيسة؟ بِكُلِّ تأكيد. وكيفَ لا يَكونُ هذا هو تَعليمُ الكنيسةِ إنْ كانتِ الكنيسةُ مَعصومَةً ولا يُمكِنُ إصلاحُها. وهذا هو السَّببُ في أنَّهُ طَوالَ تاريخِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ فإنَّ شيئًا لم يَتغيَّر. فالكنيسةُ تَمْتَصُّ نِزاعاتِها، وتَمتصُّ فُحْشَها الأخلاقيَّ، وتَمتصُّ بِدَعَها، وتَمتصُّ كُلَّ شخصٍ، وَتُخَلِّدُ نِظامَها. والشَّيءُ الوحيدُ الَّذي لا تَحتَمِلُهُ الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ هو أيَّ نَوعٍ مِنَ الانفصال. لِذا فإنَّها تَستمرُّ في امتصاصِ النِّزاعاتِ مِنْ أجلِ تَخليدِ النِّظام. لِذا فإنَّها تَعِجُّ بِشَتَّى أنواعِ المُعتقداتِ الخاطئة، وكُلِّ مُستوياتِ الانحلالِ الأخلاقيِّ، وَشَتَّى أصنافِ التَّغاضي عنِ القانونِ الكاثوليكيِّ حَتَّى بينَ صُفوفِ العِلمانِيِّين.
وإنْ أَجريتَ استطلاعًا للآراءِ في أمريكا وسألتَ: "كَم عددُ الرُّومِ الكاثوليكِ الَّذينَ يُؤمنونَ باستخدامِ التَّنظيمِ الطَّبيعيِّ للنَّسلِ فقط؟" سَتَجدونَ أنَّ النِّسبةَ ضئيلة جدًّا. فَهُمْ لا يُطُبِّقونَ العقيدةَ الكاثوليكيَّة أوِ القانونِ الكاثوليكيّ. والكَهَنة لا يَعيشونَ بحسبِ القانونِ الكاثوليكيِّ أو بحسبِ شريعةِ الكتابِ المقدَّس. ولكِنَّ تلكَ القوانين لا تَتغيَّر. فَهُمْ يَستمرُّونَ في امتصاصِ النِّزاعاتِ كي لا يَحدُثَ تَفَسُّخٌ في النِّظام. لِذا فقد كانَ الإصلاحُ هُجومًا لا يُصَدَّق على الكنيسة لأنَّهُ كانَ صَدْعًا حقيقيًّا. وَمِنَ الصَّعبِ عليكم أنْ تَتخيَّلوا القُوَّةَ الَّتي أَطلَقَها اللهُ مِن خلالِ المُصْلِحينَ لتوجيهِ ضَربة قاضية إلى النِّظامِ في عَهْدِ الإصلاح.
ففي كِتابِ "التَّعليمِ المَسيحيِّ" الجَديد، أيِ "التَّعليمِ المَسيحيِّ للكنيسةِ الكاثوليكيَّة"، كَيْ تَرَوْا ما يُرَكِّزونَ عليهِ حَقًّا، هناكَ تَسعُ فَقْراتٍ مُكَرَّسة لموضوعِ التَّبرير. وهُناكَ 84 فَقْرَة مُكَرَّسة للقُدَّاس. فهذا هو ما يُرَكِّزونَ عليه. وهذا هو ما يَفعلُهُ الكَهَنة. والآن، أنتُم تَفهمونَ مَنصِبَ الكاهِن. فهو يَعملُ على مُمارسةِ الأسرار، ولا سِيَّما القُدَّاس. وحينَ نُفَكِّرُ في ذلك، لِنَتَخَطَّى موضوعَ الكَهنوتِ وَنتحدَّث عن موضوعِ "التَّبَتُّل" لأنَّ جَدَلاً كبيرًا دارَ حولَ هذا الموضوع. وأعتقد أنَّ آخِرَ إحصائيَّة اطَّلَعْتُ عليها في أمريكا تقولُ إنَّ نَحوَ ثمانين بالمئة أو أكثر مِن سبعين بالمئة مِنَ الرُّومِ الكاثوليك يَظُنُّونَ أنَّهُ يجب أنْ يُمْنَحَ الكَهَنةُ الحَقَّ في الزَّواج. لِذا فإنَّهُم يُواجهونَ صُعوبةً بالِغَةً في قَبولِ مسألةِ التَّبَتُّلِ في هذا البَلد. وقد لا يكونُ الأمرُ كذلك في أماكِن أخرى حَولَ العالم، ولكِن اسمَحوا لي أنْ أتحدَّثَ عنِ التَّبَتُّلِ قليلاً.
فقد صارَ التَّبَتُّلُ قانونًا إلزاميًّا في الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة فُرِضَ على جميعِ الكهنة. وقد حاولوا أنْ يَستندوا في ذلكَ على ما جاءَ في إنجيل مَتَّى والأصحاح 19 حيثُ قالَ يسوعُ إنَّهُ يوجد خِصْيانٌ لأجلِ مَلكوتِ الله. أَتذكرونَ ذلك؟ فهناكَ أشخاصٌ كانوا خِصْيانًا مُنذُ وِلادَتِهم. وهُناكَ أشخاصٌ خَصَاهُمُ النَّاسُ. وهُناكَ خِصيانٌ لأجلِ مَلكوتِ اللهِ. فهناكَ أشخاصٌ عَاجِزونَ عنِ التَّناسُلِ جسديًّا بسببِ عِلَّةٍ لديهم. وهناكَ أشخاصٌ عاجِزونَ عنِ التَّناسُلِ بسببِ إصابةٍ أوْ أَذىً لَحِقَ بهم نَتيجةَ عُنْفٍ مَا. وهناكَ أشخاصٌ اختاروا أنْ يَمتَنِعوا عنِ الزَّواج. والحقيقةُ هي أنَّ الرَّسولَ بولُس يقول إنَّ العُزوبيَّة أفضَل مِنْ عِدَّةِ أَوْجُه. أليسَ كذلك؟ (في رسالة كورنثوس الأولى والأصحاح 7) لأنَّكَ في هذه الحالة لا تُضْطَرُّ إلى القلقِ على زَوجَتِكَ وعائلَتِكَ، بل تُكَرِّسُ نَفسكَ للرَّبّ. ولكِنَّهُ يَقولُ أيضًا في رسالة كورنثوس الأولى والأصحاح 7 إنَّ الزَّواجَ أفضلَ مِنْ ماذا؟ مِنَ التَّحَرُّق. فَمِنَ الأفضلِ أنْ تَتَزَوَّجَ على أنْ تَتَحَرَّقَ بسببِ شَهوَتِك.
ولا شَكَّ في أنَّ الأصحاحَ السَّابعِ مِن رسالةِ كورنثوس الأولى يُبَيِّن بوضوح شديد أنَّ التَّبَتُّلَ ليسَ أفضلَ مِنَ الزَّواج. كذلكَ فإنَّ جَعْلَ التَّبَتُّلَ إلزاميًّا مُنَافٍ تمامًا للكِتابِ المُقَدَّس. ولكنَّهُم يحاولونَ أنْ يُبَيِّنوا أنَّ بولسَ عَلَّمَ عنِ التَّبَتُّل. وَهُم يحاولونَ أنْ يُفَسِّروا الكتابَ المقدَّسَ كَما يَحلو لَهُم لكي يَجعلوا بُطرُسَ رَجُلاً غيرَ مُتَزَوِّج. لِذا، عندما يَقولُ بُولُس في رسالة كورنثوس الأولى 9: 5: "أَلَعَلَّنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ نَجُولَ بِأُخْتٍ زَوْجَةً" فإنَّ التَّرجمة الأخَويَّة للكِتابِ المُقدَّس (أيِ التَّرجمة الكاثوليكيَّة) تَقولُ إنَّ لَهُ سُلطانًا أنْ يَجولَ بأُختٍ، ولكنَّ الكلمة المُستخدَمَة هُنا هي ليست "أديلفي" (adelphe) [أيْ: "أُخت"]، بل هي "غُوْن" (gune) وَمَعناها: "زَوجة". وما أعنيه هو أنَّ التَّبَتُّل ليسَ أمرًا يَفرِضُهُ الكتابُ المقدَّسُ في أيِّ مَكان. والحقيقة هي أنَّ هناكَ إشارة إلى التَّبَتُّل في الكتابِ المقدَّس. وأريدُ أنْ أقرأَ ذلكَ لَكُم:
رسالة تيموثاوس الأولى والأصحاح الرَّابع. استمعوا إلى ما كَتَبَهُ الرَّسولُ بولُس: "وَلكِنَّ الرُّوحَ يَقُولُ صَرِيحًا: إِنَّهُ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ يَرْتَدُّ قَوْمٌ عَنِ الإِيمَانِ، تَابِعِينَ أَرْوَاحًا مُضِلَّةً وَتَعَالِيمَ شَيَاطِينَ، فِي رِيَاءِ أَقْوَالٍ كَاذِبَةٍ، مَوْسُومَةً ضَمَائِرُهُمْ مَانِعِينَ عَنِ الزِّوَاجِ، وَآمِرِينَ أَنْ يُمْتَنَعَ عَنْ أَطْعِمَةٍ قَدْ خَلَقَهَا اللهُ لِتُتَنَاوَلَ بِالشُّكْرِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَعَارِفِي الْحَقِّ. لأَنَّ كُلَّ خَلِيقَةِ اللهِ جَيِّدَةٌ، وَلاَ يُرْفَضُ شَيْءٌ إِذَا أُخِذَ مَعَ الشُّكْرِ، لأَنَّهُ يُقَدَّسُ بِكَلِمَةِ اللهِ وَالصَّلاَة".
وما كَتَبَهُ بولسُ هُنا هو الآتي: إنَّ الأشخاصَ الَّذينَ يَمنَعونَ عنِ الزَّواجِ يُرَوِّجونَ لعقيدةٍ شيطانيَّة. وَهُم يُصغونَ إلى أرواحٍ مُضِلَّة. وَهُم كاذِبونَ مُراؤونَ وُسِمَتْ ضَمائِرُهُم حَرفيًّا فَلم يَعودوا يَشعرونَ بأيِّ شيء. لِذا، يُمكنُكم أنْ تَرَوْا أنَّ الكِتابَ المُقَدَّسَ يَقرِنُ التَّبَتُّلَ (أوِ المَنعَ عنِ الزَّواجِ) بالشَّيطان. وأنا أُوْمِنُ حَقًّا أنَّ هذا صحيح. فأنا أُوْمِنُ أنَّ الشَّيطانَ نَجَحَ في السَّيطرةِ على النِّظامِ الكاثوليكيّ. وقد ظَهَرَ ذلكَ بطُرُق عديدة، ولكِنْ مِنَ الواضحِ أنَّ واحدةً مِنَ الطُّرُقِ الَّتي أَظهَرَ فيها حُضورَهُ في ذلكَ النِّظامِ هو مِن خلالِ المَنْعِ عنِ الزَّواج؛ وَهُوَ أمرٌ خَلَقَهُ اللهُ (كما يَقولُ الكتابُ المقدَّسُ) لكي يَشترِكَ فيهِ بالشُّكر أولئكَ الَّذينَ يُؤمنونَ ويَعرفونَ الحَقَّ. وَحَتَّى إنَّ الزَّواجَ يَنبغي أنْ يُعامَلَ كالطَّعامِ إذْ إنَّهُ يُقَدَّسُ ويُقبَلُ بالشُّكر لأنَّهُ عَطِيَّة مِنَ الله. وإليكُم هذه المُلاحَظة هُنا. فلا نُجانِبُ الصَّوابَ أيضًا إنْ قُلنا إنَّ هناكَ في الكاثوليكيَّة مَحظورات مُعَيَّنة تَختصُّ بالطَّعام. وَكُلُّ شخصٍ يَنتمي إلى النِّظامِ الكاثوليكيِّ يَعلمُ عنِ النَّهيِ عن تناوُلِ اللَّحمِ يومَ الجُمُعة. وهذا النَّهيُ أيضًا مأخوذٌ عنِ الوَثنيَّة.
وقدِ انتَشَرَ التَّبَتُّلُ بِبُطءٍ في العالمِ الكاثوليكيِّ. فقدِ ابتدأَ في القَرنِ الثَّاني. وقبلَ ذلك، كانَ مَوجودًا في أَسِيَّا، وَكان موجودًا في البُوذيَّة، وَكانَ موجودًا في دياناتٍ وثنيَّة أخرى. وقد كانَ مَعناهُ أنْ لا تَتزوَّج، بل أنْ تَبقى عَازِبًا كي تُكَرِّسَ نَفسَكَ لآلِهَتِك. ولكِنَّهُ لم يَكُن يَقولُ أيَّ شيءٍ عنِ السُّلوكِ الجِنسيِّ، بل كانَ يَتحدَّثُ فقط عنِ الزَّواج. وكانَ هناكَ أشخاصٌ نَذَروا نَذرًا بأنْ يَمتَنِعوا تمامًا عنِ العلاقاتِ الجنسيَّة. وسَواءٌ وَفَوْا بِنُذورِهم أَمْ لَمْ يَفُوا بها، فقد نَذروا نَذرًا. ولكِن في القَرنِ الثَّاني، ظَهَرت هذه المسألة المُختصَّة بعدمِ الزَّواج فَسَلَكَ النَّاسُ في ذلكَ الطَّريق. ثُمَّ إنَّهُم تَأثَّروا في القَرنِ الثَّالثِ بالغَنُوسِيَّة وما يُدعَى "المَانِيَّة" الَّتي تُنادي بأنَّ المادَّة شَرٌّ، وأنَّ الرُّوحَ صَالِحٌ؛ لِذا فإنَّ نَفسَ المَرءِ وَرُوحَهُ صَالِحَيْنِ، ولكِنَّ الجَسَدَ شِرِّير. وأيُّ شيءٍ يَفعَلُهُ الجسدُ هُوَ شَرٌّ. لِذا، بهذا المَفهومِ الغَنوسِيِّ المُنحَرِفِ والمُشَوَّهِ، شَعَروا أنَّ المُستوياتِ الرُّوحيَّة العُليا تَقتَصِرُ على أولئكَ الَّذينَ يُنكِرونَ حَرفيًّا على أجسادِهِم كُلَّ رَغباتِها.
لِذا فقد نَذَروا نُذورًا بأنْ يَبْقَوْا فُقراء. ونَذروا نُذورًا بأنْ يَتَعَفَّفوا؛ وَهُوَ نَذْرٌ يَختلِفُ عنِ النَّذرِ بالتَّبَتُّل. فالتَّبَتُّلُ يَختصُّ بالزَّواج؛ في حين أنَّ التَّعَفُّفَ يَختصُّ بالمُمارساتِ الجِنسيَّة. وقد نَذَروا نُذورًا بالطَّاعة. وقد نَذَرَ بَعضٌ منهم نُذورًا بأنْ يَبْقَوْا صَامِتين. فَهُمْ لم يُريدوا أنْ يَفعلَ الجسدُ أيَّ شيءٍ، ولم يُريدوا أنْ يَقلقوا بشأنِ ما يَلبَسون. وَهُم لم يُريدوا أنْ يَخضَعوا لأيٍّ مِن شَهواتِ الجَسد. وقد أرادوا أنْ يأكُلوا فقط طَعامًا ضئيلاً ومُتَقَشِّفًا. ولم يُرِد بَعضٌ مِنهُم أنْ يَسمعَ أحدًا يَتكلَّم. لِذا فقد نَذَروا نُذورًا بالصَّمت. ثُمَّ جاءت فِكرةُ أنَّ هذا الأمرَ هُوَ اقتِداءٌ بالعَذراءِ مَريم؛ ولكنَّهم لم يُراعُوا البَتَّة حقيقةَ أنَّهُ بعدَ ولادةِ يَسوعَ، فإنَّ مَريمَ ويوسُفَ أَسَّسَا عائلةً تَضُمُّ أبناءً كثيرين. ولكِنَّ الشَّيءَ الَّذي كَذَبَ فيهِ النِّظامُ هو أنَّها بَقِيَتْ عَذراءَ إلى لَحظَةِ مَوتِها.
وقد رَفَعُوا أيضًا مِن شأنِ التَّبَتُّلِ لأنَّهم قالوا إنَّ المسيحَ كانَ عَازِبًا، وإنَّ هذا التَّبَتُّلَ هُوَ أسمى شَكلٍ مِن أشكالِ الاقتداءِ بالمسيح. وقدِ ابتدأتِ الفِكرةُ تَنمو مُن مُنطَلَقِ أنَّهُ مَا دامَ النَّاسُ قد فَعلوا ذلكَ باختيارِهم، أيْ ما دامَ العِلمانِيُّونَ قد فَعلوا ذلكَ باختيارِهم وَبَلغوا هذا المُستوى العَالي مِنَ التَّكريسِ الرُّوحِيِّ، أَلا يَجدُرُ بِقادَتِهم أنْ يَبلُغوا هذا المُستوى العالي. ومَرَّةً أخرى، فقد كانَ ذلكَ بتأثيرٍ مِن بعضِ تلكَ الأفكارِ الفلسفيَّة. أَلا يَجدُرُ بالأساقفةِ والكَهنةِ أنْ يكونوا نَماذِجَ في الزُّهْد! لِذا، في القرنِ الثَّالث، صارَ هُناكَ كَهَنَة مُتَبَتِّلون. ولأوَّلِ مَرَّة في القرنِ الثَّالث، سَنَّ مَجْمَعُ إلفايرا (The Council of Elvira) في إسبانيا أوَّلَ قانونٍ في التَّاريخ يَفرِضُ التَّبَتُّل. وقد سَنَّ أيضًا قانونًا يَقضي بِخَلْعِ الأساقفةِ والكهنةِ والشَّمامسةِ إنْ بَقَوْا معَ زَوجاتِهم وأَنَجبوا أطفالاً بَعدَ رِسامَتِهم. وقد سَمَحوا فقط للأساقفةِ والكَهنةِ الَّذينَ كانوا مُتزوِّجينَ في الأصل أنْ يَبقوا مُتَزَوِّجين. أمَّا إذا تَمَّتْ رِسامَتُكَ، فإنَّ هذا يعني أنَّهُ لا يَجوزُ لكَ البَتَّة أنْ تَتزوَّج.
وهُناكَ مَرسومٌ آخَر وَضَعَهُ المَجمَعُ الرُّومانِيُّ في عهدِ البابا "سيريسيوس" (Siricius) الَّذي تَوَلَّى المَنصِبَ مِن سنة 384 إلى سنة 399. لِذا، هُناكَ بِضعَة عبارات تُوضيحيَّة كُتِبَتْ في ذلكَ القَرْن؛ أيْ في القرنِ الرَّابع. وفي عهدِ "لِيو العَظيم" (Leo the Great) في القرنِ الخامِس، صَارَ قانونُ التَّبَتُّل إلزاميًّا في كُلِّ الكنيسة الغَربيَّة. ولكِنَّ الكنيسةَ الشَّرقيَّةَ لم تَتَبَنَّى هذا القانون (أيِ الكنيسة الأرثوذكسيَّة)، ولكِنَّ الكنيسةَ الغَربيَّة فَعَلت ذلك. فالكنيسةُ الشَّرقيَّةُ سَمَحَت للكَهَنة المُتَزَوِّجينَ أنْ يَظَلُّوا مُتَزَوِّجين، ولكنَّها مَنَعَتْ بعضَ الكَهَنة العَازبينَ مِنَ الزَّواجِ؛ ولكِنَّ تاريخَها لم يَشهَد شيئًا كهذا. لِذا فإنَّكُم تَرونَ ذلكَ يَحدُث في القرنِ الثَّالثِ والرَّابعِ والخامس، ولكنَّهُ لم يَكُن قانونًا مُتَشَدِّدًا أوْ سَريعَ الانتشار. فذلكَ حَدَثَ في سنة 1079 (أيْ في القرنِ الحادي عشر). وأنا أقتبِسُ ما ذُكِرَ عن ذلك:
"لقد أَدَّى هذا المَرسومُ المُختصُّ بالتَّبَتُّل إلى كُلِّ أنواعِ الانحلالِ الأخلاقِيِّ. فقد كانت مَساكِنُ الكَهَنَة غالبًا أَوْكَار فَساد. فقد كانَ مِنَ الشَّائعِ أنْ تَرى كَهَنَةً يَتَرَدَّدونَ على الحَاناتِ، ويُقامِرونَ، ويُعَربِدونَ، ويتَعارَكونَ، ويُجَدِّفون. وقد كانَ عَدَدٌ كبيرٌ مِنَ الكَهَنة يَحتفِظونَ بِعَشيقاتٍ فَصارَتِ الأَديِرَةُ أماكِنَ سَيِّئَة السُّمعة. وفي أماكِن عديدة كانَ النَّاسُ يُسَرُّونَ بِرؤيةِ الكَهَنَةِ معَ عَشيقاتِهم لأنَّ هذا يَعني أنَّ النِّساءَ المُتَزوِّجاتِ في مَأمَنٍ مِنْهُم".
وقد حَدَثَ ذلكَ في عَهدِ رَجُلٍ يُدعى "هيلديبراند" (Hildebrand). وقد عُرِفَ في التَّاريخِ الكاثوليكيِّ باسم "البابا غريغوري السَّابع" (Pope Gregory VII) وعاشَ مِن سنة 1023 إلى سنة 1085. ولماذا فَعلَ هذا؟ أيْ لماذا قَرَّرَ أنْ يكونَ هذا الأمرُ قانونًا ثابتًا؟ عندما فَعلَ هذا، كانَ ما حَدَثَ هو أنَّهُ إنْ أرادَ الكاهِنُ أن يَظَلَّ كاهِنًا، يجب عليهِ أنْ يَنفصلَ عن زوجَتِه تمامًا، وعن أبنائهِ انفصالاً دائمًا وأبديًّا. فَضلاً عن ذلك، كانت كُلُّ مُمتلكاتِهِ تُصادَر. كُلُّها. والسَّببُ؟ سِياسِيٌّ ومادِّيٌّ. فقد كانَ الكَهَنةُ حَتَّى ذلكَ الوقت أشخاصًا أصحابَ نُفوذٍ كبيرٍ جِدًّا. وكانوا أشخاصًا مُتَنَفِّذينَ جِدًّا. وكانَ النَّاسُ يُعطوهُم أشياءَ. لِذا فقد صاروا أثرياء. وقد كانت لديهم عائلات. وقد كانوا يُوَرِّثونَ ثَروَتَهُم فصارت ثَروةُ العائلةِ تَتراكَم. لِذا فقد كانت لديهم عائلات مُتَنَفِّذة وغنيَّة. وقد كانوا يَمتلكونَ أراضٍ. فقد كانوا أصحابَ نُفوذٍ واسِع.
وقد قَرَّرَ البابا غريغوري السَّابع أنَّ الكهنة يَملِكونَ ثَروةً كثيرة جِدًّا، وأنَّ الكنيسةَ ينبغي أنْ تَستولي عليها. فقد كانوا يُوَرِّثونَ ثَروَتَهُم إلى أبنائهم فتصيرُ تلكَ العائلاتُ أكثرَ نُفوذًا مِنْ ذِي قَبل. وإنْ كانتِ الكنيسةُ ستَسودُ على الوِلاية، وإنْ كانتِ الكنيسةُ ستَحكُم العالَم، يجب عليها أنْ تَبتدئ بالسِّيادة على البَلَد. وإنْ أرادت أنْ تَسودَ على البَلَد، يجب عليها أنْ تَستولي على الأملاكِ والثَّروةِ مِنْ أصحابِ السُّلطَة. وقد قالَ "فيليب شاف" (Philip Schaff)، المُؤرِّخُ الأُسطوريُّ، إنَّ الدَّافعَ إلى مُعارَضةِ زَواجِ الكَهَنَة هو مَنْعُ خَطَرِ وُجودِ نَسْلٍ مُتَوارَثٍ قد يَستولي على المُمتلكاتِ الكنَسيَّة ويَستخدِمُها لِمَصلحَتِهِ الشَّخصيَّة فَتَصيرُ الكنيسةُ فَقيرةً. لِذا، كانَ ينبغي للكهنة أنْ يَتَخَلَّوْا عن كُلِّ شيءٍ لديهم للكنيسة، وأنْ لا يُؤسِّسوا عائلاتٍ كي لا يُوَرِّثُوا أيَّ شخصٍ أيَّ شيء.
وهُناكَ مَجمَعُ آخَر عُقِدَ في سنة 1123 حَرَّمَ كُلّ زَواجٍ للكَهَنة وأَعلنَ أنَّ كُلَّ الزِّيجاتِ القائمة بَاطِلَة. وقد رَدَّدَ مَجْمَعُ ترنت القَرارَ ذاتَهُ بعباراتٍ جَازِمَة. وقد تُرِكَتِ النِّساءُ مِن دونِ نَفَقَة. وهُناكَ قِصَصٌ مُرَوِّعة حَقًّا تَقولُ إنَّ بعضًا مِنهُنَّ قَضَيْنَ جُوعًا (أيْ نِساءَ الكَهَنة)، وإنَّ بَعضًا مِنهُنَّ انْتَحَرْنَ، وإنَّ بعضًا مِنْهُنَّ صِرْنَ بائِعاتِ هَوى. وَأحدُ الأُمورِ الغَريبةِ حَقًّا هو أنَّ الكَهَنَة يُدْعَوْنَ "آباء". ولكِنْ على مَنْ يَضْحَكون؟ وفي تلكَ السَّنوات، عندما كانتِ الكنيسةُ تُمارِسُ سُلطَتَها؛ وبالمُناسبة، فإنَّ أكبَرَ مَلَّاكٍ للأراضي على كوكبِ الأرضِ هو الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. فقدِ استمرُّوا في مُراكَمَةِ ثَروةٍ هائلةٍ يَصعُبُ تَقديرُها لِضَخامَتِها. وَالحَقيقَةُ هي أنَّ الفُضولَ يَنتابُ المَرءَ حينَ يَقِفُ في سَاحَةِ القِدِّيس بُطرُس في رُوما ويَنظُر إلى مَصْرِفٍ اسمُهُ "بانكو دي سبيريتوس سانكتوس"؛ أيْ "مَصْرِف الرُّوح القُدُس"! فَهُمْ يُطلِقونَ على كُلِّ شَيءٍ اسمًا دِينيًّا!
وعلى مَرِّ التَّاريخ، خِلالَ هذا الوقت، كانَ الكَهنة الَّذينَ لم يُطيعوا يَتعرَّضونَ للاستهزاءِ والازدراءِ مِنَ النَّاس. وكانَ النَّاسُ يُهاجِموهُم. لِذا، فقد كانَ هُناكَ ضَغطٌ شديدٌ جِدًّا عليهم لكي يَنصاعُوا للكنيسة. ثُمَّ إنَّهُم أُرغِمُوا على العَيشِ في فَقرٍ مُدقِع. وهُناكَ قِصَصٌ عن كَهَنَةٍ تَعَرَّضُوا لِبَتْرِ أعضائِهم على أيدي النَّاس. فإنْ لم يُذعِنوا، كانَ النَّاسُ يُهاجِمونَهُم حرفيًّا ويَقطعونَ أَطرافَهُم. وقد عُذِّبَ بَعْضٌ مِنهُم، وَهَرَبَ بَعضٌ مِنَ البَلدة، وَنُفِيَ بَعضٌ. وإنْ لم يَتَخَلَّوْا عن أملاكِهِم باختيارهم، كانتِ الكنيسةُ تَقبُضُ عليهم، وَتَنفيهم، وتُصادِر أملاكَهُم. وكانَ أبناؤُهم يُوْصَمُونَ بأنَّهُم أولادٌ غيرُ شَرعِيِّين. فقد كانت مأساةً مُريعة. وقد دُفِنَتْ نِساءٌ كثيراتٌ (بحسبِ المُؤرِّخينَ)، مِنْ زَوجاتِ الكَهَنة، في أراضٍ غير مُكَرَّسة.
لِذا، فقد كانَتِ المَسألةُ مَسألةَ سُلْطَة. وكانتْ مَسألةَ أَملاك. لِذا فإنَّكُم تَرَوْنَ هذا السِّيناريو البَشِع. فهُناكَ فَضيحَةُ اللَّاهوتِ الوَثنيِّ البَغيضِ، وغيرِ الكِتابيِّ، والغَريبِ المُختصُّ بالكَهنوتِ والقُدَّاس. وهُناكَ فَضيحةُ السُّلطَة والجَشَعِ الماديِّ لِنظامٍ دينيٍّ شَيطانِيٍّ يُريدُ أنْ يَستولي على الأرض. ونَقرأُ في "مَوسوعة أكسفورد عنِ الإصلاح" (The Oxford Encyclopedia of the Reformation)، تَحرير: "هَنتز هيلديبراند" (Huntz Hildebrand)، مَطبعة جامعة أكسفورد، سنة 1996: "كانَ هؤلاءِ الكهنة الَّذينَ لم يَتزوَّجوا يومًا يَعيشونَ غالبًا في علاقاتٍ طويلةِ الأمد مَعَ عَشيقاتٍ لَهُم، ويَحصُلونَ على إذْنٍ خاصٍّ مِنَ المَسؤولينَ عنهم لتسجيلِ أولادِهم على أنَّهُم شَرعِيُّون. وقدِ ابتدأَ هذا الإجراءُ يَتغيَّر في القرن الثَّاني عَشر عندما أَعلنَ مَجْمَع "لاتيران" (Lateran Council) أنَّ جَميعَ زِيجاتِ الكَهَنة باطِلة وَمَنَعَ الكَهَنَة مِن إقامةِ علاقاتٍ معَ أيَّة نِساء. لِذا، فقد سَمَحُوا بمُمارسةِ الجِنسِ معَ العَشيقاتِ بعضَ الوقتِ، ثُمَّ مَنَعوا ذلك.
وقد كانَ رَدُّ بعضِ رِجالِ الدِّينِ أنَّهُم ثاروا وتَظاهَروا، ولكِنَّ التَّبَتُّلَ صَارَ تَدريجيًّا هو العُرْفُ السَّائد، ولا سِيَّما في أوساطِ رِجالِ الدِّينِ مِنَ الطَّبقةِ العُليا. ولم تَعُدْ نِساءُ العائلاتِ النَّبيلة يُقِمْنَ علاقاتٍ معَ الكهنة لأنَّهُنَّ أَدركنَ أنَّ زَواجَهُنَّ مِنهُم لن يَحظى بالاعتراف. وبالرَّغمِ مِن ذلك، كانَ مِنَ الصَّعبِ تَطبيق مَنْع العلاقاتِ مَعَ العَشيقاتِ وَغَيرها مِنَ المُمارساتِ الجنسيَّة غير الزَّوجيَّة بينَ رِجالِ الكَهنوت. وبحُلولِ القرن الرَّابع عشر، شَجَّعُ المَسؤولونَ ببساطة على التَّكَتُّم؛ أيْ: "كُونوا مُتَكَتِّمينَ وَحَسْب بخصوصِ سُوءِ سُلوكِكُمِ الجنسيِّ".
لِذا فإنَّ ما حَدَثَ هو أنَّ هذا الإجراءَ شَجَّعَ على كُلِّ أنواعِ الانحلالِ الأخلاقيِّ. وكما تَذكرونَ، فإنَّ هؤلاءِ الأشخاصِ لم يكونوا قد اهْتَدُوا حَقًّا. أليسَ كذلك؟ فلا يُمكنُ أنْ يكونوا قدِ اهتَدوا لأنَّهم يَتبعونَ لاهوتًا بَغيضًا. لِذا، فإنَّهم لم يكونوا قادرينَ على كَبْحِ شَهَواتِ الجسد. أليسَ كذلك؟ لِذا، فقد صارَت مَساكِنُ الكَهَنة في هذه الفترة مِنَ التَّاريخِ طَوالَ العُصورِ الوُسطى أَوكارَ فَساد. وقد كانَ مِنَ المألوفِ أنْ تَرى أسوأَ أنواعِ الخطايا وأشنَعِها مِنَ الكهنة. وكانَ هناكَ كَهَنة نَذَروا بالتَّعَفُّفِ وبِبَذلِ الجُهدِ في الحِفاظِ على طَهارَتِهم، ولكِنَّ نَذْرَ التَّبتُّل لم يَكُن نَذرًا بالتَّعُّفف. وبالمُناسبة، بحسبِ القانونِ الكَنَسِيِّ، وهو قانونُ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة، كانَ نَذرُ التَّبَتُّل يُكْسَر إنْ تَزَوَّجَ الكاهِن، ولكنَّهُ لا يُكْسَر إنْ كانت لَهُ علاقة جنسيَّة. فأنتَ لا تَكسِر نَذرَ التَّبَتُّل (كما يقولُ قانونُ الكنيسة) إنْ مَارَسْتَ علاقاتٍ جنسيَّة. ولكِنْ إنْ تَزَوَّجتَ فإنَّكَ تَكسِر نَذْرَ التَّبَتُّل.
لِذا فإنَّ تَبَتُّلَ الكاهِنِ لا يَعني شيئًا. فَهُوَ لا صِلَة لَهُ بسُلوكِهِ. كذلك، أنا أَقرأُ مِنَ العقيدة: "المَغفرةُ عَنِ العلاقاتِ الجنسيَّة تَتَأتَّى مِنْ خِلالِ الاعترافِ إلى زَميلٍ كاهِنٍ". عَجَبًا! فهذا هو كُلُّ ما يَنبغي لكَ القِيامُ به! فأنتَ تُخبرُني بِعلاقَاتِكَ، وأنا أُخبِرُك بعلاقاتي. أليسَ كذلك؟ فهذا هو كُلُّ ما ينبغي لكَ أنْ تَفعلَهُ للحُصولِ على الحِلِّ مِن خطيئَتِك. ولنَضَع هذه المسألة جانبًا وَنَنظُر إلى مَسألةِ الاعترافِ هذهِ بأسرِها؛ أيْ أنْ تأخُذَ أشخاصًا لديهم شهوات جنسيَّة طبيعيَّة وَتَضَعَهُم في موقفٍ لا يُمكنهم فيه أنْ يُمارسوا ذلك في حين ينبغي أنْ يَتَعَفَّفُوا مِن دونِ قُوَّة إلهيَّة. وهذا أمرٌ مُستحيل ولا سِيَّما حينَ تَسودُ الشَّهوة (أيْ شَهوة الجَسد، وشهوة العُيون، وتَعَظُّم المعيشة) لأنَّ هذا هو ما يَجعلُ النَّاسَ يُخطئون. فأنتَ تَضَعُهُم في موقفٍ كهذا، وتَضَعُهُم في أَدْيِرَة، وتَضَعُهُم في كُلِيَّاتِ لاهوتٍ، وتَضَعُهُم في مَساكِن معَ رِجالٍ آخرينَ لديهم نَفس المُيول والإحباطات الجنسيَّة، ثُمَّ تُقْحِمُهُم طَوالَ اليومِ في حُجراتِ اعترافٍ بأسماءٍ مُستَعارة حيثُ يَجلسونَ ويَستمعونَ إلى الجَميعِ يَعترفونَ بِكُلِّ آثامِهِم، ثُمَّ تَقولُ لي إنَّ هذه بيئة صِحِّيَّة، وإنَّ ذلكَ الرَّجُل الَّذي لم يُولَد مِن جديد سيجلس في تلكَ البيئة ويَفتَكِر بأفكارٍ مُقَدَّسة؟ إنَّ هذا استحضارٌ للَّعنَة. وهذا يُنشئُ مُستوىً مِنَ الرِّياءِ لا مَثيلَ لَهُ.
وبالمُناسبة، أنتَ تَحصُلُ على حَلٍّ مِنَ الخطيَّة الجنسيَّة مِن خلالِ الاعترافِ لكاهِنٍ زَميلٍ لَك. ولا يُمْكِنُ لأيِّ كاهِنٍ يَتزوَّج أنْ يَحصُلَ على حَلٍّ مِنَ الخطيَّة إلَّا بطريقة واحدة فقط وهي: مِنَ البَابَا. مِنَ البَابَا. فيجب أنْ تَذهبَ إلى البابا للحُصولِ على حَلٍّ مِنْ خَطيئَتِك. وهذا الحَلُّ يَكونُ مُصْحُوبًا بعقوبة شديدة. لماذا؟ لأنَّهُم يُبالونَ بالكَهَنة المُتزوِّجينَ وبتأثيرِ ذلكَ على سُلطةِ النِّظام أكثرَ مِمَّا يُبالونَ بالكهنةِ الَّذينَ يَقترفونَ خطيَّة جنسيَّة. فالزَّواجُ أسوأُ جِدًّا [في نَظَرِهم] مِنَ الخطيَّة الجنسيَّة لأنَّهُ يُهَدِّدُ سُلطةَ الكنيسةِ وأملاكَها. وبالرَّغمِ مِن ذلك، أليسَ مِنَ العجيبِ أنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة تُصِرُّ على أنَّ ذلكَ الزَّواجَ واحدٌ مِنَ الأسرارِ المُقدَّسة (وَهُوَ سِرُّ الزَّواج)! ومعَ ذلك، فإنَّ سِرَّ الزَّواجِ لأقدسِ أشخاصٍ (أيِ الكَهنة والرَّاهباتِ) يُنْكَرُ عليهم. وبالمُناسبة، فإنَّ مَجمعَ ترنت أَعلنَ اللَّعنةَ على كُلِّ مَن يُعَلِّم أنَّ الزَّواجَ أَفضَل مِنَ التَّبَتُّل. لِذا فقد لَعَنُوا كُلَّ شخصٍ يَظُنُّ أنَّ الزَّواجَ أفضَل مِنَ العُزوبة.
وكما تَعلمونَ، لقد قالَ يسوعُ إنَّ هُناكَ أشخاصًا كثيرينَ لا يَستطيعونَ أنْ يَحتملوا هذا الأمر. وقد قالَ بولُس إنَّ الزَّواجَ أفضلَ مِنَ التَّحَرُّق. واسمحوا لي أنْ أقولَ لكم إنَّ الزَّواجَ أفضل حَتَّى للعازبينَ مِن غيرِ الكَهَنة، ولا سِيَّما إنْ كانوا عازِبينَ مُنذُ وقتٍ طويل. وسوفَ أُقَدِّمُ لكم نصيحة صغيرة: اعثُر على شخصٍ مَا. لا تَنتظر مَجيءَ المَسيحِ ثانيةً. اعثُر على شخصٍ ما. فعليكَ أنْ تُدركَ أنَّ هُناكَ تَجربة وأنْ تُقاوِمها. ومِن وُجهةِ نَظرِ الكَهنوت، هناكَ نَجاسَة مُتأصِّلة في الزَّواج؛ وهي فِكرة مِنْ مُخَلَّفاتِ الأفكارِ المَانِيَّة والغنوسيَّة عن شَرِّ الجسد. فَقد كانوا يُعَلِّمونَ أنَّ هناكَ نَجاسة في الرَّغبة العاطفيَّة، وأنَّ هناكَ نَجاسة في الحُبِّ الطَّبيعيِّ، وأنَّ هناكَ شَيئًا مُخْزِيًا في ذلك، وأنَّ الرَّغبة في التَّناسُل هي عَدُوَّة التَّكريسِ الرُّوحِيّ.
إنَّ قَلبي يَتَقَطَّع حَقًّا على الكَهنة. فَهُم حَرفيًّا ... أعتقد أنَّهم حَرفيًّا في حالاتٍ كثيرة قَنابِل جنسيَّة مَوقوتَة. والنُّقطة الجوهريَّة هي فقط: مَتى سَيَنفجرون! فتلكَ المجموعة لديها نَظرة مُشَوَّهة عنِ الزَّواجِ لأنَّهم يُرَكِّزونَ أنظارَهُم كثيرًا على الجانبِ الجِنسيِّ مِنهُ. فَهُم يَظُنُّونَ أنَّ الزَّواجَ يَتَمَحوَرُ حَولَ الجنسِ، وَحَوْلَ إنجابِ أطفالٍ كاثوليك. فهذا هو كُلُّ ما في الأمر.
وقد دُهِشتُ حينَ قَرأتُ كِتابًا لِـ "لورين بوتنر" (Lorraine Boettner) بعنوان: "الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة" (Roman Catholicism) الاقتباسَ التَّالي: "أكبر مَجموعة كُتُب في العالَم عن موضوعِ الجنسِ موجودة في مَكتبةِ الفاتيكان". مَنِ الَّذي يَستعيرُ تلكَ الكُتُب؟ فَهَل هُمْ هُناكَ يُجرونَ دراساتٍ وأبحاثًا؟ يا لَهُم مِن أُناسٍ مَساكين! إنَّ هذا حُكْمٌ مُرَوِّعٌ عليهم. فقد كانَ مِنَ الأفضل أنْ يُوضَعُوا في سِجْنٍ إلى حين على أنْ يَخرجوا مِنهُ ويعيشوا حياةً عاديَّة. ولكي نَفهمَ الموقِفَ الكاثوليكيَّ الرُّومانيَّ مِنْ وَضْعِ الرِّجالِ والنِّساءِ في أَديِرَة، يجب أنْ تَفهموا النَّظرة الرَّئيسيَّة لذلك النِّظام. ففي العُصورِ الوُسطى، نَمَتْ فِكرة في اللَّاهوتِ الكاثوليكيِّ الرُّومانِيِّ تقول إنَّ عَمَلَ الإنسانِ يَنبغي أنْ يُجَزَّأ. وهذا أمرٌ مُهِمٌّ في نِظامِهم. ففي العُصورِ الوُسطى، كانَ ينبغي أنْ يُجَزَّأَ عَمَلُ الإنسانِ إلى عَمَلٍ عَاديٍّ (أو عِلمانيٍّ) وَعَمَلٍ رُوحِيّ. فهذانِ الأمرانِ مُنفصلان تمامًا.
والعملُ الرُّوحيُّ هو العملُ الوحيدُ المَرْضِيُّ أمامَ اللهِ. ومَرَّة أخرى، فإنَّ هذه النَّظرة هي نَفسُ الفِكرة القديمة للفلسفة الثُّنائيَّة. لِذا، معَ أنَّ الإنسانَ الطَّبيعيَّ قد يكونَ قانِعًا بالفَضائلِ العاديَّة للحياةِ اليوميَّة، فإنَّ الشَّيءَ المِثاليَّ هو أنْ يَمتَنِعَ الشَّخصُ الصُّوفِيُّ عن كُلِّ الأمورِ الحياتيَّة اليوميَّة، وأنْ يُرَكِّزَ فقط على تَنميةِ الجانبِ الرُّوحِيِّ فيه، وأنْ يَذهبَ إلى مَكانٍ مَا يُمكِنُهُ فيهِ أنْ يَنغَمِسَ فيهِ في تَأَمُّلٍ عَميق، وأنْ يَجِدَّ في طَلَبِ الأمورِ الرُّوحيَّة. فقد كانوا يَنظرونَ إلى أنَّ الأعمالَ العاديَّة تُعيقُ ذلك (سواءٌ كانَ عَمَلاً أو زَوجةً أو أبناء أو بيتًا). فحياةُ الرَّاهبِ أوْ الرَّاهبةِ المُتَمَثِّلة في الانسحابِ مِنَ المُجتمعِ، والانسحابِ مِنَ العمل، والانسحابِ مِنَ العالَم، والانعزالِ في ذلكَ الدَّيْر، والانغماسِ في التَّأمُّلِ الصُّوفِيِّ هي الحياةُ الأسْمَى حَقًّا. ثُمَّ إنَّهم ابتدأوا يَرْتَدونَ تلكَ الثِّيابَ السَّوداء؛ وهي نفسُ الثِّيابِ الَّتي كانوا يَرتدونَها في العُصورِ الوُسطى. وفي كُلِّ مَرَّة تَرى فيها هؤلاءِ الأشخاصَ يَمشونَ وَهُمْ يَرتدونَ تلكَ الملابِس السَّخيفة، تَذَكَّر أنَّهُم كانوا يَلبسونَها مُنذُ العُصورِ الوُسطى، وأنَّهُم يحاولونَ أنْ يَترُكوا فينا انطباعًا بأنَّهم أشخاصٌ أَسْمَى مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ العَالِقينَ في أمورِ الحياةِ المُبتَذَلة.
وَهُم يُؤمِنونَ حَقًّا بأنَّهُ مِنْ خِلالِ الانعزالِ عنِ العالَمِ، فإنَّ صُورةَ اللهِ الَّتي تَشَوَّهَتْ في السُّقوط يُمكِن أنْ تُستَرَدَّ مَرَّةً أخرى، وأنَّ التَّبَتُّلَ هوَ الحالة الأكثر قَدَاسَةً. وحَتَّى إنَّ بَعضًا مِنهُم خَصَوْا أنفُسَهُم ظَنًّا مِنهُم بأنَّ ذلكَ سَيُزيلُ عُنصُرَ التَّجرِبَة. وفي النِّهاية، أدَّتْ تلكَ النَّظرة الصُّوفِيَّة القائلة إنَّ العالَمَ الماديَّ شِرِّير، وإنَّهُ نِطاقٌ ينبغي تَجَنُّبُهُ قدرَ المُستطاع، أَدَّتْ إلى احتقارِ الأشياءِ الدُّنيويَّة وإلى الانعزالِ في تلكَ الأَديِرَة. ويُمكنكم أن تَقرأوا قِصَصًا عن هؤلاءِ النَّاسِ. فقد ذَهبوا إلى تلكَ الأماكِنِ، وجَلسوا فيها، وَعُذِّبوا بِنيرانِ التَّجربة. اقرأوا قصَّةَ "إلُويز وأبيلار" (Heloise and Abelard). فَمِنَ المُرعِبِ أنْ تُحاولَ أنْ تَعيشَ هكذا. ولكِنْ هذه هي العقليَّة الَّتي نَشَأَ عليها هؤلاءِ الكَهَنة والرَّاهبات المُتَبَتِّلونَ الَّذينَ يَنظرونَ إلى الحياةِ نَظرةً صُوفيَّة. ولكِنْ مِنْ جِهَةِ البروتستنت، جاءَ الإصلاحُ وهَدَمَ كُلَّ ذلكَ. وقد فَعَلَ ذلكَ باستخدامِ حقيقة لاهوتيَّة مُهمَّة جِدًّا وهي كالتَّالي: أنَّهُ في نَظَرِ اللهِ، لا يوجد فَرق بينَ الأمورِ المُقدَّسة (أوِ الرُّوحيَّة) والأمورِ غيرِ الدِّينيَّة لأنَّهُ أيًّا كانَ الشَّيءُ الَّذي تَفعَلُه (سواءٌ أَكلتَ أو شَرِبتَ) فإنَّكَ تَفعلُ ذلكَ لأجلِ ماذا؟ لأجلِ مَجدِ اللهِ. فاللهُ يُمكنُ أنْ يَتَمَجَّدَ مِن خلالِ الطَّريقةِ الَّتي تَتناوَلُ فيها عَشاءَكَ.
لقد فَهِمَ البروتستنت وَفَهِمَ الإصلاحُ أنَّكَ لا تَخدِمُ اللهَ مِنْ خلالِ الانعزالِ عنِ العالَم. وَحَتَّى إنَّ يسوعَ صَلَّى إلى الآبِ قائلاً: "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ [في أثناءِ عَيشِهِم في العالَمِ] مِنَ الشِّرِّيرِ". فنحنُ نُؤمِنُ بأنَّ العالَمَ سَاقِطٌ، ولكِنَّهُ عَالَمُ أبينا. أليسَ كذلك؟ فيُمكنني أن أَنظُرَ إلى كُلِّ شيءٍ في هذا العالَمِ (باستثناءِ الخطيَّة) وأنْ أرى مِنْ خِلالِهِ طَريقةً لتمجيدِ الله. وقد أَضْفَى الإصلاحُ قَداسَةً على كُلِّ شيء. ويُمكنكم أنْ تَرَوْا ذلكَ لأنَّهُم أَدركوا أنَّ كُلَّ شيءٍ في النِّظامِ الكاثوليكيِّ يَختصُّ بالكَهنوتِ والأَديِرَة والتَّنَسُّكِ (مِنْ قِبَلِ النُّسَّاكِ والرُّهبانِ) هُوَ شيءٌ شِرِّير لأنَّ هؤلاءِ كانوا يَنظرونَ إلى أنَّ كُلَّ شيءٍ ماديٍّ هُوَ شَرٌّ في ذاتِهِ، ولأنَّهم أَهملوا حقيقةَ الحياةِ الرُّوحيَّة الَّتي تقولُ إنَّنا نَعيشُ هُنا في هذا العالَمِ، وإنَّ كُلَّ شيءٍ في هذا العالَمِ يُعطينا فُرصةً لتمجيدِ الله.
وهل تَعلمونَ أنَّ نُزَلاءَ الأَديِرَةِ (وأنا أُسَمِّيهم "نُزَلاءَ الأَديِرَةِ) هُمْ رِجالٌ غيرُ مُتَزَوِّجين. وهذا أمرٌ غَريبٌ وغيرُ مَألوف. فَهُمْ يَقولونَ (بِحَسَبِ إحصائيَّة قَرأتُها اليوم عنِ الولاياتِ المُتَّحِدَة) إنَّ خمسينَ بالمئة مِن هؤلاءِ يَكونونَ مِثليِّينَ جِنسيِّينَ في الوقتِ الَّذي يَذهبونَ فيهِ إلى هُناك. وهذا يَعني أنَّ فُرصةَ البقيَّةِ صارت مَعدومَة. فهؤلاءِ الأشخاصُ مُفْتَرِسون. كذلكَ، فإنَّ الأَديرَةَ تُشَجِّعُ على نَمَطِ حياةٍ غيرِ طَبيعيٍّ وتَفعلُ أُمورًا شَنيعةً بالنِّساءِ هُناك. وهُناكَ نِساءٌ كثيراتٌ يَذهبنَ إلى هُناكَ بِنَوايا حَسَنة؛ كما هي حالُ الكَهَنة أيضًا. وهُناكَ رُتَبٌ مِنَ الكَهَنة (الدومينيكان، والفرانسيسكان واليَسوعيِّينَ) الَّذينَ لا يُحِبُّونَ بَعضُهُم بعضًا. وأنتُم تَعلمونَ ذلك. وهُناكَ فُرصة للتَّبَتُّلِ الطَّوعِيِّ. فَهي بَرَكَة إنْ كانت لديكَ الموهبة (كما قالَ بولُس). ولكِنْ أنْ تُنكِرَ على شخصٍ حَياتَهُ العائليَّة الطَّبيعيَّة، وأنْ تُنكِرَ على شخصٍ علاقاتِهِ الطَّبيعيَّة هو أمرٌ قَاسٍ وَوحشيٍّ يَرمي إلى حِمايَةِ سُلطَةِ النِّظام.
وهل تَعلمونَ أنَّ الشَّيءَ السيِّئ جِدًّا بخصوصِ الكهنة هو أنَّهُم أشَخاصٌ لا قيمة لَهُم في نَظَرِ النِّظام. فَهُمْ أشخاصٌ لا ماضي لَهُم لأنَّهُم عندما جاءوا للالتحاقِ بالكَهنوتِ (أوْ عندما جِئْنِ لِيَصِرْنَ رَاهبات)، تَخَلَّوْا عن كُلِّ مُمتلكاتِهم وعلاقاتهم. فَهُمْ يَقتبسونَ لَهُم الآيةَ الَّتي تقول إنَّهُ إنْ لم يَترُكِ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويُبغِض أباهُ وأُمَّهُ فإنَّه لن يَكونُ تِلميذًا لي. لِذا، فإنَّهُم يُلِحُّونَ عليك جدًّا كي تُبغِضَ كُلَّ شيءٍ يُبالي بِهِ أَبواكَ. لِذا فإنَّهُم يَفصلونَكَ عن ماضيك. وأنتَ ليسَ لكَ حاضِرٌ لأنَّكُ لا تُشارِكُ حياتَكَ معَ أيِّ شخصٍ. وَمِنَ المؤكَّدِ أنَّهُ ليسَ لكَ مُستقبَل. وهذا أمرٌ مُحزِن. فهذه القُيودُ الَّتي لا مُبَرِّرَ لها لا تُساعِدُ في القداسة الشَّخصيَّة، بلِ اسمحوا لي أن أقولَ لكم إنَّها تُعيقُها ... تُعيقُها بِشِدَّة.
وقد كَتَبَ "تشارلز هودج" (Charles Hodge)، وَهُوَ لاهُوتِيٌّ، هذه الكلماتِ الَّتي نَفعَلُ حَسَنًا إنْ تَذَكَّرناها، في كِتابٍ لَهُ بِعُنوان: "اللَّاهُوتُ النِّظامِيُّ" (Systematic Theology): "في حالةِ الزَّواجِ فقط تَظهَرُ أَنقى المبادئِ، وأرفَعُها، وأَسمَاها فيما يَختصُّ بطبيعَتِنا. فَكُلُّ ما يَخُصُّ البِرَّ بالوَالِدَيْن، وعاطفةَ الأُبوَّة، وبصورة خاصَّة: عاطفةَ الأُمومة، يَتوقَّفُ على الزَّواجِ في وُجودِهِ. ففي حِضْنِ العائلة، هُناكَ دَعوة مُستمرَّة إلى أعمالِ اللُّطفِ، وإنكارِ الذَّاتِ، والتَّسامُح، والمحبَّة. لِذا فإنَّ العائلةَ هي الرُّوحُ الَّذي ينبغي اعتمادُهُ فيما يَخُصُّ كُلَّ الفضائلِ الاجتماعيَّةِ. ولا نُجانِبُ الصَّوابَ إنْ قُلنا إنَّ الأخلاقَ والتَّدَيُّنَ المَوجودَيْنِ في البُيوتِ المسيحيَّةِ هُما أكثر بكثير مِمَّا هو موجودٌ في مَنازِلِ الكهنةِ الخَاوِيَة أوْ في زِنزاناتِ الرُّهبانِ والرَّاهباتِ الكئيبة".
فالكهنةُ أشخاصٌ فُقراءُ، ومُحَطَّمون، ومأساوِيُّون، وحَزينون، ومَعزولون. وَهُمْ بلا مَاضٍ، ولا حَاضِر، ولا مُستقبَل. وَهُم يَحتقرونَ قُدسيَّةَ العلاقةِ الزَّوجيَّة. وَهُم يُنكرونَ العلاقاتِ الطَّبيعيَّة والصَّداقةِ الكامِنَةِ في الزَّواج. وَهُم ضَحايا نِظامٍ مُريعٍ ليسَ قائمًا البَتَّة على الكتابِ المقدَّس. فهي عمليَّة تُحَطِّمُ النُّفوسَ وَتَترُكُها في مَوقِفٍ تَتَعَرَّضُ فيهِ إلى تَجربةٍ قاسية، وَتَتَعَرَّضُ فيهِ إلى الأسوأ. والطَّريقةُ الوحيدُ لإشباعِ تلكَ الغَرائزِ هي عن طريقِ الانغماسِ في الخطيَّة. وَهُمْ لا يَمتلكونَ حَاجِزَ الحياةِ المُتَغَيِّرَة أوِ المُقَدَّسة. وقد كَتَبَ "إيميت مكلوفلين" (Emmett McLoughlin): "إنَّ حَياةَ الكاهِنِ..." (وقد كانَ كاهِنًا سابقًا) "...هي حياةُ وَحْدَةٍ رَهيبة. فهو يَعيشُ في دَيْرٍ كَبير، ولكنَّهُ يَظَلُّ يُعاني بسببِ الوَحدة. والكَهنةُ الآخرونَ لا يُبالونَ بِهِ أوْ بِشُكوكِهِ أوْ حَيْرَتِه. وإنْ كانَ هو الكاهِنُ الوحيدُ في دَيرٍ نَاءٍ أوْ في مَأموريَّة بعيدة، فإنَّهُ يُعاني وَحدةً أكبَر. وإذْ تَنْقَضي الأعوامُ عليهِ وَتَبهُتُ ذِكرياتُ كُليَّةِ اللَّاهوتِ وَقَسوَتها، قد يُدركُ أنَّ حَياتَهُ ليست خارقةً للطَّبيعة، بل هي مُجَرَّدُ إحباطٍ نَفسيٍّ ورُوحِيٍّ وجَسَدِيٍّ.
"وهو يَرى في أَبرشيَّتِهِ وَمُجتَمَعِهِ الحياةَ الطَّبيعيَّةَ الَّتي فُصِلَ عنها، وَيَرى الطُّفولةَ العَفويَّةَ الَّتي حُرِمَ مِنها. وهو يَرى الرِّفاقَ البَريئينَ والعاديِّينَ في فَترةِ المُراهقةِ؛ وَهُمْ رِفاقٌ لم يَحْظَ يَومًا بِرِفقَتِهم. وَهُوَ يُمَارِسُ طُقوسَ الزَّواجِ فيما يَتَعَهَّدُ الشُّبَّانُ والشَّابَّاتُ بَعضُهُم لِبَعضٍ بِعُيونٍ كُلُّها أَمَل بأنْ يَعيشوا أفضلَ حياةٍ مَعًا وأنْ يَحْظَوْا بأفضلِ مُتعة معًا. وهو يَقِفُ وَحْدَهُ وَحيدًا على المَذبحِ حينَ يَترُكونَهُ وَيَمضونَ بِثِقَةٍ وَطَيشٍ وفَرَحٍ إلى بَيتِهِم المُستقبليِّ، وعائلتِهم، وعَمَلِهِم، ومَتاعِبِ وَنَجاحاتِ الحياةِ الطَّبيعيَّة.
"وَالأصعبُ مِن هذا كُلِّه هو أنَّهُ يَسعى إلى العُثورِ على رِفْقَةٍ، أيْ عَلى رِفْقَةِ أشخاصٍ عادِيِّينَ ليسوا مُحبَطينَ، وليسوا ضَحايا وَاهِمينَ مِثلَهُ. فهو يُريدُ رِفْقَةَ رِجالٍ ونِساءٍ يَافِعينَ وَراشِدينَ كي يَتَمَكَّنَ مِنَ الدُّخولِ (ولو افتراضيًّا) في علاقةٍ معَ آخرينَ للتَّعويضِ عنِ العلاقاتِ الَّتي حُرِمَ مِنها والتي يَشعُرُ (في اللَّاوَعْيِ على أَقَلِّ تَقدير) أنَّهُ يَتوقُ في أعماقِهِ إليها. فلا يوجد كاهِن سَمِعَ اعترافاتِ كاهِنٍ آخر، ولديهِ أيُّ تَوقيرٍ للحَقِّ، يُمكِن أنْ يُنكِر أنَّ العلاقاتِ الجنسيَّة شائعة جِدًّا بينَ رِجالِ الإكليروس. وما يُبالي بهِ المسؤولونَ هو أنْ يُعامِلَ الكَهَنَةُ هذهِ القَضايا بِتَكَتُّم".
هذا هو الواقعُ المُحزِن. وهذه هي الفَضيحَة. وفي تلكَ البيئة، كُلُّ أنواعِ الخطيَّة مَوجودة بِكَثرة. وفي بِلاد كثيرة في العالَم، فإنَّ الخطيَّةَ السَّائدة هي الخَطِيَّةُ الجِنسِيَّةُ بينَ رَجُلٍ وامرأة إذْ إنَّ الكَهَنَة يَتورَّطونَ بعلاقاتٍ مَعَ نِساءٍ في الأبرشيَّة، أو معَ العاهِراتِ، أو حَتَّى معَ الرَّاهِبات. ولكِنْ في هذا الوقتِ الحاضر، وَهُوَ أمرٌ يَحدُثُ مُنذُ خَمسينَ سنة ولكنَّنا أَدركناهُ اليوم، فإنَّ الجِنسيَّةَ المِثليَّةَ كانت وما تَزالُ جُزءًا مِن هذه الحياة. ونحنُ نَكتشفُ الآنَ أنَّها تَستفحِلُ أكثر فأكثر. والحقيقة هي أنَّني قَرأتُ مَقالةً عَجيبة. وقد كانت مَقالة نُشِرَت في الصَّفحةِ الافتتاحيَّة (أعتقد في صَحيفة "لوس أنجليس تايمز" [L.A. Times]) كَتَبَها رَجُلٌ وقالَ فيها إنَّ المُشكلةَ بِرُمَّتِها بهذا الخُصوص...المُشكلةَ بِرُمَّتِها تَرجِعُ في الأصل إلى الكنيسة. فالكنيسةُ هي الَّتي فَرَضَتْ هذا الأمر. فهي الَّتي أَدَّتْ إلى حُدوثِ ذلك (أيْ إلى اغتصابِ الأولادِ والتَّحَرُّشِ الجِنسيِّ بالأطفال) لأنَّ الكنيسةَ تقولُ إنَّ المِثليَّةَ الجِنسيَّةَ خَطيَّة. وهذه هي السِّمَة الغَريبة في هذه المقالة الافتتاحيَّة). فالكنيسةُ تقولُ إنَّ المِثليَّةَ الجِنسيَّةَ خَطيَّة. لِذا فإنَّ الطَّريقةَ الوحيدةَ الَّتي يَستطيعُ مِنْ خِلالِها المِثليُّونَ الجِنسيُّونَ مِنَ الرُّومِ الكاثوليك أنْ يَحْظَوْا بالقَبولِ مِنَ الكنيسةِ هي أنْ يَصيروا كَهَنة! لِذا، عندما أَعلنتِ الكنيسةُ أنَّ المِثليَّة الجِنسيَّة خطيَّة، فإنَّها أَرغمتِ المِثليِّينَ الجِنسيِّينَ (الَّذي يُريدونَ أنْ يكونوا كَاثوليكَ صَالِحينَ) على أنْ يَصيروا كَهَنة.
وقد قَرأتُ مَقالةً أخرى اليوم (أعتقد في صحيفة "نيويورك تايمز" [The New York Times]) أعَرَبَ فيها كاتِبُها عن قَلَقِهِ مِنْ أنْ يَصيرَ هُناكَ اضطِهادٌ للمِثليِّينَ الجِنسيِّينَ في الكنائسِ الكاثولكيَّةِ في الولاياتِ المُتَّحِدة. فهناكَ خمسةٌ وأربعونَ ألفَ كَاهِنٍ. وهُناكَ تَخَوُّفٌ مِنْ أنْ تَصيرَ هُناكَ حَمْلاتُ بَحثٍ واضطِهادٍ تَطَالُ المِثليِّينَ الجِنسيِّين. فَكُلُّ جَماعاتِ الضَّغطِ المُدافِعَة عنِ المِثليِّينَ الجِنسيِّينَ قَلِقَة مِنْ حُدوثِ ذلك. فَهُمْ موجودون. وهذا هو المَكانُ الَّذي تَرغَبُ في الوُجودِ فيه إنْ كُنتَ مِثليًّا جِنسيًّا. وهذا هو الواقِعُ المُؤسِفُ لِما جَرى وَيَجري. وأودُّ أن أُعَلِّقَ على ذلك، ولكنِّي لن أُطيلَ الحَديث. فَالتَّحَرُّشُ الجِنسيُّ بالأطفال هو ليسَ بدايةَ أيِّ شيء، بل هو نِهايةُ رِحلةٍ طَويلةٍ مِنَ الإدمانِ على الموادِّ الإباحيَّة. فأنتَ لا تَبتدئ مِنْ تِلكَ النُّقطة، بل تَنتهي عِندَها. فهذا هو ما يَجري. فأنتَ تَأخُذ ما هُوَ مُتاح، ثُمَّ إنَّ الانحرافَ يَتطلَّبُ المَزيدَ والمَزيدَ مِنَ السُّلوكِ المُنحَرِفِ الَّذي يَطالُ أشخاصًا أصغَر فأصغَر فأصغَر سِنًّا. وقد قالَ لي أحدُ الأشخاصِ العامِلينَ في تَطبيقِ القانون: "التَّحَرُّشُ الجِنسيُّ بالأطفال هو مُجَرَّدُ مَطبَخٍ على مَتْنِ قِطارٍ طَويل".
لِذا، مِنَ السّهلِ عَلينا أنْ نَرى سَبَبَ حُدوثِ ذلك في هذا النِّظامِ المُريعِ المُرَوِّع. وبالرَّغمِ مِن ذلك، فإنَّهُم عاجِزونَ عن تَغييرِ ذلك. فَهُمْ عاجِزونَ عَن تَغييرِ ذلك بسببِ إرْثِ الكنيسةِ وعِصمَتِها. وواحدٌ مِن عناصِرِ ذلك هو أنَّكَ إذا كُنتَ كاهِنًا، فإنَّكَ تَبقى كاهِنًا ولا يُمكِنُ لذلكَ أنْ يُنقَضَ أوْ يُبطَلَ. وطَالَما أنَّكَ لم تَتزوَّج، كُلُّ ما ينبغي لكَ أنْ تَفعلَهُ هو أنْ تَعتَرِفَ لكاهنٍ آخرَ. وهذا يُخَلِّدُ سُلطَةَ النِّظام. وهذا هو السَّببُ في أنَّكُم تَرَوْنَ الكَرادِلَة يَذهبونَ إلى إيطاليا ويَعودون. فما الَّذي حَدَث؟ لا شيء. فلم يَحدُث أيُّ شيء لأنَّهُ لا يُمكن لأيِّ شيءٍ أن يَحدُث. وماذا عنِ البابا؟ ماذا قال؟ لا شيء. فلا يوجد شيءٌ يُقال.
وهُناكَ مَوضوعٌ ينبغي أنْ نَتحدَّثَ عنهُ. فالأمرُ لا يَقتصِر على الانحطاطِ الأخلاقيِّ للأديِرَةِ ومَساكِنِ الرُّهبانِ. وَهُوَ شيءٌ أُسطوريّ ... إنَّهُ أُسطورِيٌّ في كُلِّ مكان. فقد كُنتُ أقرأُ مَقالةً تَتحدَّثُ عن كيفَ أنَّ الأطفالَ في البَلداتِ الصَّغيرة في إيطاليا وغيرِها هُم في الحقيقة أطفالُ الكَهَنة؛ لِذا فإنَّ الأطفالَ يَدعونَ الكاهِنَ: "عَمِّي". ولا شَكَّ أنَّ اللَّقَبَ "أَبَ" لا يَفضَحُ أيَّ شيء. ولكِنَّ التَّبَتُّلَ الإجباريَّ أَدَّى إلى الانحرافِ الجنسيِّ. وكما تَعلمونَ، فإنَّ "جون كالفِن" (John Calvin) تَحَدَّثَ عن ذلك. فقد تَحَدَّثَ عن ذلك في كِتابِهِ "الأُسُس المَسيحيَّة" (Institutes): "مَرَّةً، نَراهُم يُظهرونَ حَزمًا وعَدَمَ مُرونة إذْ لا يَسمحونَ للكهنةِ أنْ يَتزوَّجوا. لِذا فقد تَفَشَّت حالاتُ الفُحشِ الجِنسيِّ بينهم". (جون كالفِن). وَهُوَ يَقولُ أيضًا: "وقد تَمَادَوْا في ذلكَ بسببِ تَبَتُّلِهِم الدَّنِس فَصَاروا قُساةَ القَلبِ في كُلِّ جَريمةٍ يَقترِفونَها. فهذا الحَظرُ لم يَحرِم الكنيسةَ وَحَسْب مِنْ وُجودِ رُعاةٍ مُستقيمينَ وأكْفاء، بل إنَّهُ صَنَعَ هُوَّةً مُريعةً مِنَ الفَظاعاتِ وَطَرَحَ نُفوسًا كثيرةً في بَالوعَةِ اليأسِ".
وقد قامَ "هِنري الثَّامِن" (مَلِك إنجلترا) في سنة 1535 بِتَعيينِ مُفَوَّضينَ لِتَفتيشِ جَميعِ أَديِرَةِ الرُّهبانِ والرَّاهباتِ. وَيا لِفَظاعَةِ الأمورِ الوَحشيَّةِ والفَاسِدَةِ الَّتي تَمَّ اكتشافُها. وقد كَتَبَ "بويتنر" (Boettner): "بسببِ فَظاعةِ الأمورِ الوَحشيَّةِ والفاسِدَةِ الَّتي تَمَّ اكتشافُها، صَدَرَتْ صَرخَةٌ عَنِ الأُمَّةِ مُطالِبَةً بِهَدمِ كُلِّ تلكَ الأماكِن". ولم يَكُن هنري الثَّامن ... لم يَكُن هنري الثَّامن شَخصًا ذَا أخلاقٍ عالية، ولكنَّهُ هَدَمَ تلكَ الأماكِن. "وكانَ سُقوطُ الأديرةِ يُعْزَى إلى الحياةِ المُريعةِ الَّتي يَعيشُها الرُّهبانُ والنُّسَّاكُ والرَّاهِبات".
وقد كَتَبَ "هنري بامفورد باركس" (Henry Bamford Parkes) تاريخَ المَكسيك. وفي ذلكَ التَّاريخ كَتَبَ ما يَلي: "كانَ وُجودُ عَاشِقاتٍ للكَهَنَة هوَ القاعِدة وليسَ الاستثناء. وقد كانَ الرُّهْبانُ يَطوفونَ شَوارِعَ المُدُنِ بِرِفقةِ نِساءٍ. وكانَ هُناكَ كَهَنَة كثيرونَ جَهَلَة وطُغاة إذْ إنَّ كُلَّ اهتمامِهِم في أَبرشيَّاتِهم كانَ مُنصَبًّا على ابتزازِ النَّاسِ عندَ الزَّواجِ والمَعموديَّةِ والجَنائِز. وقد كانُوا يُسيئونَ استخدامَ مَقصوراتِ الاعتراف". وهذا أمرٌ مُريع!
وهُناكَ الكثيرُ مِنَ الأشياءِ المُدهشة عنِ الرَّاهِبات. ولطَالَما تَساءلتُ عن سَبَبِ قِيامِ أيِّ شخصٍ بهذا الأمر. أليسَ كذلك؟ فلماذا يَفعلُ أيُّ شخصٍ ذلك؟ وفي أثناءِ قِراءَتي، اكتشفتُ أنَّ كُرسيَّ الاعترافِ هو مُقصورةُ التَّجنيدِ في الأَديِرَة. فعندما تَذهبُ امرأةٌ إلى الدَّير فإنَّها تَتَبَرَّأُ مِن عائلَتِها. فقد قِيلَ لها في الأصل إنَّهُ يجب عليها أنْ تُبغِضَ أبَوَيْها وعائلتَها. وهذا انفصالٌ صَعبٌ على المرأة. وهو أَصعَبُ عليها مِنَ الرَّجُل. ويجب عليها أنْ تُضَحِّي بِكُلِّ غَرائِزِ الأُمومَةِ الَّتي حَبَاهَا اللهُ بِها. ويجب عليها أنْ تُميتَ فِكرةَ أنْ يَهتمَّ بِها رَجُل (وَهي رَغبة حَبَاهَا اللهُ بها أيضًا) وذلكَ في سَبيلِ الدُّخولِ في هذه البيئة الصُّوفيَّة. وَهُمْ يُعطونَها خَاتَمَ زَواجٍ لأنَّها تَزَوَجَتْ مَنْ؟ يَسوع. ويجب عليها أنْ تَرتدي هذا الرِّداءَ الغَريبَ الَّذي يَرجِعُ تاريخُهُ إلى العُصورِ الوُسطى والمُؤلَّفِ مِن ثَوبٍ طَويلٍ أسود يَرمِزُ إلى الحُزن. فهذا هو المَغزى مِن هذا الثَّوب. فهو يَرمِزُ إلى الموت. ثُمَّ يجب عليها أنْ تَرتدي مِنديلاً غَريبًا على رأسِها لا يَصلُحُ لا للصَّيفِ، ولا للشِّتاءِ، ولا للرِّيح.
ولكِن أَتَعلمونَ أنَّهُم يُقنُعونَ الفَتياتِ أنْ يَصِرْنَ رَاهِباتٍ في مَقصوراتِ الاعتراف. فَهُمْ يَستغِلُّونَ بِصورة خاصَّة النِّساءَ اللَّاتي تَحَطَّمْنَ بسببِ علاقةٍ مَا وَجُرِحْنَ جُرحًا عميقًا. وَهُمْ يَعرِفوهُنَّ لأنَّهُ في الأبرشيَّاتِ، يَستمرُّ نَفسُ الأشخاصِ في ارتيادِ الكنيسة. وَهُم يَبحثونَ عن نَفسٍ مُرهفةِ الحِسِّ تَأتي دائمًا للاعتراف، وتأتي دائمًا للقُدَّاس، وَتَمُرُّ بِوقتٍ عَصيب. وفي تلكَ النُّقطة، يَكفي أنْ تُصَلِّي على تلكَ المرأةِ في لَحظةِ ضُعفٍ، وفي لحظةِ ألمٍ ومُعاناةٍ، لكي تَجعَلَها تُكَرِّسُ نَفسَها راهبةً. ويَكتُبُ "إيميت مكلوفلين" (Emmett McLouglin): "إنَّ الرَّاهبة هي واحدة مِن أعجَبِ الأشياءِ الَّتي أَنتَجَتها الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة. فهي أَمَةٌ بِكُلِّ مَعنى الكلمة. فهي امرأة مُستعدَّة لِبَذْلِ حياتِها بطريقةٍ تَجعلُ قَادَةَ الشُّيوعيَّةِ يَمتلئونَ حَسَدًا. وهي امرأة يُحاولُ أصحابُ المَناصِبِ العاليةِ أنْ يَتَسَتَّروا على عُبودِيَّتِها مِنْ خِلالِ الخاتَمِ الَّذي يَضَعونَهُ في إصبَعِها. وهي امرأة تُؤمِنُ بأنَّها حينَ تُلَمِّعُ حِذاءَ الأُسقُفِ، أو عندما تَخْدِمُهُ على المائِدَة، أو عندما تُنَظِّفُ الأرضَ فإنَّها تَكنُزُ كَنزًا في السَّماء. وهي امرأة تَجعَلُ فَتْحَ مِئاتِ المُستشفياتِ التَّابعةِ للكنيسةِ أَمرًا مُتاحًا، وتُعَلِّمُ في مَدارسِ الأبرشيَّةِ ودُورِ الأيتامِ" وَهَلُمَّ جَرَّا.
"وهي أيضًا امرأة لَديها كُلُّ أنواعِ الرَّغْباتِ، والغَرائزِ، والمحبَّةِ، والكَراهِيَةِ الَّتي لَدى أيِّ امرأة أخرى، وتَخضَعُ لِرَجُلِها مِن خلالِ عَقيدةِ زَواجِها مِنَ المسيح؛ وتَكونُ غَالِبًا خَبيثَة ونَمَّامَة على أَخواتِها الرَّاهباتِ ومُمَرِّضاتِ المُستشفى، وتُظهِرُ عاطفةَ الأُمومَةِ في تَعامُلِها معَ الكَهَنَةِ والأطفال، وعاطفةَ الأُمومةِ في تَعامُلاتِها المُتَقَشِّفَةِ في السَّيطرةِ على مُستشفاها أو دَيرِها". وَهُوَ يَقولُ المَزيدَ والمَزيد. "وهي تَكبَحُ نَفسَها وَرَغباتِها الطَّبيعيَّة". أمَّا فيما يَختصُّ بمكانةِ الرَّاهباتِ المُنعَزلاتِ فإنَّهُنَّ في الحقيقةِ مَجموعة غريبة. فهل تَعلمونَ أنَّ هُناكَ راهباتٍ يُنذِرنَ نَذرًا بالصَّمتِ وَيَعِشنَ حياتَهُنَّ بأسرِها مِن دونِ أنْ يَتَكَلَّمنَ؟ فَهُنَّ لا يَنطِقْنَ بأيِّ كلمة. وَهُنَّ يَعتقِدْنَ أنَّهُمَّ سَيَنَلْنَ الخلاصَ بسببِ ذلك.
ويقولُ "بويتنر" (Boettner): "في بُنيةِ الكنيسة الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة، مَقصورةُ الاعترافِ هي الَّتي تُغَذِّي أَدْيِرَة الرَّاهبات. فَتَحضيرُ الفتاةِ الكاثوليكيَّة يَتِمُّ في مدارسِ الأبرشيَّة إذْ إنَّ الرَّاهبةَ تُصَوَّرُ بِصورة مُقَدَّسة جَذَّابة كما لو كانت صُورةً عنِ العَذراءِ مَريم. والاعترافُ يَجعَلُ مِنَ السَّهلِ على الكَاهِنِ أنْ يَعثُرَ على الفَتياتِ المَرغوبِ فيهِنَّ". وَهُمْ في الحقيقةِ يُحاولونَ أنْ يختاروا أفضلَ الفَتيات. "فالاعترافاتُ الاعتياديَّة تَبتدئُ في سِنِّ السَّابعة. وَمِن خلالِ هذه الوسيلة، يَعرِفُ الكاهِنُ قُلوبَ ونُفوسَ الفتياتِ اللَّاتي يَعتَرِفْنَ؛ وَهُوَ أمرٌ مَرغوبٌ فيهِ في خِدمةِ الكنيسة. وَهُناك مَنْ يَنجحونَ في إقناعِهِنَّ، وَهُناكَ مَنْ لا يَنجحونَ في إقناعِهِنَّ. وَمِنَ السَّهلِ على كاهِنٍ مُدَرَّبٍ أنْ يَستغلَّ صُورةً وَهميَّةً عَابِرَةً وأنْ يَجعَلَ مِنها مِهنةً كاملةً.
وَما إنْ يَتِمُّ اختيارُ الضَّحِيَّة، فإنَّ الضَّغطَ يُمارَسُ بِطُرُقٍ مُباشِرَة وغير مُباشِرَة إلى أنْ يَفوزوا في المَعركة. وَهُمْ يَلعَبونَ على وَتَرِ نِداءِ الواجِبِ لدى الفتاةِ المسيحيَّة. وَهُمْ يُصَوِّرونَ تَرَدُّدَ الفتاةِ الطَّبيعيِّ في دُخولِ هذه الحياةِ بأنَّهُ نَاجِمٌ عنِ التّأثيرِ الشِّرِّيرِ للعالَمِ والشَّيطان". ثُمَّ إنَّهُ يَكتُب: "وعادةً، فإنَّ أفضلَ وَقتٍ لإقناعِ الفتاةِ بالالتحاقِ بالدَّيرِ هو بعدَ أنْ تُمْنَى بخيبةِ أَمَلٍ في علاقةٍ عاطفيَّة. فالعلاقةُ العاطفيَّةُ الفاشلةً تُوَفِّرُ للكاهِنِ أفضلَ فُرصة مُمكِنَة".
وقد كَتَبَتْ "هيلين كونروي" (Helen Conroy) ما يَلي: "الفتاةُ الَّتي هَجَرَها حَبيبُها سُرعانَ مَا تَصيرُ بِدافِعِ شُعورِها بالعارِ والألم بسببِ تَحَطُّمِ علاقَتِها العاطفيَّةِ ضَحِيَّةً سَهلةً لأيِّ كَاهِن. ومِنْ مُنطَلَقِ العِلْمِ بأنَّ هذا الألمَ الشَّديدَ لا يُمكِن أنْ يَدومَ طويلاً، فإنَّ الفتاةَ تَجِدُ التَّشجيعَ على الالتحاقِ بأحدِ الأَديِرَةِ حَالاً. والفتاةُ المِسكينةُ تَرى في ذلكَ فُرصةً سَانِحَةً للهَرَبِ مِنَ الموقفِ المُحرِج. وإلى جانبِ حقيقة أنَّها تَجِدُ مَنْ يُؤكِّد لها أنَّها تستطيعُ أنْ تَترُكَ الدَّيْر في أيِّ وقتٍ تَشاء، فإنَّ آلافَ الفتياتِ سَارَعْنَ إلى الالتحاقِ بالدَّير". وَهُنَّ يَتَخَلَّيْنَ عَنْ كُلِّ أملاكِهِنَّ الَّتي تَصيرُ حينئذٍ، بِكُلِّ تأكيدٍ وَحالاً، مِنْ أملاكِ الكنيسة.
وهذا أمرٌ مُدهش. فَهُمْ يُعطوهُنَّ مُهلةَ سِتِّينَ يومًا. وأعتقد أنَّ هذا ما يزالُ مُطَبَّقًا. فَهُمْ يُعطوهُنَّ مُهلةَ سِتِّينَ يومًا للتَّخَلِّي عن كُلِّ ما يَمْلِكْنَ. وفي نَشوةِ السِّتينَ يومًا الَّتي هي فَترةُ قَبولِهِنَّ في الدَّيرِ وَتَعَلُّقِهِنَّ بالدَّيرِ، فإنَّهُنَّ يَجِدْنَ كُلَّ تَشجيعٍ على التَّخَلِّي عن كُلِّ ما يَمْلِكْنَ. ثُمَّ إنَّ "كونروي" تَكتُب أنَّهُمْ: "يُسَمِّمونَ عَقلَ الفتاةِ ضِدَّ أُمِّها الَّتي حَبِلَتْ بها، وَضِدَّ أبيها وأَخواتِها وإخوتِها الَّذينَ يُؤلِّفونَ عائِلَتَها. وهذه الجَرائُمُ كُلُّها تُرتَكَبُ باسمِ الدِّين...". وبالمُناسبة، هذه كُلُّها اقتباساتٌ مِن كِتابٍ بعُنوان: "نِساءٌ مَنْسِيَّاتٌ في الأَدْيِرَة" (Forgotten Women in Convents). "...باسمِ الدِّين. وهذا الإرغامُ على كَراهِيَةِ الأبَوَيْنِ هو أبشَعُ شَيءٍ. فهو إلغاءٌ لإنسانيَّةِ الإنسان. فهذه العقيدة الَّتي تُنادي بِكُرْهِ الأبَوَيْنِ مِنْ قِبَلِ الرَّاهباتِ والأخواتِ تُفَسِّرُ سَبَبَ عَدَمِ السَّماحِ للفتاةِ إلَّا في فَترةِ السِّتِّينَ يومًا الَّتي تَسبِقُ حُصولَها على البُرقُعِ ونَذْرِ النَّذْر. فالكنيسةُ تَتوقَّعُ تمامًا في ذلكَ الوقتِ أنْ تكونَ الفتاةُ قد تَعَلَّمَت أنَّ دَيرَها هُوَ بَيتُها الحَقيقيّ". وَهَلُمَّ جَرَّا.
الحقيقةُ هي أنَّهُ يُمكنني أنْ أقولَ المَزيد، ولكِنَّ الوَقتَ يُداهِمُنا. وقد بَقِيَتْ نُقطة واحدة فقط. فالتَّقديراتُ تَقول ... ولا أدري مَدى صِحَّتِها ... ولكِنَّ التَّقديرات تَقول إنَّ هُناكَ مِئةَ ألفِ امرأة في الأَديِرَة. هل سَمِعتُم يومًا بالأَخواتِ الكَرْمِلِيَّات (Carmelite sisters). لا بُدَّ أنَّ بَعضًا مِنكُم سَمِعَ بِهِنَّ. فالأخواتُ الكَرْمِلِيَّات لا يُعَلِّمْنَ ولا يَعتَنينَ بالمُسِنِّين، ولا بِالأيتامِ، ولا بالأطفال. بل إنَّهُنَّ ينْذِرْنَ نَذرًا بالصَّمتِ المُطْبِق. وفي السَّاعةِ الخامسةِ والنِّصف صَباحًا، يَنْهَضنَ مِن أَسِرَّتِهِنَّ المَصنوعة مِنْ ألواحٍ خَشَبِيَّة بَسيطة إذْ إنَّهُنَّ نَذَرْنَ نَذرًا أنْ يَعِشْنَ حَياةَ فَقْر. وفي الثَّامنة والنِّصف فإنَّهُنَّ يأكُلنَ شَريحةَ خُبزٍ ويَشربنَ كُوبًا مِنَ القهوة الخالية مِنَ الحَليب. وعلى المائدة، هُناكَ طَقْمُ أدواتِ مَطبخ مَصنوعة مِنَ الخَشَب وإبريقُ ماءٍ مُغَطَّى. وفي مُنتصفِ المائدة، هُناكَ قِناعُ الموتِ (على شَكلِ جُمجُمة) رَمْزًا لأفكارِ الموت؛ أيْ أنَّنا مَخلوقاتٌ فانِيَة سُرعانَ ما سَنَمضي إلى المَجهول.
أمَّا وَجْبَتُهُنَّ الرَّئيسيَّة خِلالَ اليومِ فهي سَمَكٌ وَخَضراوات. ووجبةُ العَشاءِ هي حِساءٌ وخُبز. ويَنتهي يَومُهُنَّ في السَّاعة الحادية عشرة مساءً حينَ يَعُدْنَ بِصَمتٍ إلى مَهاجِعِهِنَّ. وهذه هي حياتُهُنَّ. وما أعنيه هو إنَّني مَصدومٌ لأنَّ "مُنَظَّمَةَ العَفو الدَّوليَّة" (Amnesty International) لا تَقومُ بِجولاتٍ تَفتيشِّيَّة على هذه الأماكن. فكيفَ يُمكِنُ الوُصولُ إلى هذهِ النُّفوسِ المِسكينة؟ وماذا يَعني هذا كُلُّه؟ وكيفَ تَصِلُ إلى شخصٍ يَعيشُ في دَيْر؟ لا يُمكِنُكَ ذلك! وكيفَ نَجَحَ الشَّيطانُ في نَصْبِ هذا الشَّرَك؟ فقد حَبَسَهُنَّ في ديانة زائفة حَتَّى لا يَستطيعُ أيُّ شخصٍ على الإطلاق أنْ يَقتَرِبَ مِنْهنَّ. ثُمَّ إنَّهُمَّ نَذَرْنَ نَذرًا بالصَّمت! ويا للهَول! هُناكَ ذلكَ الحُكْمُ باللَّعنة. أليسَ كذلك؟ فَهُنَّ عَاجِزات حَتَّى عن طَرحِ سُؤالٍ أو إجراءِ حَديث. فهذه أُمورٌ شِرِّيرة. فكيفَ نَصِلُ إلى هؤلاءِ الرَّاهبات؟ وكيفَ نَصِلُ إلى هؤلاءِ الكَهَنة؟
فنحنُ نَظُنُّ أنَّ ... كما تَعلمونَ، فإنَّ هناكَ إنجيليُّونَ يَظُنُّونَ أنَّهُ يجب علينا أنْ نَضَعَ أيدينا بِيَدِ هذا النِّظام. أَلا تَعتقدونَ أنَّهُ اقتراحٌ غَريب؟ فما ينبغي أنْ نَفعلَهُ هو أنْ نُنقِذَ هؤلاءِ النَّاس. والطَّريقةُ الوحيدةُ لإنقاذِهم هي مِن خلالِ الإنجيل. ولكِن أعتقد أنَّهُ يجب علينا أنْ نَقولَ ما ينبغي أنْ نَقول. فصحيفةُ "نيويورك تايمز" (The New York Times) تَقولُ في عَدَدِها الصَّادر بتاريخ 19 نَيْسان/إبريل في مَقالةٍ لـِ "لوري غودشتاين" (Laurie Goodstein) إنَّ العَدَدَ وَصَلَ الآنَ إلى نَحوِ ألفِ كاهِنٍ وُجِّهَتْ إليهِ تُهمةُ إساءةِ المُعامَلَة، وَإنَّ عَدَدَ النِّساءِ اللَّاتي أُسيئَت مُعامَلَتُهُنَّ بطريقة أو بأخرى مِنْ قِبَلِ الكَهنة يَفوقُ عَدَدَ الرِّجالِ بكثير. وماذا نَفعلُ بهؤلاءِ الأشخاصِ المساكينِ المَغلوبِ على أَمرِهِم العالِقينَ في هذه الأمورِ المُريعة والخاطئة؟ هُناكَ شيءٌ واحدٌ فقط وَهُوَ أنَّكُم إنْ كُنتُم تَعرفونَ شخصًا مَا أو أحدًا ما، يجب أنْ تُقَدِّموا لَهُ الإنجيل.
وهُناكَ مُلاحظة صغيرة أخرى دَوَّنتُها وهي أنَّ الشَّخصَ المِثْلِيَّ الَّذي يَعتدي على آخرين (بحسبِ آخِرِ إحصائيَّاتٍ ذَكَرَتها "الشَّبَكة العالَميَّة " [World Net] في 29 نَيْسان/إبريل، أيْ قَبلَ يَومين أو ثلاثة أيَّام)، أنَّ الشَّخصَ المِثليَّ الذَّكَرَ الَّذي يَعتدي على آخرينَ يَعتَدي في المُعَدَّل على مِئَة وخمسينَ صَبِيًّا. أمَّا مَنْ يَعتدي على الفتياتِ فإنَّهُ يَعتدي في المُعَدَّل على عِشرينَ فَتاةً". فالاعتداءُ على الأطفالِ هُوَ جُزءٌ رَئيسيٌّ مِنَ الحَرَكة المِثليَّة الجِنسيَّة. لِذا فإنَّ هذه فَضيحَة على نِطاقٍ واسعٍ جِدًّا. وَعَدا عَنْ أنَّها فَضيحة، فإنَّهُ نِظامٌ شَيطانيٌّ رَهيبٌ ومُرَوِّعٌ لأنَّهُ يَستعَبِدُ نُفوسَ هؤلاءِ النَّاس. وَمِنَ المُستحيلِ أنْ نَسعى إلى أيِّ تَحالُفٍ مَعَ هذا النِّظام. وَهُناكَ شَخصٌ اسمُهُ "ريتشارد جون نيوهاوس" (Richard John Neuhaus). هل تَعرفونَ هذا الاسم؟ أليسَ هُوَ الشَّخصُ الَّذي أَعَدَّ تلكَ الوَثيقة الَّتي تَحمِلُ العُنوان "الإنجيليُّونَ والكَاثوليك مَعًا" (ECT) الَّتي وَقَّعَها "كولسون" (Colson) وَكُلُّ هؤلاءِ الأشخاص؟ فقد قالَ "ريتشارد جون نيوهاوس" إنَّهُ لا يُوافِقُ على مَنْعِ المِثليِّينَ الجِنسيِّينَ مِنْ أنْ يَصيروا كَهَنة. وأنا أَقتَبِسُ كَلامَهُ: "أعتقد أنَّنا سَنَكتَشِف على الأرجح أنَّنا استَثنَينا بِأثرٍ رَجْعِيٍّ العَديدَ مِنَ القِدِّيسينَ القانونيِّينَ الصَّالِحينَ على مَدى أَلفَي سَنَة". إنَّ "ريتشارد جون نيوهاوس" يقول إنَّنا إنْ مَنَعنا المِثليِّينَ الجِنسيِّينَ مِنْ أنْ يَصيروا كَهنة، نكونُ قد مَنَعنا قِدِّيسينَ قانونيِّينَ على مَدى الأَلْفَي سَنَة الأخيرة! هل هذه مُشكلة طويلة الأمَد؟ لَمْ يَكُن يَجدُرُ بهِ أنْ يَقولَ ذلك. فلو كُنتُ مَكانَهُ لَما قُلتُ ذلك. ولماذا يَقولُ ذلك؟ لأنَّ هذا ليسَ مُهِمًّا حَقًّا في النِّظام.
وأنا أستَمِرُّ في العَودة إلى النُّقطة نَفسِها: "إِنْ حَرَّرَكُمْ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا". فهؤلاءِ النَّاسُ بحاجة إلى الإنقاذِ والتَّحَرُّر. وقد تَقول: "كيفَ نَفعلُ ذلك؟" حسنًا، إنِ التقيتُم شخصًا مِن هؤلاء، يجب عليكم أنْ تُعامِلوهُ بِرِفْق، ولكِن يجب عليكم أنْ تُدركوا أنَّهم على الأرجَح يَمُرُّونَ بِمَحنة شديدة. ويُمكنكم أنْ تَتحدَّثوا عنِ الحُريَّةِ والخلاصِ في المسيح. ويجب علينا أنْ نُصَلِّي وَنَسألَ اللهَ أنْ يَبتدئَ في توفيرِ الفُرَصِ لَنا للشَّهادة إلى الكَهنة والرَّاهبات. أَلا تَظُنُّونَ أنَّ هذا سيكونُ رائعًا؟ لِذا، في حين أنَّ النِّظامَ بِمُجمَلِه مُنْهارٌ، قد يكونُ بِمَقدورِنا أنْ نُنقِذَ تلكَ الأرواح. وَلاَ مَأبُونُونَ [كما جاءَ في رسالة كورِنثوس الأولى والأصحاح 6] وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ يَدخلونَ مَلكوتَ اللهِ. أليسَ كذلك؟ ولكِنَّ بولسَ يَقولُ بعدَ ذلك: "وَهكَذَا كَانَ أُنَاسٌ مِنْكُمْ. لكِنِ [ماذا؟] اغْتَسَلْتُمْ".
أَلنْ يَكونَ هذا رائعًا؟ دَعونا نُصَلِّي ونَسألُ اللهَ أنْ يَمَنَحَنا فُرصةً لِنَرى بَعضًا مِنْ هؤلاءِ الأشخاصِ الَّذينَ يَعيشونَ في عُبوديَّةٍ وأَوضاعٍ مُزْرِيَةٍ في هذا النِّظامِ الشَّيطانيِّ يَغتَسِلونَ وَيَتَقَدَّسون. وَحَتَّى إنَّهُ لا يَجوزُ أنْ تَكونَ رَاعي كَنيسة إنْ لم تَكُن زَوجَ امرأة واحدة. أليسَ كذلك؟ ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ راعي كنيسة إنْ لم تَكُن تُدَبِّرُ بَيتَكَ حَسَنًا. ولا يَجوزُ أنْ تكونَ راعي كَنيسة إنْ لم تَكُن قد أنشأتَ أَوْلاَدًا مُؤمِنينَ، لَيْسُوا فِي شِكَايَةِ الخَلاَعَةِ وَلاَ مُتَمَرِّدِين. فهؤلاءِ الأشخاصُ لا يَجوزُ أنْ يكونوا رُعاةَ كَنائِس. كِذلك، فإنَّهُم ليسوا مُؤمِنين. اسمعوا هذه الآية: "إِنْ قُلْنَا: إِنَّ لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ وَسَلَكْنَا فِي الظُّلْمَةِ، نَكْذِبُ وَلَسْنَا نَعْمَلُ الْحَقَّ".
فَهُم يَقولونَ إنَّهُم يَتمتَّعونَ بهذه الشَّرِكَة العميقة معَ الله. ولكِنَّ هذا كَذِب. وهل تَعلمونَ شيئًا؟ أعتقد في حالاتٍ كثيرة أنَّهم يَعلمونَ ذلك. فَهُمْ يَعلمونَ أنَّهُم لا يُحَقِّقونَ أيَّ نُصرة على بَلِيَّتِهِم المُريعة. ولا بُدَّ أنَّ هُناكَ بعضَ الاستثناءات لذلك؛ أيْ أنَّهُ يوجد رِجالٌ ونِساءٌ يَفعلونَ الخَيرَ ويَشعُرونَ بِراحَةِ الضَّمير. وَرُبَّما يوجد أشخاصٌ اعتَرَفوا حَتَّى بيسوعَ المسيحِ رَبًّا، ونالوا الفِداءَ، وما زالوا عَالِقينَ في مَكانٍ ما في ذلكَ النِّظام. فاللهُ قد يَسمَحُ بذلك. ولا بُدَّ أنَّ هذا سيكونُ عَذابًا مِنْ نَوعٍ آخر. ونحنُ لسنا بحاجة إلى أيِّ كَهَنة. فنحنُ نَقرأ في سِفْر الرُّؤيا والأصحاح الأوَّل: "أنتُم مُلُوكٌ وَكَهَنَة". فنحنُ بحاجة فقط إلى رَئيسِ كَهَنة واحد. وهو ليسَ البابا. فنحنُ لدينا وَسيطٌ واحد: الإنسانُ يَسوعُ المسيح. فالحِجابُ قد انْشَقَّ. وقد دَخَلنا إلى قُدسِ الأقداس. وأنتَ كاهِنٌ وأنا كاهِنٌ لله.
يا أبانا، نَشكُرُكَ في هذا المساء على هذا الوقتِ الرَّائعِ معًا. وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ بعضِ هذهِ الأشياء فإنَّ قُلوبَنا تَتمزَّق وتَحزَن حَقًّا. فما أَرهَبَ ذلكَ النِّظام! ومَا أَعجَبَ أنْ يَنظُرَ النَّاسُ في العالَمِ الإنجيليِّ إلى هذا النِّظامِ وأنْ يُفَكِّروا في أنَّهُ نِظامٌ لا بأسَ بِهِ، وأنَّ هؤلاءِ هُمْ مُجَرَّد طَائفة أخرى، وأنْ يَترُكوا تلكَ النُّفوس الأبديَّة المِسكينَة، الَّتي تَعيشُ في ظَلامٍ وَجَهْلٍ، والمُحاصَرة، والمُقَيَّدة، والمُكَبَّلة في ذلك النِّظام؟ أيُّها الرَّبُّ الإله، في وَسطِ هذا كُلِّه، اجذب بعضًا مِن هؤلاءِ الأشخاصِ إلى ابنِك. فَيا لَيتَهُم يَفيقونَ على الإنجيلِ الحقيقيِّ، ولا يَبقونَ مَدفونينَ عَميقًا تحتَ انحرافاتِ وأكاذيبِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة مِن دوِنِ أنْ يَقوموا مِنَ الأموات. ويا لَيتَكَ تُسبِغُ نِعمَتَكَ بتلكَ الطَّريقة. وإنِ استخدمتَنا في أثناءِ قيامِكَ بذلك، سيكونُ هذا مَصدَرَ فَرَحٍ لنا. لأجلِ مَجدِكَ الأبديِّ، يا رَبُّ، نَطلُبُ هذهِ الطِّلباتِ باسمِ المسيح. آمين!

This article is also available and sold as a booklet.