كما تعلمون مِن خلال ما قلناه في هذا الصباح، إن كنتم حاضرين هنا، لقد ابتدأنا في هذا الصباح سلسلةً عن كيفيَّة الحصول على أكبر قدر ممكن من الكتاب المقدَّس؛ أي كيفيَّة دراسة الكتاب المقدَّس. وسوف نستمرَّ في تلك السِّلسلة في هذا المساء ونقدِّم لكم معلومات وملاحظات مختلفة خلال أيَّام الأحد الثَّلاثة القادمة صباحًا ومساءً. وسوف نحاول أن نجعل كلَّ درسٍ من هذه الدُّروس رسالة مستقلَّة ومنفصلة؛ ولكنَّها ستكون مترابطة ومتداخلة بعضها مع بعض في أثناء دراستنا. فأنا أُوْمِن شخصيًّا أنَّ الخدمة الَّتي نقوم بها هنا في هذه الكنيسة ومِن على هذا المِنبر لا تقتصر فقط على تعليمكم ما يقوله الكتاب المقدَّس، ولا فقط على الكرازة بالإنجيل إليكم، وتعليمكم كلمة الله، بل إنَّها تنطوي أيضًا على حَفْزَكم على دراسة الكتاب المقدَّس دراسةً شخصيَّة. وإن أَخفقتُ في القيام بذلك بصورة رئيسيَّة، أكون قد أَخفقتُ في القيام بدوري.
فإن كنتَ قد استمتعتَ بالعظة وحسب، وإن كنتَ قد غادرت هذا المكان وأنت تقول: "سوف أعود إلى التَّواصُل مع كلمة الله في الأسبوع القادم عندما أستمع إليها مرَّة أخرى"، فإنَّ هذا يعني أنَّك لم تتجاوب معها مِن خلال الاجتهاد الشخصيّ. وهذا يعني أيضًا أنِّي قد فشلتُ في تحقيق ما ينبغي تحقيقه في حياتك. فمن المؤكَّد أنَّ الهدف من الوعظ هو جعل كلمة الله واضحة، وإعلان الحقّ، وتعليمكم الحقّ. ولكن يجب أن يعمل الوعظ أيضًا، وفي الوقت نفسه، على حَفْزك على الرَّغبة في حَمْل السَّيف بنفسك، والاستفادة من الفرصة الرَّائعة المتاحة أمامك لفهم الحقِّ الكتابيِّ العظيم.
والآية الَّتي سنبتدئ فيها لتدعيم تلك الفكرة هي الرِّسالة الثانية إلى تيموثاوس 2: 15: "اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ للهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَة". وهذه كلمات موجَّهة إلى راعٍ شابٍّ اسمه تيموثاوس. فقد قيل له إنَّه ينبغي أن يتحمَّل مسؤوليَّة الاجتهاد في إقامة نفسه لله. وكيف يمكنه أن يفعل ذلك؟ بأن يكون عاملاً لا يُخزى. وكيف يفعل ذلك؟ بأن يُفَصِّل كلمة الحقَّ بالاستقامة. فمن المهمِّ أن يعمل، بصفته خادمًا لكلمة الله، على التَّعامل معها تعاملاً سليمًا، وعلى الكرازة بها بطريقة صحيحة.
ولكنَّ هذا لا يعني البتَّة أنَّ الخادم هو الشَّخص الوحيد المسؤول عن دراسة كلمة الله، ولا أنَّ الخادم هو الشَّخص الوحيد المسؤول عن تفصيل الحقّ. ففي سِفْر أعمال الرُّسُل، هناك شهادة رائعة تختصَّ بمجموعة من الناس. وقد كان هؤلاء يُعرفون بأهل بيريَّة لأنَّهم كانوا يعيشون في بلدة اسمها بيريَّة. وعندما ذهب بولس إلى هناك، نادى بالحقِّ على مسامعهم. ونقرأ في العدد 11 مِن أعمال الرُّسل 17: "وَكَانَ هؤُلاَءِ أَشْرَفَ مِنَ الَّذِينَ فِي تَسَالُونِيكِي، فَقَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هذِهِ الأُمُورُ هكَذَا؟"
فنحن نقرأ هنا عن مجموعة من الأشخاص الَّذينَ وصفوا بأنَّهم "شُرفاء" لأنَّهم فعلوا ما جاء في سِفْر يشوع 1: 8 إذ إنَّهم لَهجوا نهارًا وليلاً في كلمة الله حرصًا منهم على تفصيل الحقِّ، وعلى استخدام ذلك الحقِّ لتقييم الواعظ. وهُم شُرفاء لأنَّهم كانوا يفحصون الأسفار المقدَّسة بنشاط. وقد كانوا يفعلون ذلك كلَّ يوم بكلِّ نشاطٍ لكي يُميِّزوا مَن ينطق بالحقّ.
إنَّ دراسة كلمة الله هي شيء يتطلَّب اجتهادًا. وهي حِرفة تتطلَّب مهارةً. ولكنَّها تبتدئ بمعرفة أمورٍ رئيسيَّة. فكما هي حال أيِّ شيءٍ آخر، وأيِّ تدريبٍ على عمل جديد أو حرفة جديدة، فإنَّها تبتدئ بمعرفة الأمور الرئيسيَّة. ومن المؤكَّد أنَّه بصفتنا تلاميذ للكتاب المقدَّس، هذه هي النُّقطة الَّتي ينبغي أن ننطلق منها. فنحن نبتدئ بمعرفة محتوى الكتاب المقدَّس. وهذا يتطلَّب أمانةً ودقَّةً ومثابرةً على قراءة كلمة الله. وأودُّ أن أقترح عليك أنَّه إن أردت أن تكون تلميذًا للكتاب المقدَّس، كما ذكرنا في هذا الصباح، فإنَّ الأمر يبتدئ بإجلال كلمة الله. وقد حاولنا أن نساعدكم في فهم ذلك في هذا الصباح. ثمَّ يأتي بعد ذلك الجانب الثَّاني وَهُوَ الفاعليَّة في دراسة الكتاب المقدَّس. وهذا يتطلَّب معرفة أساسيَّة بالنَّصّ.
فيجب عليك أن تعرف ما يقوله كنقطة بداية. وهذا يتطلَّب قراءة الكتاب المقدَّس. وأنا أعترف أمامكم بأنِّي لست قارئًا مُميَّزًا لكلمة الله. والسَّبب في ذلك يرجع في اعتقادي إلى أنِّي أمتلك فضولاً كبيرًا جدًّا. فأنا أجد صعوبة بالغة في قراءة الكتاب المقدَّس مُدَّة طويلة لأنَّ فُضولي يُسيطر عليَّ فأُضطرُّ إلى التوقُّف والبحث عن معنى ما قرأت. ولكن في السَّنوات الباكرة من شُروعِكَ في دراسة كلمة الله، يجب عليك أن تقاوم جزءًا من ذلك الفضول؛ وإلاَّ فإنَّك ستتعطَّل عن القراءة ولن تعرف المحتوى الرئيسيّ. فمن المهمِّ أن تقرأ الكتاب المقدَّس لكي تفهم ما يقوله. ثُمَّ يمكنك أن تبتدئ في البحث عَمَّا يعنيه بما يقوله. ولكنَّ كُلّ شيء يبتدئ بمعرفة الكتاب المقدَّس.
افتحوا معي على سِفْر الأمثال والأصحاح الأوَّل. سِفْر الأمثال والأصحاح الأوَّل. فنحن نقرأ في العدد 20 ما يلي: "اَلْحِكْمَةُ تُنَادِي فِي الْخَارِجِ. فِي الشَّوَارِعِ تُعْطِي صَوْتَهَا. تَدْعُو فِي رُؤُوسِ الأَسْوَاقِ، فِي مَدَاخِلِ الأَبْوَابِ. فِي الْمَدِينَةِ تُبْدِي كَلاَمَهَا". والفكرة هنا هي أنَّ الحكمة الإلهيَّة مُتاحة. فهي ليست مخفيَّة. وهي ليست مُخَبَّأة في كهفٍ ما، وليست مدفونة في الأرض. وهي ليست محجوبة مِن خلال رموز غامضة مُعيَّنة. وهي ليست بحاجة إلى شخصٍ مُعيَّن يعرف السِّرَّ لإزالة الغموض عنها.
بل إنَّها مُتاحة للجميع (إن جاز التَّعبير). فهي في الشَّوارع. وهي في السَّاحة. وهي تصيح في خِضَمِّ الحياة عند مداخل أبواب المدينة الَّتي هي أكثر الأماكن اكتظاظًا في المدينة. فالحكمة متاحة هناك. فما يقوله كاتب سِفْر الأمثال هو إنَّها متاحة. "إِلَى مَتَى أَيُّهَا الْجُهَّالُ تُحِبُّونَ الْجَهْلَ؟" بعبارة أخرى، هل ستتجاهلون مُتاحيَّة الحكمة الإلهيَّة؟ "وَالْمُسْتَهْزِئُونَ يُسَرُّونَ بِالاسْتِهْزَاءِ؟ وَالْحَمْقَى يُبْغِضُونَ الْعِلْمَ؟" ثُمَّ نقرأ توبيخًا: "اِرْجِعُوا عِنْدَ تَوْبِيخِي. هأَنَذَا أُفِيضُ لَكُمْ رُوحِي. أُعَلِّمُكُمْ كَلِمَاتِي".
فلا يوجد سبب حقيقيّ يدعوك إلى أن تكون جاهلاً بالحقِّ الكتابيِّ لأنَّه متاح وليس مَحجوبًا. وَهُوَ ليس مقتصرًا على الأشخاص الَّذينَ يملكون كلمة سِرٍّ مُعيَّنة. وَهُوَ ليس مقتصرًا على الأشخاص الَّذينَ يستطيعون أن يَفُكُّوا ألغازه العويصة، بل إنَّه متاح لجميع النَّاس في الشَّارع. والله يَعِدُ بأنَّه سيساعد في تلك العمليَّة إذ إنَّه سيسكب روحه كي تكون كلماته معلومة. ثُمَّ تأتي، دون شَكٍّ، الدَّينونة: "لأَنِّي دَعَوْتُ فَأَبَيْتُمْ، وَمَدَدْتُ يَدِي وَلَيْسَ مَنْ يُبَالِي، بَلْ رَفَضْتُمْ كُلَّ مَشُورَتِي، وَلَمْ تَرْضَوْا تَوْبِيخِي. فَأَنَا أَيْضًا أَضْحَكُ عِنْدَ بَلِيَّتِكُمْ. أَشْمَتُ عِنْدَ مَجِيءِ خَوْفِكُمْ. إِذَا جَاءَ خَوْفُكُمْ كَعَاصِفَةٍ".
لقد كنت أشاهد على قناة "ديسكفري" (Discovery Channel) مقطعًا من برنامج يُثير فضولي أحيانًا عن الأمور الغامضة. وهناك برنامج لديهم بعنوان: "أسرار الكتاب المقدَّس". وقد كانوا يتحدَّثون عن غموض سِفْر الرُّؤيا في اللَّيلة الماضية. وأيًّا كان ذلك الغموض الموجود في سِفْر الرُّؤيا، فقد اضطربوا وتشوَّشوا. وقد فعلوا ذلك بأنفسهم لأنَّهم أجروا مقابلات مع جميع أصناف أولئك العلماء المزعومين في الجامعات المتحرِّرة إذ راحوا يحاولون تفسير أهميَّة سِفْر الرُّؤيا ولم يُوَفَّقوا ولو قليلاً في ذلك. ولا شَكَّ في أنَّ الشَّخص الَّذي يشاهد ذلك سيستنتج أنَّ هذه الأسرار عميقة جدًّا، ومُشَوِّشة جدًّا، ومَحجوبة جدًّا، ورائعة جدًّا، ورمزيَّة جدًّا حتَّى إنَّه لا يمكن لأيِّ شخص (حتَّى لو كان خبيرًا وحاصلاً على أعلى تدريبٍ دينيٍّ جامعيٍّ) أن يَفهمها.
ولا يوجد شيء بعيد عن الحقيقة كهذا الشيء. فالحقيقة هي أنَّهم جميعًا تجاهلوا المقدِّمة الرئيسيَّة لسِفر الرُّؤيا والَّتي تقول مباشرةً الكلمات التّالية: "طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ" إذ إنَّها تشير إلى أنَّ كلَّ من يرغب في ذلك يمكنه أن يقرأه ويسمعه؛ أي أن يفهمه. فهو متاح. وهذه المعرفة متاحة عن الله من خلال كلمته. فهي ليست سريَّة. وهي ليست محجوبة. أمَّا الأشخاص الَّذينَ يرفضون أن يأتوا كي يعرفوا حقائقها المباشرة ويتعلَّموا من الرُّوح فإنَّهم سيعاقبون مِن قِبَل الله الَّذي قال بوضوحٍ تامٍّ في رسالة رومية والأصحاح الأوَّل إنَّ جميع البشر هُم بلا ماذا؟ "بِلاَ عُذْرٍ".
ونحن نقرأ في سِفْر هوشع والأصحاح الرَّابع: "اِسْمَعُوا قَوْلَ الرَّبِّ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ: «إِنَّ لِلرَّبِّ مُحَاكَمَةً مَعَ سُكَّانِ الأَرْضِ، لأَنَّهُ لاَ أَمَانَةَ وَلاَ إِحْسَانَ وَلاَ مَعْرِفَةَ اللهِ فِي الأَرْضِ. لَعْنٌ وَكَذِبٌ وَقَتْلٌ وَسِرْقَةٌ وَفِسْقٌ". هل يبدو هذا مألوفًا؟ "يَعْتَنِفُونَ، وَدِمَاءٌ تَلْحَقُ دِمَاءً. لِذلِكَ تَنُوحُ الأَرْضُ وَيَذْبُلُ كُلُّ مَنْ يَسْكُنُ فِيهَا مَعَ حَيَوَانِ الْبَرِّيَّةِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، وَأَسْمَاكِ الْبَحْرِ أَيْضًا تَنْتَزِعُ. «وَلكِنْ لاَ يُحَاكِمْ أَحَدٌ وَلاَ يُعَاتِبْ أَحَدٌ. وَشَعْبُكَ كَمَنْ يُخَاصِمُ كَاهِنًا. فَتَتَعَثَّرُ فِي النَّهَارِ وَيَتَعَثَّرُ أَيْضًا النَّبِيُّ مَعَكَ فِي اللَّيْلِ، وَأَنَا أُخْرِبُ أُمَّكَ. قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَة".
هل تعني أنَّها غير موجودة؟ نقرأ بعد ذلك: "لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ... وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلهِكَ، أَرْفُضُكَ أَنَا... أَنْسَى أَنَا أَيْضًا بَنِيكَ". ومرَّةً أخرى، فإنَّ الله يَدين الأشخاص الَّذينَ يُديرون ظهورهم للإعلان المُتاح الَّذي جعله واضحًا ومفهومًا. فمعرفة كلمة الله هي بداية كُلِّ شيء. وهذه المعرفة متاحة للشَّخص الَّذي يرغب فيها والَّذي يأتي إلى الحقِّ الكِتابيّ.
والآن، نحن لسنا مدعوِّين فقط إلى معرفته، بل من الواضح أنَّنا مدعوُّون إلى معرفته وتطبيقه مِن خلال الطَّاعة. استمعوا إلى ما جاء في رسالة يعقوب 1: 21: "فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ. وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ...". لذا فإنَّ الفكرة هي أنَّه يجب علينا أن نضع كلمة الله موضع التَّطبيق في حياتنا. وكما رأينا في سِفْر يشوع 1: 8، فإنَّ هذا سيجعلنا نُفلح في طريقنا ويقودنا إلى النَّجاح. ولكي نضعها موضع التَّطبيق، يجب علينا أن نفهمها. ولكي نفهمها، يجب علينا أن نعرف محتواها. وهذا يُعيدنا إلى حقيقة أنَّه يجب علينا أن نقرأ الكتاب المقدَّس كي نستوعب ما يقوله، ثمَّ أن نبتدئ في فهم ما يعنيه بما يقوله.
والكتاب المقدَّس يحوي أكثر من 250 نَصًّا في العهد القديم ونحو 55 نصًّا في العهد الجديد تُوصينا بإطاعة كلِّ ما يوصينا به الكتاب المقدَّس. والحقيقة هي أنَّه ربَّما تذكرون عندما أعطى يسوع مأموريَّته العظمى في إنجيل متَّى 28: 19 و20 وقال: "اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَم...وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ". وهذا هو بوضوح ما يَحُضُّنا الكتاب المقدَّس عليه مِرارًا وتَكرارًا. والحقيقة هي أنَّنا نقرأ في سِفْر التَّثنية 5: 29 ما يلي: "يَا لَيْتَ قَلْبَهُمْ كَانَ هكَذَا فِيهِمْ حَتَّى يَتَّقُونِي وَيَحْفَظُوا جَمِيعَ وَصَايَايَ كُلَّ الأَيَّامِ، لِكَيْ يَكُونَ لَهُمْ وَلأَوْلاَدِهِمْ خَيْرٌ إِلَى الأَبَد". أو في إنجيل لوقا 11: 28: "طُوبَى لِلَّذِينَ [أوْ يا لِسَعادة الَّذينَ] يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ [أو: يُطيعونه].
ونقرأ في إنجيل يوحنَّا 14: 15: "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ". وفي رسالة يوحنَّا الأولى 5: 3: "فَإِنَّ هذِهِ هِيَ مَحَبَّةُ اللهِ: أَنْ نَحْفَظَ وَصَايَاهُ". وفي إنجيل يوحنَّا والأصحاح 8، قال يسوع: "اَلَّذِي مِنَ اللهِ يَسْمَعُ كَلاَمَ اللهِ". ونحن...نحن نتذكَّر ذلك مِن العظة الصَّباحيَّة في العدد 47. وقد قال الرسول بولس: "فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ اللهِ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ الْبَاطِن". ولعلَّكم تذكرون أنَّ المُرنّم قال إنَّ مَسَرَّتَهُ كانت تَكمُن في ناموس الرَّبِّ وإنَّه كان "يَلهَجُ في ناموسِه نهارًا وليلاً". ولعلَّكم تَذكرون المزمور 19 حيث قال داود: إنَّ كلمة الله "أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ...وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَل". وقد قال المُرنِّم في المزمور 40: 8: "أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلهِي سُرِرْتُ، وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي".
إذًا، نحن نمتلك هذه الرَّغبة في عمل مشيئة الله المغروسة فينا بصفتنا مؤمنين. فالأمر يتوقَّف على معرفة مشيئة الله. وهذا يَتطلَّب مِنَّا أن نَفهم ما تقوله، وأن نكون قادرين على تفسير ما تقوله وتطبيق ما تعنيه بما تقوله. وقد أعلن الله لنبيِّه إشعياء ... ونحن مستمرُّون في بناء هذا الأساس... فالربُّ أعلن لنبيِّه إشعياء الطَّبيعة الرائعة لشخصه، وأهميَّة دينونته. وقد بَيَّن الله بوضوح أنَّه ينبغي لكلِّ شخص أن يستمع إلى كلِّ شيء يقوله الله.
وقد كَرَّرْتُ ... أو أنا أُكرِّر في هذا المساء ما قرأته على مسامعكم في هذا الصَّباح مِن سِفْر إشعياء والأصحاح 55 بالنَّصِّ والحَرْف في الآيات مِن 9 إلى 11 لأنَّه مهمّ جدًّا: "لأَنَّهُ كَمَا عَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الأَرْضِ، هكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ. لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ". فهذه هي الدَّورة المائيَّة الَّتي ذَكرتُها لكم. "هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ". وهُنا، مرَّةً أخرى، يكشف الله للنبيِّ أنَّه عند قَبول كلمته وتطبيقها فإنَّها تُحقِّق الغايات الَّتي قصدها الله.
وفي سِفْر المزامير (وتحديدًا في المزمور 138: 2)، يقول المُرنِّم: "أَسْجُدُ فِي هَيْكَلِ قُدْسِكَ [أو في مكانك المقدَّس]، وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ". ولا توجد شهادة أعظم على أهميَّة الكتاب المقدَّس مِن المزمور 119. ويجب عليكم أن تعرفوا المزمور 119. وواحد مِن الأشياء الرائعة بخصوص دراسة الكتاب المقدَّس هو أنَّها تجعلكم تُجَزِّئون المزمور 119 إلى عناصره. وَهُوَ مزمور طويل مؤلَّف مِن 176 آية. وكلُّ آية تتحدَّث عن الكتاب المقدَّس باستثناء الآية الأخيرة الَّتي هي تجاوبٌ. ولكنَّ الآيات الـ 175 تتحدَّث عن الكتاب المقدَّس. وهي مُقَسَّمة لكي تفهموا ما يقوله الكتاب المقدَّس عن نفسه.
ولكن في كلِّ آية تقريبًا من هذه الآيات الـ 176، هناك تأكيد على ضرورة معرفة الكلمة وإطاعتها. افتحوا معي على المزمور 119. ومِن الواضح أنَّنا لا نستطيع أن نقرأ كلَّ الآيات الـ 176، ولكنِّي أريد أن أشير إلى مجموعة من الآيات الَّتي ينبغي وضع خطٍّ تحتها لأنَّها تُركِّز على هذه الدَّعوة إلى كلمة الله. المزمور 119 والعدد 16: "بِفَرَائِضِكَ أَتَلَذَّذُ. لاَ أَنْسَى كَلاَمَكَ". وهُنا، يُعبِّر المرنِّم عن محبَّته للكلمة وتلذُّذه بإطاعتها.
وفي العدد 24: "أَيْضًا شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي، أَهْلُ مَشُورَتِي". وفي العدد 35: "دَرِّبْنِي فِي سَبِيلِ وَصَايَاكَ، لأَنِّي بِهِ سُرِرْتُ". العدد 47: "وَأَتَلَذَّذُ بِوَصَايَاكَ الَّتِي أَحْبَبْتُ". العدد 48: "وَأَرْفَعُ يَدَيَّ إِلَى وَصَايَاكَ..." [أيْ أنِّي سأُنفِّذها وأُطبِّقها] "...الَّتِي وَدِدْتُ، وَأُنَاجِي بِفَرَائِضِكَ". وفي العدد 72: "شَرِيعَةُ فَمِكَ خَيْرٌ لِي مِنْ أُلُوفِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ". وفي العدد 92: "لَوْ لَمْ تَكُنْ شَرِيعَتُكَ لَذَّتِي، لَهَلَكْتُ حِينَئِذٍ فِي مَذَلَّتِي".
ثُمَّ نقرأ في الأعداد مِن 97 إلى 104: "كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ! الْيَوْمَ كُلَّهُ هِيَ لَهَجِي. وَصِيَّتُكَ جَعَلَتْنِي أَحْكَمَ مِنْ أَعْدَائِي، لأَنَّهَا إِلَى الدَّهْرِ هِيَ لِي. أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي. أَكْثَرَ مِنَ الشُّيُوخِ فَطِنْتُ، لأَنِّي حَفِظْتُ وَصَايَاكَ. مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ، لِكَيْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ. عَنْ أَحْكَامِكَ لَمْ أَمِلْ، لأَنَّكَ أَنْتَ عَلَّمْتَنِي. مَا أَحْلَى قَوْلَكَ لِحَنَكِي! أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ لِفَمِي. مِنْ وَصَايَاكَ أَتَفَطَّنُ، لِذلِكَ أَبْغَضْتُ كُلَّ طَرِيقِ كَذِبٍ".
فأنت تتلذَّذ بالكلمة. ولأنَّك تتلذَّذ بها فإنَّك تتعلَّمها. وعندما تتعلَّمها فإنَّك تطبِّقها. وهي تؤثِّر في كُلِّ جانبٍ في الحياة. وهي تجعلك أحكم مِن أعدائك، ومِن مُعلِّميك، ومِن الشُّيوخ في كلِّ مجتمع. وهي تساعدك على ترك الخطيَّة وتعطيك قدرة أكبر على التَّمييز حتَّى إنَّك تستطيع أن تتجنَّب كلَّ طريقٍ زائف. ونقرأ في العدد 105: "سِرَاجٌ لِرِجْلِي كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِي". وفي العدد 111: "وَرِثْتُ شَهَادَاتِكَ إِلَى الدَّهْرِ، لأَنَّهَا هِيَ بَهْجَةُ قَلْبِي".
وفي العدد 113: "الْمُتَقَلِّبِينَ أَبْغَضْتُ، وَشَرِيعَتَكَ أَحْبَبْتُ". العدد 127: "لأَجْلِ ذلِكَ أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ أَكْثَرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ". ونقرأ في العدد 159: "انْظُرْ أَنِّي أَحْبَبْتُ وَصَايَاكَ. يَا رَبُّ، حَسَبَ رَحْمَتِكَ أَحْيِنِي". ثُمَّ نقرأ ما يلي في العدد 161: "رُؤَسَاءُ اضْطَهَدُونِي بِلاَ سَبَبٍ، وَمِنْ كَلاَمِكَ جَزِعَ قَلْبِي". وفي العدد 167: "حَفِظَتْ نَفْسِي شَهَادَاتِكَ، وَأُحِبُّهَا جِدًّا". وفي العدد 174: "اشْتَقْتُ إِلَى خَلاَصِكَ يَا رَبُّ، وَشَرِيعَتُكَ هِيَ لَذَّتِي".
فأنتم تجدون هنا الموقف الَّذي ينبغي أن تتَّخذوه من الكتاب المقدَّس. وهذا هو ما كُنَّا نتحدث عنه في هذا الصباح. فعندما تفهم ما تحمله بين يديك، وتُحبُّ هذه الكلمة أكثر مِن الذهب، وعندما تجد أنَّها أحلى من العسل، وعندما تبتهج بها، ستبتدئ في قراءة الحقِّ الَّذي تُعلِّمه. وهذه هي نقطة البداية في أيِّ دراسة فعَّالة للكتاب المقدَّس. "طُوبَى" [كما يقول المُرنِّم] لِحَافِظِي شَهَادَاتِهِ. مِنْ كُلِّ قُلُوبِهِمْ يَطْلُبُونَهُ". وأيضًا: "بِمَ يُزَكِّي الشَّابُّ طَرِيقَهُ؟ بِحِفْظِهِ إِيَّاهُ حَسَبَ كَلاَمِكَ...". وداود يقول: "...بِكُلِّ قَلْبِي طَلَبْتُكَ. لاَ تُضِلَّنِي عَنْ وَصَايَاكَ". وهَلُمَّ جَرَّا.
فنحن نبتدئ بتكريس أنفسنا لمعرفة كلمة الله. ويمكنني أن أقترح عليكم خطَّة سهلة يمكنكم أن تطبِّقوها. ففي الكتاب المقدَّس الدِّراسيّ، وضعتُ خطَّة لقراءة الكتاب المقدَّس تُساعدك في قراءة الكتاب المقدَّس كلِّه في سنة واحدة. وهناك أشخاص منكم يستخدمون تلك الخطَّة الآن. ولكن اسمحوا لي أن أشارك معكم شيئًا أفعله على مَرِّ السِّنين وساعدني كثيرًا. فهي طريقة تساعدكم في البدء في استيعاب معلومات الكتاب المقدَّس بأعلى مستوى ممكن، وتساعدكم في استيعاب ما يقوله الكتاب المقدَّس حقًّا؛ وهي النقطة الَّتي ينبغي لنا أن نبتدئ منها. فلا يوجد طريق مختصر للقيام بذلك. ولكن توجد طريقة يمكنكم أن تستخدموها لتحقيق تلك الغاية. اقرأ في العهد القديم بالسُّرعة الَّتي تناسبك. اقرأه وحسب مِن أوَّله إلى آخره. خَصِّص بضعة أصحاحات كُلَّ يوم واقرأها وحسب. وعندما تنتهي منه، ارجع إلى البداية واقرأ العهد القديم مرَّةً أخرى بحسب ترتيب أسفاره.
ولكن عندما تأتي إلى العهد الجديد، الَّذي يَكشف لنا الأسرار الَّتي كانت مَخفيَّة عن شعب العهد القديم، والَّذي يُبَيِّن المعنى الكامل للعهد القديم؛ أي عندما تأتي إلى العهد الجديد، يجب عليك أن تقرأه بتكرار أكبر. والطَّريقة الَّتي اقترحتها عليكم، والتي نَجَحَتْ في حياتي الشخصية السَّابقة عندما أدركتُ حاجتي لمعرفة الكتاب المقدَّس هي القراءة المُتكرِّرة. وإليكم الطَّريقة الَّتي اتَّبعتها ووجدت أنَّها مفيدة جدًّا. وقد اكتشفتها أوَّل مرَّة في كتابٍ قديم عن كيفيَّة دراسة الكتاب المقدَّس، وَهُوَ مِن تأليف "جيمس م. غراي" (James M. Grey) الَّذي كان الرَّئيس السَّابق لمعهد مودي للكتاب المقدَّس (Moody Bible Institute) قبل سنوات طويلة جدًّا. وربَّما أَدخلتُ بعض التَّعديلات على تلك العمليَّة. وإليكم الطريقة الَّتي نجحت معي:
اخْتَرْ سفرًا مِن الكتاب المقدَّس واقرأه مرارًا وتكرارًا على مدار ثلاثين يومًا. وإليكم كيف فعلتُ أنا ذلك: لقد اخترتُ رسالة يوحنَّا الأولى. ورسالة يوحنَّا الأولى تتألَّف من خمسة أصحاحات. وقد قرأتُ رسالة يوحنَّا الأولى كلَّ يوم طوال ثلاثين يومًا. فقد قرأتها وحسب من التَّرجمة نفسها ثلاثين مَرَّة على التَّوالي. والحقيقة هي أنِّي تحمسَّتُ كثيرًا لها ولم أتقيَّد بالطَّريقة المذكورة في الكتاب الأوَّل إذ إنِّي قرأت تلك الرِّسالة تسعين مَرَّة مُتتالية. ولكن في نهاية اليوم الثَّلاثين، كنت أعرف ما تحويه رسالة يوحنَّا الأولى بسبب القراءة المتكرِّرة وحسب. والحقيقة هي أنَّني ابتدأت في الاحتفاظ بصورٍ في عقلي لكتابي المقدَّس. وإن سألني شخصٌ حتَّى هذا اليوم ما جاء في الأصحاح الأوَّل أو الثَّاني أو الثَّالث أو الرَّابع أو الخامس من رسالة يوحنَّا الأولى، أنا أعرف ذلك تمامًا بسبب التَّكرار. فهكذا يحتفظ ذهني بالأشياء. والحقيقة هي إنَّه إن سألني أحدٌ: "أين يقول الكتاب المقدَّس: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ"، فإنَّ الجواب سهل: رسالة يوحنَّا الأولى والأصحاح الأوَّل. في الصَّفحة اليسرى، العمود الأيمن، في منتصف العمود تقريبًا.
فكما تَعلمون، سوف تبتدئ بالاحتفاظ بصور في ذهنك للكتاب المقدَّس بسبب معرفتك الوثيقة بالنَّصِّ لأنَّك قرأته المَرَّة تلو المَرَّة تلو المَرَّة. وفي الوقت نفسه، كتبتُ جُملة واحدة تُلخِّص كلَّ أصحاح. وعلى مدى ثلاثين يومًا، حفظتُ موضوع ذلك الأصحاح. لذا فقد كنت أُدَرِّب عقلي على فَهْم الأصحاحات والتَّآلُف مع النصِّ نفسه. وفي نهاية التِّسعين يومًا، كنت قد أفهم جيِّدًا ما تقوله رسالة يوحنَّا الأولى. وأنا لم أفهمها كلها تمامًا. فأنا لم أتعمَّق حقًّا في دراسة كلِّ ما جاء فيها، ولكنِّي عرفتُها جيِّدًا. وقد أثارتْ أسئلة كثيرة جدًّا في عقلي.
وإذْ أردتُ أن أبقى في إطار يوحنَّا، ذهبتُ إلى إنجيل يوحنَّا. وإنجيل يوحنَّا يحوي واحدًا وعشرين أصحاحًا. وهذا نَصٌّ يَصعُب استيعابه في شهر واحد. لذا فقد قَسَّمتُه إلى ثلاثة أجزاء يتألَّف كلٌّ منها من سبعة أصحاحات. وربَّما كان هذا هو أكبر عدد من الأصحاحات الَّتي ينبغي أن تقرأوها دُفعةً واحدة. وقد قرأت الأصحاحات السَّبعة الأولى مِن إنجيل يوحنَّا مُدَّة ثلاثين يومًا. ثُمَّ إنِّي قرأتُ المجموعة الثَّانية، أو الأصحاحات السَّبعة الثَّانية مُدَّة ثلاثين يومًا، ثُمَّ المجموعة الثَّالثة الأخيرة مُدَّة ثلاثين يومًا. وهكذا فقد قرأتُ خلال تسعين يومًا كلَّ إنجيل يوحنَّا. وفي أثناء قراءتي له، كتبتُ ملخصًا صغيرًا عن كلِّ أصحاح؛ أي عن كلِّ واحدٍ مِن الأصحاحات الواحد والعشرين. وفي نهاية التِّسعين يومًا تلك الَّتي قرأتُ في كلٍّ منها سبعة أصحاحات، فهمتُ ما جاء في إنجيل يوحنَّا.
وحتَّى هذا اليوم، ما زال بمقدوري أن أتصوَّر ذلك بعد سنوات طويلة جدًّا رُبَّما تزيد عن ثلاثين سنة. وما زلت أذكر أنَّ الحديث عن عُرس قانا الجليل موجود في الأصحاح الثَّاني مِن إنجيل يوحنَّا، وأنَّ الحديث عن المرأة الَّتي كانت عند البئر في السَّامرة جاء في الأصحاح الرَّابع مِن إنجيل يوحنَّا، وأنَّ يسوع واجه إخوته وعدم إيمانهم في الأصحاح السَّابع مِن إنجيل يوحنَّا، وأنَّ إطعام الخمسة آلاف مذكور في الأصحاح السَّادس مِن إنجيل يوحنَّا، وأنَّ الأصحاح العاشر مِن إنجيل يوحنَّا هو أصحاح الرَّاعي، وأنَّ الأصحاح الخامس عشر مِن إنجيل يوحنَّا هو أصحاح الكرمة، وأنَّ صلاة رئيس الكهنة موجودة في الأصحاح 17، وهَلُمَّ جَرَّا. ويسوع في البُستان في الأصحاح 18. فقد صار ذلك معروفًا تمامًا لديَّ.
وقد ابتدأت أيضًا في إدراك أنَّ بعض الأمور الَّتي لم أفهمها في رسالة يوحنَّا مشروحة في إنجيل يوحنَّا، وأنَّ أفضل مُفسِّر للكتاب المقدَّس هو الكتاب المقدَّس نفسه. وقد عرفتُ ذلك في وقت مبكر جدًّا. لذلك، عندما أُعلِّمكم كلمة الله فإنِّي أُفسِّر الكتاب المقدَّس بالكتاب المقدَّس. أليس هذا هو ما أفعله؟ لأنَّ هذه هي الطريقة الَّتي تعلَّمت فيها الكتاب المقدَّس. ثُمَّ بعد ذلك، ذهبت إلى رسالة فيلبِّي، وأخذت رسالة فيلبِّي القصيرة الَّتي تحوي أربعة أصحاحات وقرأتها مُدَّة ثلاثين يومًا على التَّوالي فعرفتُ ما جاء فيها.
ثُمَّ إنِّي ذهبتُ إلى إنجيل متَّى وأخذت أصحاحاته الثمانية والعشرين، وقَسَّمتُها إلى أربعة أجزاء يحوي كلٌّ جزءٍ منها سبعة أصحاحات، وقرأت الأصحاحات السَّبعة الأولى طوال ثلاثين يومًا، ثُمَّ السَّبعة الَّتي تليها طوال ثلاثين يومًا، ثُمَّ السَّبعة الَّتي تليها طوال ثلاثين يومًا. وخلال أربعة أشهر، كنتُ قد فهمتُ إنجيل مَتَّى. والآن، إن قرأتم بتلك السُّرعة (أي نحو سبعة أصحاحات كلَّ يوم) مُبتدئين بالأسفار القصيرة ثُمَّ بالأسفار الأطول)، سيستغرق الأمر سنتين ونصف لقراءة العهد الجديد. لذا، سوف تقرأون الكتاب المقدَّس خلال السَّنتين والنِّصف القادمة كما آمُل. والآن، ما رأيُكم بقراءته لمعرفته جيِّدًا؟ إنَّ الأمر يتطلَّب تكرارًا. إنَّه يتطلَّب تكرارًا.
وفي تلك العمليَّة الَّتي تستغرق سنتين ونصف، سوف تتعلَّمون أنَّ هناك أجزاءً في الكتاب المقدَّس ترتبط بعضُها ببعض ارتباطًا واضحًا جدًّا. وسوف تتوقَّفون عن الاتِّكال الكامل على فهرس الكتاب المقدَّس. وأنتم تفهمون قصدي... فأنت لا تتذكَّر موضِع أيِّ شيء. لذا فإنَّك تبحث في فهرس الكتاب المقدَّس المختصر في نهاية كتابك المقدَّس ولا تعثر فيه عن الآية الَّتي تبحث عنها... ولا بُدَّ أنَّكم لاحظتم ذلك. ولكن لا يمكنك أن تفعل ذلك بوجود كلِّ العهد القديم. فأغلبيَّته مكتوب بأسلوب قصصيّ. ويجب عليك أن تقرأه كقصَّة. أمَّا قصده ومعناه الغنيُّ الكامل فيتَّضح بطريقة رائعة جدًّا في العهد الجديد. ولكن يجب عليك أن تعرف جيِّدًا العهد الجديد.
التزِم بخطَّة القراءة تلك وسوف تُدهش وتتعجَّب حين ترى كيف أنَّك ستصير عالِمًا بالكتاب المقدَّس في خلال تلك السَّنتين ونصف السَّنة حين تبتدئ بربط آيات الكتاب المقدَّس بعضِها ببعض. وهذا يؤكِّد مَرَّةً أخرى الفكرة الَّتي كُنَّا نحاول توصيلها لكم طوال اليوم، وهي أنَّ هناك مؤلِّفًا واحدًا فقط. فمع أنَّ أشخاصًا كثيرين كتبوا نيابةً عن الله بوحيٍ من الرُّوح القُدُس، فإنَّ الله هو المؤلِّف الحقيقيّ. وبوجود مؤلِّف واحد يُعلن دائمًا الحقَّ المعصوم مِن الخطأ والمُنزَّه عن الخطأ، هناك استمراريَّة تامَّة. وهذا هو ما يُسمِّيه اللَّاهوتيُّون: "تآلُف الكتاب المقدَّس". والمقصود بذلك هو أنَّ الكتاب المقدَّس مُتجانِس بعضُه مع بعض. وهذا يعني أنَّه لا يوجد فيه تناقض. صحيحٌ أنَّ هناك صعوبات ظاهريَّة لا تستطيع عقولنا المحدودة أن تفهمها (مِثل الثَّالوث، والإرادة البشريَّة والاختيار الإلهيّ). فهناك مسائل لا يمكننا أن نجد لها حَلًّا بسبب محدوديَّات العقل البشريّ. ولكن لا يوجد هناك تناقضات لأنَّ الكاتب الواحد هو الله نفسه.
وقد رأيتُ أنَّ التَّدرُّب على قراءة الكتاب المقدَّس بتلك الطريقة، على مدى سنتين ونصف تقريبًا، قد أعطاني معرفة هائلة بمحتوى الكتاب المقدَّس. وقد صار هذا هو الأساس الَّذي يمكنني أن أبني عليه فهمي لذلك المحتوى. وقد وجدتُ الإجابة عن أسئلة كثيرة كانت موجودة لديَّ سابقًا خلال حياتي المسيحيَّة؛ لا مِن خلال قراءة كتب التَّفسير أو دراسة الكتب اللاَّهوتيَّة، بل فقط مِن خلال استيعاب النصِّ الكتابيِّ نفسه. وسوف أخبركم شيئًا آخر. فأنا أقرأ الكتاب المقدَّس طوال الوقت. وفي أثناء قراءتي المستمرَّة له طوال الوقت، لم أتوقَّف يومًا عن الشُّعور بالدهشة بسبب الأشياء المُعلَنة فيه.
وهناك فَهْمٌ رئيسيٌّ للأسفار المقدَّسة يِصِفُه الكتاب المقدَّس بأنَّه يُشبه لَبَن الكلمة في الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثوس والأصحاح الثَّالث. ولكن لا توجد عقائد تُشبه اللَّبَن وعقائد تُشبه اللَّحم. بعبارة أخرى، لا توجد أمور خفيفة وأمور أثقل. فالكلمتين "لبن" و "طعام" لا تَصِفان نوعيَّة الحقّ، بل تصفان عُمق الحقّ. فهناك مستوى مِن الفهم يُشبه اللَّبن، وهناك مستوى مِن الفهم يُشبه اللَّحم. وأنت تنتقل مِن شرب اللَّبن إلى أكل اللَّحم الحقيقيّ عندما تواظب على قراءة الكتاب المقدَّس وتبتدئ في رؤية العمق الحقيقيّ الموجود فيه.
ولكنَّك تبتدئ بفهم الكتاب المقدَّس نفسه. ومِن هناك تبتدئ في التَّساؤل قائلاً: "حسنًا، أنا أعرف ما يقوله. ولكن ما الَّذي يعنيه بقوله ذاك؟ لننتقل مِن اللَّبن إلى اللَّحم". ويجب علينا أن نتحدَّث عن ذلك. وسوف نفعل ذلك عندما نتحدَّث عن عمليَّة اكتشاف معنى الكتاب المقدَّس. فسوف نفعل ذلك. سوف نفعل ذلك يوم الرَّبِّ القادم. وسوف أريكم تحديدًا كيف أكتشف معنى كلمة الله.
ولكن قبل أن نتطرَّق إلى ذلك، هناك شيء ينبغي أن أتحدَّث عنه في هذا المساء، وهو مهمٌّ جدًّا. في هذا الصَّباح، تحدَّثتُ عن المَطْلَب الرَّئيسيّ لدراسة الكتاب المقدَّس بفعاليَّة وهو: نظرتك إلى الكتاب المقدَّس. أليس كذلك؟ وفي هذا المساء، أَضفتُ قائلاً إنَّ هناك مَطْلَبًا ثانيًا لدراسة الكتاب المقدَّس وهو: أن تَعلم ما يقول. فيجب عليك أن تنظر إليه نظرة إجلال وأن تَعلم ما يقول. فلا توجد طرق مختصرة. لا توجد طرق مختصرة. اسمعوني يا أحبَّائي: إنَّ النُّضج الروحيَّ مرتبط بتطبيق الحقّ. أليس كذلك؟ والبَرَكة الروحيَّة ليست شيئًا يغمرك في أثناء زيارتك لواحدٍ من المؤتمرات الروحيَّة الانتعاشيَّة. فهو لا يحدث بتلك الطريقة. وهو ليس شيئًا يحدث لك لأنَّك سمعت عظةً رائعةً أثَّرت فيك.
فقد تختبر عمل الله الآنيِّ في قلبك، ولكنَّ النُّضج الروحيَّ والنموَّ الروحيَّ هو عمليَّة طويلة الأمد مِن تطبيق الحقِّ الإلهيِّ في حياتك. وهو يتطلَّب اللَّهج فيه نهارًا وليلاً. وهو يتطلَّب أن "تَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيه". "حِينَئِذٍ تُصْلِحُ طَرِيقَكَ وَحِينَئِذٍ تُفْلِحُ". فالأمر لا يحدث بغتةً. وَهُوَ لا يحدث في أحداث مُفاجئة. فالنُّضجُ الروحيُّ الحقيقيُّ والنموُّ الروحيُّ الحقيقيُّ يشبه وحسب نموَّ الإنسان. فهو عمليَّة تحتاج إلى التَّغذية. وذلك الغذاء هو كلمة الله.
وقد قال يسوع: "قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقّ". فالتَّقديس لا يحدث في حملة كِرازيَّة ضخمة، ولا في مؤتمرٍ روحيٍّ ضخم. والتَّقديس لا يحدث في مؤتمرٍ روحيٍّ يُعقَد في مكان ما ويُقدِّم فيه شخص عظة تأسُر قلبك، بل إنَّ التَّقديس هو عمليَّة طويلة الأمد ينضج فها المرء ويصير مشابهًا للمسيح من خلال التغذِّي على كلمة الله وتطبيق ما فهمه من الحقِّ الروحيّ. لذا، يجب علينا أن نتعلَّم ما يقوله الكتاب المقدَّس. وحينئذٍ يمكننا أن نبتدئ في بذل مزيد من الجهد لفهم ما يعنيه بما يقوله. وهذا يجعل كلمة الله تتغلغل في صميم حياتنا، ويساعدنا على الانطلاق في تطبيقها.
ولكن قبل أن نتحدَّث عن ذلك، أي عن كيفيَّة القيام بذلك تحديدًا، اسمحوا لي أن أتحدَّث عن شيءٍ آخر. فقد وضعنا هذا الأساس بصورة مبدئيَّة. فيجب علينا أن نُجِلَّ الكتاب المقدَّس. ويجب علينا أن نعرف مُحتواه. والآن بعد ذلك، أريد أن أساعدكم في فهم المُتطلَّبات الرئيسيَّة لتحديد معنى الكتاب المقدَّس ... أن أساعدكم في فهم المُتطلَّبات الرئيسيَّة لتحديد معنى الكتاب المقدَّس. وهل تسمحون أن أقول لكم إنَّ هناك أشخاصًا غير مؤمنين يُبدون اهتمامًا بالكتاب المقدَّس؟ فأنا أُدهَش دائمًا حين أرى أنَّ اللَّاهوتيِّين المُتحرِّرين الَّذينَ ينكرون وحي الكتاب المقدَّس يرغبون في أن يصيروا أساتذةً في الدِّين أو أساتذةً في اللَّاهوت! ولكنَّ هذا هو ما يحدث! فَهُم يُبدون اهتمامًا مُعيَّنًا بالكتاب المقدَّس.
ومِن الممكن أيضًا لشخصٍ لم يختبر التَّجديد، ولم يختبر الاهتداء للمسيح، ولم يتقدَّس أن يقرأ ويفهم أجزاءً من المحتوى الرئيسيِّ الكتاب المقدَّس. أليس كذلك؟ فيمكنهم أن يقرأوا أنَّ يسوع مات على الصَّليب. ويمكنهم أن يقرأوا أنَّه قام ثانيةً. ويمكنهم أن يقرأوا أنَّه وعد بأن يرجع ثانيةً. ويمكنهم أن يقرأوا أنَّه صنع معجزات. ويمكنهم أن يقرأوا أنَّ رأس الفأس طَفا على وجه الماء. ويمكنهم أن يقرأوا أنَّ الربَّ شَقَّ البحر الأحمر، وأنَّ بني إسرائيل عبروا بقيادة مُوسَى، وأنَّ جيش فرعون غرق. فيمكنهم أن يقرأوا ذلك. ولكن لكي تستوعب معنى ذلك من جميع الجوانب الروحيَّة، هناك مُتطلَّبات معيَّنة. هناك مُتطلَّبات معيَّنة.
المَطْلَبُ الأوَّل هو أنَّه ينبغي للمرء أن يكون مؤمنًا. ينبغي للمرء أن يكون مؤمنًا. فلا يجوز البتَّة أن تثقوا بالمهارات التفسيريَّة لشخصٍ غير مؤمن. فلا يَهُمُّني إن كان لاهوتيًّا مُتحرِّرًا أو كان مِن أصحاب البِدَع، أو إن كنت تتحدَّث إلى شخصٍ في جامعة شيكاغو يعمل في قسم اللَّاهوت ولا يؤمن بأنَّ الله هو الَّذي كَتَبَ الكتاب المقدَّس، بل إنَّه مستوى أعلى من الإلهام البشريِّ، أو إن كنت تتحدَّث إلى شيخٍ من كنيسة المورمون. فلا يمكنك أن تثق في تفسيرهم للكتاب المقدَّس. فيمكنهم أن يقرأوه كما تقرأه أنت. ويمكنهم أن يعرفوا ما يقول. ومن المؤسف في أحيان كثيرة أنَّهم يعرفون ما يقوله أفضل من المؤمنين الَّذينَ لا يُظهرون نفس الأمانة في قراءة ما يقول. ومن المؤسف دائمًا أن يأتي أحد أعضاء شهود يهوه ويطرق باب بيتك ويعرف موضع الأشياء في الكتاب المقدَّس في حين أنَّك لا تعرف ذلك. ولكن لا يمكنك أن تثق بتفسيرهم.
وسوف أُبيِّن لكم السَّبب. افتحوا على رسالة كورِنثوس الأولى والأصحاح الثَّاني ... رسالة كورِنثوس الأولى 2: 6. وهذا مقطع مهم جدًّا جدًّا من الكتاب المقدَّس. العدد 6: "لكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ الْكَامِلِينَ". وَهُوَ يُشير هنا إلى الأشخاص الَّذينَ هُم في المسيح؛ أي المؤمنين. "وَلكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هذَا الدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، الَّذِينَ يُبْطَلُونَ". فنحن نملك حكمة، ونملك معرفة وفهمًا لعُمق الكتاب المقدَّس لا يملكه هؤلاء. وهي الحكمة الَّتي توصف في العدد 7 بأنَّها "حِكمةُ اللهِ في سِرّ"؛ أي أنَّها شيء مَحجوب. "الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا..." [فَعلوا ماذا؟] "...لما صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْد". وَهُوَ يتحدَّث هنا عن الأشخاص المُتديِّنين.
وسوف أخبركم شيئًا. لو أنَّ حُكَّام هذا الدَّهر، والاختصاصيِّين التَّربويِّين في هذا الدَّهر، والفلاسفة وعلماء النَّفس والحكماء في هذا الدَّهر فهموا الحكمة الحقيقيَّة، لما رفضوا ربَّ المجد الَّذي صُلِب. ولكنَّهم لا يملكون حكمةً. هل تذكرون ما جاء في سِفْر إرْميا 8: 9؛ وهي الآية الَّتي قرأتها لكم في هذا الصَّباح: "هَا قَدْ رَفَضُوا كَلِمَةَ الرَّبِّ، فَأَيَّةُ حِكْمَةٍ لَهُمْ؟" والمعنى يَتَّضح أكثر في العدد 9 إذ إنَّه يرجع إلى العهد القديم ويقتبس ما جاء في سِفْر إشعياء 64 و65: "بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ»".
وهل تَعلمون لماذا لا يعرفون معنى حكمة الله، ولماذا لا يستطيعون أن يقرأوا ما يقوله الكتاب المقدَّس وأن يفهموا معناه؟ هل تعلمون السَّبب؟ لأنَّه ليس مُتاحًا تمامًا للدِّراسة التَّجريبيَّة. فالعين لا تستطيع أن تراه، والأذن لا تستطيع أن تسمعه. فهو ليس شيئًا ماديًّا بحتًا. وَهُوَ شيء لا يمكن استيعابه مِن خلال الدِّراسة التجريبيَّة. ولا يمكن أن يُفهم فهمًا موضوعيًّا مِن خلال أيِّ نوعٍ مِن تطبيق المنطق البشريِّ أو استخدام العقل أو الذَّكاء. كذلك فإنَّ العدد 9 يقول: "وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ". فالإنسان لا يستطيع أن يفهم حكمة الله فهمًا خارجيًّا مِن خلال البحث الموضوعيِّ. وَهُوَ لا يستطيع أن يفهمها داخليًّا مِن خلال الحكمة الموضوعيَّة. فَهُوَ لا يستطيع أن يعرفها من الخارج، ولا يستطيع أن يعرفها من الدَّاخل. فهو غير قادر على معرفتها. بل إنَّ الأشخاص الوحيدين القادرين على معرفتها، بحسب ما جاء في نهاية العدد 9، هم أولئك الَّذينَ ماذا؟ يُحِبُّون الله ... يُحِبُّون الله. والعدد 10 يشرح السَّبب: "فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِه".
واسمحوا لي أن أقول لكم شيئًا، يا أحبَّائي. هناك طريقة واحدة فقط لفهم معنى الكتاب المقدَّس وهي أن تَتَعَلَّمها مِن روح الله. فأنا لا أتوقَّع مِن لاهوتيٍّ مُتحرِّر أن يتوصَّل إلى الجواب الصَّحيح. وأنا لا أتوقَّع من شخصٍ ينتمي إلى إحدى البِدَع أن يتوصَّل إلى الجواب الصَّحيح، بل إنِّي أتوقَّع منهم أن يتوصَّلوا إلى الجواب الخاطئ لأنَّهم لا يمتلكون المِعيار الخارجيَّ الموضوعيَّ الَّذي يجعلهم قادرين على تمييز أسرار الحقِّ المُعلَن. وَهُم لا يمتلكون المِعيار الداخليَّ الذاتيَّ الَّذي يجعلهم قادرين على تمييز الحقِّ الكامِن في حكمة الله. لذا، فإنَّها ليست مُتاحًا لهم. ولكن بالنِّسبة إلينا فإنَّ الله أعلن ذلك لنا بروحه. ألا تجدون ذلك الأمر مُدهشًا؟ "لنا".
"لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ". فلكي تفهم حكمة الله، والحكمة الفدائيَّة المعلنة في الكتاب المقدَّس، ولكي تفهم كلَّ عظمة إعلان الله، فإنَّ ذلك غير مُتاحٍ للبشر مِن دون معونة الرُّوح القُدُس. وهو يُقدِّم مثلاً توضيحيًّا على ذلك في العدد 11: "مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟" وهذا تشبيه بسيط وحسب. فهناك عنصر واحد فقط في الإنسان يَفهم أمور الإنسان وَهُوَ روح الإنسان الَّذي فيه. بعبارة أخرى، إنَّ روحك الداخليَّ هو الَّذي يفهم ذهنك. فيَدُك لا تفهم عقلك. وقدمُك لا تفهم عقلك. وأنفُك لا يفهم عقلك. وأذنُك لا تفهم. وعينك لا تفهم عقلك.
ولكنَّ روحك الداخليَّ هو الَّذي يفهم عمليَّة التَّفكير الَّتي تقوم بها. "هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ". فلا يوجد جزء في الخليقة الماديَّة يستطيع أن يفهم فكر الله؛ إلَّا روحُ الله. هذا هو المثلُ التوضيحيُّ البسيط الَّذي يُقدِّمه. "وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ".
ألا تَجدونه أمرًا مُدهشًا؟ فليس كثيرون منَّا شُرفاء، وليس كثيرون منَّا أقوياء، ولكنَّنا نعرف أمورًا لا يعرفها العالم. والحقيقة هي أنَّنا نعرف "الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّات". ولا يُدهشني أن أرى أنَّ النَّاس في العالم يعتقدون أنَّنا مُختلفون، أو غريبو الأطوار، أو مِن كوكبٍ آخر. فنحن نتكلَّم لغةً لا يفهمونها. فَهُم لا يفهمونها البتَّة. وهُم ينظرون إلينا ويتعجَّبون كيف أنَّنا نستطيع بقدراتنا العقليَّة المحدودة أن نفهمها. فكيف يُعقل أنَّنا نعرف أمورًا لا يعرفونها؟ وكيف نستطيع أن نفهم أمورًا لا يمكنهم أن يستوعبوها؟
لقد كنتُ أتحدَّث إلى رجُلٍ يهوديٍّ ذات يوم وحظيتُ بفرصة أن أُقَدِّم له واحدًا مِن كُتُبي وَهُوَ بعنوان: "قُوَّة النَّزاهة" (The Power of Integrity). وقد قال: "هذا سيساعدني كثيرًا لأنِّي [حسب قوله] أواجه مشكلة كبيرة في حياتي. فأنا أحاول أن أدرس علم الأخلاق. وأنا أحاول أن أفهم الأخلاق". وهو رجُل ذكيٌّ يعمل رئيسًا تنفيذيًّا لإحدى المؤسَّسات الضَّخمة، إحدى مؤسَّسات التَّرفيه في هوليوود، ورجُل ذو تأثيرٍ هائل، ورجُل رائع جدًّا ولطيف جدًّا. وهو رجُل كان مهتمًّا بفهم الأخلاق. فقلتُ: "ها هي. فهذا كتابٌ عن النَّزاهة، وعن شخصٍ ستستمتع بالقراءة عنه. إنَّه رجُل يُدعى دانيال. وهو رجل يهوديٌّ لم يقبل المساومة في أزمنة الكتاب المقدَّس".
ويجب أن تعلموا أنَّنا لا نملك هنا سوى القليل مِن وجهة نظر العالم، ولكنَّنا نعرف أمورًا لا يمكنهم أن يفهموها. لماذا؟ العدد 14، وربَّما كان هذا هو الجواب: "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ..."؛ أيِ الإنسان الَّذي لم يتجدَّد ولم يحصل على معونة الرُّوح القُدُس "...لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ". فالأمر لا يقتصر فقط على عدم معرفته بها، بل إنَّنا نقرأ أَنَّهُ ماذا في نظره؟ "جَهَالَةٌ، فهو لا يستطيع أن يفهم هذه الأشياء. "وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا". لِذا يجب عليكم أن تتذكَّروا، يا أحبَّائي، عندما تخرجون لتقديم الإنجيل إلى شخصٍ غير مؤمن أنَّه ما لم يعمل الرُّوح القُدُس على تحريك القلب، ستكون كِرازتكم عديمة الجدوى، وستكون بلا رجاء لأنَّهم لا يستطيعون أن يفهموا ذلك.
فأنتم لا تخوضون معركةً ... أنتم لا تخوضون معركة ذهنيَّةً تحاولون فيها أن تطرحوا حُججًا أقوى كي تُرَجِّحوا إحدى الكَفَّتَيْن في أذهانهم. فهذا ليس مشروعًا بشريًّا تعمل عليه، بل إنَّ هؤلاء الأشخاص بلا رجاء. فَهُم أموات بالذُّنوب والخطايا، ولا يملكون القدرة على استيعاب الحقِّ الروحيِّ. والحقيقة هي أنَّهم ينظرون إلى ما تُقدِّمه لهم على أنَّه جهالة لأنَّ أمورًا مثل هذه إنَّما يُحكَم فيها روحيًّا. "وَأَمَّا الرُّوحِيُّ (على النَّقيض مِن الإنسان الطبيعيِّ الَّذي لم يتجدَّد إذْ إنَّ المؤمنَ هو إنسانٌ روحيٌّ اهتدى إلى المسيح ووُلد ثانيةً. فالأشخاص الروحيِّون هُم أولئك الَّذينَ يملكون ذهنًا جديدًا هو فكر المسيح، ويملكون طبيعةً جديدةً) فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ". وهذا رائع! أليس كذلك؟ فلا يمكن لغير المؤمنين حتَّى أن يحكموا فينا حُكمًا صائبًا.
فالعالم لا يستطيع أن يحكم فينا حُكمًا صائبًا. أمَّا نحن فيمكننا أن نحكم فيهم حُكمًا صائبًا لأنَّنا نعرف حكمة الله. أمَّا هُم فلا يمكنهم أن يحكموا فينا، ولا يمكنهم أن يعرفونا لأنَّهم لا يعرفون ما نؤمن به "لأَنَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ...؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ الْمَسِيحِ". ألا تجدونه أمرًا رائعًا؟ لذا، يا أحبَّائي، لا أمل لكم في فهم الكتاب المقدَّس ما لم تولدوا ثانيةً، وما لم تحصلوا على ذهنٍ جديد بمعونة رُوح الله. والأمر لا يقتصر فقط على حُضور روح الله، بل على حضور روح الله العامل في ذهنك. فالأمر يتطلَّب أن يعطيك روح الله فكر المسيح كي تتمكَّن من التَّفكير بطريقةٍ تجعلك عاجزًا عن التَّفكير بمعزِلٍ عنه.
وقد قام كُتَّاب الكتاب المقدَّس بتدوين الحقِّ بكلماتٍ إلهيَّة. ومِن دون معونة روح الله، قد يتمكَّن الأشخاص الَّذينَ لم يولدوا ثانيةً من قراءة هذه الكلمات. فقد يتمكَّنون من قراءة ما يقوله الكتاب المقدَّس، ولكنَّهم لن يتمكَّنوا مِن فهم معناه. لذا فإنَّ الحقَّ مُتاح فقط للأشخاص الَّذينَ يحصلون على الاستنارة من الرُّوح القُدُس. وقد قال مارتن لوثر ذات مرَّة: "الإنسان يُشبه عمود مِلح، ويُشبه زوجة لوط، ويُشبه خَشَبَةً، ويُشبه حجرًا، ويُشبه تمثالاً لا حياة فيه لا يَستخدم عينيه أو فمه، ولا يملك مشاعر أو قلب إلى أن يُولد ثانيةً ويهتدي بواسطة الرُّوح القُدُس". فأفضل ما يمكن للشَّخص الَّذي لم يختبر التَّجديد أن يفعله هو أن يمضغ لِحاء الكتاب المقدَّس، ولكنَّه لن يصل يومًا إلى الخشب. لذا، من الحماقة الشَّديدة أن تُقدِّم نفسك لشخصٍ ما وأن تُعلِّمه كلمة الله إن لم يكن يسكن فيه الرُّوح القُدُس. فيا لها مِن جهالة! فمن المؤكَّد أنَّهم سيخرجون بتفسيرٍ خاطئ.
وهناك عُنصر ثانٍ مُهمّ. والحقيقة هي أنَّه توجد عناصر عديدة أخرى حتَّى إنِّي سأُضطرُّ إلى استكمال حديثي في الأسبوع القادم. ولكنِّي سأذكر لكم عنصرًا آخر. وقد ابتدأنا للتَّوّ في التحدُّث عن هذا الأمر. ولنُسمِّه: الرَّغبة ... الرَّغبة. افتحوا على رسالة بطرس الأولى والأصحاح الثَّاني. فإن كنت ستدرس كلمة الله، يجب عليك أن تكون راغبًا فيها. وهناك قصَّة قديمة عن سُقراط. هل هي حقيقيَّة أَم لا؟ مَن يدري! ولكنَّ سُقراط كان أعظم فيلسوف في عصره وحَكيم زَمانِه. وقد كان موضِع حسدٍ من كلُّ شابٍّ يرغب في أن يتعلَّم ويكون تلميذًا لسقراط. وتقول القصَّة إنَّ شاباً جاء إلى سقراط الَّذي كان يُعلِّم بالقرب من الشَّاطئ في بستان.
جاء هذا الشَّابُّ في لحظةٍ خاصَّة وقال لسُقراط الحكيم: "سيِّدي، أودُّ أن تكون مُعَلِّمي. أَلا عَلَّمتني؟ ويُقال إنَّ سُقراط ردَّ عليه قائلاً: "اتبعني". وقد استدار ومشى على الرَّمل باتِّجاه شاطئ البحر، واستمرَّ في المشي في الماء، واستمرَّ في المشي، واستمرَّ في المشي إلى أن وصل الماء إلى مستوى الفم عند كليهما في البحر الَّذي كانت أمواجه تعلو وتنخفض عند مستوى شفتيهما. ثُمَّ إنَّه استدار ونظر إلى الشَّابِّ الَّذي كان آنذاك يتساءل عن ماهيَّة هذا الدَّرس، ووضع كِلتا يديه على رأسه وضغطه تحت الماء وأبقاه هناك. وإذ أراد الشَّابُّ أن يُظهر احترامًا عظيمًا لمُعلِّمه، حاول قدر استطاعته أن يبقى تحت السَّطح وأن يحبس نَفَسَهُ.
ولكنَّ ذلك صار مستحيلاً بعد بضع لحظات، فابتدأ يقاوم ويضغط إلى أعلى ويُحرِّك قدميه. وإذ كان سقراط رجُلاً قويًّا، تمكَّن من إبقائه في الأسفل، واحتجزه هناك، واستمرَّ في إبقائه هناك. وبحسب القصَّة، فقد أبقاه هناك نحو دقيقة أو دقيقتين؛ وهي مُدَّة طويلة. وأخيرًا، ترك ذلك الشَّاب الَّذي كان يتخبَّط، فاندفع الشَّابُّ خارجًا من الماء وهو يَتقيَّأ الماء المالح في جميع أرجاء المكان وراح يَصرخ على سقراط قائلاً: "ما الَّذي تفعله؟" أو ما شابه ذلك. ويُقال إنَّ سُقراط ردَّ عليه قائلاً: "عندما تشعر أنَّ حاجتك إلى المعرفة لا تَقِلُّ أهميَّةً عن حاجتك إلى التَّنفُّس، سأكون مُعلِّمًا لك". فقد وَضَّح قصده.
وهناك ما يُمكن أن يُقال عن ذلك. فالاجتهاد الحقيقيُّ في دراسة الكتاب المقدَّس هو شيء يقوم به الأشخاص الَّذينَ يشعرون برغبة مُلِحَّة في المعرفة. فيجب أن يكون هناك مستوى مُعيَّن مِن اليأس. وقد تحدَّث بطرس عن ذلك. انظروا إلى رسالة بطرس الأولى ... رسالة بطرس الأولى 2: 1: "فَاطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ وَكُلَّ مَكْرٍ وَالرِّيَاءَ وَالْحَسَدَ وَكُلَّ مَذَمَّةٍ، وَكَأَطْفَال مَوْلُودِينَ الآنَ، اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ، إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ". وأساس هذا النَّصِّ هو جملة واحدة: "وَكَأَطْفَال مَوْلُودِينَ الآنَ، اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ". وَهُوَ لا يتحدَّث هنا عن الحليب واللَّحم كما رأينا في رسالة كورِنثوس الأولى والأصحاح الثَّالث، بل يُقدِّم تشبيهًا بسيطًا وَهُوَ كما يلي: يجب عليك أن ترغب في كلمة الله كما يرغب الطِّفل الرَّضيع في الحليب.
وهذا تشبيه رائع. أليس كذلك؟ فعندما تُحضِرين طفلاً إلى بيتك، طفلاً حديث الولادة، هذا هو كلُّ ما يُبالي به. والأطفالُ الصِّغار يُشعرونَكِ بذلك، بل إنَّهم يُشعرونَكِ بطريقة فعَّالة جدًّا عن الموعد المناسب لذلك الحليب. وأنتِ تهتمِّين بلون السَّتائر في غرفة الطِّفل الصَّغير الَّتي أعددتِها له. وأنتِ تهتمِّين بلون حذائه الصَّغير وبملابسه، وتهتمِّين بتجديل شعر طفلتكِ ووضع شريطٍ صغيرٍ عليه أو ما شابه ذلك. وأنت تهتمِّين بشراء ملابس نوم لطفلك مُزَيَّنة بصور كُرة قدم (إن كان صبيًّا)، وتهتمِّين بكلِّ هذه الأشياء. ولكنَّ كلَّ ما يَهمُّ الأطفال الصِّغار هو الحليب. أعطِهم الحليب وتَحَمَّلي النَّتائج ... ثُمَّ أعطِهم المزيد. فالحياة بسيطة جدًّا جدًّا.
وهذه هي البساطة الَّتي كانت موجودة في ذهن بطرس حين استخدم هذا التَّشبيه عندما كتبَ إلى هؤلاء المؤمنين "الْمُتَغَرِّبِينَ مِنْ شَتَاتِ بُنْتُسَ وَغَلاَطِيَّةَ وَكَبَّدُوكِيَّةَ وَأَسِيَّا وَبِيثِينِيَّةَ، الْمُخْتَارِين". ففي وسط الأوقات العصيبة، بل وحتَّى الاضطهاد، فإنَّه يدعوهم إلى أن يَتوقوا، ويَشتهوا، ويُركِّزوا بشدَّة على الكتاب المقدَّس كما يَتوق الطِّفل الرَّضيع إلى الحليب.
وما الَّذي ينبغي أن يُغَذِّي تلك الرَّغبة؟ هناك أشياء عديدة. أوَّلاً، إن تَذكَّروا أنَّ الكلمة هي مصدر حياتهم. انظروا إلى الكلمة الأولى في العدد الأوَّل: "فاطرحوا". فهي تعيدنا إلى الوراء؟ إلى ماذا؟ إلى العدد 23: "مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَد". فقد وُلدتم ثانيةً بكلمة الله. والنُّقطة هي أنَّ كلمة الله قد تركت فيكم أعمق تأثيرٍ طَوال حياتكم ... أعظم تأثير ممكن في حياتكم. فطالما أنَّ كلمة الله تمتلك تلك القوَّة، وتترك مِثل هذا التَّأثير في حياتكم، لا بُدَّ أن تتوقوا إليها. تذكَّروا أنَّ الكلمة هي مصدر حياتكم. وإن كانت قد غيَّرت حياتكم تغييرًا جذريًّا في البداية، تذكَّروا ما ستفعله إن استمرَّيتم في التَّوق إليها.
ثانيًا، اطرحوا عنكم خطاياكم. تذكَّروا أنَّ الكلمة كانت هي مصدر اهتدائكم. ثانيًا، اطرحوا عنكم خطاياكم. فنحن نقرأ في العدد الأوَّل: "فَاطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ". والكلمة "خُبْث" هي ترجمة للكلمة اليونانيَّة "كاكيا" (kakia)، وهي تعني ببساطة: "الشَّرَّ عامَّةً". "فَاطْرَحُوا كُلَّ خُبْثٍ". وهو يَذكر بضع صور توضيحيَّة وبضعة أمثلة مثل "المَكْر". فالكلمة "مَكْر" هي "دولوس" (dolos) باللُّغة اليونانيَّة. وهي كلمة تعني: "صِنَّارة"؛ وهي، بكلِّ تأكيد، شيء ماكر جدًّا إن كنتَ سمكة. اطرحوا الرِّيَاءَ، وَاطرحوا الْحَسَدَ، واطرحوا "كاتالاليا" (katalalia) ... "لالالاليا" (lalalalia). فهي كلمة تُشير إلى الهَذَر. وهي تُنطَقُ بطريقةٍ تُحاكي معناها مُشيرةً إلى المَذَمَّةِ أوِ النَّميمة على الآخرين مِن وراء ظهورهم. اطرحوا كلَّ هذه الأشياء. اطرحوا الخُبْثَ مِن حياتكم، واشتهوا الكلمة.
وما الَّذي يُحَرِّك هذه الرَّغبة؟ أن تتذكَّر قوَّة كلمة الله كما ظهرت في خلاصك، وأن تَطرح خطاياك. فطالما أنَّ هناك خطيَّة في حياتك، سوف تُطفئ تلك الرَّغبة، وتخنق ذلك الشَّوق. فالخطيَّة تُشَوِّه طهارة تلك الرَّغبة الشَّديدة، وتبعدك عن كلمة الله. أو كما كَتَبَ أحد الأشخاص في كتابه المقدَّس قبل سنوات طويلة: "إمَّا أن يُبعدك هذا الكتاب عن الخطيَّة، أو أن تُبعدك الخطيَّة عن هذا الكتاب".
ثالثًا، اعترف بحاجتك. العدد الثَّاني: "وَكَأَطْفَال مَوْلُودِينَ الآنَ، اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ". اعترف بحاجتك. كُن مُنفتحًا وصادقًا بالقدر الَّذي يجعلك تصرخ طالبًا ذلك. وأنا أحزن كثيرًا حين ألتقي أشخاصًا يعيشون في مكانٍ في العالم لا يستطيعون فيه أن يعثروا على كنيسة. فَهُم لا يستطيعون العثور على مكانٍ يَتغذُّون فيه على كلمة الله بالرَّغم من شوق قلبهم إلى ذلك. فأنتُم تمتلكون بَرَكة عظيمة جدًّا لأنَّ المصدر موجود لديكم إن كان هناك شوق في قلوبكم. اعترف بتلك الحاجة، واطلب ذلك كما يطلب الطِّفل الرَّضيع الحليب.
والسَّعي وراء النُّموِّ هو نقطة أخرى. تذكَّر قوَّة الكلمة في تخليصك، واطرح عنك الخطيَّة، واعترف بحاجتك إلى الكلمة، واسعَ إلى النُّموِّ في كلمة الله. وآخر نقطة صغيرة أريد أن أذكرها هي أن تَعُدَّ بركاتِك. العدد الثَّالث: "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ ذُقْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ". فإن كنت تعرف أصلاً روعة أن تعرف كلمته وأن تُطيعها، وإن كنت قد تباركتَ أصلاً في طاعتك في الماضي، يجب عليك أن تَلتفت إلى ذلك وأن تستمرَّ في الطَّاعة في المستقبل.
وكيف تعلم إن كان الآخرون يمتلكون هذه الرَّغبة؟ أي كيف تَعلم إن كان الآخرون يَتوقون إلى الكلمة؟ أوَّلاً، سوف يُبَجِّلوها ... سوف يُبَجِّلوها. وسوف يُعطوها التَّقدير اللَّازم. وسوف يكونون مثل أيُّوب الَّذي قال: "أَكْثَرَ مِنْ فَرِيضَتِي ذَخَرْتُ كَلاَمَ فِيه". وَهُمْ يُشبهون إرميا الَّذي قال: "وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي". وهُمْ يُشبهون المُرنِّم الَّذي قال: "أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَاد". فعندما أجد شخصًا يُبَجِّلُ الكلمة فإنَّني أرى شوقًا لديه.
ثُمَّ هناك محبَّة الكلمة والتَّوق الشَّديد إلى الحقِّ الَّذي تُعلنه. وهذا يَظهر مِن خلال الرَّغبة في التحدُّث عن الكلمة، والرَّغبة في تعليم الكلمة، والرَّغبة في سماع الكلمة تُعَلَّم، والرَّغبة في قراءة الكُتب الَّتي تَشرح الحقَّ الَّذي تُعلنه. وكما قرأنا في المزمور 119 مِرارًا وتَكرارًا: "كَمْ أَحْبَبْتُ شَرِيعَتَكَ!" فأنا أفرح بشريعتك. فهي فرحي. وهي بهجتي. فالنَّاس الَّذينَ يملكون هذه الرَّغبة يُقدِّرون الكلمة. وهم يُبَجِّلوها. وهُم يُجِلُّوها. وهم يُطيعوها. وهُم يُحبُّوها. وهُم يشعرون بمشاعر قويَّة تُجاه الحقائق المُعلنة فيها. وهُم يُفضِّلون التحدُّث عنها أكثر مِن أيِّ شيءٍ آخر. وهُم يُفضِّلون معرفة العقيدة السَّليمة وفهمها أكثر مِن أيِّ شيءٍ آخر.
وهُم يُدافعون عنها أيضًا. فَهُم ... إنَّهم ينتمون إلى تلك الفئة المذكورة في رسالة يهوذا والعدد الثَّالث. فَهُم يَجتهدون "لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِين". فَهُم مُستعدُّون للدِّفاع عنها. وهُم مستعدون للدفاع عن مصداقيَّتها. وهُم مستعدون للوقوف في وجه مَن يهاجمون حَقَّها. فهي ثمينة بهذا القدر بالنِّسبة إليهم. فعندما تُبَجِّل الكلمة وتُحبّ الكلمة، ستدافع عنها. فأحيانا يقول النَّاس: "يجب عليك أن تكون صانع سلام أكثر مِمَّا أنت عليه. ويجب عليك أن تكون مُصالحًا. ويجب عليك أن تكون مُحبًّا أكثر". لو كانت تلك مشكلة في شخصيَّتي سيكون هؤلاء على حقّ. ولكن عندما يختصُّ الأمر بكلمة الله، وعندما تُحبُّها وترغب في تبجيلها، لا يمكنك إلَّا أن تحارب لأجلها.
وأودُّ أن أضيف قائلاً إنَّ الأشخاص الَّذين يَشتهون الكلمة يَكرِزون بها أيضًا ... يَكرِزون بها. لا تقل لي إنَّك تتوق هكذا إلى الكلمة، ولا تقل لي إنَّها أحلى لديك مِن العسل وأثمن مِن الذَّهب إن كنت لا تَكرز بها. لأنَّ الشَّيء الَّذي تُحبُّه أكثر ستتحدَّث عنه أكثر. أليس كذلك؟ فالشَّيء الَّذي تُحبُّه أكثر ستتحدَّث عنه أكثر. وأنا أرى كلَّ تلك المُلصقات الَّتي يضعها النَّاس على الجزء الخلفيِّ مِن سيَّاراتهم والَّتي تقول: "ابني حصل على مَرتبة الشَّرف في الجامعة كذا وكذا". ويبدو أنَّ طلبة كثيرين حصلوا على مَرتبة الشَّرف لأنَّ هناك الكثير من المُلصقات الَّتي تقول ذلك! فالآباء والأمَّهات يرغبون في استخدام الجزء الخلفيِّ مِن سيَّاراتهم للإعلان عن محبَّتهم لأبنائهم. وأنا أتفهَّم ذلك.
ولكنَّكم ترون هذا النَّوع مِن الملصقات أكثر مِمَّا ترون مُلصقًا يقول: "مُخلِّصي هو الربُّ يسوع المسيح". وأنا أتفهَّم الجانب البشريّ في ذلك. فأنا أتفهَّم أنَّه عندما يقع الشَّابُّ في الغَرام فإنَّ كلَّ ما يرغب في التَّحدُّث عنه هو محبوبته. وأنا أتفهَّم معنى أن يُحقِّق صبيٌّ صغيرٌ هدفًا في مباريات كُرة القاعدة لصالح فريقه. فهذا هو أهمُّ شيء في حياته، وربَّما في حياة أبيه أيضًا إلى حين. فأنا أتفهَّم تلك الجوانب في الحياة. ولكنَّ تلك الأشياء تُظهِر اختلاط الأولويَّات عند هؤلاء. أليس كذلك؟
إنَّ الأشخاص الَّذينَ يتوقون إلى الكلمة مثلما يتوق الطِّفل الرَّضيع إلى الحليب لا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم مِن الكِرازة بها. فَهُم لا يستطيعون أن يَكبحوا أنفسهم. فالأمر خارج عن سيطرتهم. وأخيرًا، إنَّهم يحرصون على تطبيقها شخصيًّا ... يحرصون على تطبيقها شخصيًّا. فَهُم لا يُشاكلون هذا الدَّهر، بل إنَّهم قد تَغيَّروا بحسب الكلمة. فالكلمة تسكن فيهم بغنى (كما جاء في كولوسي 3). فهي تُشَكِّل نَسيجَ حياتهم، وتبتدئ في تشكيلهم، وتَظهر في نمط حياتهم. فإن راقبتَ حياتهم فإنَّك لن تراهم يُحَرِّقون أسنانهم، أو يُعاندون، أو يغضبون بسبب إصرارهم على فعل مشيئتهم في أثناء السُّلوك في هذه الطَّاعة. بل إنَّك ترى هُدوءَهم، وحلاوتهم، وسلوكهم الطَّبيعيّ. ويمكنك أن تراقبهم في أيِّ لحظة من حياتهم فترى اتِّساقًا فيها لأنَّ الكلمة هي المُهيمنة ولأنَّها شَكَّلت شخصيَّتهم.
إذًا كيف تعلم أنَّك تمتلك ذلك الشَّوق، أي ذلك الشَّوق الحقيقيّ؟ سوف تُجِلُّ الكلمة. وسوف تُحبُّها. وسوف تدفعك إلى الدِّفاع عنها أحيانًا. وسوف تكون موضوع حديثك في أغلب الأحيان وعلى شفتيك لأنَّك ستكرِز بها. وسوف تَظهر بقوَّة في حياتك حَتَّى رغمًا عن إرادتك. وأنا أقول دائمًا: "عندما يكون المرء ناضجًا روحيًّا فإنَّ ردود أفعاله غير الطَّوعيَّة ستُظهر التَّقوى". فَهُم ليسوا مُضطرِّين إلى التَّفكير في ذلك، بل إنَّ ذلك يصير جزءًا مِن نَسيج حياتهم.
حسنًا! نكتفي بهذا القدر في هذا المساء. وهناك ثلاثة مُتطلَّبات أخرى نُضيفها إلى هذه. وسوف نفعل ذلك في المرَّة القادمة. دعونا نُصلِّي. وكما تَرَوْن ... قبل أن نُصلِّي، مِن الصَّعب عليَّ أن أتوقَّف عن التَّحدُّث عن هذا الموضوع لأنَّه شغف قلبي. وأرجو مِن أعماق قلبي، (وأرجو أن تُصَلُّوا لأجلي) أن أتمكَّن مِن قول كلِّ ما أريد أن أقول في يوميّ الأحد المُقبِلَيْن.
يا أبانا، نشكرك على هذا المساء. ونشكرك على هؤلاء الأشخاص الأعزَّاء والأحبَّاء الَّذينَ جاءوا ... الَّذينَ جاءوا لأنَّهم يَتوقون حقًّا إلى كلمتك، ولأنَّهم يريدون أن يفهموها. وهُم يريدون أن يعرفوا الحقَّ الَّذي تُعلنه، ويريدون أن يعيشوها. وهُم يريدون أن يُفلِحوا في طريقهم وأن يَنجحوا، ويريدون فرح الطَّاعة، ويريدون أن يُمَجِّدوا اسمك. ونحن نشكرك على أولئك الَّذينَ يُظهرون مِن خلال خلاصهم واهتدائهم وولادتهم الجديدة أنَّهم يملكون روح الله مُعَلِّمًا لهم.
يا رَبّ، صلاتُنا هي أن يمتلك هؤلاء رغبةً قويَّةً تُشبه رغبة الطِّفل الرَّضيع في الحليب، رغبةً قويَّةً في معرفة كلمتك. فهذا أمرٌ مهمٌّ جدًّا إن أرادوا أن يجتهدوا فيها وأن يدرسوها كما يَفعل العامل الَّذي لا يُخْزَى. نشكرك، يا رَبُّ، على هذا الكنز الثَّمين. ونشكرك لأنَّنا نستطيع أن نفهمها. فقد جعلتها واضحةً. ونحن بحاجة إلى ذلك الفهم كي نحياها، ونختبرَ مِلْء البركة، ونُمَجِّدَك. باسم ابنك. آمين!
This article is also available and sold as a booklet.