
هذه هي العِظَة السَّادسة في نَظرتِنا إلى الأصحاح الأوَّل مِنْ سِفْر التَّكوين في مَعْرِضِ دراسَتِنا لموضوع الأُصول. وقد سألني أُناسٌ: "هل ستُقَدِّمُ دراسةً لكُلِّ سِفْر التَّكوين؟" والجوابُ هو: "لا". وقد سألني أُناسٌ آخرون: "كم عدد هذه الدُّروس؟" والجوابُ هو: "لا أدري حَتَّى هذه اللَّحظة". وكما تَعلمون، فإنَّنا نَدْرس ما يقولُهُ النَّصّ. وقد سألني أُناسٌ أيضًا اللَّيلة إنْ كنتُ قد وَعَظْتُ عن هذا الموضوع مِنْ قَبْل. والإجابة عن هذا السؤال هي: "لا". فهذه هي المَرَّة الأوَّلى الَّتي أَعِظُ فيها آيةً-آية عن قِصَّةِ الخَلْق. ولكنِّي دَرَسْتُ هذا الموضوع على مَرِّ السِّنين وَدَوَّنْتُ، دُوْنَ شَكٍّ، المُلاحظاتِ اللَّازمةَ لدروس الكِتاب المُقَدَّس أيضًا للتعمُّقِ في الموضوع قليلاً. ولكنَّها المَرَّة الأوَّلى الَّتي أَعِظُ فيها عنه. لذلك فإنَّني أُشارِكُ مَعَكُم ما أَدْرُسَهُ. وهذه هي أفضل طريقة للقيام بذلك في الحقيقة.
والآن، إذْ نأتي إلى الأصحاح الأوَّل مِنْ سِفْر التَّكوين فإنَّنا نأتي إلى تلك الآية المعروفة جَيِّدًا لدينا والتي تقول: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالأَرْضَ". وهذه الآية تُجيب عن الأسئلة المُختصَّة بأصل الكون. والعبارة "السَّماوات والأرض" هي عبارة كان اليهودُ يَستخدمونها كمُرادِفٍ للكلمة "كَوْن" بسبب عدم وجود هذه الكلمة في مُفْرَداتِهم لِوَصْف الكَوْن. وهي آية تُجيبُ عن موضوع أَصْل الكون: "في البَدْء خَلَقَ اللهُ الكَوْنَ". وقد تَوَسَّعنا قليلاً في الحديثِ عن ذلك في أثناءِ دِراسَتِنا للنَّصِّ الوارِد في سِفْر التَّكوين. واسمحوا لي أنْ أُلَخِّصَ ما تُعَلِّمه كلمة الله في سِفْر التَّكوين عن أصْل الكون. وهو كَلامٌ بَيِّنٌ مكتوبٌ بلُغةٍ واضحة. فنحن نَجِدُ هنا قِصَّةً مُؤكَّدَةً (هُنا في سِفْر التَّكوين) عن أصْل الكون.
ولتلخيص ما جاء فيها، إليكم ما تقوله: اللهُ الأزليُّ، في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ في الماضي، خَلَقَ مِنَ العَدَمِ، أيْ مِنْ دون مادَّة موجودة سابقًا، خَلَق الكونَ المعروفَ لدينا الآن في سِتَّةِ أيَّامٍ شَمسيَّة. وهو يُتَوِّجُ الخليقةَ في اليوم السَّادس بِخَلْقِ الإنسان على صُورَتِه. وهذا يعني أنَّه خَلَقَهُ كائنًا عاقلًا يَمتلك شخصيَّةً وَوَعْيًّا ذاتيًّا وإدراكًا، أو أنَّ لَدَيه القُدرة على التَّفكير واستخدام المَنْطِق. وقد تَمَّتْ عَمليَّةُ الخَلْقِ هذه في سِتَّةِ أيَّام. وفي اليوم السابع، كان كُلُّ شيءٍ قدِ انتهى، واستراحَ اللهُ مِنَ الخَلْق. وقد حَدَثَ ذلك قبل نحو سِتَّة آلاف سنة. وكانتِ الخليقةُ كُلُّها مُكتملةَ النُّمُوِّ وناضجةً حَال خَلْقِها. وفي وقتِ الخَلْقِ، لم يكُنِ المَوْتُ موجودًا. والحقيقة هي أنَّه لم يكُن هناك أيُّ تأثيرٍ للفَساد مِنْ أيِّ نوع. لذا، فقد نَظر اللهُ إلى خليقته ورأى ذَلِكَ أنَّهُ "حَسَنٌ جدًّا". فلم يكُن هناك مَوْت. ولم يكُن هناك تأثيرٌ للفساد. لذلك، لم تكُن هناك حيواناتٌ تَموت، ولم تكُن هناك نباتاتٌ تموت. ولم تكُن تجري أيُّ عمليَّة مِنْ عمليَّات الانتخاب الطبيعيّ. ولم يكُن هناك أيُّ بقاءٍ للأصْلَح لأنَّ كُلَّ شيءٍ كان قد نَجَا في تلك الخليقة الكاملة.
وقد دَخَل الموتُ والفسادُ إلى الخليقةِ أوَّلَ مَرَّةٍ حين أخطأَ آدمُ وحَوَّاءُ وعَصَيا الله. ثُمَّ جاء المَوْتُ، وجاءَ الفساد. ولكنَّ هذا الأمرَ مَذكورٌ في الأصحاحِ الثالثِ ولا صِلَةَ لَهُ بأيامِ الخَلْقِ السِّتَّة. وفي وقتٍ لاحِقٍ بعد السقوط، شَهِدَ سَطْحُ الأرضِ (الَّتي صارَتْ ملعونةً) تَغييرًا هائلاً في شَكْلِها بسبب طُوفانٍ غَمَرَ الأرضَ كُلَّها. وكان الطُّوفانُ عارِمًا حتَّى إنَّه غَطَّى تمامًا الجبال على وجه الأرضِ بأسْرِها. وكان ذلك الطُّوفانُ العالميُّ المُفاجئُ هو الذي أعادَ تشكيلَ سطحِ الأرض بصورة جذريَّة، وأدَّى أيضًا إلى تَشَكُّلِ الأحافيرِ في جميع أنحاء العالم. وقد أَهْلَكَ ذلك الطُّوفانُ كُلَّ البشريَّة ما خَلا ثمانيَّة أشخاص والحَيَوانات التي كانت في فُلْكِ نُوح. فقد كان هؤلاءِ هُمُ النَّاجونَ الوحيدون.
والآن، هذا هو سِجِلُّ سِفْرِ التَّكوين عن البِداية: الخَلْق، والسُّقوط، والطُّوفانُ الذي أعاد بِصورة جذريَّة تَشكيلَ سَطْحِ الأرضِ الَّتي صارَتْ مَلعونةً وفاسِدَةً. فقد نَزلت دينونةٌ عظيمةٌ على كُلِّ البشريَّة حتَّى إنَّ عدد النَّاجين كان ثمانية أشخاص فقط. لذلك فإنَّنا جميعًا نَسْلُ هؤلاء الأشخاص الثَّمانية وَهُمْ: نُوح، وأولاده الثَّلاثة، وزوجة نُوح، وزوجات أبنائه. فهذا هو سِجِلُّ سِفْر التَّكوين.
واسمحوا لي أن أقول لكم شيئًا يمكنكم أنْ تُدَوِّنوه في مكانٍ ما لاستخدامكم الدَّائِم. إنَّ العِلْمَ ليس شَرْحًا عِلْمًا يَشْرَحُ سِفْر التَّكوين. وهو ليس عِلْمًا لِتفسير أيِّ جُزءٍ مِنَ الكتاب المقدَّس. فالعِلْمُ ليس شَرْحًا للكِتاب المُقَدَّس. وهو ليس مَبدأً تفسيريًّا. فالكتابُ المُقدَّسُ لا يَخضعُ للعِلْم. وصِحَّةُ سِفْرِ التَّكوين لا تَختلف عن صِحَّةِ أيِّ جُزءٍ آخر مِنَ الكتاب المقدَّس. فكُلُّ الكتاب المقدَّس مُوحَى به مِنَ الله. وكُلُّ الكتابِ المقدَّسِ هو مِنْ نَفَسِ الله. فكُلُّ نُبُوَّةِ الكتابِ ليست مِنْ تَفسيرٍ خاصٍّ، بل تَكَلَّمَ أُناسُ اللهِ القِدِّيسونَ مَسُوقينَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس. وقد لَخَّصَ يَسوعُ ذلك بقوله: "كَلاَمُكَ هُوَ حَقّ". فالكتابُ المقدَّسُ صحيحٌ سَواءَ كُنتَ تَتحدَّثُ عن سِفْر الرُّؤيا، أوْ عن نُبوءةٍ مُستقبليَّةٍ، أوْ عن سِفْرِ التَّكوينِ والأصول التاريخيَّة. والكتابُ المُقدَّسُ صحيحٌ سواء كُنْتَ تَتحدَّثُ عن تاريخِ بَنِي إسرائيل أوْ تاريخِ الكَنعانِيِّين. والكتابُ المقدَّسُ صحيحٌ سَواء كُنتَ تتحدَّثُ عنِ الخلاصِ أوِ التَّقديسِ، أو كُنتَ تَتحدَّثُ عن حياةِ يَسوع أوْ لاهوتِ يَسوع. فكُلُّ ما يقوله الكتابُ المقدَّسُ صحيحٌ تمامًا. والكتابُ المُقدَّسُ صحيحٌ في سِفْر التَّكوين كما هو صحيحٌ في أيِّ مكانٍ آخر وكُلِّ مكانٍ آخر.
فَضْلاً عن ذلك، حيثُ إنَّ الأُصول لا تَتكرَّر، فإنها خارج نِطاق العِلْم. وحيث إنَّ الأصولَ لم تَكُنْ خاضِعَةً لِمُراقبةِ أيِّ شخصٍ لأنَّه لم يكُن هناك أَحَدٌ سِوى الله، لا يُمكنُ لأيِّ شخصٍ سِوى الله أن يُعَلِّقَ على الأصول. لذلك، فإنَّ ما لدينا في سِفْر التَّكوين هو قصَّة شاهِد العِيَان الوحيدة والصَّحيحة عنِ الأصول مِنَ الخالِق نفسِه. والآن، بالرَّغمِ مِنْ ذلك النَّهْجِ الواضح تُجَاهَ كلمةِ الله، فإنَّ أُناسًا كثيرين، ومِنْ بينهم مَسيحيِّينَ، قدِ التجَأوا إلى العِلْمِ والتجأوا إلى العُلماء الذين يتحدَّثون عن سِفْر التَّكوين كما لو كانوا المَرْجِعَ في ذلك.
والحقيقة هي أنَّ هناك الكثير مِنَ اللَّاهوتِيِّينَ، وشُرَّاحِ الكتابِ المُقدَّسِ، والرُّعاةِ وَالوُعَّاظِ المَعروفينَ والمشهورينَ، الذينَ رُبَّما تعرفون بعضًا منهم، يُنكِرونَ قِصَّةَ التَّكوين. فَهُمْ يُنكِرونَ تمامًا قصَّة سِفْر التَّكوين لأنَّهم يَقبلونَ –بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ- العِلْمَ القائمَ على نظريَّة التطوُّر. وقد قُلتُ لكم ذلك مِرارًا. وسوف أُعيد ذلك مَرَّةً أُخرى دونَ الدُّخولِ في التفاصيل: إنَّ العِلْمَ لم يُثْبِتْ شيئًا يُناقِض ما هو مكتوب في سِفْر التَّكوين. والحقيقة هي أنَّ ما كُتِبَ في سِفْر التَّكوين هو ما يُجيب عن اللُّغْزِ الذي يُحَيِّرُ العِلْم. ولكنْ، ويا للأسف، فإنَّ المَسيحيِّينَ، واللَّاهوتيِّينَ المَسيحيِّينَ، والشُّرَّاحَ، وأساتذةَ كُلِّيَّاتِ اللَّاهوتِ المسيحيَّةِ، والرُّعاة، والمُعَلِّمينَ يُنْكِرونَ قِصَّةَ سِفْر التَّكوين بسبب خَوْفِهِم مِنْ العِلْم.
والآن، هناك كِتابٌ واحدٌ ... هناك كتابٌ واحدٌ يُعَلِّقُ على سِفْر التَّكوين؛ وهو مُهِمٌّ جدًّا. فَهُناك كتابٌ واحدٌ يمكنني أنْ أقولَ إنَّ لَهُ سُلْطانا مُطْلَقا، وإنَّه الكتابُ الوحيدُ الذي لَهُ سُلطان. فهو الشَّرْحُ الوحيدُ المعصومُ، والمُنَزَّهُ، والذي لَهُ سُلطانٌ مِنْ بين جميع ما كُتِبَ عن سِفْر التَّكوين. فَهُناك كتابٌ إلهيٌّ واحدٌ لا جِدال فيه، وهناك شَرْحٌ سَماويٌّ واحدٌ مُوْحَى بهِ عن سِفْر التَّكوين ويتحدَّثُ بسُلْطانٍ مُطْلقٍ ولا يُمكنُ الشَّكّ في مِصداقيَّته. وبصراحة، في نظري، فإنَّ هذا الكتابَ يَحْسِم إلى الأبد مسألة صِحَّةِ سِفْر التَّكوين. وما هو هذا الكتاب؟ إنَّه العهدُ الجديد. إنَّه العهدُ الجديد.
فهو لم يُكْتَب مِنْ قِبَل أيِّ عَالِمٍ، ولا حتَّى مِنْ قِبَلِ عَالِمٍ يُؤمنُ بالخَلْق. وهو لم يُكْتَب مِنْ قِبَل لاهوتِيِّينَ أوْ رِجالِ لاهوتٍ؛ بل كَتَبَهُ أُناسٌ بُسطاء أَوْحى اللهُ نَفْسُهُ إليهم ليَكتبوه حتَّى يَكونَ الخالِقُ هُوَ الكاتِب. فأنتم تَجِدونَ في سِفْر التَّكوين قِصَّةَ الخَلْقِ. وتجدون في العهدِ الجديدِ شَرْحَ الخالِقِ المُوحى به على ما جاءَ في سِفْر التَّكوين. فإذا قرأتم ذلكَ العهد الجديد، ستجدون هناك تأكيدًا على الخَلْقِ في سِتَّةِ أيَّامٍ. وهناك تأكيدٌ على الخَلْقِ الإلهيِّ مِنْ خلال "كُنْ فَيَكون" أوْ: الخَلْق حَالاً. وهناك تأكيدٌ على أنَّ الإنسانَ خُلِقَ على صورة اللهِ، وتأكيدٌ على أنَّ آدمَ خُلِقَ أوَّلاً ثُمَّ خُلِقَت حوَّاء. وهناك تأكيدٌ على السُّقوطِ بعباراتٍ مُحددة جدًّا. وهناك تأكيدٌ على الطُّوفانِ بعباراتٍ مُحدَّدة جدًّا. وهناك تأكيدٌ على نُوح وعائلة نُوح التي نَجَت. فكُلُّ سِجِّلِ سِفْر التَّكوين مُشار إليه بعناية مِنْ خلال العهد الجديد المُوحى به.
وقد كَتَبَ "هيوبرت توماس" (Hubert Thomas) في كِتابِهِ الفَرَنْسِيِّ عن تَكوين 1-11، في المُقَدِّمة: "الحقيقة هي أنَّ هناك ثلاث نِقاط تَتَوَضَّح مِنْ خلال قراءة اللَّائحة الَّتي نُقَدِّمُها. وهذه النِّقاط الثلاث تُؤكِّد أنَّ العهد الجديد لا يمكن الاستناد إليه بأيِّ حالٍ مِنَ الأحوال لإثباتِ أيِّ شَيءٍ تَقولُهُ نظريَّة التطوُّر". وهو مُحَقٌّ تمامًا. فلا يمكنك أن تَجِد أيَّ شيء عن التطوُّر في سفر التَّكوين. فلا وُجودَ لذلك. فلا يمكنك أن تَجِدَ ذلك في أيِّ موضِعٍ مِنَ العهد القديم، ولا يمكنك أنْ تَجِدَهُ في أيِّ موضِعٍ مِنَ العهد الجديد يُعَلِّق على سفر التَّكوين. فلا أَحَدَ يُفَسِّر ذلك النَّصّ في إطار ما تقوله نظريَّة التطوُّر، أو في إطار ما تقولُهُ إحدى الأساطير أو القصص الخياليَّة، أو مِنْ مُنطلق الجَواز الشِّعْرِيّ.
ثُمَّ يُتابِع "توماس" حَديثَهُ فَيَسْرُدُ ثلاثة أسباب: أوَّلاً، مِن دون استثناء، فإنَّ الشَّواهد المُختصَّة بالخَلْق، ولا سِيَّما تلك الَّتي تُشير إلى الأصحاحات مِنْ 1 إلى 11 مِنْ سفر التَّكوين تُشير إلى أحداث تاريخيَّة. وهي لا تَختلف عن الموت التاريخيِّ للربِّ يسوعَ على الجُلجُثة. وفيما يَختصُّ بالعهد الجديد، فإنَّ الخَلْقَ ’إكس نيهيلو‘ [ex nihilo]... أي: مِنَ العَدَم... وخَلْق آدم وحوَّاء، وقايين وهابيل، ونوح والطُّوفان، مِن زاوية العهد الجديد، ليست أسطورةً وليست مَثَلاً. فكُلُّها تَختصُّ بأشخاص وأحداث لها أهميَّة تاريخيَّة وكَوْنِيَّة.
ثانيًا [بحسب ما كَتَبَ "توماس"]: "مِنْ دون استثناء، فإنَّ الخَلْق مَذكورٌ دائمًا كَحَدَثٍ فريد حَدَثَ في لحظة مُعيَّنة في الزَّمَنِ الماضي"، أي ليس حَدَثًا يجري طَوال الوقت كما تَدَّعي نظريَّة التطوُّر. وهو يُضيف قائلاً: "فقد تَمَّ الخَلْقُ. وقَدْ أُكْمِل. وقد وقعت أحداثٌ أَفْسَدَتِ العالم. والعالمُ يَنتظر الآن الخليقة الجديدة الَّتي ستحدث في المستقبل في لحظة مُعيَّنة".
ثالثًا [بحسب ما كَتَبَ "توماس"]، فإنَّ الأقوالَ المُختصَّة بالخليقة في سفر التَّكوين 1-3 يُنْظَر إليها في العهد الجديد صحيحة حرفيًّا، وتاريخيَّة، ومُهمَّة جدًّا. فتَعاليم العهد الجديد القائمة على هذه الأقوال، المذكورة في تكوين 1-3، لن تكون ذات قيمة، بل ستكون خاطئة، إنْ كانت أحداث سفر التَّكوين ليست صحيحة تاريخيًّا. فمثلاً، فَكِّروا في دخول الخطيَّة إلى العالم. فلو لم يكن آدم هو رأس الجنس البشريّ، لما كان يسوع المسيح، آدَم الأخير، رأس الخليقة الجديدة" [نهاية الاقتباس]. وهو يُشير إلى رسالة كورِنثوس الأوَّلى حيث وَرَدَ أنّهُ "كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الجَمِيعُ، هكَذَا فِي المَسِيحِ سَيُحْيَا الجَمِيعُ". ومِنَ الواضح أنَّ كاتِب العهد الجديد الَّذي كانَ يَكْتُب بوحيٍ مِنَ الروح القدس، قد رأى أنَّ الخطيَّة والموت قد دَخَلا العالم مِن خلال الإنسان التَّاريخيّ "آدَم"، ومِن خلال عَمَلِ العِصيانِ التَّاريخيِّ الَّذي قام به.
لِذا فإنَّ هذا يُلَخِّص المسألة لنا. فالعهد الجديد يُشير مِرارًا كثيرةً إلى سفر التَّكوين والخَلْق. وهو يَفعل ذلك بطريقة طبيعيَّة جدًّا. فهو لا يُظْهِر أيَّ شَكٍّ. وهو لا يُبْدي أيَّ ارْتيابٍ. وهو لا يقول: "أنا أعلَم أنَّ هذا أمرٌ يَصْعُب تَصديقُه، وأعلم أنَّكم ستواجهون وقتًا عصيبًا في قَبولِه، ولكِنْ هذا هو ما حَدَث". إنَّهُ لا يَفعل ذلك. فهو لا يحاول البَتَّة أنْ يَقِفَ موقِف المُدافِع أو أنْ يُبَرِّر أيَّ شيءٍ كَما لو كانَ مَشكوكًا فيه، بل إنَّهُ يَكتفي بِذِكْرِ ذلك كحقيقة.
والآنْ، نَقرأ مَثَلاً في إنجيل مَتَّى 13: 35: "سَأَفْتَحُ بِأَمْثَال فَمِي، وَأَنْطِقُ بِمَكْتُومَاتٍ مُنْذُ تَأسِيسِ العَالَم". وَهُوَ يُشير بذلك إلى أنَّهُ في وَقْتٍ مَا، تَمَّ تَأسيسُ العالَم. ونقرأ في إنجيل مَرقُس 13: 19: "لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ". ونقرأ في إنجيل يوحنَّا 1: 3: "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ". وهذه الآية تَكفي لِتَقويض خَلْقِ أيِّ شيءٍ بِمَحْض الصُّدفة مِنْ خلالِ عمليَّة عشوائيَّة ما. فكُلُّ شيءٍ كانَ إنَّما خُلِقَ مِنْ قِبَلِ اللهِ.
ونقرأ في سِفْر أعمال الرُّسُل 4: 24: "أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ الإِلهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا". وهذه الآية شامِلَة جِدًّا. ونقرأ في سِفْر أعمال الرُّسُل 14: 15: "نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هذِهِ الأَبَاطِيلِ إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا" – أيْ كُلَّ شيءٍ: السَّماء، والأرض، والبحر، وكُلَّ ما فيها. ونقرأ في رِسالة رومية 1: 20: "لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ المَنْظُورَةِ [أيِ الأُمُورَ المُختصَّةَ باللهِ] تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ العَالَم". ونقرأ في رسالة كورِنثوس الثانية 4: 6: "لأَنَّ اللهَ ..." [وقد دَرَسْنا ذلكَ مَساءَ يومِ الأحدِ الماضي] "... الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»". وهذا هو تمامًا ما فَعَلَهُ في اليوم الأوَّل. فقد أَمَرَ النُّورَ بأنْ يُشْرِقَ مِنْ ظُلْمَة.
ونقرأ في رسالة كولوسي 1: 16: "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّماوات وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، ... الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ". ونقرأ في عِبرانِيِّين 1: 10: وَأَنْتَ يَا رَبُّ فِي البَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّماوات هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ". وسوف نَرى ذلك بعد قليل في اليوم الثَّاني. ونقرأ في عبرانيِّين 11: 3: "بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ". فقد نطَقَ فَخَلَقَها: "حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ". وهذا يَعني أنَّهُ خَلَقَها مِنَ العَدَم. فقد خَلَقَ أشياء تُرى، ولكنَّها لم تُخْلَق مِنْ أشياء كانت موجودة مِنْ قَبْل.
وفي مَتَّى 19، قال يسوع: "أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْـثَى؟" ومَرَّةً أخرى، نَجِدُ الحديثَ هنا عنِ البشرِ بوصفهم النَّتيجة المُباشِرة لِعَمَلِ الخَلْقِ الإلهيّ. ونقرأ في سِفْر أعمال الرُّسُل 17: 26: "وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ". فهو خالِقُ كُلِّ الشُّعوب البشريَّة. ونقرأ في رسالة كورِنثوس الأوَّلى 11: 8 و 9: "لأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنَ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنَ الرَّجُلِ. وَلأَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ أَجْلِ الْمَرْأَةِ، بَلِ الْمَرْأَةُ مِنْ أَجْلِ الرَّجُل". ومَرَّةً أخرى فإنَّنا نَجِد أنَّهُم مَخلوقون. ونقرأ في رسالة تيموثاوس الأوَّلى 2: 13 و 14: "لأَنَّ آدَمَ جُبِلَ أَوَّلاً ثُمَّ حَوَّاءُ". ونقرأ في رسالة رُومية 5: 14 عنِ السُّقوط: "لَكِنْ قَدْ مَلَكَ المَوْتُ مِنْ آدَمَ إِلَى مُوسَى". ونقرأ في رومية 5: 17: "بِخَطِيَّةِ الوَاحِدِ [أيْ: آدَم] قَدْ مَلَكَ المَوْتُ بِالوَاحِد". ونقرأ في رسالة كورِنثوس الأوَّلى 15: 21: "فَإِنَّهُ إِذِ المَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضًا [أيْ: بالمَسيح] قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ".
وأُذَكِّرُكم مَرَّة أخرى بما جاء في رسالة بُطرس الثانية 3: 5 و 6، وكيفَ أنَّ بُطرس يُشيرُ إلى الطُّوفان، وحَتَّى إلى العالم في صُورته الأوَّلى حين كانَ مَغمورًا بالماء إذْ يقول: "أَنَّ السَّماوات كَانَتْ مُنْذُ الْقَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ اللهِ قَائِمَةً مِنَ الْمَاءِ وَبِالْمَاءِ"، وَهَلُمَّ جَرَّا كما ذَكَرنا في المَرَّة السَّابقة. ونقرأ في رسالة أفسُس 3: 9: "السِّرّ المَكْتُوم مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الجَمِيعِ بِيَسُوعَ المَسِيح". ونقرأ في رسالة يعقوب 3: 9: "بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِ". ومَرَّةً أخرى فإنَّ اللهَ هو الَّذي خَلَقَ الإنسانَ على صُورته.
ونقرأ في سِفْر الرُّؤيا 4: 11: "أَنْتَ مُسْتَحِق أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْ تَأْخُذَ الْمَجْدَ وَالْكَرَامَةَ وَالْقُدْرَةَ، لأَنَّكَ أَنْتَ خَلَقْتَ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَهِيَ بِإِرَادَتِكَ كَائِنَةٌ وَخُلِقَتْ. ونقرأ في رُؤيا 10: 6: "وَأَقْسَمَ بِالْحَيِّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ، الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَمَا فِيهَا وَالأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَالْبَحْرَ وَمَا فِيهِ". ونقرأ في رُؤيا 14: 7: "وَاسْجُدُوا لِصَانِعِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَالْبَحْرِ وَيَنَابِيعِ الْمِيَاهِ". ونقرأ في رسالة رومية 1: 25: "الَّذِينَ ... اتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ"، وَهَلُمَّ جَرَّا. ونقرأ في عِبرانيِّين 2: 10: "لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ"، وَهَلُمَّ جَرَّا. فالعهدُ الجديدُ يُشيرُ المَرَّة تِلْوَ المَرَّة تلو المَرَّة تلو المَرَّة إلى قِصَّة الخَلْق.
وكما قُلنا، فقد تَمَّ تقديم نظريَّة التَّطوُّر كبديلٍ إِلْحَادِيٍّ، وكَبديلٍ يُعَبِّرُ عنِ الكُفْر. ونظريَّةُ التطوُّرِ تَتطلَّبُ إيمانًا غير عقلانيٍّ بالصُّدْفةِ العمياء. ولكنَّ التطوُّر لا يمكن أن يحدُث. فهو مُستحيل. وكما رأينا، لقد أَثْبَتَ العِلْمُ أنَّ التَّطَوُّرَ لا يمكن أن يحدُث وذلكَ بسبب الحَمْضِ النَّوَوِيِّ ونِظام البياناتِ في الشَّفْرةِ الوراثيَّة. أمَّا الخَلْقُ فهو إيمانٌ عَقلانيٌّ باللهِ القدير. ولكنَّ التَّطوُّرَ هو إيمانٌ غيرُ عقلانيٍّ بالصُّدْفةِ العَمياء. والتطوُّر هو في الحقيقة يُعَبِّرُ عنِ المَذْهَبِ الطبيعيِّ. فأيُّ شَكْلٍ مِن أشكال نظريَّة التطوُّر هو شَكْلٌ مِن أشكالِ المَذْهَبِ الطبيعيّ.
والمَذْهَبُ الطبيعيُّ يُؤمنُ بأنَّ اللهَ موجودٌ فقط في أذهانِ الأشخاص غير المُثَقَّفين، أيْ فقط في أذهان الأشخاص المُتَديِّنينَ الذينَ يَنْتَمونَ إلى الطَّبَقَةِ الدُّنيا. والمَذْهَبُ الطبيعيُّ يقول إنَّ الطبيعةَ هي كُلُّ شيء. فهي، في نظرهم، كُلُّ شيء. وهذا هو الافتراضُ الذي يَستندُ إليه كُلُّ عِلْمٍ طبيعيٍّ. وهو الافتراضُ الذي تَستندُ إليه كُلُّ فَلْسَفةٍ طبيعيَّةٍ إنسانيَّة. وهو الافتراض الذي يَستندُ إليه كُلُّ عَملٍ فِكْرِيٍّ. وهو الافتراضُ الذي تَستندُ إليه كُلُّ قِيَمٍ أخلاقيَّةٍ - أوْ بالأحْرى: كُلُّ قِيَمٍ لا أخلاقيَّة. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ الدَّعامَةَ التي تَستندُ إليها ثَقافَتُنا بأسْرِها هي هذه الفكرة بأنَّ الطبيعةَ هي كُلُّ شيء.
ولو كان أصحابُ المَذْهَبِ الطبيعيِّ على صَواب، يكونُ الإنسانُ هو الذي خَلَقَ اللهَ، لا أنَّ اللهَ هو الذي خَلَقَ الإنسان. وحينئذٍ، سيكونُ الإيمانُ باللهِ مُجَرَّدَ خُرافةٍ لا أساسَ لها مِنَ الصِّحَّةِ. والأهَمُّ مِن ذلك هو أنَّهُ إنْ كان الإيمانُ باللهِ خُرافة، لا يَجوزُ لنا أنْ نُصغي إلى أيِّ شيءٍ في الكتابِ المقدَّسِ الأخْرَق، ولا أيضًا إلى الوصايا العَشْر، ولا إلى الشَّريعةِ الأخلاقيَّة، وهَلُمَّ جَرَّا. لذلك، فإنَّنا لَسْنا مَعْنِيِّينَ بما يُفَكِّر فيهِ الأشخاصُ المُتَدَيِّنون. فَهُمْ يُشَكِّلونَ تَهديدًا. وَهُمْ ليسوا مُثَقَّفين. فَهُمْ مَصْدَرُ إزعاجٍ وَحَسْب. وَهُمْ يَتَطَفَّلونَ على حُرِّيَّتِنا الأخلاقيَّة. والحقيقة هي أنَّنا لم نَعُدْ نَتحدَّثُ عنِ الأخلاق. بل إنَّنا نتحدَّثُ فقط عنِ الحُقوقِ والقِيَم. أليس كذلك؟ الحُقوق والقِيَم. ومِنْ منظورِ هؤلاء، ينبغي أنْ تُحَدَّدَ الحُقوقُ والقِيَم مِن قِبَل كُلِّ فَرْد.
إنَّ الناسَ لا يَفعلونَ الخطأَ بسبب الخطيَّة. ففي خِضَمِّ كُلِّ هذه المَجْزَرة التي حَدَثَتْ في "ليتيلتون" (Littleton) بولاية كولورادو، لم تَسمعوا أحدًا يتحدَّث عن الخطيَّة. فالناس لا يُخطئون بسبب الخطيَّة، بل يُخطئون لأنَّهم تَمَادَوْا في مُمارسة حُقوقهم وشَوَّهوا القِيَم. فَهُمْ يُبالونَ بِعِلْمِ النَّفْسِ أكثر مِمَّا يُبالونَ بعِلْمِ اللَّاهوت. وَهُمْ لا يُؤمنون بوجودِ خَالِقٍ، ولا بالشَّريعةِ الأخلاقيَّة، ولا بوجود دَيَّانٍ للبشر. وَهُمْ لا يُؤمنون بوجودِ قَصْدٍ للحياة، ولا يُؤمنون بوجود سَبَبٍ للحياة سِوى أنْ يَحصلوا منها على أكبرِ سَعادةٍ ممكنة. وَهُمْ لا يُؤمنون بوجود مَصِير. فَهُمْ ليسوا راسخين في اللَّاهوت الصحيح. وقد أَحْبَبْتُ، يا أحبَّائي، أن أُطْلِعَكُم على ذلك لأنَّ هذا هُوَ الشَّيءُ الأهَمّ. فلا يوجد في عالمِ أنصارِ المَذْهبِ الطبيعيِّ، وعالَمِ أنصارِ المَذْهبِ الإنسانيِّ، وعالَمِ أنصار نظريَّة التطوُّر، لا يوجد لاهوتٌ صحيح. لذلك فإنَّ اللَّاهوتِيِّينَ (في نظرِهِم) تَطَفُّل لا لُزومَ له. والحقيقة هي أنَّهم رُبَّما يَتَمَنُّون لو أنَّ اللَّاهوتِيِّينَ بَقَوْا في أَسْفَلِ سُلَّمِ التطوُّر ولم يَنْج أَحَدٌ مِنهُم. فَهُمْ لا يُؤمنونَ بوجود لاهُوتٍ صحيح لأنَّهم لا يُؤمنونَ بوجود إلَهِ حَقيقيّ.
والمسألة في نَظَرِ أصحابِ نظريَّة التطوُّر هي ليست مَا إذا كان سِفْرُ التَّكوين ليسَ قابلاً للتَّصديق. فهي قصَّة بسيطة ومباشرة. والمسألةُ هي ليست أنَّهم يريدون أن يُجادلوا بخصوص مَا إذا كان سِفْرُ التَّكوين صَحيحًا أم لا. فقد حَسَموا ذلكَ الأمر. لذلك، أَوَدُّ أن أرجِع إلى هذه المسألة. اسمعوني: لقد أَقْنَعوا أغلبيَّةَ العالمِ المسيحيِّ بأنَّ سِفْرَ التَّكوين ليس صحيحًا. وقد نَجَحوا في هُجومِهِم مِن خلال إصْرارهم على استخدامِ نظريَّاتِهم، وأوهامهم العِلْميَّة، وَحِيَلِهِم، وتَفسيراتِهِم الخاطئة. فقد نَجحوا في مُهاجمة سِفْر التَّكوين وجَعَلوا أغلبيَّةَ العالمِ المسيحيِّ الإنجيليِّ يُؤمن بأنَّ سِفْرَ التَّكوين ليس قصَّة حقيقيَّة. والحقيقة هي أنَّهم لا يحاولون أنْ يَكْشِفوا زِيْفَ سِفْر التَّكوين. بعبارةٍ أخرى، فإنَّ ذلكَ، في ذاتِه، لا يُعَزِّزُ مَوْقِفَهُم كثيرًا.
إنَّ المسألةَ الحقيقيَّةَ عند أنصارِ نظريَّة التطوُّر هي أنَّه إنْ كان اللهُ قد خَلَقَ الإنسانَ، وأنَّه يُبالي كثيرًا بما يفعله الإنسان حَتَّى إنَّ مَصيرَ الإنسانِ الأبديّ يتوَّقف على سُلوكِه، فإنَّ هذا يُعَدُّ تَهديدًا خطيرًا لهم بسبب انغماسِهم في الخطيَّة. فأنْصارُ نظريَّة التطوُّر والمَذْهَبِ الطبيعيِّ يَكرهونَ اللهَ ويُحبُّون الخطيَّة. ويجب عليكم أن تُخَصِّصُوا وقتًا لِقراءة كِتاب "بول جونسون" (Paul Johnson)؛ وهو كِتابٌ كَتَبَهُ هذا المُؤرِّخُ بعنوان "النُّخبة المُثَقَّفة" (Intellectuals). وأرجو أن تَقرأوا السِّيَر الذاتيَّة. فمِنَ المُهِمِّ جِدًّا أن تَقرأوا السِّيَر الذاتيَّة للأشخاصِ الذين أَسَّسوا المجتمعَ الغَرْبِيَّ. فأقَلُّ مَا يُقال في شأنهم هو أنَّهم كانوا فاسِدينَ في حياتهم الشخصيَّة. فالشخصُ الذي يُناصِرُ المذهبَ الطبيعيَّ يَكْرَهُ اللهَ ويُحِبُّ الخطيَّة. والشخصُ الذي يُؤمنُ بنظريَّة التطوُّرِ الخَلْقيِّ ويُريدُ أنْ يَفْرِضَ نظريَّةَ التطوُّرِ على سِفْر التَّكوين، ويُريدُ أنْ يَقْرِنَها باللهِ، قد يَقول إنَّه يُحِبُّ اللهَ، وقد يقولُ إنَّهُ يَكْرَهُ الخطيَّة. ولكنَّه، في الحقيقة، يُحِبُّ اللهَ قليلاً، ويُحِبُّ سُمْعَتَهُ الأكاديميَّةَ كثيرًا.
والآن اسمحوا لي أنْ أقول لكم شيئًا، وأنا لا أتباهى هنا. ولكنَّ ذلك يُشير إلى قَناعتي. إنَّ المبدأَ السَّائِدَ في العَالَم ... إنَّ المَبدأَ السَّائِدَ في العَالَم، والمبدأَ السَّائِدَ فيما يَختصُّ بالحياة على هذا الكوكب – إنَّ أَهَمَّ نِطاقٍ فِكريٍّ، وأَهَمَّ جانِبٍ مِنْ جوانبِ الفهمِ ليس العِلْم. هل سمعتم ذلك؟ فربما كُنتم تَظُنُّونَ أنَّه كذلك. ربما كنتم تَظُنُّونَ أنَّهُ كذلك. وهذا هو ما يَحْتَكِمُ إليه مُجتمَعُنا بأسْرِه طَوَالَ الوقت. وما الذي نَفعله؟ لقد التَقَطْتُ ثَلاثَ مَجَلَّات بعد ظُهْرِ اليوم لِقراءَتِها، مِنْ بينِها "نيوزويك" (Newsweek) و "تايم" (Time). وكانت إحداها تَعْرِضُ صُورةً تُظْهِرُ حَلْقَةً مَفقودةً على الغِلاف. وكانتِ الأخرى تَعِدُ في الصَّفحاتِ الداخليَّةِ بإظهار الفَرْقِ في تكوين عَقْلِ الشَّخصِ المُجْرِمِ والشَّخصِ العاديِّ. وهي تَعْرِضُ بعض الصُّوَر لِبعضِ التَّحاليلِ الطبيَّةِ عن تَلافيفِ المُخّ. ثُمَّ إنَّ النِقاشَ كُلَّهَ كانَ يَدورُ حَوْلَ عمليَّات التطوُّر التي قادَتْ إلى الاقترابِ مِنْ، أوِ الابتعادِ عن، هذا النَّوعِ مِنَ السُّلوك.
اسمعوني: إنَّ مَلِكة العُلوم في عَالَمِنا اليوم، مِنْ جِهَة المعرفة، هي العِلْمُ الطبيعيّ. ويُفْتَرض بتلك العُلوم أنْ تمتَلِك كُلَّ الإجابات على كُلِّ شيء. والحقيقة هي أنَّها لا تَمْتلكها. فالمبدأُ السَّائدُ في مسألةِ الحياةِ في الكَوْنِ في كُلِّ نُقطة فيه هو ليس العِلْم. بل إنَّ المبدأَ السَّائدَ هو اللَّاهوت. فالطريقة الوحيدة التي يُمكنكم مِنْ خلالها أنْ تَفهموا الكون، والطريقة الوحيدة التي يُمكنكم مِن خلالها أنْ تَفهموا تاريخَ الإنسان، والطريقة الوحيدة التي يُمكنكم مِنْ خلالها أنْ تَفهموا سُلوكَ البَشَر وسَبَبَ ما يفعلونه، والطريقة الوحيدة التي يُمكنكم مِنْ خلالها أنْ تَفهموا كيفيَّةَ سَيْرِ الحياةِ وأنْ تَفهموا المكانَ الذي جِئنا مِنْه والمكانَ الذي سنَذهبُ إليه هو أنْ نَفهمَ اللَّاهوتَ الصحيح. فهذه هي الطريقة الوحيدة لِفَهم ذلك.
لذلك، لا يُمكننا أنْ نَسمحَ لِلاهوتِنا أنْ يُخْلي عَرْشَهُ في بداية الكتابِ المقدَّسِ وأنْ يَصيرَ مسْنَدَ قَدَمَيْن - فيما يَصْعَدُ العِلْمُ ويَتَرَبَّعُ على العَرْش. بل يجب على العِلْمِ (وكُلِّ مَجالٍ آخر، وكُلِّ نِطاقٍ أوْ حَقْلٍ أوْ تَخَصُّصٍ أوْ مَذْهَبٍ مِنْ مَذاهِبِ التفكيرِ البشريِّ) أنْ يَنْحَني لِمَلِكِ كُلِّ المجالات. ومَلِكُ كُلِّ المجالاتِ هو اللَّاهوتُ الحقيقيُّ. واللاهوتُ الحقيقيُّ هو لاهوتٌ نابِعٌ مِنْ كلمةِ الله. ولكنَّ اللَّاهوتِيِّينَ لا يَحْظَوْنَ بالاحترامِ اليوم. وهذا أَمْرٌ مَأساويٌّ. مِنْ جِهَةٍ أخرى، فإنَّهم لا يَحْظَوْنَ بالاحترامِ لأنَّهم تَخَلَّوْا عن مَكانَتِهِم. فاللَّاهوتِيُّونَ لا يَحْظَوْنَ بالاحترامِ مِنْ قِبَلِ مَنْ يُدافعونَ عنهم لأنَّهم العَدُوّ.
فَهُناك جُهْدٌ مُوَحَّدٌ لِتَصويرهم بأنَّهم ليسوا "النُّخبة المُثَقَّفة"، وبأنَّهم مُجرَّدُ أُناسٍ مُسْتَعبدينَ للخُرافاتِ والأوهام. ولكنَّ كُلَّ شخصٍ منكم، بِوَصْفِكُم مَسيحيِّين - وأنا سَأُرَفِّعُكُمْ هُنا دون حَتَّى أنْ تَنْضَمُّوا إلى أيَّة صُفوف. فأنا سأفعل ذلك. فأنتم جميعًا لاهوتِيُّون. وأنا أريدُ منكم أنْ تَفهموا ما أعنيه. فأنتم تَفهمونَ اللَّاهوت. ولكنكم قد لا تَفهمون كُلَّ جوانب اللَّاهوت.
صحيحٌ أنَّكم قد لا تتمكَّنون مِنَ التَّمييز بين مُصْطلَح "تحت السُّقوطيَّة" (sublapsarianism) ومُصْطلَح "بعد السُّقوطيَّة" (infralapsarianism) وفَصيلة كِلاب الصَّيْد "لابرادور" (Labrador retriever). وأنا أَسْتَخْدِمُ هذا كَمِثالٍ فقط. وقد لا تتمكَّنون مِنْ شَرْحِ عقيدة "الخَلْق على صُورة الله" (imago) أوْ كُلَّ جانبٍ مِنْ جوانبِ "الإخلاءِ الإلهيِّ" (kenosis). فقد لا تَعرفون كُلَّ المُصطلحات. وقد لا تَعرفون كُلَّ المَداخِلِ والتَّفاصيل المُخْتصَّة بكُلِّ فِكْرةٍ لاهوتيَّة. ولكن اسمحوا لي أنْ أقول لكم شيئًا، يا أحبَّائي. فأنتم جَميعكُم لاهوتيُّون لأنَّكم تَعرفونَ اللهَ الحقيقيَّ الحَيَّ وتَعرفونَ الوسيلة التي يُعْرَفُ بها. فَضْلاً عن ذلك، فإنَّكم تَعرفونَ كَلمةَ اللهِ الحَيِّ التي هي قِوامُ كُلِّ حَقٍّ في اللَّاهوت.
أَمَّا إذا سَمَحْتُم لنظريَّة التطوُّر أنْ تَعْتَلي العَرْشَ، فإنَّكم تَجعلونَ الكتابَ المقدَّسَ خَادِمًا للإنسانِ، وتُحْدِثونَ كارثةً. ولَكِنَّ مَلِكَةَ العُلومِ اليوم هي المبدأُ الطبيعيُّ. فَهُمْ يُرْجِعونَ كُلَّ شيءٍ إليها. والمبدأُ الطبيعيُّ يُعَرَّفُ وَفْقًا لِمُصطلحاتِ نظريَّة التطوُّر. لذا فإنَّ ما يَسودُ مُجتَمَعَنا هو نظريَّة التطوُّر. وقد نَجَحَتْ هذه النظريَّة في التَّغَلْغُلِ في اللَّاهوت. فأنا أَقرأُ الآن عَددًا مِنَ المراجِع المختلفة. ويقولُ واحِدٌ مِنَ الكُتَّابِ إنَّ اللهَ نَفْسَهُ قد تَطَوَّر. أَجل! فَهُمْ يَقولونَ إنَّ اللهَ آخِذٌ في التطوُّر لكي يَصيرَ الإلَهَ الذي يَرْغَبُ في أنْ يَكون. لذلك فقد استهانوا حَتَّى بالله. واللهُ، في نَظَرِ هؤلاء، هو مُجرَّدُ جُزءٍ صَغيرٍ آخر في علميَّة التطوُّر.
وإذا سَمحتُم لنظريَّة التطوُّر أنْ تَعتلي العَرْشَ فإنَّها سَتُهيْمنُ على كُلِّ شيء. وإنْ سَمحتُم لها بأن تُهيْمِنَ في الآياتِ القليلةِ الأوَّلى مِنَ السِّفْرِ الأوَّلِ في الصَّفحةِ الأوَّلى مِنَ الكتاب المقدَّس، تكونون قد تَخَلَّيْتُمْ عنه مُنذُ البداية. وفي عالمٍ يَتطوَّر، مِنَ الصَّعبِ جدًّا أنْ تكون هناك نِقاطٌ مُحَدَّدَةٌ ثابتة. لذلك فإنَّ التَّربَوِيِّينَ في وقتنا الحاضر يَتَّخِذونَ النِّسبيَّةَ مَبْدأً لحياتهم. فَهُمْ يُؤمنونَ أنَّ كُلَّ شَيءٍ نِسْبِيٌّ. وكما تَعلمون، فإنَّنا نُواجه مشاكل كثيرة في المدارس. وقد سَمِعْتُم عن ذلك مُؤخَّرًا. "ماذا عَسانا أنْ نفعل؟ ماذا عَسانا أنْ نفعل؟ فلا يُمكننا أنْ نَسمحَ للأولاد أنْ يُطْلِقوا النَّارَ في المدارس. ماذا سنفعل بهذا الخصوص؟ يجب أنْ نُعُلِّمَهُم بعض المعايير. يجب أنْ نُعَلِّمَهُم بعض المعايير".
لذلك، أنا لَدَيَّ حَلٌّ رائع. ادْعُوا إلى كُلِّ مَدرسة أَفْضَل مُعَلِّمي الكتابِ المقدَّسِ في المجتمع، واسمحوا لهم أنْ يَجمعوا الطَّلبة كُلَّ يومٍ لمُدَّةِ أسبوع، ودَعوهُم يُعَلِّموهم كلمةَ الله. فهي المِعْيار. إنَّها المِعْيارُ المُطلق. ولكنَّ احتماليَّةَ حدوثِ ذلك مَعدومة. فهذا الشيءُ لنْ يحدُث. وإلى أنْ يَحدُثَ، فإنَّ الأشياءَ ستَزداد سوءًا لأنَّه لا توجد إجابات. فالشيءُ الذي يَتحدَّثُ عنه التَّربويُّون حينَ يَجتمعونَ لمناقشة هذا الأمر قائلين: "نحنُ بحاجة إلى المساعدة. يجب علينا أنْ نَفعلَ شيئًا ما" هو أنَّهم يَستخدمونَ هذه العبارة: "تَوضيح القِيَم". وها نَحْنُ نَعودُ إلى "القِيَم" مَرَّةً أُخرى!
وما المقصود بتَوضيح القِيَم؟ كما تَعلمون، إنَّ هذا يَعني بصورة رئيسيَّة: "أنْ تَعْمَلَ بِجِدٍّ، وألَّا تُؤذي الناس". وَهُمْ يَعنون "العقلانيَّةَ الأخلاقيَّة" بمعنى أنَّني أمتلكُ كُلَّ الحُرِّيَّةِ لِفِعْلِ ما أشاء، ولكنَّ حُرِّيَّتي تَنتهي عندما تَبدأ حُريَّتُك. فإنْ أَرَدْتُ أنْ أَرْطِمَ رأسي بالحائط، وإنْ أردتُ أنْ أَتَصَرَّفَ بطريقةٍ مُعيَّنة، لا بأس في ذلك. ولكنِّي لا أستطيعُ أنْ أَحْمِلَ سِلاحًا وأنْ أَقتُلَكَ لأنَّني أكونُ قد تَعَدَّيتُ على خُصُوصِيَّتِك. لذلك يجب أنْ أَتَعَلَّمَ أنْ أُفَكِّرَ بطريقةٍ أخلاقيَّة، وأنْ أَعْلَمَ أنَّ حُرِّيَّاتي لها بَعضُ المَحدوديَّة الأخلاقيَّة، وأنَّ هذه المَحدوديَّة تَبدأُ (بِحَسَبِ معايير المجتمع) حين أَتَخَطَّى حَدًّا قد يُؤثِّرُ فيك.
وبالمناسبة، فإنَّ الأمرَ يَزادُ تَشويشًا. والمجتمعُ يَتشوَّشُ أكثر فأكثر حتَّى إنَّهم لا يعرفون ماذا يفعلون بهذا الخصوص. فَهُمْ يَسمحونَ للناس بإنتاجِ ألعابِ الفيديو، والبرامجِ التلفزيونيَّة، والموسيقا والأفلام التي تَتَخَطَّى الحدود كثيرًا وتترُكُ تأثيرًا شِرِّيرًا في حياة الشَّباب؛ وهو تأثيرٌ لا يَقِلُّ خَطَرًا عنْ تَصْويبِ مُسَدَّسٍ إلى رَأسِ أحدِهِم وإطلاقِ النَّارِ عليه. ولا رَجاءَ لِمُجتمعٍ يَقولُ إنَّ نَظريَّةَ النُّشوءِ الطبيعيِّ هي مَلِكَةُ العلوم، وإنْ كُلَّ شيءٍ ينبغي أنْ يَحْتِكِم إلى ذلك. فالطَّلَبَة يَسمعونَ تَوضيحًا للقِيَم مِنْ مُعَلِّمينَ ليست لديهم أيَّة معايير أخلاقيَّة. والطَّلبة يَتعلَّمونَ التَّفكيرَ الأخلاقيَّ مِنْ أشخاصٍ ليست لديهم أيّ قِيَم مُطْلَقًا. ثُمَّ إنَّهُمْ يَقولونَ لهم إنَّهُ يجب عليهم أنْ يَختاروا نَمَطَ الحياةِ الَّذي يَشاءُون – دُوْنَ أنْ يَفهموا السُّلْطَة، أو الخطيَّة، أو الشَّريعة الإلهيَّة الثابتة، أو العَيْب، أو الشُّعور بالذَّنْب، أو العَواقِب.
ولكِنَّنا نُلاحِظُ شيئًا واحدًا في مجتمعنا ليسوا نِسْبِيِّينَ بشأنه. هل تعلمونَ ما هو؟ نظريَّة التطوُّر. فهذا هو الشَّيء الوحيد المُطْلَق في مُجتمعنا. وإنْ قُلتَ إنَّك لا تؤمن بالتطوُّر، فإنَّهم ينظرونَ إليكَ كما لو كنتَ شخصًا مُغَفَّلاً، أو شخصًا مجنونًا، أو شخصًا فَقَدَ قُواه العَقليَّة الطبيعيَّة. فهناكَ نِسبيَّة كاسِحَة إلى أنْ يَصِلَ الأمر إلى الحقيقةِ المُطلقَةِ الوحيدة الَّتي لا تَخْضَع للنِّسبيَّة وهي: نظريَّة التطوُّر. وكما تَرَى، إذا جئتَ اليومَ وقُلتَ: "أنا لا أُوْمِنُ بنظرية التطور، بل أُوْمِنُ بالخَلْقِ الإلَهِيِّ"، فإنَّ كُلَّ نِسبيَّتهم الواهية تَتلاشى لأنَّك يجب أن تؤمن بالعشوائيَّة، وبحُريَّة الاختيار، وبحُريَّة التَّعبير.
فلا يمكنك أنْ تؤمن بالحقائق المُطْلَقَة، ولا يمكنك أن تؤمن بوجود مُشَرِّع، وشَريعة، ودَيَّان، وهَلُمَّ جَرَّا. لذا فإنَّ الشَّيءَ المُطْلَق الوحيد الَّذي يَصْمُد في وسط هذه النِّسبيَّة هي الحقيقة المُطلَقة لنظريَّة التطوُّر. وَهُمْ مُقتنعون تمامًا، قَناعةً لا تَقْبَلُ الجدل، أنَّ كُلَّ شيءٍ موجود اليوم قد وُجِدَ نتيجة الصُّدفة ونتيجة عمليَّات عشوائيَّة. وقد قالَ كاتبٌ جُملةً لن أنساها يومًا: "الكَوْنُ كما نَعرفه اليوم هو مُجَرَّد شيء مِن تلك الأشياء الَّتي تَحدث بين الحين والآخر".
ولكِنْ خلافًا لذلك كُلِّه، فإنَّ اللَّاهوتَ هو أساسُ العِلْم. وهذا اللَّاهوتُ هو نِطاقُ الفِكْرِ الأكثر أهميَّةً. فاللَّاهوتُ هو العنصر المُهيمِن في كُلِّ الفَهْمِ البشريِّ. والإيمانُ الَّذي لا يَتَزَعْزَعُ بصِحَّة وصِدْق الكتاب المقدَّس هو في صَميم كُلِّ لاهوتٍ سَليم. وهو يبتدئ بالإيمان بقصَّة سِفْر التَّكوين. وهذا مُهِمٌّ للنَّظرة العالميَّة المسيحيَّة. وكما قلتُ لكم قبل أسابيع، فإنَّ كُليَّة لاهوت "ذي ماسترز كوليدج" (The Master’s College) مُنضمَّة إلى ائتلاف كُليَّات مسيحيَّة يَضُمُّ 110 كُليَّة؛ خمسٌ أوْ سِتٌّ منها فقط يؤمن بقصَّة التَّكوين. لِذا، فإنَّ لدينا مئة كُليَّة لاهوت مسيحيَّة ليست لديها نظرة عالميَّة مسيحيَّة. وما هي كُليَّة اللاهوت المسيحيَّة؟ أنا أعرفُ الإجابة، ولكِنْ دَعونا نَتأمَّل في النَّصّ. أنا أحاول أن أفعل شيئَيْن في هذه العِظات: أنْ أُقَدِّم لكن بعض الأفكار العَقلانيَّة، وبعض الأفكار الفلسفيَّة، وبعض الموادّ العِلميَّة قبل أنْ نَتأمَّل في النَّصّ. ولكِنْ دعونا نَتأمَّلُ في النَّصّ.
لننظر إلى النصِّ المُختصِّ باليوم الأوَّل: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّماوات وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً" - أيْ: خَرِبَة وغير مأهولة. ولَعلَّكم تَذكرون ما أخبرتكم به عن مَعنى ذلك. فقد كانت خَرِبَة وغير مأهولة. فهي لم تكن قد تَشَكَّلَتْ بعد، ولم يَسْكُنْها أيُّ شيءٍ حَيٌّ. وقد كانت غارقةٌ في الظَّلام. فنحن نقرأُ أنَّ الأرضَ كانت مُغَطَّاةً بالماء: "وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ" – وهي كلمة تُستخدم في العهد القديم للإشارة إلى المُحيط. "وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ".
إذًا، ما لدينا في اليوم الأوَّل هو أنَّ اللهَ خَلَقَ الزَّمانَ، والمكانَ والمادَّة. فهذه هي العناصِر: الزَّمانَ، والمكانَ والمادَّة. فاللهُ خَلَقَها مِنَ العَدَم. وقد خَلَقَ هذه "التُّوهو والبُوهو" (tohu and bohu) – أيْ هذه الكُتلة الخَرِبَة، والتي لا شَكْلَ لها، وغير المأهولة، مِنْ هذه العناصر. وهذه الأرض تَشكَّلت مِنَ عناصر مَخلوطة معًا رُبَّما كالطِّين، ولم تكن قد أخذت شكلًا مُعيَّنًا بعد. وكانت مُغَطَّاة بالماء تمامًا وغارقة في الظَّلام.
ثُمَّ في اليوم الأوَّل، نقرأ في العدد 3: "وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ". لِذا فقد خَلَقَ اللهُ النُّور. "وَرَأَى اللهُ النُّورَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَفَصَلَ اللهُ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. وَدَعَا اللهُ النُّورَ نَهَارًا، وَالظُّلْمَةُ دَعَاهَا لَيْلاً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا وَاحِدًا". لِذلك، في اليوم الأوَّل، خَلَقَ اللهُ العناصر الضَّروريَّة وهي: الزَّمان، والمكان، والمادَّة. ثُمَّ أضافَ اللهُ النُّور. وقد ثَبَّتَ دورةَ النُّورِ والظَّلامِ في دورة متواصلة مِنَ الأيَّام الشمسيَّة الَّتي تتألَّفُ مِنْ نَهارٍ وليلٍ، مُدَّةُ كُلٍّ منها 24 ساعة.
لِذا فإننا نقرأ في العدد 5 أنَّهُ كانَ مَساءٌ وكانَ صَباحٌ. وقد يقولُ أحدُ الأشخاص: "ولكِنَّ الشَّمسَ لم تكن قد خُلِقَت بعد، أو القمر". هذا صحيح. ولكِنَّ اللهَ كانَ ما زال قادرًا على أنْ يُدَوِّرَ النُّورَ بأيَّة طريقة يَشاء إلى أنْ يَقْرِنَ ذلك النُّورَ بالأَجْرامِ السَّماويَّة – وهو شيءٌ فَعَلَهُ كما سَنرى لاحقًا. لِذا، بصورة أساسيَّة، في اليوم الأوَّل، تَمَّ خَلْقُ العناصر الأساسيَّة. وقد تُرِكَتْ خَرِبَة، وَخالية، وَغارِقَة في الظَّلام. ثُمَّ إنَّ النُّورَ خُلِقَ فصارَ هُناكَ نَهارٌ ولَيلٌ في دورةٍ عاديَّة مُدَّتُها 24 ساعة. وهذا هو اليوم الأوَّل.
ولننتقل إلى اليوم الثَّاني. فقد استمرَّ اللهُ في تشكيل تلك العناصر إلى بيئةٍ صَالِحَةٍ لِعَيْشِ الكائناتِ الَّتي سيَخلقها. ثُمَّ إنَّ اللهَ قالَ في العدد 6: "لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ. فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا". حسنًا، لنتأمَّل في ذلك ونَرى ما حَدَثَ هنا. ففي اليوم الأوَّل، فَصَلَ اللهُ النُّورَ عَنِ الظُّلمة.
وفي اليوم الثَّاني، فَصَلَ اللهُ السَّماءَ عنِ الأرض. وهذا هو مَعنى "الجَلَد". وفي اليوم الثالث، كما سَنَرى، فَصَلَ اللهُ الماءَ على الأرض عنِ اليابسة. لذلك، في اليوم الأوَّل، واليوم الثَّاني، واليوم الثَّالث، نَجِدُ سِلسلةً مِنَ الانفصالات. فَقَبْلَ أنْ يَخْلِقَ اللهُ الحياةَ، كانَ لا بُدَّ أنْ يَفصلَ النُّورَ عنِ الظُّلمة، وأنْ يَخْلِقَ تَعاقُبَ النَّهارِ واللَّيلِ في أيَّامٍ شمسيَّة مُدَّةُ كُلٍّ منها 24 ساعة. وكانَ لا بُدَّ أن يَفصِلَ السَّماءَ عنِ الأرضِ. وقد فَعل ذلك في اليوم الثاني. ثُمَّ كانَ لا بُدَّ أن يَفصل الماءَ الَّذي صارَ الآنَ يَغْمُرُ الأرضَ تمامًا في اليومِ الأوَّل واليوم الثَّاني. وقد فَصَلَهُ عنِ اليابسةِ. لذلك، صارَ هناكَ مَكانٌ تَعيشُ فيهِ الأسماكُ في البحر، وصارت هناك حياةٌ بَرِّيَّة على اليابسة. وهكذا، صارَ الكَوْنُ جاهزًا للحياة في الأيَّام الثَّلاثة الأوَّلى. وهذا أمْرٌ مَعقولٌ جِدًّا. فَصْلُ النُّورِ عنِ الظُّلمة، وفَصْلُ السَّماءِ عنِ الأرض، وفَصْلُ اليابسة عنِ الماء.
ولننظر إلى ذلك بتَفصيلٍ أكبر. فنحنُ نقرأ في العدد 6: "وَقَالَ اللهُ" – وأُذَكِّرُكم مَرَّة أخرى أنَّ الخليقة تَمَّتْ بكلمة الله. فقد نَطَقَ فَخَلَقَ الأشياء. وقد ابتدأَ اليومُ الثاني عندما انْبَلَجَ فَجْرُ ذلك اليوم. فقد صَارَ الكَوْنُ نَهارًا وليلًا، وكانت الأرض كُتلة لا شَكْلَ لها مؤلَّفة مِنْ عناصر مَغمورة تمامًا في الماء. ولكنَّ اللهَ قال: "لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ". وهذا مُدهشٌ جدًّا. ففي اليوم الأوَّل، كانت الأرضُ مَغمورة تمامًا بالماء. وفي اليوم الثاني، فَصَلَ اللهُ ذلك الماء وَجَعَلَهُ في مَكانَيْن. فهذا هو ما يَقولُهُ النَّصُّ هنا. فقد وَضَعَ جَلَدًا بينهما فصارَ بَعْضٌ مِنَ الماءِ فَوْقَهُ، وبَقِيَ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُ على الأرض.
لذا فإنَّ لدينا ماءٌ ما زالَ على الأرض، وماءٌ انفصلَ وصارَ فوق. فهذا هو تمامًا ما يقولُهُ النَّصُّ. وبين المياهِ الَّتي فوق والمياهِ الَّتي تَحْت هُناكَ "جَلَد". والكلمة "جَلَد" هي الكلمة العِبْريَّة "رَقِيَا" (raqia)، ومَعناها مُدهشٌ. فهي تَعني: "فُسْحَة". وهي تَعني "غِلافًا رَقيقًا". وإذا نَظَرنا إلى العهد القديم وبَحَثْنا عنِ استخدامِها، نجد في سِفْر الخُروج 39: 3 أنَّهُمْ كانُوا يَصنعونَ مَوادَ خيمة الاجتماع لعبادة اللهِ. ونقرأ أنَّهُمْ أحْضَروا ذَهَبًا، وطَرَقوهُ، وَصَنَعوا مِنْهُ صَفائِحَ مِنْ ذهب. فقد مَدُّوهُ وطَرَقوهُ إلى أنْ صَارَ صَفائحَ رقيقة. وَهُمْ يَستخدموَنَ هُنا نفسَ الفِعْلِ.
والصُّورة هي طَبَقَة رقيقة وَضَعَها اللهُ بينَ المياهِ المُحيطة بالأرض. فقد كانت الأرضُ كُلُّها مُحاطة بهذه المياه. وقد أَحْدَثَ اللهُ قَطْعًا في تلك المياه (كَما تَفْعَلونَ بالسِّكِّين) إذْ إنَّهُ قَطَعَ تلك المياه المُحيطة بالكُتلة الخَرِبَة الَّتي تُسَمَّى "الأرض"، وفَصَلَ المياهَ إلى جُزءَيْن. وحينئذٍ تَشَكَّلَ الجُزءُ الدَّائريُّ والمياهُ المُحيطة به، وصارَتْ هُناكَ أيضًا مِياهٌ فوقُهُ – يَفْصِلُ بينَهُما هذا الجَلَد. والغاية مِنَ الجَلَد هِيَ تَوْضيحُ فِكرةِ الفَضاء ... الفَضاء.
انظروا إلى العدد 8: "وَدَعَا اللهُ الجَلَدَ" [ماذا؟] "سَمَاءً". فهي ما يُعْرَفُ لدينا بالسَّماء. وهي ما نَعْرِفُ أنَّهُ الفَضاءُ مِنْ فَوْقِنا. والكلمة "سَماء" هي تَرجمة للكلمة "شَمَاييِم" (shamayim)، وهي تَعني حرفيًّا: "السَّماء" أو "السَّماوات". وهي تُشير إلى الكون والفضاء مِن فوقِنا. إذًا، لم تكن هناكَ سماء. فلم يَصِرْ هناكَ فضاءٌ، بِحَسَبِ مَفهومِنا، إلَّا في اليوم الثَّاني. فقد أَحْدَثَ اللهُ قَطْعًا حَوْلَ تلك الكُتلة وَتَرَكَ بعضَ ذلك الماء في الأعلى، وَأَوْجَدَ بينَ المياهِ الَّتي تَحْت والمياه الَّتي فوق: "فَضاءً". ويقول الكاتب اليهوديّ: "كاسوتو" (Cassuto): "مِنْ هذا الكَلام، يُمكننا أنْ نَستنتِج أنَّهُ بعدَ تَشَكُّل الجَلَد، صارَ ذلك الجَلَد يَشْغَلُ المَكانَ المُعَيَّن لَهُ بواسِطَة مشيئة الله؛ وهذا هو مَشْهَد السَّماء كَما نَعْرِفُها". فقد خَلَقَ اللهُ الفَضاءَ حَرْفيًّا. "لذلك، حالَ تَشَكُّل الجَلَد في وَسَط المياه، ابتدأَ يَعلو ويَأخذُ شَكْلاً مُقَوَّسًا كالقُبَّة".
وهذا وَصْفٌ تَصويريٌّ دقيق. فاللهُ قَطَعَ تلك المياه فابتدأ الجَلَدُ يَعلو، وابتدأَ يَمتدُّ ويَتوسَّع أكثر فأكثر إلى أنْ شَكَّلَ في المنطقة المُتوسِّطة: فَضاءً. ويقول "كاسوتو": "وفي أثناء ذلك ... في أثناء ذلك، امْتَدَّ وأخذَ شَكْلًا مُقَوَّسًا كالقُبَّة. وفي أثناءِ تَوَسُّعِهِ نَحو الأعلى، رَفَعَ في الوقت نفسه المياهَ العُليا المُرتكزة عليه". فقد أَخَذَ المياهَ إلى أعلى. "وقد أدَّى ذلك إلى زيادة كبيرة في عناصِر الكَوْن. فقد صار يوجد في الأعلى الآن قُبَّة السَّماء مُحاطة مِنَ الأعلى بالمياه. وتَحْتَ الجَلَد توجد المياه السُّفليَّة الَّتي تُشَكِّل البِحار الشَّاسعة والَّتي ما تزال تُغَطِّي المادَّة الثَّقيلة اللَّامُتَمايِزَة على الأرض". وهو يَكْتُب قائلاً: "وقد ابتدأ الكَوْنُ يأخُذُ شَكْلَهُ".
وهذه قِصَّة مَعقولة جدًّا كَتَبَها مُوْسَى. وإذا رَجعتم إلى الأدب القديم، ستقرأونَ بعض الأساطير الَّتي ذُكِرَت في أَدَب ما بَيْن النَّهْرَيْن وتَجِدونَ مُتْعَةً في مُقارَنَتِها بهذه القصَّة. وهناك قِصَص وَثنيَّة كثيرة تحاول تفسير الخَلْق. ولكِنْ ولا واحدة مِنها تُعَلِّم عن التَّطوُّر. ولكِنْ، على سبيل المِثال، فإنَّ أساطير بلاد ما بين النَّهْرَيْن تقول إنَّهُ بعد أنْ قامَ الإلَهُ "مَرْدوخ" (Marduk)؛ وبالمناسبة، يمكنكم أنْ تُسَمُّوا هذا الإله بأسماء عديدة بحسب الأُمَّة الَّتي تَنْتَمونَ إليها أوْ بحسب الرِّواية الَّتي تَرْغَبونَ في سَرْدِها. ولكِنَّ الإلَهَ "مَرْدوخ" انتصرَ على "تِيامات" (Tiamat)، إلهَة المُحيط الَّتي تُصَوَّر في هيئة وَحْشٍ بَحريٍّ هائلٍ وقويّ، وانتصرَ أيضًا على الوحوش والمُسوخ الَّذينَ خَلَقَتْهُم لمساعدتها في حَرْبِها. وبعد أنْ قَتَلَ عَدُوَّتَهُ اللَّدود بأسلحته، فَتَحَ جُثَّتها أُفُقِيًّا وقَسَّمها إلى نِصْفَيْن وَوَضَعَ النِّصْفَيْن الواحِدَ فوقَ الآخر. وقد خَلَقَ مِنَ النِّصْف الأعلى سَماءً، ومِنَ النِّصف الأسفل خَلَقَ الأرض الَّتي ضَمَّتْ البَحْر.
ويمكنكم أن تقرأوا تلك القصَّة كاملةً في قصَّة الخَلْق البابليَّة. والحقيقة هي أنَّ النَّصَّ المُتَرْجَمَ يقول إنَّهُ: "قَسَّمَ جَسَدَها مِثْلَ السَّمَكَة إلى جُزْءَيْن. وقد وَضَعَ نِصْفًا في الأعلى وَثَبَّتَهُ هُناكَ بواسطة أعْمِدَة السَّماوات. وقد أَنْزَلَ عَارِضَةً وأقامَ عليها رَقيبًا" – إشارةً إلى الأرضِ في الأسفل. ومُلَخَّصُ ذلك هو أنَّ الأسطورة الكَهَنوتيَّة (الَّتي انتشرت عند الإغريقِ أيضًا) تقول إنَّ الجزء الأعلى مِنَ الكون، والأرض هنا، تَشَكَّلا نَتيجة قَطْع جسد "تِيامات" أو "تامتو" أو "تامتي" (إذْ إنَّ هناكَ طُرُقًا عديدةً لِلَفْظِ اسْمِها). وأنا أُخبركم بذلك فقط لكي أُبَيِّنَ لكم مَدى غَرابة وسَخافة تلك الأساطير.
ولكنَّ ما يقوله الكتاب المقدَّس معقول تمامًا. فقد أخذَ اللهُ المياهَ إلى أعلى ... إلى أعلى جِدًّا. وقد تَرَكَ بعضَ المياهِ الَّتي كانت ما تَزالُ تُحيطُ بالأرض. وقد خَلَقَ في الوَسَط فَاصِلاً بينَ المياهِ – أيِ "الجَلَد" الَّذي نُسَمِّيه "السَّماء" أو الفَضاء - وهو الفضاء الواسع للكَوْن. ثم انظروا إلى العدد 7 إذْ نقرأ في العدد السَّابع: "فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِك". ومَرَّةً أخرى، فإنَّهُ يُكَرِّر الشَّيءَ نَفسَهُ ثانيةً للتحقُّق مِنْ فَهْمِكُم لَهُ. فقد عَمِلَ اللهُ الجَلَدَ وفَصَلَ بينَ المياه. فصارت هناكَ مِياه في الأعلى، ومياه بَقيت في الأسفل. وقد خَلَقَ فَضاءَ بينهُما.
وإليكم بعض الملاحظات هنا. فَمِنَ المهمِّ أن تَفهموا أنَّ هذهِ كُلَّها أعْمالُ خَلْقٍ. بعبارة أخرى، فإنَّها جَميعًا قُدرة عَظيمة على الخَلْق تَفوقُ قُدْرَتَنا على الاستيعاب. وأنا أقولُ ذلكَ فيما يَختصُّ بالعدد 7 لأنَّ الكلمة المستخدمة هنا هي: "فَعَمِلَ" اللهُ الجَلَدَ. وهناكَ أشخاصٌ يقولون: "إنَّ هذا ليسَ خَلْقًا. فهي ليست الكلمة ’بارا‘ [bara]". إنَّها كلمة أخرى وهي: "آساه" (asah) بالعِبْريَّة. فهل هي تُشيرُ إلى نَشاطٍ مُختلف؟ وهل تُشيرُ إلى ’كَذا‘؟هل يجب علينا أنْ نُمَيِّزَها عن تلك الكلمة؟ في كَثيرٍ مِنَ الأحيان، يُمَيِّزُ مُعَلِّمو الكتاب المُقدَّس بين الكَلماتِ بطريقةٍ لا ينبغي أنْ يَقوموا بها لأنَّ كُلَّ اللُّغاتِ فيها مُرادِفات. وَحَتَّى إنَّ الكلمات الَّتي لها ظِلالُ مَعانٍ يُمكن أنْ تُستخدَم بطريقة مُرادِفَة.
والسُّؤال هنا هو: "هل الكلمة ’عَمِلَ‘ تُغَيِّر ما فَعَلَهُ اللهُ؟" والجوابُ هو: "لا". فهي لا تُشيرُ إلى نَشاطٍ آخر مِنْ جانب الله غير الخَلْق مِنَ العَدَم. والحقيقة هي أنَّهُ في الأصحاح الثَّاني والعدد الثَّالث، فإنَّ الآيَة تَنتهي بالقول إنَّ اللهَ استراحَ في اليومِ السَّابعِ، وبارَكَهُ، وَقَدَّسَهُ. فقد "اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا". وتَجِدونَ هنا هاتَيْن الكلمتين "بارا" و "آساه" كَكلمتين مُرادِفَتَيْن. وأعتقد أنَّ هذه مُلاحظة رائعة وَضَعَها اللهُ هُناك لكي لا نَقلق بخصوص وجودِ اختلافٍ في المَعنى.
فالكلمة "بارا" هي الكلمة الوَصفيَّة. وهي تَعني هُنا، في هذا السِّياق، أنَّهُ خَلَقَ شَيئًا مِنَ العَدَم. بعبارةٍ أخرى: أنَّهُ فَعَلَ شيئًا يَفوقُ القُدرة الطبيعيَّة، وأنَّهُ فَعَلَ شيئًا لا يُمكن القيام به. فهذا هو معنى الكلمة "بارا" في هذا النَّصِّ. والكلمة "عَمِلَ" هي مُرادِفٌ يُستخَدم للإشارة إلى الشَّيء نفسِه. والكلمة "بارا" قد تُستخدَم ببساطة للإشارة إلى شيءٍ طَبيعيٍّ. فهي تُستخدَم في إشعياء 54: 16 إذْ نقرأ: "هأَنَذَا قَدْ خَلَقْتُ الْحَدَّادَ الَّذِي يَنْفُخُ الْفَحْمَ فِي النَّارِ وَيُخْرِجُ آلَةً لِعَمَلِهِ". واللهُ يقول في سفر إشعياء 57: 19: "خَالِقًا ثَمَرَ الشَّفَتَيْنِ". فهذه الأشياء طبيعيَّة أكثر. فهي لا تتطلَّب القُدرة على خَلْق الأشياء بكلمة – كما رأينا في سِفْر التَّكوين.
لذا فإنَّ الكلمة "بارا" لا تَعني دائمًا "خَلَقَ" بمعنى الخَلْق مِنَ العَدَم، أو الخَلْق بواسطة "كُنْ فيكون"، ولكنَّها في هذا النَّصِّ تَعني هذا تَمامًا. والكلمة "عَمِلَ" هي مُجَرَّد كلمة أخرى لتأكيد الشيء نفسِه. ويمكننا أن نقول إنَّها كلمة مُرادِفَة. وبالمناسبة، في سفر الخروج (والكلامُ هُنا مُوَجَّهٌ لعُلماء الكتاب المقدَّس)، في خروج 34: 10، فإنّ الكلمة "آساه" تُستخدم كمُرادف للكلمة "بارا" (في خُروج 34: 10). لذلك فإنَّني أرى أنَّهُما تُستخدمان كمُرادِفَيْن.
ويمكننا التَّعبير عن ذلك بالطريقة التالية: في سِياق سِفْر التَّكوين، فإنَّ الكلمة "آساه" تُستخدم لتحديد نوع "البارا"، أيْ نوع الخليقة الَّتي تتحدَّث عنها الآية. فاللهُ يَخْلِق. وفي هذه الخليقة فإنَّهُ يَعْمَل شيئًا لم يوجد مِنْ قَبل. فهو يَخلق، ولكنَّهُ في عمليَّة الخَلْق (كما تُشيرُ الآية الأوَّلى)، أيْ في إطار الصُّورة الكبيرة، فإنَّهُ يَعمل أشياء يُعَبَّر عنها باستخدام الكلمة الأخرى. لذلك فإنَّهُ في العدد 7: "عَمِلَ الجَلَدَ". وهذا ما يزالُ خَلْقًا، ولكنَّهُ كانَ عُنصرًا في عمليَّة الخَلْق. فقد كانَ يَعْمَلُ شيئًا لم يكن موجودًا مِنْ قَبل.
والآنْ، سوفَ أُسْرِع قليلًا ثُمَّ أَخْتِم حَديثي. فَفَصْلُ الماءِ فوق السَّماءِ وتَحْتَها أدَّى إلى نقاشٍ كثير، يا أحبَّائي، إلى نقاشٍ كثير. والسُّؤالُ هو: ما هو هذا الماء؟ وكما تَعلمون، لا بُدَّ مِنَ الاعترافِ أمامكم بأنَّني لا أعلم. فأنا لا أعلم. فرُبَّما كانَ يوجد في الفضاءِ اللَّامُتَناهي مَاء. فنحنُ نَعلم أنَّ هناك ماء في الجَوّ. فهذا أمرٌ نَعرفُه. فنحنُ نَشعر بالمطر. وربما كانت هناك سِمَة أخرى لا نَعرف عنها موجودة في الطَّرفِ الآخر اللَّامُتناهي مِنَ الفضاء الكَوْنِيّ. لا أدري. فهناك أشخاص كثيرون يؤمنون أنه يوجد في هذه الخليقة ... أنه قد خُلِقَتْ حول الأرض مِظَلَّة – مِظَلَّة مائيَّة.
وهذا هو رأي "ويتكومب" (Whitcomb) و "موريس" (Morris) إذْ يَعتقدان أنَّ الماءَ الموجودَ فوق الجَلَد، أيْ أنَّ الماء الموجود فوق السَّماء ... كان يُشبه البُخار الَّذي يُغَلِّف كُلَّ الأرض، وأنَّهُ خَلَقَ بيئةً شبيهةً ببيئة البيت الزُّجاجيّ. وفي رأيهم، فإنَّ هذا هو السَّبب في أنَّ الحَيَوانات كانت تَعيش وقتًا أطول بكثير، وأنَّ النباتات كانت تعيش وقتًا أطول بكثير. فقد كانت هناك حيواناتٌ عاشت وقتًا طويلًا لتصيرَ ديناصورات. وقد كان هناك أُناسٌ عاشوا طويلًا ليصيروا مِثْلَ "مَتُوشَالَح" (أيْ أكثرَ مِنْ 900 سنة) لأنَّهم كانوا مَحْمِيِّين مِنَ الأشعَّة فوق البنفسجيَّة بسبب هذه المِظَلَّة المائيَّة. وعندما حَدَثَ الطُّوفان، انفجرت تلك المِظَلَّة وأَغْرَقَت الأرض، بما في ذلك تلك الكارثة المفاجئة الَّتي حدثت تحت الأرض والتي فَجَّرَت العناصر الرئيسيَّة الموجودة في باطن الأرض وأَوْجَدَتْ بيئةَ ما بَعْدَ الطُّوفان.
ولكنَّنا لا نَستطيعُ أنْ نَعرف ذلك يقينًا. فالآراء المُقترحة تُفيد بأنَّ هذا البُخار كان مِظَلَّةً مائيَّةً على شَكْلِ بُخار فوق الأرض. ولكِنَّنا لا نَقرأُ شيئًا هُنا عن ذلك. لذلك، يا أحبَّائي، لا يمكنكم أنْ تَتَّخِذوا ذلكَ عَقيدةً لكم. ولكنَّهُ يبدو تفسيرًا عقلانيًّا. ويُقالُ إنَّ بُخارَ الماءِ يَمْتَلِك خاصيَّة توصيل الإشعاعاتِ الشَّمسيَّةِ الآتية مِنَ الشَّمْسِ، وَالاحتفاظ بالإشعاعاتِ المُرتدَّةِ مِنْ سَطح الأرض وَعَكْسِها. لذا فإنَّهُ يَعمل كَبَيْتٍ زُجاجِيٍّ عالَمِيٍّ لأنَّهُ يَحتفظ بدرجات الحرارة المطلوبة والدَّافئة بانتظام حول العالم.
وَهُمْ يقولون إنَّهُ بوجود درجات حرارة مُنتظمة تقريبًا، فإنَّهُ يَتِمُّ مَنْع الحركات القويَّة للكُتَل الهوائيَّة فلا تَتشكَّل العواصِف. وفي غياب دوران الهواء في الكون فإنَّ دورة المياه في العالم الحاليّ لا يمكن أنْ تَحدث. فلا يمكن أن يَهْطُل المطر إلَّا فوق الأحواض المائيَّة الَّتي تَبَخَّرَتْ منها مُباشَرَةً. ومِنْ دون أنْ يَدور الهواء في العالم، لأنَّهُ مَحْمِيٌّ كُلُّهُ بواسطة هذه المِظَلَّة، لن تكون هناك أعاصير، ولا ذَرَّاتُ رَمْلٍ تَنتقل في طبقات الجَوِّ العُليا. فبُخارُ الماءِ في المِظَلَّة سيكونُ مُستقرًّا ولا يَتَبَخَّر.
فضلاً عن ذلك، مِنَ المُرَجَّحِ أنَّ كَوْكَبَ الأرضِ كان يحتفظ آنذاك لا فقط بدرجة حرارة مُنتظمة، بل أيضًا بِنِسَب رطوبة مُريحة مِنْ خلال التبخُّر المَحَلِيِّ اليوميِّ والتَّكاثُف على شكل نَدى أوْ ضَبابٍ قريبٍ مِنْ سطح الأرض. وعند اجتماع درجات الحرارة الدَّافئة والرُّطوبة المناسبة في كُلِّ مكان، سيكون ذلك سببًا في إطالة عُمر الحياة النباتيَّة في جميع أنحاء العالم. فلن توجد صحارَى قاحلة، ولا مناطق جليديَّة. فالمِظَلَّة البُخاريَّة ستعمل بفاعليَّة على تَنقية الإشعاعات فوق البنفسجيَّة، والإشعاعات الكونيَّة، وغيرها مِنَ الطَّاقات المُؤذية الأخرى، وَهَلُمَّ جَرَّا.
ثُمَّ في وقتِ الطُّوفان، عندما أرادَ اللهُ أنْ يُغْرِقَ الأرضَ، فَجَّرَ ذلكَ الشيء فَتَدَفَّقَ الماءُ على الأرض وَتَعَرَّضْنا جميعًا إلى الأشعَّة فوق البنفسجيَّة، وصارت الحياة أقصر، وصار الناس يعيشون حَتَّى عُمْر السِّتِّين فقط بعد ذلك. فهل هذا هو ما حَدَثَ حقًّا؟ الحقيقة هي أنَّ سِفْرَ التَّكوين لا يقولُ ذلك. فَنَصُّ سفر التَّكوين لا يَذْكُر تحديدًا تلك المِظَلَّة، ولكنَّهُ يَقولُ إنَّهُ كانت هناكَ مِياهٌ فوق، ومياهٌ تَحْت. وهناكَ عُلَماءٌ يُؤمنونُ بالخَلْق قالوا إنَّ نَظريَّة المِظَلَّة هذه غير مقبولة لديهم.
وقد لَخَّصَ "روبرت وايتلو" (Robert Whitelaw) و "والتر براون" (Walter Brown) الصُّعوبات على النَّحو التَّالي: فيما يختصُّ بمشكلة الحرارة: "إنَّ البُخارَ الكثيف أو المِظَلَّة الجليديَّة ستعملان على زيادة الحرارة كثيرًا حتَّى إنَّها ستَحرق كُلَّ الكائنات الحيَّة إنْ لم يتحرَّك الهواء وكانت لدينا هذه الحرارة". وفيما يَختصُّ بمشكلة النُّور فإنَّهما يقولان: "إنَّ ضَوْءَ النُّجوم الَّذي قالَ اللهُ إنه سيكون لآياتٍ وأوقاتٍ فإنَّهُ لم يكن بمقدورنا أنْ نَراه، ولم يكن بمقدور نور الشَّمس أنْ يَصِلَ إلينا بحرارة كافية لإبقاء النباتات المداريَّة حَيَّة". وفيما يَختصُّ بمشكلة الضَّغط: "إنْ كانت هناك مِظَلَّة بُخاريَّة تحمل أكثر مياهً يزيد سُمْكُها عن 40 قدمًا فإنَّ ذلك سيزيد الضَّغط عند قاعدتها فتزيد الحرارة عن 200 درجة فهرنهايتيَّة.
"أمَّا بخصوص مشكلة الدَّعم، فإنَّ المِظَلَّة البُخاريَّة، أو السَّائلة، أو الجليديَّة لا تستطيع أنْ تَصْمُد طَوال القرون العديدة الواقعة بين الخَلْق والطُّوفان" (أيْ نحو ألفَيْ سنة). فهي ستتكاثَف، وتتحَوَّل إلى بُخار، أو تتبخَّر، ولن تبقى هناك. وفيما يَختصُّ بمشكلة الأشعَّة فوق البنفسجيَّة، فإنَّ المِظَلَّة المحيطة بالغلافِ الجويِّ لم تكن ستحتمي مِنَ الأشعَّة فوق البنفسجيَّة التي كانت ستُحَلِّل الماء إلى هيدروجين وأوكسجين فَتُدَمِّر المِظَلَّة حالًا". وَهَلُمَّ جَرَّا.
وأنا لن أتعمَّق كثيرًا في هذا الجَدَل. فأنا ليست لديَّ أيّ فكرة عنه. فكُلُّ ما أعرفه هو أنَّه كان يوجد ماء هنا وماء في الأعلى. هذا هو كُلُّ ما أعرفه. والمِظَلَّة شيءٌ معقول. فهناكَ مَظِلَّة ... فقد كانت هناك مَظَلَّة في الأعلى في مكانٍ ما. وقد كانَ هناك ماءٌ في الأعلى في مكانٍ ما. ومِن الواضح أنَّهُ لم يفعل كُلَّ هذه الأشياء ... رُبَّما لم يفعل ذلك. وربَّما لم يكن ماءً مِثلما قالت المجموعة الأوَّلى مِنَ العُلماء. وربما لم يكن هذا الماء يفعل ما قالت المجموعة الثانية مِنَ العُلماء إنَّهُ قد يفعله في حال وجوده. ولكنَّهُ كان موجودًا.
وقد تقول: "إنَّ هذا التَّفسيرَ بَسيطٌ جدًّا وغير عِلْميّ". أجل. فأنا رَجُلُ لاهوت. وهذا هو ما يقوله الكتاب المقدَّس. فهو لا يُقَدِّم تفسيرًا للعِلْم. فهو يقول وحَسْب إنَّ بعضًا مِنَ الماءِ صَعِدَ إلى أعلى وإنَّ بعضًا منه بقي هنا. ونحنُ لا نُجانبُ الصَّوابَ إنْ لَخَّصْنا الأمْرَ بطريقة بسيطة على النَّحوِ التَّالي: لقد خَلَقَ اللهُ مِظَلَّةً ما – أوْ قُبَّةً كَونيَّةً مَا، أو غِلافًا مائيًّا في الغلافِ الجويِّ تَمَّ ضَبْطُهُ لكي لا يُنْتِج التَّأثيرات الضَّارَّة الَّتي ذَكَرَها "وايتلو" و "براون". فنحنُ نَعلم ذلك. فقد كانت هناكَ مياهٌ في الأعلى. وعندما حدث الطُّوفان، انهمرت المياهُ إلى أسفل، بحسب ما جاء في تكوين 7، وأَغْرَقَتِ الأرضَ كُلَّها.
لذلك، فقد خَلَقَ اللهُ "جَلَدًا" بينَ المياه. انظروا إلى ما يقول في العدد 7، في نهاية العدد: "وَكَانَ كَذلِكَ". هل هذا تَكرارٌ؟ هل هذا تَكرار؟ فقد قال في العدد 6: "لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ". وفي العدد 7: "فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ". ولكِنْ لماذا يُضيفُ: "وَكَانَ كَذلِك"؟ فهل هذا مُجَرَّد تَكرار أوْ مُجَرَّد مُلاحظة تَحريريَّة؟ لا، بل هي تَخْدِمُ هَدَفًا مُهِمًّا جدًّا. فهي جُملة مُهمَّة جدًّا. فلا توجد مُلاحَظَة كهذه في العدد 3. فقد قالَ اللهُ: "لِيَكُنْ نُورٌ، فَكَانَ نُورٌ". ولكنَّ النصَّ لا يقول: "وكانَ كذلك".
وسوف أقول لكم السَّبب. إنَّ هذه العبارة الصَّغيرة المستخدمة هنا في العدد 9، والعدد 11، والعدد 15، والعدد 24 تُستخدَم لتأكيد شيءٍ ثابتٍ، ولا يتغيَّر، وباقٍ طَوال الوقت. ولكن لا يمكنك أن تقول هذه العبارة بعد العدد 3 (أيْ بَعْد "لِيَكُنْ نُورٌ، فَكَانَ نُورٌ") لأنَّهُ سيكون هناك دائمًا نورٌ وظُلمة، ونورٌ وظُلمة، ونورٌ وظُلمة. فهو ليس شيئًا ثابتًا. ولكن عندما تقول إنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماوات، فإنَّ هذا ثابت. لِذا فإنَّ العبارة "وكانَ كذلك" تُشيرُ إلى فِكرة الطَّبيعة الثَّابتة والرَّاسخة وغير المُتغيِّرة لذلك العُنصر مِنَ الخليقة.
ويَنتهي العدد 8 بهذه الكلمات: "وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً". وبالمناسبة، فهو لم يَقُلْ بعد إنَّ ذلك كانَ حسنًا. فهو لم يَقُلْ ذلك في اليوم الأوَّل. وَهُوَ لم يَقُلْ ذلك في اليوم الثاني. وَهُوَ لَنْ يَقولَ ذلك إلَّا في العدد العاشر حينَ صارتِ الأرضُ صَالحةً للسَّكن. فحينئذٍ فقط قال إنَّ ذلكَ "حَسَنٌ" – أيْ فقط بعد أنْ تَشَكَّلت أخيرًا إلى حالتها الصَّالحة للسَّكَن. ونقرأ في العدد 8: "وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا". فقد فَعَلَ ذلك في يومٍ واحد. فقد خَلَقَ الجَلَدَ، أوِ الفضاء، والسَّماوات، والجَوّ. وقد صِرْنا جاهزين للانتقال إلى اليوم الثالث. وفي مَكانٍ ما هُنا، وهي مُجَرَّد فكرة سريعة، تَمَّ خَلْقُ الملائكة. أتَعلمونَ أين؟ تابعونا. فقد كنتُ أَعْتَزِمُ أنْ أُجيبكم عن هذا السُّؤال اللَّيلة، ولكنَّ الوقتَ لا يَكفي.
وأودُّ أنْ أختم بهذه التَّسبيحة القصيرة إنْ سَمَحْتُم لي. فالمزمور 104 هو تسبيحة رائعة. استمعوا إليه: "بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلهِي، قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا. مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّماوات كَشُقَّةٍ. الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً".
وإنْ كانت هناك ريحٌ في زمن الخَلْق، رُبَّما كان "ويتكومب" و "موريس" على خطأ في النِّهاية ... أو رُبَّما بالَغا في الحديثِ عن تأثير المِظَلَّة. فنحنُ نَرى هنا ... نَرى هنا أنَّ المُرَنِّمَ يُسَبِّحُ اللهَ على بَسْطِ السَّماواتِ، وعلى أَخْذِ الماءِ إلى الحُجرات العُليا. وَهُوَ يُسَبِّحُ اللهُ قائلاً: "بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ". وَهُوَ يقول في العدد 5: "المُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ". ويمكنكم أنْ تَرَوْا كُلَّ التَّلميحات إلى الخليقة هنا مُؤكِّدَةً ما حَدَث. وسوفَ نَرى المزيدَ في ذلك المزمور إذْ سَنرى أنَّ اللهَ يَفْصِلُ الأرضَ عنِ البَحْرَ ويَخْلِقُ الينابيعَ والوديانَ والحَيَوانات. إنَّهُ نَصٌّ رائعٌ جِدًّا.

This article is also available and sold as a booklet.